زيارة وموقف

العمل لمصلحة وطننا هو خيارنا الوحيد

يؤكّد الترحيب الحار الذي لقيته زيارة قائد الجيش العماد جوزاف عون إلى المراجع الدينية في عاصمة الشمال طرابلس، أنّ المدينة لا يمكن أن تتخلى عن وجهها الحقيقي وتاريخها. إنّها مدينة التعايش، والنبض الوطني، والثقافة، ولن تنال من وجهها الجميل محاولات الإرهاب، على الرغم من ظروفها البالغة الصعوبة، والوجع المستشري في أوصالها، والقلق الذي تعيشه بسبب الهواجس الأمنية.


تكشف هذه الزيارة، وما سمعه خلالها قائد الجيش، مدى رهان أهل طرابلس على جيشهم كضمانة وطنية، وعلى دورٍ له يتجاوز مهماته الأمنية والعسكرية، ويتصل بعمق المعاناة في المدينة التي ينهشها الحرمان المزمن، ويلقي بها في دوامة الفقر وتداعياته الكارثية.
جال قائد الجيش العماد جوزاف عون على الفاعليات الدينية في مدينة طرابلس، والتقى في دار الإفتاء مفتي طرابلس والشمال الشيخ محمد إمام في حضور عدد من العلماء والمشايخ، ثمّ التقى في أبرشية طرابلس المارونية راعي الأبرشية المطران يوسف سويف في حضور راعي أبرشية طرابلس للروم الأرثوذكس المطران أفرام كرياكوس، والأرشمندريت الياس بستاني ممثلًا راعي أبرشية طرابلس والشمال للروم الملكيين الكاثوليك المطران ادوار ضاهر. كما زار المجلس الإسلامي العلوي في جبل محسن حيث التقى القائم بأعمال رئاسة المجلس الشيخ محمد عصفور وعددًا من المشايخ.
 

هموم المدينة وأهلها
خلال هذه اللقاءات الثلاثة سمع العماد عون كلامًا يتركّز على محورين أساسيين: الأول يتناول هموم طرابلس وأهلها ومعاناتهم اليومية في ظل الفقر والقلق من تفلّت الأمن. فأحد المشايخ يشير بكثير من المرارة إلى أنّ طرابلس محرومة ومهمّشة، أهلها فقراء يبحثون عن فرص عمل ولقمة عيش رغم أنّ فيها مرافق كفيلة بتأمين فرص عمل كثيرة للشباب لو حظيت بالاهتمام اللازم، من المرفأ إلى الملعب الأولمبي ومعرض رشيد كرامي الدولي وغيرها… «إنّ طرابلس ضحية مثلث الجهل والفقر والظلم» يقول شيخ يعرب عن تخوّفه من تداعيات هذا المثلث المرعب على شبابها الذين يقعون ضحية متصيدي الفرص، إذ يعمل هؤلاء على تجنيد من يقعون في شباكهم لمصلحة الإرهاب. وفي السياق نفسه يتطرق الحديث إلى قضية الشباب المغرّر بهم الذين يلتحقون بصفوف «داعش»، ليعودوا بعد فترة جثثًا هامدة.
في المحور الثاني، يتضح مدى ثقة المرجعيات الدينية بالجيش، فتتحدث باسم أهالي المدينة والشمال عمومًا، عن الجيش كمؤسسة وطنية تحظى بالاحترام والتقدير. مؤسسة عابرة للطوائف والمذاهب، تعمل لمصلحة لبنان واللبنانيين من دون أي تحيّز، وتعتمد المساواة وتكافؤ الفرص بين عناصرها. ويتضح في هذا المحور أيضًا حجم الرهان على دور طليعي للجيش في مواجهة الظروف التي يمر بها لبنان، من خلال استيعاب الشباب وإبعادهم عن شرور الإرهاب والمخدرات.
في حديث المرجعيات الدينية الطرابلسية أيضًا رهان على إيجاد حلول للكثير من المشكلات المزمنة التي تعانيها المدينة، واستعداد للتعاون مع المؤسسة العسكرية من أجل مواجهة الواقع الصعب. فدور الجيش يتكامل مع دور المؤسسات الدينية وصولًا إلى تحقيق هدف واحد هو خدمة المجتمع والتصدي للظروف الصعبة وفق ما يؤكد المفتي محمد إمام، الذي قال: «نحن وإياكم في خندق واحد». ورهان هذه المرجعيات على الجيش هو نتيجة تقديرها له ولتضحيات رجاله وثباتهم في وجه التحديات واستمرارهم في أداء واجبهم رغم الصعوبات المعيشية التي يعانونها وفق ما أكد المطران سويف. أما الشيخ عصفور فيؤكد من جهته أنّ تقصير السياسيين رمى المسؤولية على عاتق الجيش، ويقول: «نحن جنبًا إلى جنب مع الجيش»، ويثمّن «الزيارة الاستثنائية» مشيرًا إلى أنّ الجيش إضافة إلى مهمته الأمنية يتابع أوضاع المواطنين ويحافظ على كرامتهم. وإذ يرى أنّه لم يتبقَّ لنا سوى المؤسسة العسكرية، يشير إلى أنّ معظم أبناء الطائفة هم في الجيش.
 

إصغاء وتعهّد
أصغى العماد عون إلى كل كلمة صدرت عن المرجعيات الدينية، وطمأن إلى أنّ الجيش مستمر في الوقوف إلى جانب مواطنيه، وهو لن يسمح بتفلّت الوضع الأمني في طرابلس أو في سواها من المناطق اللبنانية، مؤكدًا في المقابل أهمية الدور الذي تؤديه المراجع الدينية من خلال تهدئة الخطاب الطائفي والمذهبي، ما يساعد الجيش على ضبط الأمن وصون الاستقرار في هذه المرحلة الصعبة. وقد أشار العماد عون إلى أنّ لدار الإفتاء دورًا تاريخيًا واجتماعيًا وسياسيًا ووطنيًا، ولا سيّما في المحطات المفصلية، مشددًا على رفض تشويه سمعة المدينة من خلال القول إنّها حاضنة للإرهاب، بل ذهب إلى أكثر من ذلك حين أكّد أنّه لن يسمح بوسم طرابلس بسمة الإرهاب، وقال: «إذا غُرّر ببعض الشباب لأسباب اقتصادية، فهذا لا يعني أنّ طرابلس، هذه المدينة التاريخية ومدينة التعايش، هي إرهابية». أدعوكم كفاعليات دينية في المدينة، تحظون باحترام شعبكم وتقديره، إلى استكمال ما بدأتم به لناحية توعية شبابنا وأبنائنا من مخاطر الانزلاق إلى المخدرات والجريمة والإرهاب وغيرها، علمًا أنّه لا يجوز أن يكون الفقر دافعًا لهذه الحالات الشاذة».
وفي دار المطرانية المارونية، بثّ قائد الجيش مزيدًا من الرسائل المطمئنة مؤكّدًا أنّ العسكريين يضحّون يوميًا في كل مهمةٍ يقومون بها، وقناعتهم راسخة بأنّ إيمانهم بوطنهم وبزّتهم لا يتغيّر ولا يتبدّل.
كذلك أكّد العماد عون من المجلس الإسلامي العلوي ضـرورة التكافـل والتضامـن من أجـل اجتيـاز المرحلـة الراهنة، الصعبـة والدقيقـة، بانتظـار الخـروج من هـذه الأزمـة.
برأي العماد عون «ليس أمامنا الكثير من الخيارات في هذه المرحلة الصعبة، فإما أن نستسلم وإما أن نواصل مساعينا لاستيعاب أبنائنا لمصلحة شعبنا ومجتمعنا» وكان إصراره واضحًا على هذا الخيار، كما أكّد أنّه يدرك عمق المعاناة في طرابلس، ووعد بمتابعة جميع الأوضاع، فقيادة الجيش لن تتأخر في معالجة كل ما هو ضمن مسؤوليتها، وفي متابعة الأمور الأخرى مع المسؤولين.
« نحن خدّام عند شعبنا» قال قائد الجيش، هذه الرسالة التي تشكّل جوهر المناقبية العسكرية، يفترض أن تكون إيمانًا يعتنقه كل مسؤول ليكون لنا وطن. أما في ما خص أبناء طرابلس والشمال عمومًا فعلاقتهم بالمؤسسة العسكرية هي علاقة القلب بالجسم، ولن تنال منها أي محاولات.