قضايا اقليمية

العُصاب الجماعي الاسرائيلي ومفاعيله
إعداد: احسان مرتضى
باحث في شؤون الاسرائيلية

الانسان المرعوب معتاد على الخوف والأمل في نظره مجرد شيء غامض وغير مأمون العواقب... لذلك يخاف الاسرائيليون من التغيير ويقولون: من الأسهل أن نواصل التحديق في سلبيات الخصم مفهوم السلام بقي خارج حدود المدارس في اسرائيل ذلك إمّا لاعتباره شيئاً منتمياً للسياسة أو لاعتباره انحرافاً طفيفاً ومؤقتاً عن مسار التاريخ الحافل بالحروب لئن كان العُصاب في قاموس الطب النفسي يعني كل خلل أو إضطراب ذي طبيعة مرضية يصيب الشخصية الفردية أو الجماعية لمجتمع من المجتمعات أو قسم منها، بسبب تمحور هذه الشخصية حول عقدة نفسانية معينة أو فكرة ثابتة ونمطية، فإن العقدة أو الفكرة الثابتة النمطية التي ينتظم حولها «العُصاب الجماعي الاسرائيلي» هي عقدة عدم القدرة على الإقرار بالآخر واحترام وجوده وانسانيته وحقوقه، ولا سيما إذا كان هذا الآخر عربياً عموماً وفلسطينياً خصوصاً، والشاهد الأكبر على ذلك هو سلسلة المجازر الوحشية من دير ياسين الى صبرا وشاتيلا وقانا وجنين... الخ. ولا يمكن أن يغيب عن ذهن أحد، إن هذا العُصاب الجماعي المرضي، يأخذ في أحد جوانبه شكل الجموح الايديولوجي المدجج بالفكر الشوفيني الصهيوني - اليهودي الذي ينزع باستمرار الى تدمير الشخصية المعنوية للآخر وتحقيره من باب الانتقام والتشفي وتبرير سلخه عن قيمه الانسانية والأخلاقية والحضارية، وبالتالي انزال أقصى حدود العقاب بحقه في وجوده المادي والمعنوي على حدٍ سواء. هذا الاستنتاج لا يأتي هنا من باب التحامل ولا من باب ردة الفعل على الظلم المفرط اللاحق بشعوبنا العربية في هذه الحقبة الرديئة من زمن التشرذم والضياع، من جانب الصهيونية الاسرائيلية والعالمية، بل انه استنتاج توصل اليه الأستاذ دانيئيل بارطال من جامعة تل أبيب ورئيس «الشركة العالمية لعلم النفس السياسي»، حيث تبين له بعد تفكير طويل ان الشعب اليهودي في اسرائيل هو شعب غير طبيعي، يعيش الانقسامات الوجدانية العميقة. فعلى الرغم من ان الجميع يعايشون الأحداث والوقائع السياسية والأمنية نفسها، إلا ان الردود النفسانية عليها تختلف من النقيض الى النقيض. فالمعسكر القومي الشوفيني يرى ان لا حل أبداً للنزاع في الشرق الأوسط. وهو «يركّب نظارة سوداء» ويرى من خلالها ان المستقبل ينذر بأعظم الشرور. أما المعسكر المسمى بالحمائمي فيرى نفسه مضغوطاً ضمن أجواء هستيرية بالغة الخطورة عبّرت عن نفسها في اغتيال رئيس الوزراء الأسبق اسحق رابين العام 1995. وبالتالي فهو يعتبر نفسه عاجزاً عن التأثير في مجريات الأمور المتسارعة سياسياً وأمنياً مثل موجات التسونامي. وعلى الرغم من كل ذلك فالمعسكران يتهربان من مواجهة الواقع بالموضوعية اللازمة: المعسكر القومي يفعل ذلك من خلال إنكاره وتنكّره لمؤشرات السلام من قبل الجانب العربي، والمعسكر الحمائمي - اليساري، اذا صح التعبير، يعيش حالة ارتباك وتنصُّل من المسؤولية وجنوح نحو المثاليات النظرية الدونكيشوتية، التي تعني في المحصلة الانقطاع عن الوقائع والأحداث وفقدان العزم والدافعية لتغيير الأوضاع نحو الأفضل. وينظر الأستاذ بارطال في السبب النفسي للخوف من التغيير في اسرائيل، فيقول ان هذه الدولة قد استثمرت الكثير من الموارد المادية والبشرية والدبلوماسية في النزاع المزمن مع العالم العربي، حتى كادت أن تُستنزف عسكرياً واقتصادياً ونفسانياً. ومع ذلك فقد عمل العديد من القادة، لأسباب قومية وشخصية، من أجل بناء ايديولوجيا تفسر هذا السلوك وتبرره، بحيث بات من شبه المستحيل تغييره. وفي هذا السياق يقول بارطال: «الانسان المرعوب معتاد على الخوف، والأمل في نظره هو مجرد شيء غامض وغير مأمون العواقب، ولهذا يقول هؤلاء: «من الأسهل أن نواصل التحديق في سلبيات الخصم، من أن نبذل الجهد طوال الوقت للعثور على ألوان رمادية داخل اللون الأسود». الشاهد على ذلك ان بنيامين نتنياهو، وريث شارون في زعامة الليكود، يُعبِّر عن «أناه» الخاصة في كتابه «مكان تحت الشمس»، فيقول إن العرب كلهم سواسية في إنكارهم «حق اسرائيل» في الوجود كدولة يهودية في هذه المنطقة - وتفسيره لذلك يستند الى كونهم يعتبرون اسرائيل جزءاً لا يتجزأ من الثقافة الغربية، التي يكنون لها، بحسب رأيه، كل كراهية واشمئزاز، وبالتالي فهم محكومون بالسعي الدائم والدؤوب لاقتلاع هكذا دولة، استجابة «لعدوانيتهم ونزعتهم الى العنف»!! وفي تفسيره للواقع، يرى بارطال ان الناس عامة لديهم حاجة لاشعورية لشيء يكرهونه بصورة جماعية، الأمر الذي يعزز تراصهم وتضامنهم. وقد استخدم نتنياهو هذه الحاجة، وقدم لشعبه وجمهوره مجموعة لا بأس بها من الشواهد والذرائع والاسقاطات التي من شأنها أن تنزع عن العرب شرعيتهم وانسانيتهم لمجرد كونهم كذلك. وقد أكد الأستاذ بارطال، استناداً إلى إحصاءات علمية، ان الأطفال اليهود منذ عمر الثانية والنصف يتكون عندهم شعور عدائي ضد العرب. وخلص من هذه النتيجة الى الاعتقاد بأن هؤلاء الأطفال يفتقرون، بسبب ذلك، الى مرحلة السذاجة، وتترسخ صورة العربي لديهم بالتالي باعتبارها تختزن في مظهرها وجوهرها مختلف معاني الشر والسلبية. من ناحية أخرى أخضع بارطال للفحص كتب التدريس الرسمية في مواضيع الأدب والتاريخ والجغرافيا والمدنيات، فوجد أنها لا تنفك تكرس نوازع الصراع العربي الاسرائيلي وتمجد قيم الجبروت والتفوق الصهيوني فيه. أما بالنسبة لكتب التدريس العبرية المعتمدة لدى مدارس التيار الديني الحريدي المتعصب (نسبة لحريديم أي الاتقياء)، فلقد جرى تصوير أسباب الصراع ونوازعه بألوان أشد سوداوية وعدوانية، وتم حصر الشخصية العربية ضمن قوالب نمطية في منتهى السلبية أخلاقياً وانسانياً. وهكذا يتبين ان كتب التدريس والتربية والتوجيه ما تزال مغرقة في غياهب الماضي بدمويته وعنفه، ومن دون الأخذ بعين الاعتبار حتى أدنى التفاصيل الصغيرة المرتبطة بسيرورات التسويات السلمية وإجراءات التطبيع والانفتاح العلنية والسرية على امتداد مساحة العالمين العربي والاسلامي. ويعلق الأستاذ بارطال على هذا الواقع الثقافي والنفسي المستشري بالقول: «يبدو ان السلام قد بقي خارج حدود المدرسة، وذلك من منطلق اعتباره شيئاً ما منتمياً الى السياسة وهو بالتالي موضع خلاف الآراء السياسية حوله، أو من منطلق اعتباره انحرافاً طفيفاً ومؤقتاً عن مسار التاريخ الحافل بالحروب». وبتعبير آخر كأن بارطال يريد القول: ما جدوى تغيير الكتب، في رأي القيادات المتمسكة بالقرار الوطني، اذا كان السلام وفق هذا المنظور الآنف الذكر، ليس سوى فصل قصير لن يصمد طويلاً أمام المتغيرات والمحن؟ هذه هي اذن أبرز خلفيات ومكونات «العُصاب الجماعي الاسرائيلي» ضد العرب عموماً والفلسطينيين خصوصاً، وهي خلفيات ومكونات نابعة من ثقافة متأصلة ومتجذرة في الوجدان والعقل الاسرائيليين في خطي الوعي واللاوعي. وهذه الثقافة تعود للحضور الآن في ظل الانتفاضات والصراعات المتكررة، بشكل بارز ونافر، وتتجلى في استخدام كل وسائل العدوان والقهر والاغتيال والاغتصاب وإثارة الفتن وتجاوز القوانين والأعراف الدولية، وذلك تحت مظلة وحماية واقع القطبية الآحادية المنفلتة من أي عقال إثر إنتهاء الحرب الباردة وحصول أحداث واشنطن ونيويورك في الحادي عشر من أيلول 2001 التي وضعت العرب في أوضاع مأسوية لا يحسدون عليها سلماً أو حرباً.