رحلة في الإنسان

العلاقة الزوجية
إعداد: غريس فرح

بين جنة الحب وجحيم العنف

العلاقة الزوجية ليست كما هو معروف، شهر عسل دائم. إنها علاقة بين شخصين يتقاسمان الحياة من خلال رؤية متفاوتة للأمور. وهي حالة طبيعية إذا ما أخذنا بعين الإعتبار شخصيتي الزوجين اللتين تعكسان اختلاف تربية كل منهما والبيئة التي نشأ فيها.

على كل، فالدراسة التي نحن الآن بصددها ليست معنيّة بالخلافات الروتينيّة بين الزوجين بل بتلك المؤدية إلى العنف، وإلحاق الأذى بأحد الطرفين أو كليهما. والسؤال المطروح: ماذا يؤجج العنف الزوجي وكيف ينظر إليه الإختصاصيون وما هي الحلول المقترحة؟

 

أنواع العنف الزوجي
بحسب النماذج التي صنّفتها الدراسات منذ سبعينيات القرن الماضي، تمّ التأكيد أن العنف الزوجي نوعان: النوع الأول هو العنف اللحظوي من طرف واحد، ويتسبب به أحد الشريكين (الزوج أو الزوجة).
ومع أن العنف الذي تستخدمه المرأة ضد الرجل، أصبح اليوم حالة شائعة، فجميع المعطيات تؤكد أن غالبية حالات هذا النوع من العنف يتسبب بها الرجل لأسباب نأتي على ذكرها لاحقًا.
أما النوع الثاني، فهو العنف المشترك، أي الذي ينجم عن انفعالات فطرية تخرج عن سيطرة الشريكين معًا، وتحوّل الزواج إلى مراحل من الشجار والعراك المؤذي على الصعيدين، الجسدي والمعنوي.
يجدر بالإشارة هنا أن الباحثين الإجتماعيين والنفسيين ينقسمون لناحية ترجيح كفة أحد نوعي العنف على الآخر. فمنهم من يرى أن العنف من جانب واحد، وتحديدًا من قبل الزوج هو الأكثر شيوعًا، بينما يعتقد البعض الآخر أن العنف المشترك هو المهيمن حاليًا على المجتمعات المعاصرة. وهذا يعود إلى مشاركة المرأة في الحياة العائلية والعملية، الأمر الذي أدى إلى تقليص هيمنة الذكور.


مسببات العنف الزوجي والواقع المرّ
خلال العقد الماضي، تقصّى بعض الباحثين في المجالين النفسي والإجتماعي الأسباب والعوامل المؤدية إلى تفجّر العنف الزوجي بنوعيه. ونتيجة لذلك، ثبت أن عشرين بالمئة من الزيجات، تشهد خلافات تكون فيها المرأة ضحية الرجل. إلى ذلك عرف أن هذا النوع من العنف يطاول العلاقات الحميمة خارج نطاق الزواج. وحسب ما ذكرته مجلة العلوم الأميركية، فإن الباحثين حصلوا على معطيات بهذا الشأن من الأماكن التي تلجأ إليها النساء المتضررات من العنف، كالمستشفيات ومراكز الشرطة. ومن خلال تحليل هذه المعطيات، توصّلوا إلى القول أن بعض الرجال المعاصرين يفتعلون الأجواء المؤدية إلى العنف من أجل إرضاء ميلهم الفطري إلى السيطرة وإرضاء الذات. وكما تؤكد نتائج الدراسات بهذا الصدد، فإن الهيمنة الذكورية المعاصرة هي حصيلة أمر طبيعي – إجتماعي، هيأ الرجال منذ القدم لاستخدام القوة من أجل اقتحام الصعاب، وصولًا إل مصادر القوت. ومع تقدم المجتمعات التي أمنت سهولة العيش، وأفسحت المجال أمام عمل النساء، بقيت النزعة السلطوية راسخة في ذاكرة الرجال الفطرية، وتمثلت لدى البعض بالميل إلى إخضاع المرأة بأنواع العنف الجسدي واللفظي.
وكانت الباحثة الإجتماعية البريطانية ربيكا أميرسون قد أكّدت في كتاب أصدرته العام 1979، أن الرجال الذين يمارسون العنف ضد زوجاتهم، يعيشون في الواقع المواصفات الحضارية التي عرفتها المجتمعات منذ نشأتها، وهي مواصفات التي قوامها الهيمنة الذكورية والخضوع الأنوي.
هذا لناحية العنف من جانب واحد، لكن ماذا بشأن العنف المشترك الذي سبق وأشرنا إليه؟

 

العنف المشترك والمجتمعات الحديثة
أشارت الدراسات التي أجريت في غير مكان من العالم، إلى أن نسبة كبيرة من المتزوّجين، يتفاعلون بطريقة بالغة العنف، لأسباب عديدة، في مقدّمها كبت المشاعر، وعدم التعبير عنها في الوقت المناسب، وبالأساليب المنطقية. وهو ما يرفع نسبة التوتر لدى أحد الفريقين أو كليهما معًا، ويتسبب بالإنفجار الخارج عن السيطرة. وهذا الأمر يعود إلى طبيعة شخصية الزوجين والأحداث الملازمة للزواج، وطرق إستيعابها، بالإضافة إلى نسبة الضغوط المواكبة للزواج، وكيفية التعامل معها. وفي حال تمّ التعرّف إلى الدوافع المؤدية إلى تفجير الإنفعالات، يصبح بإمكان المعنيين معالجة الوضع بالطرق المناسبة وفي مقدّمها، عدم الخوف من التعبير عن المشاعر تجاه الشريك بدلًا من كبتها. وعدم تكرار الأخطاء المفجرة للإنفعالات، كالتصرفات العشوائية غير اللائقة، والكلام الجارح.

 

العنف الزوجي والواقع الحضاري
في الواقع، إن الأزواج الغارقين في مستنقعات العنف، يودّون لو يتمكنون من ضبط انفعالاتهم والعيش بوئام. فهم يدركون بعمق أهمية العلاقة الزوجية الناجحة على جميع المستويات.
إلى ذلك، فالجميع يعلم أن علاج العنف الزوجي يكمن في كيفية السيطرة عليه قبل انفجاره، من خلال ضبط النفس، وتعلّم سبل التعبير عن المشاعر لحظة بلحظة منعًا لتراكمها وتشكيلها قنبلة موقوتة. وهذا لا يتحقق إلا من خلال معايشة الواقع الحضاري، والتخلص قدر المستطاع من تحكّم المشاعر الفطرية بهم.
ما سبق ذكره يعني أن الحلّ يكمن في ترويض الذات، أو التدرّب على ضبط الإنفعالات التي تعزّز فورتها الذاكرة البدائية، وهي انفعالات تفجرها عمومًا مشاعر كالغيرة، والشعور بالنقص، أو حب السيطرة والبروز، وسواهما من المشاعر الممكن إخضاعها لسلطة العقل.
وإذا ما تمعن المتأذون من العنف الزوجي، بالفوائد الممكن جنيها من ضبط النفس، وصولًا إلى صفاء العلاقة الزوجية، يصبح بإمكانهم التدرّب تدريجًا على استخدام العقل، وكبح جماح المشاعر.
أما في حال وجود عوامل تعيق الرجوع إلى العقل، كإدمان الكحول والمخدرات وسواها، فيصبح من الضروري استشارة إختصاصيين، والخضوع لبرامج تأهيل تعيد إلى الحياة الزوجية صفاءها.
المهم إذن هو ترويض الوحش البدائي في النفوس، والإيمان المطلق بالواقع الحضاري، هذا بالإضافة إلى معالجة الضغوط العصرية بالوسائل المتاحة. وفي حال الوصول إلى هذه المرحلة من الإرتقاء، يصبح بإمكان الزوجين إحلال النقاش العقلاني مكان الإنفعال الفطري، وصولًا إلى علاقة أكثر استقرارًا وسعادة.