العوامل المعوقة لفعالية السياسة الأوروبية في الشرق الأوسط

العوامل المعوقة لفعالية السياسة الأوروبية في الشرق الأوسط
إعداد: د. غسان العزي
أستاذ في العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية

يمتلك الاتحاد الأوروبي الكثير من مقومات القوة الديمغرافية والاقتصادية والتكنولوجية والثقافية وفيه دولتان نوويتان تملكان حق النقض – الفيتو في مجلس الأمن الدولي. وقد تمكن في نصف عقد من الزمن من اجتياز عقبات هائلة في مسيرة توسّعه ليضم اليوم خمساً وعشرين دولة كانت معظمها أمبراطوريات وقوى عظمى عبر التاريخ. رغم ذلك، يبدو الاتحاد عاجزاً عن الفعل والتغيير في الساحة الدولية ومن ضمنها الشرق الأوسط، هذه المنطقة الحيوية له من الناحية الجيوستراتيجية، كونها تقبع في فنائه الخلفي العريض وتؤثر تأثيراً مباشراً على أمنه.

في الحقيقة يشكو الاتحاد من عناصر تحدّ من فاعليته، فهو ما يزال يفتقر الى سياسة خارجية وأمنية مشتركة والى شريك يعتمد عليه، فحليفه الأميركي منحاز تماماً الى الطرف الاسرائيلي ويمارس هيمنة دبلوماسية واضحة على مسار تسوية الصراع العربي – الاسرائيلي، والعالم العربي يتخبط في معضلات تجعل منه عبئاً على من يشاركه وليس ذخراً أو عوناً. وعلى خلفيّة هذا المشهد يمتلك الاسرائيليون وأنصارهم في الغرب الأوروبي والأميركي من النفوذ ما يعيق أي عمل دولي جدي لفرض حل دائم ومقبول من أطراف الصراع.

 

1 – إفتقار أوروبا لسياسة خارجية ودفاعية مشتركة

تنفق أوروبا مدتمعة (280 مليار دولار) على الدفاع، أي حوالي نصف ما تنفقه الولايات المتحدة الاميركية (450 مليار دولار) رغم ان الناتج القومي الإجمالي متساوٍ بين الاثنين. وهي المستفيدة، اقتصادياً على الأقل، من الدور السياسي والعسكري الذي لعبته أميركا في كل من الشرق الاوسط (الذي تعتمد على نفطه أوروبا أكثر من أميركا)، والشرق الأقصى (الذي يتزايد حجم التجارة الأوروبية معه باطراد). وهكذا كانت اوروبا بمثابة راكب بالمجان بالنسبة للأميركي العادي، كما يقول زبيغنيو بريجنسكي([1]). وبعد استعراض نتائج الحرب العالمية الثانية وفقدان أوروبا لمستعمراتها، تحت الضغوط الأميركية أحياناً. يعتبر روبرت كيغن ان اوروبا، التي بقيت خلال  الحرب الباردة في حالة من التبعية الاستراتيجية للولايات المتحدة، لم تستطع التخلّص من سيكولوجية التعية هذه بعد الحرب المذكورة رغم الجهود الفرنسية ([2]), ويشرح بأن التوتّورات التي تميّز العلاقات العابرة للأطلسي لم تبدأ مع تنصيب جوج دبليو بوش رئيساً في بداية 2001 ولا بعد 11 سبتمبر/أيلول، بل كانت الانقسامات والاتهامات المتبادلة واضحة خلال سنوات كلينتون وخلال إدارة بوش الأول([3]). وقد خيضت حرب كوسوفو وفقاً لـ «العقيدة الاميركية» الى حدّ كبير وبمعدات اميركية . ومع ان اوروبا تتمتع بقوة اقتصادية هائلة. وقد تمكنت من تحقيق نجاحات عظيمة على طريق تحقيق الوحدة السياسية، فان ضعفها على الصعيد العسكري كان قد تمخض عن ضعف دبلوماسي وأدّى الى اختزال حاد لنفوذها الساسي مقارنة بنفوذ الولايات المتحدة. حتى في شؤونها الداخلية بالذات([4])

لكن الأوروبيي،، من جهتهم، يفخرون بأنهم حققوا معجزة حقيقية إذ انتقلوا من قرون من المجابهات والحروب النازفة الى تعاون اقتصادي قادهم الى التكامل. ,ابتدعدوا نموذجاً يمكن تقديمه الى العالم، هو نموذج تجاوز القوة والتسامي عليها، وإخضاع العلاقات بين الدول لسيادة القانون، كما يقول رئيس المفّوضية الأوروبية السابق رومانو برودي، الذي يضيف ان تجربة اوروبا على صعيد الإدارة التعدّدية الناجحة، ما لبثت ان تمخضت عن نوع من الطموح الى هداية العالم: «إن لأوروبا دوراً تضطلع به في إدارة العالم يقوم على تكرار التجربة الأوروبية على المستوى العالمي. فقد حلّت سيادة القانون في هذه القارة محل التفاعل الفظ للقوة. ونحن حين نجعل التكامل ناجحاً إنما نبيّن للعالم ان اجتراح نهج للسلام ممكن»([5]). هذه الصيغة يعتقد الأوروبيون انه من الممكن تطبيقها على الفلسطينيين والاسرائيليين. ويقول المفوض الأوروبي كريستن باتن في هذا الصدد: «يبين التكامل الأوروبي ان التوافق والتصالح ممكنان بعد أجيال من تحمّل الحرب والمعاناة»([6]). من هنا ما يقوله كيغن (في مقال له في لوموند تاريخ 28-29 يوليو/تموز(2002)، ان اوروبا و أميركا متباعدتان في النظرة الى العالم كما لو ان الواحدة تعيش في كوكب المريخ والأخرى في زحل، مضيفاً لأن الأميركيين اليوم هم الأقوى، وهم يتصرفون كما فعلت القوى الكبرى على الدوام، واذا كان الأوروبيين قد باتوا من دعاة الحكم العالمي السلمي، وكثير منهم ينظر الى الولايات المتحدة كخارجة على القانون، فلأنهم، كما تقتضي الواقعية، يتبعون الإستراتيجية الأكثر ملاءمة لضعفهم، أما الباقي فمجرد زخرفة إيديولوجية.

يرد الباحث الفرنسي مونتبريال على كيغن بالقول إنه عندما قررت اوروبا التخلي عن سياسات القوة فليس لأنها فضّلت الضمان الصحي والاجتماعي على العسكري، ولكن أنها استخلصت العبر من تاريخها المليء بالحروب المدمّرة، فابتكرت نموذج تعايش وتكامل واندماج سلمي تفاخر به وتعتبره قابلاً للتصدير([7]). وفي جميع الأحوال، فان انشغال اوروبا بجدول اعمال التكامل الضخم والمعقد وتوسيع الاتحاد وتعميقه ومراجعة الخطط والبرامج الاقتصادية والزراعية المشتركة، وبحث مسألة السادة الوطنية وفوق – الوطنية وتذليل الصعوبات المتوقعة وغير المنتظرة في مسارها واقرار دستور مشترك وغيرها من التحديات، جعلتها في غنى عن خوض النزاعات الخارجية، لا سيما تلك التي لا طائل لها بها، ناهيك عن حاجتها للحفاظ على علاقات جيدة مع الولايات المتحدة لأسباب كثيرة سياسية وعسكرية واستراتيجية، عدا عن الإرتباط الاقتصادي المتبادل الذي يمثله مبلغ ألفي مليار دولار من التبادلات والاستثمارات السنوية بين ضفتي الأطلسي([8]).

ويبدو الأوروبيون عموماً أكثر إتحاداً في النظرة الى الصراع العربي – الاسرائيلي منهم حيال أزمات ومشاكل اخرى في العالم. ومؤخراً باتوا جزءاً نت الرباعية المشرفة علة «خريطة الطريق». وفي تموز 2004، صوّت أعضاء الاتحاد الخمس والعشرون، في الجمعية العامة للمم المتحدة على قرار يندّد بجدار الفصل الذي تبنيه إسرائيل في الضفة الغربية، مبددين بذلك المخاوف من ان يكون الاتفاق في ما بينهم على أمر ما في السياسة الخارجية قد بات مستحيلاً بعد ان باتوا خمساً وعشرين دولة. وهذا ما دفع احد الباحثين في السياسة الاوروبية الى القول ان «الاتحاد الاوروبي موجود بالفعل في ما يتعلق بالمشكلة الفلسطينية»([9]). لكن الموقف لا يتحوّل فعلاً مؤثراً في غياب القرار والقدرة على تنفيذه اذا ما اتخذ.

الى اليوم لم يحسم الاوروبيون أمرهم حيال هوية الاتحاد الذي يشروعون في بنائه. هل هو مجرد فضاء ثقافي اقتصادي تجاري ان انه قوة دولية عظمى بصدد التبلور؟ لم يخوضوا بعد نقاشاً جدياً حول هذا الموضزع، ويبدو انهم يعتقدون اننا نعيش في عالم تكفي فيه القوة الناعمة (soft). فرنسا وحدها تقريباً تعيش في الامل ببناء «أوروبا – القوة» التي تصبح في الغد «قطبا» في «عالم متعدّد – القطبية»، توازن فيه القوة الاميركية. وقد اكتشف الفرنسيون من خلال الحرب الاميركية على العراق، ان رؤيتهم لأوروبا وللتعددية – القطبية تمثل اقلية ضئيلة في اوروبا الـ 15، وبالأحرى اوروبا الـ 25 ، من دون الكلام عن العداء الاميركي الواضح لفكرة التعددية هذه ([10]). وتتنازع الاتحاد ثلاث رؤى اساسية لهويته المستقبلية:

- الرؤية البريطانية أو «اوروبا الفضاء الاقتصادي» والتي لا تبدي حماساً للاتحاد الساسي اذا كان يتطلب تخلّياً عن السادة الوطنية لصالح السادة فوق- الوطنية الاتحادية.وقد حاربت لندن السياسات المشتركة شديدة الاندماجية التيتتطلب تضامناً كبيراً بين الدول مثل السياسة الزراعية المشتركة (PAC) ، واعترضت على كل اشارة للفدرالية في معاهدة ماستريخت. ورفضت الدخول في منطقة اليورو وفي شنغن (Schengen)، مبديةً حذراً شديداً عند اعداد الدستور الأوروبي. واذا كانت قد تحمست لتوسيع الاتحاد شرقاً، فلان هذا التوسيع يبقى اقتصادياً وربما يعرقل الاندماج الساسي. وهي تبقى شديدة الارتباط بحلف الأطلسي والحليف الأميركي([11])، ولا تزعجها نواياه لجهة الاحادية القطبية، ذلك ان التعددية، كما عبّر توني بليرن هي مدعاة لعدم الاستقرار الدولي.

- الرؤية الألمانية التي تنظر الى اوروبا كدولة فدرالية او اتحادية تجمع ما بين مجتمعات متضامنة توحد مصيرها ليس من اجل تطوير قوتها، ولكن لتأمين الاستقرار الاقتصادي والمالي والسياسي والاجتماعل والبيئي. هذه الرؤية تميل الى الدعوة الى نوع من التعاون المستوحى من التجربة الألمانية الخاصة بالفدرالية التعاونية المتحدرة من القانون الأسلاسي لعام 1989، وبناء عليه يحدث توازن في ممارسة الاختصاصات بديلاً عن مركزية القرار وادارة المؤسسات المشتركة في بروكسل، فيأخذ الاتحاد الوظائف الدولية اليومية للمواطنين([12]).

- الرؤية الثالثة هي «اوروبا- القوة» المدعوة لتصبح اتحاداّ لدول-قومية وهي تقوم على مفهوم الفدرالية الـ «بين-حكومية»([13]) عبر اندماج لا يؤدّي الى اختفاء الدول. وقد نشأت هذه الرؤية الفرنسية من الرغبة باستعادة المجد الضائع عن طريق اوروبا التي ينبغي ان لا تقتصر على الفضاء الاقتصادي الموحّد، بل تتخطاه لتصبح قوة دولية حقيقية تملك سياسة خارجية ودفاعية وامنية خاصة، توازن بها القوى العظمى الدولية في عالم متعدد الاقطاب. وتتغذى هذه الرؤية من الإرث الديغولي ومن منهج «جان مونيه» القائم على دينامية الاندماج/التعاون.

حول كل من هذه الرؤى تجتمع بعض الدول، وتنقسم حولها الأحزاب السياسية داخل الدولة الواحدة نفسها وبشكل أفقي، إذ نجد في الحزب نفسه، إشتراكياً كان أم يمينياً أم وسطاً، مؤيدين ومعارضين لهذه الرؤية او تلك كما ان مواقف الدول ليست ثابتة على الدوام اذ تتعرض لتغيير جذري في بعض الأحيان نتيجة تبدل السلطة الحاكمة.

من الطبيعي والحال هذه ان يخفق الأوروبيون في بناء دفاع مشترك وان رغبوا.فحتى الاتفاقات التي توصلوا اليها، تنقصها الفلسفة الكامنة خلفها والاهداف الحقيقية من ورائها. فعلى سبيل المثال توصّل الزعيمان شيراك وبلير في قمة سان-مالو عام 1998 الى ما اعتبر اتفاقاً تاريخياً في ما يتعلق بالسياسة الدفاعية والامنية الاوروبية حيث وافقا على «ان الاتحاد الأوروبي يجب ان تكون لديه القدرة على العمل المستقل، وان تكون هذه القدرة مدعومة بقوات عسكرية قوية وفاعلة، وكذلك الأدوات التي يمكنها من خلال استخدام هذه القوات، من أجل الاستجابة للأزمات الدولية»، كما إلتزما بان تكون هذه المهمة بالتوافق مع الالتزامات في اطار حلف الأطلسي لكن الاختلاف الجوهري في التوجهات بين البلدين لم يختف، فبينما اعتبرت فرنسا ان ظهور السياسة الدفاعية والأمنية الأوروبية سوف يدعم حلف الأطلسي ويجعله اكثر قوة وتوازناً، رأت بريطانيا انه اذا اظهرت اوروبا قدرة جادة على ادارة شؤونها الأمنية، فان واشنطن سوف تصبح في عزلة وقد ينهار الناتو([14]). واذا كانت بريطانيا هي الدول الأكثر أطلسية وقرباً من الولايات المتحدة في أوروبا، الا انها تشعر بأنها تحظى بتاييد الأغلبية في القارّة، وهذه ليست حال فرنسا الأكثر إبتعاداً عن الولايات المتجدة، منذ أن انسحب ديغول من المنظمة العسكرية لحلف الأطلسي في عام 1966.

والحقيقة ان تعابير الدفاع والأمن والسياسة الخارجية لم تظهر بهذا القدر من الوضوح الا في معاهدة ماستريخت التي تحدّثت عن «سياسة خارجية وأمنية مشتركة» باعتبارها إحدى الركائز الثلاث للعملية التكاملية الأوروبية، كما تحدثت عن منظمة «إتحاد أوروبا الغربية» باعتبارها «الذراع الأمنية» للإتحاد. وقد بينت الحرب الأهلية اليوغوسلافية ان الدفاع والسياسة الخارجية باتا ضرورة لأوروبا التي بدت عاجزة كلياً عن التدخل لوضع حد لأزمة خطيرة نشبت في داخلها. وكان يجب انتظار وساطة الأميركي جورج ميتشل للتوصل الى إتفاق دايتون في عام 1995، الذي أشرفت على تنفيذه قوات حلف الأطلسي. كذلك في العام 1997، وقّع الإيرلنديون على اتفاقية ستورمونت برعاية أميركية، وبرهنت أوروبا مجدداً انها عاجزة عن وقف حرب أهلية تدور رحاها منذ عقود طويلة في داخلها. وفي نيسان 1999، تدخّل الأميركيون على رأس حلف الأطلسي في كوسوفو ضد نظام ميلوسوفيتش الذي انتهى في محكمة لاهاي الدولية. وهكذا طيلة عقد التسعينيات المنصرم كان الاتحاد الأوروبي الآخذ بالتوسع وتحقيق النجاحات الاقتصادية والنقدية، يقدم البرهان تلو البرهان عن ضعف واضح في مجالي الدفاع والسياسة الخارجية والدفاعية (الأمين العام السابق للناتو خافيير سولانا)، كذلك لم يغير في الأمور أشياء كثيرة تعيين مبعوث أوروبي خاص بالشرق الأوسط، هو ميغيل أنخيل موراتينوس، الذي حل محله مارك أوتي في العام 2003.

الحرب الأميركية على العراق كشفت مدى الانقسام الأوروبي، والعجز عن التواصل الى تفاهم في حده الأدنى حول موقف موحد من الحرب, «بريطانيا تحالفت كلياً مع الولايات المتحدة، كذلك فعلت، ولو بدرجة أقل، ايطاليا وإسبانيا وألمانيا اتجهت نحو نوع من الحياد على الطريقة السويسرية. في حين ان فرنسا راحت تستعيد أسلوبها الديغولي»([15]). ومع تسارع الأزمة بدا واضحاً أن واشنطن عازمة على شن الحرب مهما كانت الظروف،وان لندن لاحقة بها لا محالة. باريس هو الأخرى قرّرت العمل ما بوسعها لمنع الحرب ووصلت الأمور الى حدود المواجهات الكلامية بين وزيري الخارجية الفرنسي دوفليلبان والأميركي باول خلال جلسات مجلس الأمن الدولي الذي انقسم فيه الأوروبيون بشكل واضح: العضوان الائمان، بريطانيا وفرنسا، انخرط أحدهما في الحرب الى جانب الحليف الأميركي في حين هدّد الثاني، على لسان الرئيس شيراك، باستخدام حق النقض-الفيتو ضد اي مشروع قرار كانت تحاول واشنطن استصداره لشرعنة حربها. عضوان آخران غير دائمين: ألمانيا وقفت الى جانب فرنسا اما إسبانيا فشاركت في الحرب. وفي حلف الناتو حدث الانقسام نفسه، اذ انضمت بلجيكا الى حلف الرافضون إعطاء ضمانات عسكرية لتركيا ضد العراق في حال نشبت الحرب (بموجب المادة الخامسة من الحلف، والتي كان قد أجمع الأعضاء على صلاحيتها في الحرب على أفغانستان).

هكذا نشأ في أوروبا ما سمي بمعسكر السلام الذي لقبّه وزير الدفاع الاميركي رامسفيلد بـ «اوروبا العجوز» في مقابل «أوروبا الفتية». من هذه الأخيرة بولونيا وتشيكيا وهنغاريا التي انضمت الى بريطانيا واسبانيا وايطاليا والبرتغال والدانمراك في كتابة رسالة دعم الى الرئيس بوش([16]), ثم في 5 فبراير/شباط 2003، وجهت  عشر دول مرشّحة للانضمام الى الناتو (ومنها سبع تتهيأ للدخول في الاتحاد الأوروبي) نداءً يؤيّد السياسة الاميركية ضد العراق([17]). وكان واضحاً ان هذه المبادرات موجهّة ضد «معسكر السلام» الأوروربي، وهي تدعم فكرة القائلين ان دول اوروبا الشرقية والوسطى تنظر الى حلف الاطلسي على انه مركز التحالف السياسي والعسكري، والى الاتحاد الاوروبي كمصدر تمويل ([18]). موقف هذه الدول يتناقض تماماً مع الدستور الاوروبي الذي وافقت على مسودته الأولية، والذي يقول في مادته الأولى /الفقرة 15: «ستدعم الدول الاعضاء بفعالية ومن دون تحفظ السياسة الخارجية والدفاعية المشتركة للاتحاد في روح من الولاء والتضامن المتبادل، وتمتنع عن كل فعل مناقض لمصالح الاتحاد او من شأنه لإيذلء فعاليته»([19]).

لقد شنّ الرئيس شيراك هجوماً لاذعاً على الدول العشر التي ايدت واشنطن من دون ان يهدد بإعاقة دخول المرشحين منها الى الاتحاد. فهي، كما يقول المحللون الفرنسيون، تشعر، لأسباب تتعلّق بتاريخ علاقاتها المضطربة مع جيرانها، بالاطمئنان حيال الحليف الاميركي البعيد وبالامتنان له لمساعدته لها في الانخراط في الليبرالية، وفي الدخول الى الاطلسي والاتحاد الاوروبي، وهي لا بدّ0 ان «تتأورب» مع الزمن عندما تصبح مصالحها اكثر ارتباطاً بشركائها في الاتحاد، وبالتالي ينبغي إعطاؤها المزيد من الوقت. لكن هذه الدول ردّت على الر ئيس شيراك بلسان المفوض الاوروبي للشؤون الخارجية البريطاني كريس باتن الذي قال ان «الاتحاد الاوروبي ليس حلف فرصوفيا»([20])، وردّ دوفيلبان بالقول «ان اوروبا ليست مجرد صندوق إعانات»، وأيده في ذلك رئيس المفوضية الايطالي رومانو برودي([21]).

يبرهن هذا الجدل ان الاتحاد الاوروبي ما يزال منقسماً حول نزعتين اساسيتين، تحبذ الواحدة ان يبقى مقتصراً على منطقة اتحاد نقدي واقتصادي وغيره، مع ترك الشؤون الدفاعية والسياسية لحلف الاطلسي الذي تتزعمه الولايات المتحدة، في حين تسعى الأخرى الى جعله قوة مستقلة سياسية ودفاعية قادرة بمفردها على اتخاذ القرار السياسي الدولي وتنفيذه بوسائلها او بالتحالف والتنسيق مع الحليف الاميركي عندما يقتضي الامر([22]).

هذه الاوروبا التي احتاجت للولايات المتحدة لتسوية أزمات خطيرة نشبت في عقر دارها، طيلة عقد  التسعينات المنصرم، والتي ما تزال تفتقر الى رؤية واحدة لهويتها وحدوج توسعّها (اضافة للجدل حول إدخال تركيا او عدمه)، والى سياسة خارجية واحدة وادوات عسكرية وأمنية موحدّة لدعم هذه السياسة والمساعدة في تطبيقها، لا تملك ما يكفي من القدرات لتحويل رؤيتها-الموحدة تقريباص هذه المرة-لتسوية الصراع العربي- الاسرائيلي الى واقع ملموس، ناهيك ان الحليف الاميركي الفقادر ان يضع في وجهها العقبات في تحالف لا يلين عوده مع الطرف الاسرائيلي في الصراع مع عالم عربي مقطّع الأوصال وعاجز، هو الآخر، عن الحركة والفعل.

 

2 – التضامن العربي المفقود

ليست الحدود القائمة في داخل الشرق الاوسط الا نتيجة من نتائج الحرب العالمية الاولى انفجار الامبراطورية العثمانية التي ورثتها الدول المنتصرة في هذهالحرب. وقد تقاسمت فرنسا وبريطانيا السيطرة على هذه المنطقة في معاهدة سايكس-بيكو (1916) التي رسمت حدوداً وخلقت دولاً لم تكن موجودة ([23]). وقلّما نجد اليوم دولتين عربيتين جارتين لا نزاع حدودياًً بينهما. وبعد الاستقلال، استمرت معاناة هذه الدول من الاستعمار او «بقاياه» الى درجة ان كثيراً من المثقفين العرب يحمّلون الحقبة الاستعمارية الطويلة مسؤولية الاخفاقات التي تعاني منها بلدانهم وما تشكو منه اليوم من تبعية اقتصادية وثقافية وسياسية وعسكرية حيال ما يسمونه вالاستعمار الجديد».

ويكشف المشهد الجيو-سياسي في المنطقة العربية عدم انسجام وتناسق بين دولها. فهناك دول فقيرة ذوات كثافة سكّانية مرتفعة، واخرى غنية بالنفط والغاز وقليلة السكان ، وهناك دول كبيرة المساحة واخرى صغيرة جداً، وهناك انظمة ملكية يتعاقب فيها الحكام بالوراثة واخرى جمهورية «تقدمية علمانية» يحكمها الحزب الواحد، وتتطلّع الى توريث السلطة كما فعلت سور يا في عام 2000. وهناك من يعرف بعضاً من مظاهر التعددية (أحزاب ،نقابات،جماعات ضاغطة، نواة مجتمع مدني...)، وهناك من يجهلها تماماً. ولا يتعامل النظام الاقليمي العربي مع الدول العظمى والانظمة الاقليمية الاخرى كوحدة مترابطة في اي ميدان، سواء كان سياسياً او اقتصادياً او غير ذلك، فنتعاطى كل دولة عربية مع الولايات المتحدة وفقاً لاجندتها الخاصة. وع الاتحاد الاوروبي كذلك. هذا الاخير وقّع، كإتحاد، إتفاقيات شراكة، في إطار برشلونة، مع كل دولة عربية على حدة بعد مفاوضات معها لوحدها. وبذلك فان الولايات المتحدة او الاتحاد الاوروبي يبقيان الطرف الأقوى حكماً في العلاقة مع العرب طالما ان هؤلاء لم يتمكنوا من بلورة رؤية واحدة او مشتركة للتعامل مع الخارج. ولذلك لم يؤخذ البعد الجماعي العربي على محمل الجد من قبل اي من الطرفين الاوروبي او الاميركي، واصبحت العلاقات الثنائية هي المحّد الاساسي لعلاقة كل منهما مع كل دولة عربية على حدة. والاكثر من ذلك الخلافات العربية زجت نفسها في كثير من الاحيان في هذه العلاقات الثنائية مستجلبة التدخل الاجنبي الذي ينظر الى العالم العربي كعالم مليء بالتناقضات والمفارقات، والى النظام الاقليمي العربي كنظام متصدّع على شفير الانهيار.

وتعتبر جامعة الدول العربية التي تأسست في 22 مارس/لآذار 1945، الاطار المؤسسي الرسمي الذي يجمع اثنتين وعشرين دولة عربية في نظام اقليمي ينطبق عليه تعريف دافيد ايستون الشهير. لكن رغم كل الاتفاقات الموقعة بين دول هذه الجامعة وفي اطارها والتي تطاول كل المجالات الثقافية والدفاعية والسياسية والاقتصادية وغيرها، فقد بقيت الجامعة مركز اجتماعات ومنبر خطابات اكثر منها مؤسسة فعلية لاستصدار القرارات وضمان تنفيذها. لقد اصيبت تدريجياً بالشلل بفعل الخلافات العربية الداخلية ومبدأ الاجماع في اتخاذ القرار، عدا عن غياب الإلزامية لدى تنفيذه، وتتعثر محاولات الاصلاح بسبب هذه الخلافات.

خارج اطار هذه الجامعة كثرت المحاولات الاتحادية بين عدد من دولها ) في الاعوام: 1958، 1963،1969،1972،1979،1984) لكنها اخفقت وتركت مكاناً للمزيد من النزاعات والخلافات. كذلك قامت نظم اقليمية فرعية في المنطقة: مجلس التعاون العربي، اتحاد المغرب العربي، مجلس التعاون الخليجي..  لم يصمد منها الا هذا الاخير. واذا كان الاخفاق يبين وجود مكامن عجز خطيرة يعاني منه النظام الاقليمي الرسمي، الا ان المحاولات نفسها تعكس قناعة بالوحدة العربية وضرورتها وهو شعور منتشر لدى الشعوب العربية او «النظام الاقليمي غير الرسمي» الامر الذي خلق ازدواجية يمكن فهم خصوصية النظام الاقليمي العربي والسمات التي تميزه عن غيره من النظم الاقليمية الاخرى([24]).

وعلى كل، فقد توقف الكلام عن الوحدة العربية منذ وقت طويل وبات هم الدول القطرية الاساسي حماية نفسها من الانقسام على اسس طائفية او مذهبية او عرقية. هذه المخاوف باتت راهنة وضاعطة منذ ان نشر الاسرائيلي عوديت بينون، في العام 1980، دراسته الشهيرة تحت عنوان «أمن اسرائيل في الثمانينيات» والذي يستعرض فيها مشروعاً اسرائيلياً لتقسيم الدول العربية على اسس مذهبية. وقد حاولت اسرائيل تطبيق هذه الخطّة لدى اجتياحها للبنان في العام 1982. واليوم عادت هذه الهواجس مع الاحتلال الاميركي للعراق وتأسيس نظام حكم فيه يقوم على التقاسم المذهبي والعراقي للسلطة.

بعد حرب 1973، تساءل الباحث الفرنسي جان –بيار ديرينيك: «أربع ملايين اسرائيلي ضد مئة وعشرين مليون عربي؟.. هل هذا صحيح؟». وبعد عقد مقارنة بين عديد الجيش الاسرائيلي والجيوش العربية المنخرطة فعلياً في ساحة القتال في حروب الاعوام 1948 و 1948 و1967 و1973 (بعد ان احتسب عديد القوى الباقية في كل بلد من اجل حماية النظام وتلك المنتشرة على الحدود مع دولة « شقية»)، وجد ان عدد العسكريين الاسرائيليين في الجبهة كان على اقل موازياً لعدد الجنود العرب. وجاءت التكنولوجيا المتقدّمة للجيش الاسرائيلي لتحسم المعركة([25]). واذا كانت الحرب استمراراً للسياسة، على ما يقول كلا وستفيتز، فان الدول العربية كانت تتكلّم دوماً عن الحرب من دون الاستعداد لها، في حين كانت اسرائيل تتكاّم عن السلام وتستعد للحرب. وحصل ذلك في فترة كان الرأي العام العالمي فيها لا يريد الحروب ونتائجها المدمّرة. وكان العرب يبدون فاقدين لحس المسؤولية قبل الحرب وعاجزين بعد هزيمتهم فيها([26]). وهكذا اخذت اسرائيل بالتوسع والاحتلال، والعرب بالانقسام بين محبّذ للتسوية بأقل الأضرار الممكنة ومصر على المواجهة حتى «تحقيق السلام العادل والدائم». وقرّر انور السادات السير بمفرده في التسوية فحصل على ارضه المحتلة في مقابل اخراج  اكبر بلد عربي من المواجهة، الامر الذي حسم ميزان القوى لصالح اسرائيل التي شرعت فوراً باجتياح لبنان ومحاولة تصفية القضية الفلسطينية عبر القضاء على منظمة التحرير. وقد عجزت الجامعة العربية عن الالتئام في مؤتمر قمة قبل مرور شهرين على هذا الاجتياح لتتقدم بعدها في آب 1982، بمشروع تسوية رفضته اسرئايل فوراً رغم ما فيه من تنازلات عن «ثوابت» كان العرب متمسّكين بها منذ عقود طويلة.

واليوم لم يعد ثمة انقسام بين دول عربية تريد السلام واخرى ترفضه، فقد اعلنت قمة بيروت ، في مارس/آذار 2002، عن استعداد العرب اجمعين للتطبيع الكامل مع اسرائيل اذا وافقت على الانسحاب الى حدود الرابع من يونيو/حزيران 1967 وقيام دولة فلسطينية. لكن رئيس الوزراء الاسرائيلي شارون ردّ على هذا الاعلان باجتياح مناطق السلطة الفلسطينية ووصف المبادرة العربية على انها تهدف الى «تصفية اسرائيل». وجددت قمة الجزائر العربية في آذار/مارس 2005 تمسّكها بـ «اعلان بيروت» لتجابه مجدداً بالرفض الاسرائيلي. اكثر من ذلك فقد اقترح العاهل الاردني عبد الله التطبيع مع الدولة العبرية من دون اي شرط قبل ان يتغيب عن قمة الجزائر التي رفضت الموافقة على اقتراحه. هذا الاقتراح في الحقيقة لم يأت من عدم، اذ ان عدداً لا بأس به من الدول العربية قد اتخذ خطوات تطبيعية، تجارية ودبلوماسية، مع اسرئايل من دون التوصل الى حل الصراع العربي-الاسرائيلي.

تركت الهزائم السياسية والعسكرية للدول العربية في مواجهة العدو الصهيوني آثاراً محبطة في المجتمعات العربية، التي راحت تتخبط في مستنقع من المعادلات المستحيلة. هذه المجتمعات تعيش حالة بحث لا ينتهي عن بدائل هي الاخرى مستحيلة: الاشتراكية العلمانية، الوحدة العربية، الدولة القطرية، العودة الى الجذور والتقاليد، الأصولية الاسلامية... الخ. وقد كشف تقريرا التنمية البشرية الصادران، في عامي 2002 و 2003 عن «برنامج الأمم المتحدة للتنمية البشرية» (UNIP)، عن الحالة المزرية لهذه المجتمعات لجهة البطالة والاميّة والتخلّف في مجالات المعلوماتية ودور المرأة والحكم الرشيد والترجمة وحقوق الانسان وغيرها. اما تقرير العام 2004،  فحمّل جزءاً من المسؤولية عن ذلك للعوامل الخارجية ومنها الاحتلال الاميركي للعراق، الامر الذي دفع الولايات المتحدة لاعاقة صدوره فترة من الوقت.

في إبريل/نيسان 2004، قدّمت صحيفة الإيكونوميست اللندنية صورة عن الوضع العربي على الشكل التالي: ستشكل دول الجامعة العربية الجزء الاكثر أوليغارشية في العالم. حتى الآن لم تتم إطاحة زعيم عربي واحد بهدوء في صناديق الاقتراع. حتى أفريقيا جنوبي الصحراء تبدو افضل حالاً بكثير، حيث منذ 1990 تنحّى 18 نظاماً عن الحكم بناء على رغبة الناخبين، وقد اظهرت دراسة اجرتها الجامعة العربية انه من المتوقّع ان يبلغ عدد الشبان العرب العاطلين عن العمل بعد عشر سنوات، خمسين مليون شاب مقارنة مع 15 مليوناً في الوقت الحاضر. وقد بدأ العالم الخارجي يرى في هذه الاخفاقات خطراً على مصالحة الخاصة. 15 في المائة من الشبان العرب يقولون انهم يودّون الهجرة وهذا أمر يقلق الاوروبيين. ويعتبر كثيرون ان الارهاب الاسلامي هو وليد الاحباط الذي اصيب به العرب نتيجة شعورهم بالعجز، وبات الوضع ينذر بانفجارات داخلية...

والحقيقة ان مسؤولية الانظمة السياسية العربية اكيدة لا جدال فيها، لكن العناصر الخارجية والتدخلات الاجنبية تلعب هي الاخرى دوراً مهماً في تكريس الحالة المزرية لهذه البلدان. ومن الصعوبة بمكان اغفال العامل الاسرائيلي ولو ان انظمة الحكم العربية راحت تستخدمه ذريعة في تعسّفها وفرض قوانين الطوارىء وكم الأفواه وبناء دول امنية تحاصر مواطنيها، في وقت يبدو عجزها فاضحاً في ادارة «الصراع مع العدو». وقد شكلت اسرائيل من منذ ولادتها عامل عدم استقرار في المنطقة المحيطة بها، جرّاء الحروب المتكرّرة مع دول الطوق العربية وبسبب وجود لاجئين فلسطينيين في هذه البلدان يسعون للعودة الى بلدهم. هؤلاء وقعوا في الوقت نفسه ضحية عدّوهم الصهيوني الذي طردهم من ارضهم وبعض «أشقائهم» العرب الذين راحوا يتنافسون عليهم كورقة يمكن استخدامها في لعبة النفوذ والسلطة وفي مفاوضات مستقبلية محتملة مع اسرائيل. وقد قتل من الفلسطينيين في الصراع مع «الأشقاء العرب» ربما اكثر مما قتل في الصراع مع العدو.

 

وفي الأدبيات السياسية والتقارير والدراسات الاسرائيلية وحتى مذكّرات الزعماء السياسيين والعسكريين (موشي شاريت على سبيل المثال لا الحصر) نجد كلاماً كثيراً عن ضرورة تجزئة البلدان العربية كسبيل لضمان وجود اسرائيل النهائي. مثلاً بعد ولادة الدولة العبرية بقليل، أجاب بن غورون على سؤال حول خطر الوحدة العربية فقال: «لو كنا نعلم ان العرب يمكنهم ان يتحدوا لما فكّرنا بالاقدام على ما اقدمنا عليه، ولن نسمح لهم بأن يتحدوا». وفي أواخر العام 1966، قال رئيس الوزراء الاسرائيلي ليفي أشكول: «ان سياسة اسرائيل منذ قيام وحدة مصر وسوريا هي ان تحول ولو بالقوة دون اي تغيير يحدث في الوضع القائم في الدول العربية». وبعج عامين صرح أبايبان قائلاً: «يجب ان يكون واضحاً ان مصير المنطقة العربية لا يمكن ان يكون الوحدة، بل العكس انه الاستقلال القائم على التجزئة»([27]). وفي دراسة عوديت بينون المذكورة اعلاه نقرا\أ ما يليك «ان الخيار امام اسرائيل في صراعها مع العرب هو تفسيخ الأمة العربية وتجزئتها وانهاؤها بنشر الفوضى والحروب الاهلية واثارة النزاعات الطاشفية والعنصرية في جميع الاقطار العربية»([28]).

من المؤكد انه لو لم تكن التربة صالحة في الدول العربية، لما كان لكل هذا الكلام من معنى،ولكن الانصاف ايضاً يقضي بالقول انه مثلاً في حين تلقت دول المعسكر الشرقي السابق في اوروبا كل العون من الاميركيين والاوروببين لمساعدتها على الانتقال بسلاسة الى النظام الجديد، فان الشعوب العربية راتب تقبع بين فكّي كمّاشة الانظمة المستبدة والتدخلات الخارجية (الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية) المعّوقة للاصلاح والاستقلاق والاتحاد.

وهكذا، لا يسع الدول العربية ان تلعب دوراً مؤثراً في تسوية الصراع مع اسرائيل بفعل ميزان القوى الذي يميل بفارق هائل لمصلحة هذه الاخيرة. كما لا يسعها ان تكون ذخراً وعوناً ثميناً للاتحاد الاوروبي في مسعاه الى التسوية. بل ان ضعفها يشكل، على الارجح، عائقاً امام مثل هذه التسوية. فتاريخ العلاقات الدولية يبرهن ان الضعف يشكل سبباً للحروب والازمات مثل القوة تماماً. ويتضافر الضعف العربي المفرط مع القوة الاسرائيلية المفرطة بدورها والمدعومة من القوة الاعظم في العالم، كعنصر معّوق لفعالية الدور الاوروبي في مسعاه لايجاد حل مقبول للصراع العربي0الاسرائيلي.

 

3 -  الدعم الاميركي غير المحدود لإسرائيل

منذ البدء دعمت الولايات المتحدة المشروع الصهيوني في فلسطين وسارع الرئيس ترومان الى الاعتراف باسرائيل مباشرة بعدستالين. وعلى غرار غريمها السوفياتي، عملت الولايات المتحدة، في الاربعينيات والخمسينيات من القرن المنصر/ ضد الكولونياليات الاوروبية ومن اجل نزع الاستعمار، فالتقت بذلك مع التطلّعات الشعبية في البلدان العربية. في هذا الوقت كان بعض الدول الاوروبية، وفي طليعها فرنسا، هو الممول الرئيسي لاسرائيل  بالسلاح،  في  حين اكتفت الولايات المتحدة بالدعم  المالي  والسياسي.  وقد  وجه الرئيس الاميركي ايزنهاور انذاراً الى فرنسا وبريطانيا واسرائيل للانسحاب من السويس في عام 1965، وكان هذا إيذاناً بانكفاء نفوذ القوتين الكولونياليتين السابقتين في الشرق الاوسط لمصلحة القطبين الجديدين على خلفية الحرب الباردة. ففي الخامس من يناير/كانون الثاني 1957 اعلن ترومان امام الكونغرس عن «العقيدة» الجديدة القاضية بمنع الخطر الشيوعي من ملء الفراغ الاستراتيجي في منطقة الشرق الاوسط الحيوية للمصالح الاميركية.

مع عودة الجنرال يغول إلى السلطة (1958)، ومع وصول كينيدي (1961) ثم جونسون (1963) إلى البيت الأبيض، بدأت العلاقة بين باريس وتل أبيب تفقد حرارتها تدريجياً لصالح تحالف يزداد وثوقاً بين هذه الأخيرة وواشنطن. وربما لهذا السبب أغمضت إدارة كينيدي عينيها عن النشاطات النووية العسكرية الفرنسية – الإسرائيلية في ديمونة والتي كشفتها طائرات التجسس الأميركية U2 في الأشهر الأخيرة لولاية أيزنهاور[29]. أما الإنقلاب لاحقاً حتى الحرب على العراق، فقد حدث في حرب الأيام الستة من خلال قطيعة معلنة في العلاقة الاستراتيجية الفرنسية – الإسرائيلية، وتحالف أميركي – إسرائيلي جديد. هذا التحالف مر بداية بغياب أي رد فعل أميركي على ضرب إسرائيل لسفينة التجسس الأميركية « يو أس أس ليبرتي».

في الثامن من حزيران 1967 رغم أنه أوقع 34 قتيلاً أميركياً ومن ثم، على وجه الخصوص، بالتوصل إلى إتفاق، ما يزال قائماً، حول طريقة إدارة مسألة المنشآت النووية في ديمونة[30]. بعدها بدأت تصل إلى إسرائيل شحنات الأسلحة الأميركية بشكل كثيف مع التكفل بضمان أمن هذه الأخيرة والذي ظهرت مفاعيله جلية خلال حرب أكتوبر 1973[31].

بعد حرب 1967، تغيرت السياسة الأميركية في الشرق الأوسط فأصبحت منخرطة فيه بشكل مباشر، محدثة قطيعة كاملة مع الحذر الاستراتيجي الذي طبعها في الخمسينيات[32]. هذا الانخراط ظهر في مناسبات عديدة، لا سيما عبر تمويل برنامج تصدير  سخي للأسلحة والتكنولوجيات إلى إسرائيل. وقد تضمنت إتفاقات كمب ديفيد مساعدة أميركية سنوية قدرها 2.4 مليار دولار للدولة العبرية، عدا عن تمييزها عن غيرها من حلفاء واشنطن بمنحها أحدث التكنولوجيات العسكرية الأميركية، الأمر الذي تسبب ببعض المشاكل والإحراجات: مثلاً قيام شركات السلاح الإسرائيلية بتصدير أنظمة (مثل طائرة – رادار فالكون إلى الصين) تتضمن تكنولوجيات أميركية من دون موافقة واشنطن[33].

ومن المعروف أن الولايات المتحدة استنفرت قواتها النووية خلال حرب الغفران لمواجهة احتمال تدخل سوفياتي، وأقامت جسراً جوياً لإسرائيل مدها بأحدث الأسلحة والعتاد، وساعدها على استرداد زمام المبادرة في هذه الحرب عبر ثغرة الدفرسوار عند الضفة الغربية لقناة السويس، التي أرشدتها إليها الأقمار الاصطناعية الأميركية. لقد خاطرت واشنطن بعلاقاتها مع حلفائها من العرب، في وقت كانت هي والدول الصناعية بأمس الحاجة إلى النفط الذي يصدرونه إليها. وبدا واضحاً وقتها أن الدعم الأميركي لإسرائيل بات جزءاً من مثلث تقوم عليه الإستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط: ضمان أمن إسرائيل، تأمين منابع وممرات النفط، ومكافحة الخطر الشيوعي.

عقب هذه الحرب وتداعياتها (حظر النفط العربي...)، تحركت الدبلوماسية الأوروبية فبدأت حواراً مع العرب دام طويلاً من دون إنتاج شيء يذكر، كما تحركت الدبلوماسية الأميركية التي نجحت في دفع إسرائيل ومصر إلى توقيع اتفاقات كمب ديفيد التي قلبت المشهد الاستراتيجي في المنطقة رأساً على عقب. بذلك سدد الرئيس كارتر ضربة قوية للنفوذ السوفياتي في المنطقة تلتها ضربات جديدة على يد الرئيس ريغان الذي أعاد منذ وصوله إلى البيت الأبيض، في عام 1981، تأجيج الحرب الباردة وفي الوقت نفسه، أنتقل في العلاقة مع إسرائيل إلى مستوى "التعاون الاستراتيجي" في منطقة أنتقل فيها الحليف الإيراني إلى موقع العدو، ابتداءً من فبراير/شباط 1979 (الثورة الإسلامية)، ودنا منها الخطر الشيوعي (الغزو السوفياتي لإفغنستان 1980). بعد وصول ريغان إلى البيت الأبيض بعام واحد، اجتاحت إسرائيل لبنان، ولما تقدم بمبادرة من خمس نقاط لوقف الاجتياح رد عليه مناحيم بيغن بقرار بناء خمس مستوطنات جديدة وباحتلال بيروت. وكان قد أعطى أوامره لسلاح الجو فرنسيون، في تموز/يوليو 1981، خلال انهماك بغداد في حربها المدمرة مع إيران التي دامت ثماني سنوات تحطم خلالها ظهر النظام الإقليمي العربي والتكنولوجيات لمساعدته على صد النفوذ الإسلامي الإيراني. في هذا الوقت، في أفغانستان وكل المنطقة المحيطة، كانت الحركات الإسلامية الأصولية تتلقى الدعم الأميركي السخي في حربها على الخطر الشيوعي والاحتلال السوفياتي لإفغانستان.

خلال ولايتي إدارة ريغان الجمهوري المتشدد، وصلت العلاقة مع إسرائيل إلى مستويات غير مسبوقة من التنسيق والتحالف والدعم وتراجع مسار تسوية الصراع العربي – الإسرائيلي، كما أصيب الدور الأوروبي بضعف حيث اتفاقات نزع التسلح الأميركية – السوفياتية وحيث غورباتشوف يحاول إنقاذ النظام الشيوعي عبر البرسترويكا والغلاسنوت من دون جدوى. ففي تشرين الثاني/نوفمبر 1989 انهار جدار برلين فانتهت الحرب الباردة ومعها النظام الدولي القائم على القطبية الثنائية.

نجح الرئيس بوش الأب في تشكيل ائتلاف دولي كبير لتحرير الكويت التي اجتاحها العراق في بداية آب/أغسطس 1990، وأعلن في مارس/آذار وفي غمرة انتصاره على العراق عن بزوغ نظام عالمي جديد تسود فيه "العداله والمساواة أمام القانون الدولي بين كل الدول". وبدأ حثيثاً مسعاه الذي وعد به لحل الصراع العربي – الإسرائيلي. وقد ساد التفاؤل في اوساط السياسيين والمحللين العرب لأن التطورات، في نظرهم، أفقدت إسرائيل أهميتها الاستراتيجية بالنسبة لواشنطن التي باتت قواتها العسكرية موجودة مباشرة في المنطقة الغنية بالنفط، وقد منعها الأميركيون من الرد على صواريخ سكود التي أطلقها عليها صدام حسين، ثم إن الرئيس بوش استخدم وسيلة الضغط عليها، وهذه سابقة، عندما هدد بتجميد الضمانات الفدرالية الأميركية البالغة عشر مليارات دولار، للمصارف التي تمول أعمال بناء المستوطنات في الأراضي المحتلة.

لكن مؤتمر مدريد (أكتوبر/تشرين الأول 1991) الذي غابت عنه الأمم المتحدة وأوروبا، تنفيذاً لشروط إسرائيل، أصيب بفشل ذريع. كما فشل الرئيس بوش في التجديد لنفسه لولاية ثانية رغم الانتصار المدوي الذي حققه لبلاده في الساحة العالمية. ورأى المحللون العرب في هذا الفشل مؤامرة من اللوبي الصهيوني في واشنطن الذي حارب إدارة بوش بسبب موقفها من فشل تطبيق اتفاق أوسلو رغم انخراط إدارة كلينتون الشديد والمباشرة في تسوية الصراع، ذلك أن وصول نتنياهو، المعروف بعلاقاته الوثيقة جداً بهذا اللوبي، إلى رئاسة الوزراء في عام 1996 كان بمثابة ضرب عنيفة موجهة لهذا الاتفاق.

 

في الحقيقة سيشكل الإسرائيليون وأصدقاؤهم في الولايات المتحدة لوبي مهماً وقوياً جداً[34] يقول عنه رئيس الأركان الأميركي الأسبق الجنرال جورج بروان: "هذا اللوبي قوي إلى درجة غير معقولة (...) يطلب منا الإسرائيليون أسلحة متطورة فنقول لهم إنه يترتب علينا إقناع الكونغرس، فيجيبوننا بأن لا نقلق لأنهم يتولون الأمر. إنهم أناس من بلدان أخرى لكنهم قادرون على فعل ما نعجز عنه نحن في بلدنا..."[35].

وقد نشر السيناتور بول فندلي كتباً عديدة يكشف فيها حقائق نفوذ هذا اللوبي في بعض مناحي الحياة الأميركية[36]. أما عن نفوذه في السياسة الخارجية الأميركية فيقدم وزير الخارجية في بداية عهد ريغان الجنرال ألكسندر هيغ (المؤيد لإسرائيل من دون تحفظ) شرحاً وتحليلاً مدعوماً بأمثلة عديدة عاشها خلال عمله في الإدارة الأميركية[37].

في الأدبيات السياسية العربية هناك نوع من "الأسطرة" لهذا اللوبي الذي ينظر من خلاله، ومن خلاله فقط، إلى كل المواقف الأميركية في الشرق الأوسط. لقد تحولت قدرته القادرة إلى نوع من "الميتولوجيا السياسية" في التحليلات العربية، إلى حد تغييب المصالح الخاصة للدولة الأعظم يصورها البعض كألعوبة في يد هذا اللوبي. والحقيقة الموضوعية تقتضي القول أن الولايات المتحدة بلد مفتوح أمام كل جماعات النفوذ والضغط الإجتماعية والدينية والسياسية والإعلامية والإقتصادية وغيرها. في غياب لوبي فلسطيني وعربي فاعل، فإن أنصار إسرائيل نجحوا في إقناع الأميركيين بأن المصلحة والواجب الأخلاقي يقتضيان حماية الدولة "المحاصرة" من الأعداء المحيطين بها، والذين يتربصون بها كل الشرور" (دافيد وغوليات)[38].

ويعمل هذا اللوبي من خلال عدد من الجمعيات والمنظمات، وأبرزها "الإيباك" ولكن أيضاً من خلال النفوذ الهائل الذي يمتلكه لدى المؤسسات الإعلامية والأكاديمية والمالية الكبرى التي يحتاج إليها الحزبان الجمهوري والديمقراطي في تنافسهما للوصول إلى الكونغرس والبيت الأبيض. ولا تتسع العجالة هنا لسرد الأمثلة والشواهد على قدرات هذا اللوبي، لكن يكن مفيداً تقديم مثال واحد:

درست منظمة إنسانية أميركية إسمها "لو عرف الأميركيون" تغطية جريدة "النيويورك تايمز" للأحداث في الضفة الغربية وغزة على مدى سنتين، فوجدت مثلاً أنه في عام 2004، قتل ثمانية أطفال إسرائيليين و167 طفلاً فلسطينياً،أي ما نسبته واحد على اثنين وعشرين، لكن تغطية الصحيفة المذكورة للأطفال الإسرائيليين القتلى زادت سبع مرات على تغطية نظرائهم الفلسطينيين. ولاحظت المنظمة أن الجريدة غطت القتلى الفلسطينيين منذ بدء الإنتفاضة الثانية (سبتمبر/أيلول 2000) بنسبة 42 في المائة في حين غطت القتلى الإسرائيليين 114 في المائة (الخبر الأصلي مع تعليقات ومتابعات وردود الفعل). وتضيف المنظمة أن 32 طفلاً فلسطينياً قتلوا في الشهر الأول من الانتفاضة لم تشر إليهم الصحيفة رغم أن إصابات 28 منهم هي في الرأس أو الصدر[39]. وإذا كان الأمر كذلك مع صحيفة موضوعية ذات مصداقية وشهرة عالمية كالنيويورك تايمز فإنه من المشروع الاستنتاج أن الإعلام الأميركي يشكل سلاحاً فعالاً في يد أنصار إسرائيل في أميركا والغرب عموماً، ويقوي من قدرتها على مجابهة مشاريع السلام التي لا ترضى بها.

ويلخص عالم السياسة الفرنسي مرسيل ميرل الجدل حول هذا اللوبي بالقول:"اللوبي الصهيوني يشكل إحدى أرسخ دعائم السياسة الأميركية الملائمة لإسرائيل. إذ من دون أن يكون الرئيس الأميركي موالياً للصهيونية فإنه لا يستطيع أن يتخذ مواقف مناهضة للوبي اليهودي الفاعل جداً في الولايات المتحدة"[40].

لقد نظر الإسرائيليون إلى إدارة كلينتون على أنها أفضل لهم من إدارة بوش الأب (التي ضمت أمثال برنت سكوكروفت وجيمس بيكر اللذين وقفا ضد رغبات تل أبيب)، وقد انتقدها الأوروبيون لأنها ضمت منحازين لإسرائيل مثل مارتن أنديك ودينيس روس. لكن المفارقة أن هذين الاثنين سوف يتعرضان لانتقاد شديد عقب مجيء بوش الأبن إلى كمب ديفيد الثانية وطابا في نهاية العام 2000. وقد تم استبدالهما بشخصيات تتطابق مواقفها مع حزب الليكود الإسرائيلي مثل ريتشارد بيرل ودوغلاس فيث واللذين سبق أن وقعا نصاً موجهاً، ليس إلى واشنطن، ولكن إلى نتنياهو عقب وصوله إلى السلطة في في عام 1996 ينصحانه بإحداث "قطيعة" كاملة واضحة مع مسار السلام وإحلال مبدأ "السلام مقابل السلام" إي "السلام المستند إلى القوة" محل مبدأ "الأرض مقابل السلام" الذي يضع إسرائيل في موقع الدفاع على الصعد الثقافية والسياسية والدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية، كما تدعو الوثيقة نتنياهو إلى ضرب إيران وسوريا حزب الله[41].

التطابق بين المصالح الوطنية للولايات المتحدة وإسرائيل لدى هذين المسؤولين في إدارت الجمهورية السابقة والحالية، يبدو هنا جلياً تماماً[42].

وكان هؤلاء وغيرهم من المحافظين الجدد، قد نشروا في التسعينيات تقارير ودراسات تحث إدارة كلينتون على احتلال العراق وقد شرعوا في تنفيذ مخططاتهم الجاهزة عقب وصولهم إلى السلطة مع جورج بوش الأبن في بداية العام 2001، وجاءت تفجيرات 11 سبتمبر (أيلول) الإرهابية، بمثابة "مفأجأة ربانية"[43] لهؤلاء لتفتح أمامهم السبيل واسعاً لتنفيذ مآربهم.

من تداعيات هذه التفجيرات الإرهابية هذا التطابق، الذي دفع إليه المحافظون الجدد، بين الولايات المتحدة وإسرائيل: الحرب الأميركية على الإرهاب الإسلامي هي نفسها الحرب الإسرائيلية على الإرهاب الفلسطيني، والإستباق، على غرار تدمير الإسرائيليين لمفاعل "أوزيراك" العراقي في عام 1981، هو الاستراتيجية المشروعة لضمان الأمن، وتغيير النظام هو الحل الوحيد الذي يتيح تطور الوضع[44]. ونجح أرييل شارون في ركوب الموجة الأميركية العارمة معلناً أن عرفات هو "بن لادن إسرائيل" وأن حربه على الإرهاب الفلسطيني هي جزء لا يتجزأ  من الحرب الأميركية على الإرهاب.

وهكذا في حين كان بوش يشن حربه على الإرهاب انطلاقاً من أفغانستان قبل أب يبدأ الاستعداد لاحتلال العراق، كان شارون يجتاح مناطق السلطة الفلسطينية مدعوماً من واشنطن التي منعت (حق النقض – الفيتو) في مجلس الأمن الدولي من مجرد انتقاد السياسات العسكرية والإستيطانية الإسرائيلية. وفي حين كان بوش يستقبل شارون في البيت الأبيض (تسع مرات في ولايته الأولى)، كان يمتنع عن مجرد التحدث مع عرفات المحاصر في مقره برام الله. ووقف بوش ضد تشكيل لجنة تحقيق دولية في مجازر جنين خلال الاجتياح الإسرائيلي لها في وقت وصف فيه شارون بـ "رجل السلام". إذا كان صحيحاً أنه أول رئيس أميركي يطرح رؤية علنية لدولة فلسطينية تعيش بسلام إلى جانب إسرائيل إلا أنه يتفادى الكلام عن حدود هذه الدولة وعاصمتها وسيادتها وغيره. بل إن المؤتمر الصحافي الذي عقده مع شارون في 16 أبريل/نيسان 2004 كان له وقع الكارثة على الرأي العام العربي  لما فيه من تبن وتأييد كاملين لإطروحات هذا الأخير. وهكذا فرغم انحيازها لإسرائيل الذي بات من ثوابت سياستها الخارجية "لم تكن الولايات المتحدة في تاريخها، في أعين باقي العالم ومنه العالم العربي أكثر قرباً من المواقف الإسرائيلية مما هي عليه اليوم"[45].

لم تعد الولايات المتحدة في نظر العرب ولا الأوروبيين وسيطاً نزيهاً بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وعلى خلفية الانحياز المفرط لهؤلاء الأخيرين فإن احتلال العراق، من دون ذرائع مقنعة وخلافاً للقانون الدولي والأمم المتحدة وحتى حلف الأطلسي، يبدو وكأنه خدمة تقدمها للدولة العبرية. هذا الرأي سائد في صفوف الأنتلجنسيا العربية، بل أنه صدر عن عدد من السياسيين الأوروبيين وحتى الأميركيين مثل الجنرال زيني الذي كان مبعوثاً للرئيس بوش إلى المنطقة في عام 2002. أما الرأي العام الأوروبي فقد اعتبر في أحد استطلاعات الرأي، أن إسرائيل تأتي في طليعة الدول المهددة للسلام العالمي تليها الولايات المتحدة في المرتبة الثانية[46].

إزاء هذه السياسة الأميركية التي ترسخ وتزيد من مخاطر الإرهاب. فتخلق شروط صدام الحضارات "تبدو أوروبا أمام معضلة: إما أن تتضامن مع الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، فتؤكد أطروحة صدام الحضارات هذه وتكون جزءاً منها. وإما أن تتمايز عن الولايات المتحدة مع تحمل خطر أزمة حادة في العلاقة ما بين ضفتي الأطلسي[47]". والدولة الأعظم تملك كل الوسائل الضرورية لفرض حل عادل ودائم للصراع العربي – الإسرائيلي، لكنها لا تفعل لأن ذلك لا بد أن يمر بممارسة الضغوط على الحليف الإسرائيلي وهو ما تأباه إدارة بوش الإبن. وفي هذه الحالة فإن أوروبا تقف عاجزة إلا عن اتخاذ المواقف المبدئية وتوقيع الشيكات في حين أن ممثلها للسياسة الخارجية والدفاع سولانا، ومبعوثها للشرق الأوسط موراتينوس يعجزان عن إقناع شارون الذي زاده الدعم الأميركي تشبثاً وصلابة، بالسماح لهما بلقاء ياسر عرفات المحاصر في رام الله.

 

بعد بضعة أشهر على احتلالهم للعراق، شعر الأميركيون أنهم إزاء ورطة حقيقية عسكرية وسياسية، فبدأوا بإرسال الإشارات الإيجابية إلى "معسكر السلام" الأوروبي والأمم المتحدة. قرارات عديدة صدرت عن مجلس الأمن مهدت السبيل أمام تسوية بين ضفتي الأطلسي كانت قمم شهر حزيران 2004 (القمة الأميركية-الأوروبية السنوية في إيرلندا، قمة جماعة الثماني في سي – آيلند ثم قمة الأطلسي في اسطنبول) مناسبة للتفاوض حولها وطريقة إخراجها. في بداية أيلول من العام نفسه، صدر عن مجلس الأمن القرار 1559 الذي ينبىء ببداية تفاهم جديد بين فرنسا والولايات المتحدة في الشرق الأوسط الكبير (كان هذا المشروع الأميركي في الأًصل قد خرج إلى النور في شباط 2004 ليتعرض إلى ردود فعل عربية وأوروبية كثيرة قبل أن يتبلور في صيغته النهائية في القمم المذكورة) وانتهاء الخلاف حول العراق أو عدم تفاقمه على الأقل.

في أيار 2005، قال الفرنسيون ثم الهولنديون "لا" للدستور الأوروبي المشترك في الاستفتاء الشعبي عليه. وبذلك فإن خطوة أساسية ضرورية في طريق تحقيق السياسة الخارجية والدفاعية الأوروبية لم يخطها الأوروبيون الذين شرعوا في إجراء مراجعة نقدية لما أنجز وما لم ينجز في المشروع الاتحادي. وفي الانتظار، فإن موقع أوروبا الدولي تعرض لضربة موجعة لا سيما وأن فرنسا الدولة الأكثر أوروبية في أوروبا هي التي قال شعبها لا للدستور. وهذا ما يضعف الموقف الأوروبي إزاء الولايات المتحدة في العالم والشرق الأوسط. ربما هذا ما يشرح، إلى حد ما، التقارب الفرنسي مع إسرائيل وتحديداً مع رئيس وزرائها أرييل شارون. هذا الأخير كان شخصاً غير مرغوب فيه Persona non grata في العام 2004 لا سيما بعد دعواته في تموز من العام نفسه اليهود الفرنسيين إلى الهجرة إلى إسرائيل، لكن شيراك استقبله بحفاوة لافتة في تموز 2005 وعقد معه اتفاقات عسكرية واقتصادية كمكافأة على انسحابه الأحادي من غرة، والذي يحمل أهدافاً لا تغفل على الفرنسيين قبل غيرهم، ذلك أن دوف فايسغلاس، مستشار شارون السياسي، اختار جريدة لوموند، في تشرين الأول 2004، ليعلن منها أن حكومته ستنسحب من غزة كي تكرس احتلالها للضفة والقدس وتوقف عملية التسوية والكلام عن دولة فلسطينية وغيره.

لقد أيقنت فرنسا، ومعها أوروبا، أنه لا يمكن لها القيام بدور فاعل في الساحة الدولية إلا إذا أخلت لها الولايات المتحدة المكان أو تعاونت معها بطريقة من الطرق. وأيقنت الولايات المتحدة بدورها أن القوة العسكرية مهما عظمت لا تستطيع أن تحقق كل شيء، وبالتالي فلا مناص من العودة إلى الحلفاء وعقد نوع من الشراكة معهم لمواجهة الأزمات التي يتطلب حلها قدراً من التعددية – القطبية التي تحمل الحلفاء جزءاً من الأعباء وتعطيهم الشعور بالرضى والفعالية. من هنا هذا الكوندومينيوم الأميركي – الفرنسي (وبالتالي الأوروبي) الذي نشهده في هذه الأيام في الشرق الأوسط والذي ما يزال من المبكر الحكم على قدرته على الاستمرار والفعالية.

 

[1] Zbigniew Brzezinski, "The choice;Global Domination or Global Leadership", Basic Books 2004 p106

[2] Robert Kagan, "Of Paradise and Power, America and Europe in the New World Order",Alfred A. Knopf, New York, 2004

[3] Ibid. P.50

[4] Ibid. P.75

[5] من خطاب له في معهد الدراسات السياسية في باريس، في 29/5/2001

[6] كريس باتن "من أوروبا مع الدعم" ويديعوت أحرونوت، 28/10/2002

[7] Thierry de Montbrial "La Guerre et la Diversité du Monde", le Monde/ed de l'Aube,Paris, 2004, P.94

[8] Condolezza Rice, "Pas de Fossé entre l'Europe et les Etats-Unis", le Monde, 10-  11/6/2001

[9] Francois Heisbourg, "La fin de l'Occident?" Odile Jacob Paris, 2005,P.222

[10] Hubert Vedrine, Préface au livre de Christian Saint-Etienne, "La puissance ou la mort", ed. Seuil, Paris, 2003, P.7

[11] Stephen George and Ian Bache, "Politics in the European Union", Oxford Press, 2001, PP.150 – 160

[12] Ibid. Cf Philippe Moreau Defarges, "Les Institutions Européennes", ed.Armand Colin, Paris, 2002,

[13] Cf Maurice Croisat et Jean-Louis Quermanna, "l'Europe et le fédéralisme", ed. Montchrestien, Clefs, Paris 1999.

[14] Jolyon Howorth, "Britain, France and the European Defense Initiative", Survival, Vol N42, 2 Summer, 2000, P33

[15] Thierry De Montbrial, "La Guerre et la Diversité du Monde", Op.Cit.,p.104

[16] Wall Street Jounral January 2003,30

[17] هذه الدول هي: ليتونيا، ليتوانيا، إستونيا، سلوفاكيا، سلوفينيا، بلغاريا، رومانيا، كرواتيا، ألبانيا، ومقدونية

[18] Jan Krause, Le Monde, 8/2/2003

[19] Le Monde, 19/2/2003

[20] Les Echos, 19/2/2003

[21] Ibid

[22] Christien Saint-Etienne, OP.Cit.p.72

[23] Cf Jean-Paul Chagnollaud et Sid-Ahmed Souiah, "Les Frontières Au Moyen-Orient" ed.l'Harmattan, Paris 2004

[24] حسن نافعة "العلاقات العربية-العربية في ظل الهيمنة الأميركية"، معهد إبراهيم أبو لغد للدراسات الدولية-جامعة بير زيت. حزيران 2004 ص12

[25]  Jean-Pierre Derriennic,"Le Moyen-Orient au 20ème Siècle",ed. Armand Colin, Paris, 1981

[26] محمد حسنين هيكل، في يغفيني بريماكوف "تشريح الصراع في الشرق الأوسط"، دار إبن خلدون، بيروت، 1981 ص108

[27] شبلي العيسمي. "القومية العربية هوية للفرد العربي". جريدة الحياة 19/4/2005 أنظر ايضاً للكاتب نفسه "لماذا الوحدة العربية وكيف؟" مركز دراسات الوحدة العربية. جزءان 1993 و2004

[28] Cf également George Corm, "La Balkanisation du Proche-orient", le Monde Diplomatique, janvier 1983

[29] Francois Heisbourg, "La Fin de l'Occident?", Op. Cit. P.81

[30] Ibid.P28 Cf aussi Avner Cohen,"Israel and the Bomb", New York, Columbia University, Press, 1998.

[31] Ibid.P.82

[32] Ibid.

[33] Ibid.P.83-84

[34] Alexander Haig, "l'Amerique n'est pas une ile", (traduit de l'americain par Marie-Caroline Aubert), éd.Plon,Paris, 1985, P.180

[35] يغفيني بريماكوف "تشريح الصراع في الشرق الأوسط"، مصدر سابق، ص. 150

[36] أنظر مثلاً:"من يجرؤ على الكلام ترجمة دار المروج، بيروت 1985، و"الخداع"، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت 1993

[37] A.Haig, Op.Cit.PP.169-195.

[38] من أجل تحليل علمي هادئ للعلاقة الأميركية – الإسرائيلية ودور اللوبي أنظر : كميل منصور "الولايات المتحدة وإسرائيل، العروة الأوثق"، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت 1996. وقد نشرت مجلة "دراسات باحث" عدد خريف 2003 ملفاً خاصاً عن "العلاقة الأميركية – الصهيونية: العلنية والخفية" يغطي كل مناحي هذه العلاقة ويضم عدداً كبيراً من المراجع المتخصصة في الموضوع

[39] جهاد الخازن، الحياة، 9/5/2005.  

[40] Marcel Merle, "Sociologie de Relations Internationales", 3ème éd.Dalloz.Paris ,1982, P.187 Cf également: Justin Vaisse, "L'empire du milieu, les Etat-Unis et le Monde depuis la fin de la guerre froide", éd.Odile Jacob, Paris 2001.

[41] Richard Perle, James Colbert, Charles Fairbanks, Jr Douglas Feith, and other, "A Clean Break: A New Strategy for Securing the Realm", Institue for Advanced Strategic & Political Studies, Jerusalem & Washington DC, 1996.

[42] Pierre Hassner et Justin Vaisse "Washington et le Monde", éd. Autrement/coll CERI, Paris, 2003 P.145

[43] Stanley Hoffman, "L'Amérique vraiment impériale?", éd.Audibert,Paris, 2003 PP.51-73

[44] Martin Kramer, "Ivory Towers and Sand", Washington Institute for Near East Policy, 2001 in Pierre Hassner et Justin Vaisse, Washington et le Monde, Op.Cit.P.147

[45] François Heisbourg,Op.Cit.P.117

[46] "Iraq and Peace in the World", Coordinated by EOS Gallup Europ upon of the European Commission, Flash Eurobarometer, 151 November 2003. Heisbourg, Op.Cit.P.117

[47] François Heisbourg,Op.Cit.P.117

The elements objecting to an efficient European policy in the Middle East

The researcher shows in his article the components of the European Union strength on different scales. He argues that the European Union is facing some elements objecting to its efficiency, and seems unable to act and cause changes on the international scene. Some of these elements are:

The European Union is still lacking of a common foreign and security policy, as the arranged agreements are not supported by any philosophy or real objectives, and is missing a partner it can count on.

The researcher adds on the background of this picture the Israelis and their European and American allies possessing a power that raises objections to any serious international work aiming to impose a long-lasting solution accepted by all the parties of the conflict.

Finally, he concludes that the United States understood that the military power, no matter how important it gets, cannot resolve it all, and it is consequently indispensable to consult the allies in confronting crises which solution requires certain multi-polarity.

Les éléments qui entravent l’efficacité de la politique européenne au Moyen-Orient

Le chercheur traite dans son article la question des composantes du pouvoir de l’Union Européenne à différents niveaux. Selon l’auteur, l’Union Européenne affronte plusieurs éléments qui entravent son efficacité ainsi que sa capacité d’action et de changement sur la scène internationale. Parmi ces éléments, l’auteur cite: L’Union souffre toujours d’un manque de politique extérieure et sécuritaire commune, puisque les accords convenus ne sont pas appuyés par une philosophie et de vrais objectifs, et manque de partenaire fiable. Le chercheur ajoute à l’arrière plan de ce cadre, les israéliens et leurs alliés européens et américains qui possèdent un pouvoir qui constitue une pierre d’achoppement à toute action internationale serieuse qui tente d’imposer une solution durable acceptable par toutes les parties du conflit. Finalement, l’auteur conlcut que les Etats-Unis ont pris conscience que la force militaire, aussi puissante qu’elle soit, ne peut tout résoudre, et qu’il est, par conséquent, indispensable d’avoir recours aux alliés pour confronter les crises dont le dénouement exige une certaine multipolarité