رحلة في الإنسان

الغضب الدفين.. قنبلة موقوتة
إعداد: غريس فرح

نادراً ما نعثر على شخص لم يحرّكه يوماً شعور الغضب والعدوانية أو الميل إلى الثأر من ظروف كانت سبباً في معاناته.
إنّه شعور يطغى على ما عداه، ليضع الكثيرين خارج نطاق السيطرة، وينعكس سلباً على تصرفاتهم وعلاقاتهم بالآخرين. وعلى الرغم من أن هذا الشعور غير السوي يعقبه عموماً إحساس عميق بالندم، وميل إلى إصلاح ما تهدّم، إلاّ أن آثاره الهدامة تبقى منطبعة في عمق الكيان حتى ولو تخطتها الذاكرة.
فما هو الغضب، وكيف يتراكم عنفاً وعدوانية وإرهاباً، وكيف نواجهه؟

 

عوامل الغضب

الغضب حسب رأي العلماء النفسيين، ليس موضوعاً شيقاً للبحث بسبب صعوبة الوصول إلى أعماق الغاضب، وتحديداً لحظة انفجار مشاعره وتأجج معاناته. مع ذلك، فالدراسات التي تطرّقت إلى طبيعة هذا الشعور وجذوره ومسبباته بوجه عام، تمكنت من تحديد العوامل الضالعة في نشأته وتراكماته عبر الأعوام. وباعتباره أحد العوارض المترافقة مع نوبات الإكتئاب والقلق وسواها من الإضطرابات النفسية، فقد تم إلحاق علاجه بالعلاج النفسي العام، والذي يعتمد في معظمه تقنيات العلاج السلوكي المعرفي، وهي تقنيات تعتمد على التواصل بالكلام للتوجّه إلى العقل، ومن ثم تصحيح الخلل العلائقي وخصوصاً الناجم عن سرعة الإنفعال والغضب.
وحسب رأي مجموعة من أساتذة علم النفس في جامعات أميركية عدة، فليس هنالك حتى الآن وصف أكاديمي لشعور الغضب بشكل خاص، كما لم يتم الإتفاق حول كيفية التعامل مع الغاضب ومقاربته لحظة إنفجار غضبه. لذا نرى أن الحيرة لا تزال تلف الكثيرين تجاه هذا الشعور، والذي يبدو طبيعياً من جهة، لكونه وسيلة تنفيس عن المعاناة، ومصدراً للقلق من جهة أخرى، خصوصاً إذا ما أخذنا بالاعتبار الاتجاهات العالمية إلى العنف والجريمة والإرهاب، والتي يتسبب بها عموماً الغضب الدفين بحسب تراكماته.

 

دوافع عامة وفردية

من هذا المنطلق تركزت المحاور المستحدثة للدراسات النفسية حول الغضب، على الدوافع الفطرية العامة للجنس البشري والدوافع الفردية المتعلقة بظروف كل شخص على حدّة.
بالنسبة للدوافع العامة، تؤكد نظريات علم النفس التحليلي، بما فيها نظريات فرويد وميلاني كلاين، أن الميل إلى العدوانية هو ميل متأصل في جذور تكوين الجنس البشري لأهداف تخدم بقاء النسل. ويشكِّل الغضب نقطة إرتكاز تدفع بهذا الميل الفطري نحو محور تأكيد الذات، والدفاع عن النفس وتصريف الطاقات أو الشحنات الغريزية الهادفة إلى العدوان أو التدمير الموجه إلى النفس والغير. وكما تؤكد النظريات، فإن شحنات الغضب الغرائزي العام تجد لها متنفساً في الحروب والمناوشات والتفاعل الإجتماعي، وقد تتطوّر لتتحوّل إلى إرهاب وعنف وجريمة.
أما بالنسبة للدوافع الشخصية فنذكر منها:
- العقد النفسية المتسببة بانعدام الثقة بالنفس وبالغير، وسيطرة الأهواء والانفعالات، وخصوصاً لدى الأشخاص الذين تربوا في أوساط عائلية تسودها القسوة والعنف.
- الشعور المتواصل بوخز الضمير الذي يولد الخجل من النفس، ويجد متنفساً دفاعياً في فورات الغضب، والميل الى القسوة على الغير وتوجيه الملامة إليهم.
- الشعور الدائم بالاكتئاب والإحباط والذي يتم التعبير عنه بالتمرّد والعدوانية والغضب.
- الشعور بالاضطهاد والذي يلازم البعض نتيجة إضطرابات لاإرادية ويجعلهم دائمي الغضب والإنفعال لاعتقادهم بأن من حولهم يودّ إلحاق الأذى بهم.

 

كيف نكتشف هذه الدوافع؟

كما سبق وذكرنا، فإنه على الرغم من معرفة كوامن الغضب والدوافع وراء تأججه بشكل عام، إلاّ أنه يصعب على الأشخاص العاديين، وحتى المحللين النفسيين الغوص إلى أعماق الغاضب بسبب كثافة الأقنعة أو آليات الدفاع التي يكتسبها عبر الأعوام لتبرير سلوكه وانفعالاته. لذا فإن الغوص إلى جذور الغضب يستلزم، كما يؤكد المحللون النفسيون إرادة وإصراراً وتحليلاً عميقاً لشخصية المعاني من سرعة الإنفعال، والذين يتقمصون عموماً شخصيات مزيفة تخفي واقعهم الحقيقي. واللاّفت أن أكثرية هؤلاء، يعتقدون أن غضبهم هو آلية طبيعية للتحكم بمجرى الأمور من حولهم، بمعنى أنه ردّة فعل إيجابية ومشروعة تزودهم بالقوة وتؤمن لهم الحماية. لذا فعندما يتم التعرف إلى الشخصية الحقيقية للشخص المعني، وإلى المعاناة الكامنة في لاوعيه، يصبح بالإمكان معالجة الوضع عن طريق تقويم إنفعالاته وسلوكه بالطرق المناسبة. وتختلف هذه الطرق كما يؤكد الاختصاصيون بحسب ظروف الفرد، وكثافة التراكمات النفسية التي شكّلت مع الوقت قوام آليات الدفاع الشخصية السلبية.
تجدر الإشارة هنا إلى أن معظم ممارسي العنف ومرتكبي الجرائم في لحظات الغضب، قد أقدموا على هذه الممارسات من منطلق الشعور بكونهم ضحايا يدافعون عن أنفسهم. وهذا يؤكد على ما سبق وأشرنا إليه من أن شرارة الغضب تنطلق من الشعور بالغبن والإحباط وانعدام العدالة، كما يتسبّب بها أحياناً الإعتياد على الإبتزاز العاطفي منذ الطفولة.
وحسب المحللين النفسيين، فإن الإنسان الذي ينفعل ليتهم سواه بمسؤولية إرتكاب الخطأ، هو إنسان إعتاد منذ الطفولة على القيام بالابتزاز العاطفي في محيطه، أو التلذّذ بمشاهدة الآخرين يشاطرونه معاناة الشعور بالإحباط. وهنا لا بد من الإشارة إلى ان الغضب يستهدف عموماً الشخص أو الظرف الذي تسبب بشكل مباشر أو غير مباشر، بإثارة رواسب الحقد والدونية تجاه نقطة معيّنة. وكما تؤكد الدراسات، فإن إثارة هذه الرواسب تحرك تدفق كيميائيات دماغية تفجر الغضب وما يرافقه من اضطراب وقسوة وعنف.

 

كيف نكسر الحلقة المفرغة؟

من هذا المنطلق، تناول الإختصاصي الأميركي ستيفن ستونسي، موضوع الغضب الذي تمكن من دراسته بعمق، إثر تعرضه شخصياً أثناء طفولته لعدوانية والده الغاضب، والذي ضربه بعنف على رأسه، ما أدى الى نقله إلى المستشفى في حالة من الخطر. وحسب رأي ستونسي الذي وضع لاحقاً نظريات في علم النفس التحليلي، أن كسر طوق هذه الحلقة المفرغة يتطلب الكثير من المعرفة العميقة، والتي لم تتمكن الدراسات الحديثة من بلوغها. وأكّد ستونسي أن تقنية العلاج السلوكي المعرفي التي خاضها مع أشخاص يعانون من سرعة الإنفعال وفورات الغضب العارمة، لم تكن كافية لعلاجهم، والسبب حسب رأيه، أن هذه التقنية الشائعة في العلاج النفسي، تتوجه إلى الإدراك في الوقت التي تكون فيه رواسب الغضب كامنة في عمق الكيان، بعدما تراكمت عبر السنين الطوال لتتخذ شكل التعبير الدفاعي الذي آلت إليه.
من هنا فهو ينصح باعتماد مقاربة بديلة للمشاعر السلبية الدفينة التي سبق وأشرنا إليها، وفي مقدمتها الشعور بالغبن والعار، والتي لا تتمكن من محوها سوى مشاعر إيجابية مقابلة قوامها العاطفة والحنان.
إذن فهو يقترح العلاج بالحنان كبديل للعلاج النفسي التقليدي لإخماد فورات الغضب، ولضمان إستئصالها من الجذور، لأن الحنان وحده قادر على تقويم العاهات النفسية التي تحاصر المعنيين وتتسبّب باثارة غضبهم.
وهو يتوجه إلى المعاني من فورات الغضب بالتوصيات التالية:
- التدرّب على إحترام النفس والغير.
- التدرّب على حلّ المشاكل العالقة تدريجاً، وتحمل مسؤولية الفشل بدلاً من إلقائها على الغير، وإشعاره بالذنب عن طريق تفجير مشاعر الغضب تجاهه.
- الغوص في أعماق النفس لإكتشاف الذات ومدى إمكانية تقديم العاطفة والحنان بدلاً من الغضب والعدائية.
- التفتيش في أعماق الكيان عن القدرات الإيجابية لاستعادة الثقة بالنفس والتغلّب على الشعور بالدونية.
- التدرّب على ممارسة كبح جماح الغضب عن طريق تخيّل مواقف إستفزازية، ومن ثمّ محاولة التصدّي لها بهدوء عن طريق الإستعانة بمشاعر الود والمحبة.
- التسلّح بالإيمان ضد الشعور بالغبن أو الإحباط.