ضيف العدد

العولمة والتربية آفاق التفوّق والنبوغ
إعداد: د.منصور عيد

شكلت العولمة روحية جديدة للحضارة الإنسانية في هذا العصر، فقد طرحت توجهاً كونياً شمولياً راح يحل مكان الإيديولوجيات التي انتجتها النزعات الأممية والإقليمية والمحلية، كالقومية والعنصرية والطائفية والمذهبية.

أثارت هذه الروحية الحضارية الجديدة غلياناً كونياً شمل الأنشطة الإنسانية كلها: سياسية وعسكرية وأمنية واقتصادية وثقافية. وهذا الغليان ليس إلا حركة تطورية ضمن سياق الزمن المتحرك باضطراد في إطار صيرورة التاريخ وحتمية التغيّر الدائم في الكون. وكما أنتجت الثورة الصناعية، في الماضي، عصر التوسع والاستعمار، فإن العولمة ستشكل وجهاً آخر من وجوه صراع الأقوياء وسيطرتهم على الضعفاء في العالم. لذلك فإننا نشهد ظهور منهجيات تنظيرية وتخطيطية تخدم هذه التوجهات السلطوية، وقد أجازت لنفسها حق التحكم إقتصادياً وسياسياً وثقافياً بمصير شعوب العالم الثالث.

إن الأيديولوجيا الاجتياحية للعولمة لن تنحصر في حاجات الإنسان المادية فحسب، بل هي تسعى لتؤكد وجودها وتثبت سيطرتها من خلال خرقها العمق الثقافي والإجتماعي للشعوب. لذلك فإن الواقع يفرض، وبإلحاح شديد، البحث عن تفعيل إنساني للطاقة البشرية الواعية والمثقفة لكي تتصدى للنمط الإجتياحي الدولي السلطوي. هذا التفعيل الإنساني لن يتحقق بشكل فاعل ومثمر إلا باستخدام العلم والمعرفة والثقافة والأصالة والتربية السليمة والجودة في الإعداد والإنتاج. وهذا ما يدفع المثقفين الى البحث عن أيديولوجيا جديدة للتعليم والتربية.

إن الواقع العربي والمحلي يظهر أن آفاق التعليم والتربية ما زالت بحاجة ماسة الى التطوير والتنمية. وعلى الرغم من كون الدول العربية تتمتع بثروات طبيعية هائلة، من المفترض ان تشكل مصدراً إيجابياً لشعوبها في مواجهة تحديات العولمة، فإن هناك الكثير من المشكلات التي يفترض تظهيرها ووضع الخطط الأساسية لحلها: مشكلة الأمية والتفاوت بين مستويات التعليم في الدول العربية ­ التفاوت في الحقوق بين فئتي الذكور والإناث ­ تراجع معدلات التنمية بين البلدان العربية مقابل إسرائيل والغرب المصدر للعولمة ­ ضيق المجال أمام المبدعين في تثمير طاقاتهم وتشجيعهم على الخلق والإنتاج ­ هجرة الأدمغة العربية الى العالم الصناعي والتكنولوجي الذي يستقطب المتفوقين والنابغين.

إنطلاقاً من هذه الحقائق التي تطالعنا بها الدراسات والإحصاءات العلمية، والنتائج المتسارعة في التطور العلمي، تتأكد لنا حتمية التلازم بين العولمة والثقافة، وتتأكد أهمية العلم الحديث، القائم على منهجيات متطورة، في بناء الشخصية الجديدة للإنسان العربي عامة واللبناني بشكل خاص. كما تتأكد أهمية تحويل هذا الإنسان الى شخصية كونية قادرة على المواجهة المعرفية والثبات أمام التحديات التي تفرزها العولمة. إن أهم ما تركز عليه برامج التعليم والتثقيف الحديثة هو نوعية المادة التعليمية وإظهار الهدف الأساسي منها. فالعلم للعلم فحسب لم يعد مقبولاً في مفاهيم العولمة التي أخذت توجه التعليم الى الحاجات العملية والتطبيقية، وحل المشكلات المعاصرة والمستلزمات التي تتطلبها الثورة التكنولوجية. وهذه الحاجة تتطلب التفوّق المطلوب في آفاق المستقبل. فالنبوغ لم يعد تنظيراً أو فكراً مجرداً بل أصبح ممارسة يومية للحركة الإنتاجية. لذلك فإن الإختصاصات العادية التقليدية التي تطلقها الجامعات، ويتخرّج منها الطلاب حملة الإجازات، أصبحت لا تشكل العصب الأساسي في دورة الإنتاج الكوني. إنها تسد حاجات محدودة، ظرفية، قد تنقلب الى أزمة بطالة لدى المتخرجين. وهذا ما نشهده، ليس في عالمنا العربي فحسب، بل بين أوساط المتعلمين في الدول المتطورة.

إن الحاجة في الجامعات وفي مؤسسات التعليم العالي تقضي بتحديث البرامج القديمة وطرح مناهج ديناميكية مبتكرة، وتعليم مهارات جديدة ناتجة عن ثورة التكنولوجيا المتنامية باستمرار. كذلك فإننا بحاجة الى الخروج من دائرة التقليد والتحول الى عملية التعاون المعرفي وتبادل الخبرات، من خلال ربط جامعاتنا ربطاً معرفياً بالجامعات العالمية والعربية، وتأسيس بنك للأدمغة العربية يستقطب المتفوقين، وتحديد مفهوم موحد للجودة في التعليم يتوافق مع السوق العملية الإنتاجية محلياً وعالمياً.

غير أن ذلك لا يعني أبداً التخلي عن العلوم الإنسانية التي هي عصب الإبداع البشري وهي التي تؤسس دائماً صورة الإنسان الفاضل. كما علينا التمسك بالأصالة الثقافية الداعمة لروح الإنتماء الوطني والعربي، وإخراج هذه الأصالة من عقدة التخلّف التي تلاحقها، وذلك من خلال منهجية الإنفتاح الفكري الحر وتحرير الذات وإطلاقها في الكونية الجديدة.