رحلة في الانسان

العيب والحرام
إعداد: غريس فرح

حارسا التقاليد والروابط

في ذاكرة كل منا صفحات مملؤة بكلمتي عيب وحرام. كلمتان لا يزال صداهما يهز ضمائرنا ويمنعنا من تحديد ما نريد وما لا نريد. هذا الواقع الذي عايشناه وما نزال نرزح تحت ثقل رواسبه، تفاعل منذ منتصف القرن الماضي مع بوادر التطوّر التقني والمعرفي، ليفرز ثورات أطاحت بمفاهيم العيب في غير مكان من العالم، واستبدلتها بمفاهيم عصرية خارجة عن المألوف. فهل قضت القفزة السريعة بين الممنوع والمسموح في مجالات لا تحصى ولا تعد، على الممنوعات في الذاكرة، والى أي مدى خففت من حدة التفاعل بين ما نؤمن به وما نحاول تخطيه؟


 منذ القدم، ارتبط مفهوم العيب والحرام بمفاهيم حياتية عدة في مقدمتها الجنس والدين والسياسة، إضافة الى الأعراف التي تسيّر العلاقات الاجتماعية والعائلية وبعض العادات. هذا المفهوم الذي يختلف مضمونه من مجتمع الى آخر، يرتبط عموماً بمعايير عالمية شاملة عبّرت عنها بالتحديد كلمة "تابو" الشائعة. وهي كلمة تختصر جملة محرّمات لا يجوز المسّ بها أو التكلّم بشأنها. من هنا الصمت والكتمان الذي رافق هذه الممنوعات وتسبب بالصراعات الداخلية، وما تبعها من ثورات سببها الخوف من خرق الممنوع، والميل الى التحرر من ضغوطاته.

 

 تأثير الممنوعات في العلاقات البشرية

اللافـت أن الممـنوعات التي يشار إليها عموـماً "بالعيـب"، تطال العلاقات البشرية أكثـر من سواها وتتسـبب بتصدّعها. فعلى الرغم من التطوّر الذي نشـهده حالـياً على صعيد التحرر من قيود التقاليد، وخصوصاً في ما يتعلق بالعلاقة بين الجنسين، نجد أن الإنسان على العموم لا يزال يتفاعل ضمناً مع الممنوعات في غير مجال. وهذا بالطبع يجعله يدفع الثمن غالياً، إن بالتنفيس عن طريق الغضب والإنفعال والتمرّد، أو عن طريق الخضوع، وما يعقبه من حقد وشعور بالنقص. والممنوعات الأكثر تأثيراً في النفس، هي تلك التي تطاول العلاقات الحميمة بين الأزواج وأفراد العائلة. إنها الممنوعات التي تجبرنا على كتمان أسرار قد نرتاح الى إفشائها لمن نحب. وهي تحديداً أسرار المشاعر التي نخاف من سلبية تأثيرها على صحة العلاقة، ونجهل في الوقت نفسه، أن كبتها أو إبقائها طي الكتمان، هو الذي يدّمر هذه العلاقة.

 

العيب جزء من طبيعة البشر

اللافت أيضاً كما تشير الدراسات والممارسات الحية، أن ما نسميه عيباً ونسعى الى تجنبه، هو اتجاه فطري تفرضه الطبيعة لأكثر من سبب، ويحاول الإنسان المتحضر قمعه تلبية لقوانين الدين والمجتمع. هنا يلفت أحد الاختصاصيين الأميركيين بعلم النفس الى أن كلمة "تابو" المتداولة في المجتمعات العصرية والراسخة في لغات الشعوب، هي كلمة مأخوذة من لغة شعب "الأبورجين" أو سكان أستراليا المتوحشين الأوائل. فعندما دخل الرحّالة البريطاني "توماس كوك" أستراليا، وتعرّف على شعبها الأصلي، تعرّف أيضاً على كلمة "تابو" المستخدمة في ما بينهم للدلالة على محرّمات لا تمس ومنها الشرائع والعادات القبلية المحلية، وحقوق الأفراد المنتسبين الى عرق واحد. ومنذ ذلك الحين انتقلت هذه الكلمة الى القارة الأوروبية ومن بعدها الى العالم. وهنا المفارقة الكبرى. ففي عالم أكلة البشر آنذاك، قامت محرّمات ومقدسات عبّرت عنها كلمة "تابو". وهذه الكلمة بالذات دخلت الى مجتمعاتنا المعاصرة لتختصر قيوداً وممنوعات وقيماً نقدّسها من جهة وننتهك حرماتها من جهة أخرى. والدليل أن كافة المحرّمات التي احتلت حيّزاً بالغ الأهمية في الذاكرة والضمير البشري منذ أقدم العصور، لم يتم العمل بموجبها كما هو معروف إلا بالشكل. ما يعني أننا كبشر، نتوق في لا وعينا الى التحرر من شكليات الحضارة وما فرضته من ممنوعات باسم العيب والحرام، لنعود الى حرية التعبير الفطري في أكثر من مجال، والأدلة على ذلك كثيرة.

 

 عندما يصبح العيب فضيلة

الخيانة الزوجية والعلاقات غير المباحة خارج نطاق الزواج وسواها من المحرّمات، مورست منذ القدم في الخفاء، وذلك قبل انفجار ثورة التحرر التي نقلت الممارسات الممنوعة من الخفاء الى العلن، أو من الصمت والكتمان الى جرأة الانفتاح والتعبير عن الإرادة. وتجدر الإشارة هنا الى أن معظم المحرمات كانت وما تزال تنتهك باسم الفضائل. بمعنى أن العقل البشري قد أخضع مع الوقت للغسل كي يتقبل انتهاك محرمات دون أخرى من غير اعتراض. فالقتل الذي يعتبر من المحرمات، تباح ممارسته في الحروب. كما أن استعباد البشر واحتلال أراضي الغير إضافة الى تكديس الأسلحة الفتّاكة، أصبحت من الممارسات التي تتقبلها العقول وتجد لها ألف عذر ومبرر. وفي الوقت الذي يمنع فيه الحديث عن العلاقة غير الشرعية بين الجنسين، نرى أن قتل الإناث المتورطات بعلاقة من هذا النوع مقبول لدى فئات عدة، بغض النظر عن انتمائها الطائفي والمناطقي. هذا التناقض في النظرة الى المحرمات والتعامل اللا منطقي مع انتهاكاتها، يشكل بحد ذاته عيباً يضاف الى لائحة "التابو" العالمية. على كل، فلائحة المحرمات أو "التابو" قد بدأت بالتواري في كثير من المجتمعات مع سقوط جدار الصمت والخوف والكتمان. وهذا بالطبع يؤكد على نظرية ارتباط العيب والممنوع بالصمت والخوف والكتمان.

 

كيف انكسر جدار الصمت؟

 بدأ الصمت بالانحسار منذ تعلم الإنسان كيف يواجه الواقع بعزم وجرأة. وهذا كما هو معروف، حدث خلال الأربعين سنة الماضية، حين بدأت الأجيال الصاعدة تتحدث علانية عن أشياء تحدث في الخفاء. فبـعدما غزت حرية الفكر العالم المعاصـر، واقتـحم الإعلام المرئي والمسموع حرمة المنازل، بدأ الحديث عن مواضيع بالغة الحساسية، الأمر الذي أدى الى انكشاف واقع موجود، وليس الى استنـباط هذا الواقع كما قد يخيّل للبعض. فعـندمـا بدأ الحديـث علانيـة عن الإتجـار بالأطفال والنساء، اعتبر هذا الواقـع الذي انكشـف للعـلن عيباً، وتحسّر الناس على أيام كانت خلالها الأخلاق مصانة. وعندما انكشف الستار عن الشذوذ الجنسي، علماً أنه كان موجوداً منذ وجود الخليقة، اخترقت الواقعية جدار الكتمان، وصعق الناس الى حين، ثم بدأوا يتأقـلمون مع الواقـع. وعندما زالت وصمة العار عن جبين المطلقات وأصبح الطلاق حـلاً عصرياً لمشاكل الزواج الفاشل، اعتبر الأمر خروجاً عن حرمة التقاليد. على كـل، فالدراسات النفسيـة الحديثة تؤكـد أن التقاليد بوجـه عـام هي أسـاس المجتمـعات المترابطـة. لذا فإن الخـروج عن الصمـت وإلقاء الضوء على المحرّمـات باعتبارهـا واقعاً طبيعياً، أدى خلال العقـود الأخيرة الى انحسار هيبة وجـمال التقاليد التي أحببنا وقدّسنا. فالتقاليد تحمي أسراراً حملناها في صدورنا منذ وجدنا، وشكّلت روابط عززت كياننا وغلّفت نزعاتنا البدائية بصمت يحمينا من ذواتنا. واليوم وقد زال حاجز الصمت، فمن يحمينا من الفوضى والتصدّع؟ ربما المستقبل القريب قد يحمل معه تقاليد جديدة. تقاليد تعيد الى مجتمعاتنا روابط بتنا نفتقدها، وهيبة محرّمات تعيدنا الى قدسية الصمت.