ضيف العدد

الفرنكوفونية والوزّاني... و25 أيار 2000
إعداد: فكتور سحّاب

نحن في لبنان فهمنا مؤتمر القمة الفرنكوفونية الذي عقد أخيراً في بيروت, ربما على طريقتنا.
لكننا مقتنعون, ويبدو معظم العالم مقتنعاً, بأن طريقتنا لفهم هذا المؤتمر صحيحة.
فالفرنكوفونية التي بدأت في عهد الرئيس الفرنسي التاريخي الراحل شارل ديغول, نوعاً من تحوّل فرنسا من قيادة سياسية وعسكرية لجزء من العالم, الى قيادة ثقافية وحضارية من نوع ما لمجموعة من الدول المستقلة, هذه الفرنكوفونية, تحوّلت اليوم, جرّاء تطوّر الوضع في العالم, الى قيادة لشئ أشبه بالمقاومة الثقافية لمشروع اللون الواحد والقطب الواحد, الذي يلغي كل صوت عداه.
بل إن مؤتمر بيروت الذي أدهش العالم بضخامة الحشد الذي شهده, ووضوح الخط الذي اتخذه, بل كذلك وضوح لهجته السياسية, وهو المؤتمر الذي اتسم حتى الآن بالطابع الثقافي, لا يمكن في أذهان اللبنانيين والعرب, أن ينفصل عن إطار المسيرة التي كان من صُواها البارزة اندحار العدو الإسرائيلي من جنوب لبنان في 25 أيار 2000, وانتصار لبنان في إنتزاع حقه بمياه نبع الوزاني في تشرين الأول 2002.
كيف؟ وما دخل المؤتمر بالمقاومة والتحرير والمياه؟
لقد تنازعت أفكار اللبنانيين والعرب, منذ نشوء الدولة اليهودية على أرض فلسطين السليبة, نظريات متناقضة, بعضها يدعو الى إيثار السلامة, وبعضها الآخر يدعو على العكس, الى شَبَثِ الموقف والنهوض الى طلب الحق, أياً كان الثمن.
كان القول بإيثار السلامة يدعو الى عدة أمور, منها التبرؤ من أي اصطفاف عربي, “قد يجرّنا الى أهوال لا نستطيع أن نتحملها”, والى “عدم طلب القوة لأننا لا نستطيع أن نتفوّق فيها على العدو”.
لكن اصطفاف اثنين من أصغر البلاد العربية, وأقلّها مرتبة في النواحي الإقتصادية والعسكرية, أعني لبنان وسوريا, إذا قورنا بقوة إسرائيل الإقتصادية والعسكرية, مكّن هذين البلدين, في حرب طويلة شهدنا فيها الأهوال على أية حال, من هزيمة العدو, بل من إلحاق هزيمة نكراء به, خرج منها من دون تفاوض ولا تنازل ولا تراجع.
كان هذا أهم دروس 25 أيار 2000. وهو درس حاول البعض أن يقول إثره: لقد حررنا الجنوب, فلنفك بعدئذ إرتباطنا مع الشقيقة سوريا.
غير أن القيادة اللبنانية الوطنية الحكيمة لم ترَ في هذا منطقاً سليماً: فكيف نُقلع عن النهج الذي أتى إلينا بالنصر؟
ورأت القيادة الوطنية الحكيمة أن التنازل يستدرج التنازل, وأن الصمود يستنهض الصمود.
ولم يكن الوزاني سوى إستمرار لهذا النهج, فالتمسك بالأرض تمسك بالمياه والهواء, وتمسك بالحق وبالكرامة أيضاً, وقبل كل شيء.
وها هو مؤتمر القمة الفرنكوفونية يتابع هذه المسيرة, من وجهة نظر القيادة اللبنانية, فالثقافة عمق أعماق الإنسان. وأهون الإحتلال هو إحتلال الأرض, أما إحتلال النفس بثقافة الهيمنة والإلغاء, فهو إحتلال أشد تكلفة لنا, وأقل تكلفة للإحتلال.
من وجهة نظر فرنسا, القمة الفرنكوفونية لم تعد الآن نهوضاً فرنسياً ثقافياً للإحتفاظ بالمواقع حول العالم, بعد زوال عهد الإستعمار. القمة الفرنكوفونية, كما تراها باريس اليوم, هي فعل مقاومة جماعية للتفرّد والهيمنة ومشروع القطب الأوحد.
وإذا كانت لهجة الفرنكوفونية قد رجّحت بعض الشيء الخطاب السياسي على الخطاب الثقافي, فلأن مشروع الهيمنة يخلط الإثنين مهما قيل العكس.
لقد ظهر على المسرح العربي شيئاً فشيئاً منذ سنوات عامل أساسي في المعادلة, هو ثبات القلعة السورية, وإقدام المقاومة اللبنانية, واستماتة الإنتفاضة الفلسطينية, من أجل إحباط مشروع الهيمنة والتلسط.
وها هو مؤتمر الفرنكوفونية يظهر, من دون مبالغة, على المسرح العالمي, ومن بيروت, محوراً أساسياً لمقاومة مشروع الهيمنة الثقافية والسياسية, ومواجهة القطب الأوحد ومنع إزالة الألوان الحضارية عن الكرة الأرضية.
ويشرّف بيروت, والقيادة اللبنانية الوطنية الحكيمة أن تكون مبادِرة في كلا الحالين.
ذلك أن التنازل يستدرج التنازل, والصمود يستنهض الصمود.