وجهة نظر

الفساد في لبنان
إعداد: جورج علم

درس من لاغوس عمره أكثر من ربع قرن

 

إنه الفساد... من يؤمن به، ويعمل بتعاليمه، يحيا!.
والمنتسبون إليه، كثر، في الوطن والمهجر. كذلك حملة الأوسمة، والألقاب الرسميّة. فضلًا عن النافذين متصدّري المجالس، وأصحاب المقامات. فالفقيد - عفوًا - الحيّ الباقي، كبير ومقتدر، صاحب حظوة ونفوذ. إنه الصولجان الذي يطأطىء رؤوسًا كبيرة، والكهرمان الذي يثقل جيوبًا كثيرة، يعبر فوق رؤوس الأسنة، وآكام الدهور، فلا يخبو، ولا يتقهقر. دهريّ أصيل، يعتمر في بلادنا «الطربوش العثماني» مذ كان الاحتلال فتيًّا، فشبّ معه، ولم يشب بعد!.
400 عام، و«الطربوش العثماني» يتمختر فوق رؤوس اللبنانيين، يلقّنهم الفساد، ويرسّخ في أذهانهم عقليّة الإقطاع، ويسلّم مقاليد الأمور إلى عدد من العائلات الإقطاعيّة، وملاّكي الأراضي، الذين تقاسموا النفوذ على المناطق، في ما بينهم.

 

وباء يجعل المواطن أمام خيارات قدرية
يحتلّ لبنان درجة متقدّمة، وفق التصنيف الدولي، للبلدان التي يضربها الفساد. هذا الوباء المستشري في العالم الثالث، يصيب الحياة الاقتصاديّة، ويعترض مسيرة التقدم، ويتحكّم بالعقليّة السائدة لدى الغالبيّة في المجالات العامة، والإدارات الرسميّة، منذ الحكم العثماني، إلى عهد الانتداب، وصولًا إلى زمن الاستقلال. إنها عقليّة «الإدارة الحاكمة»، وليس «إدارة الخدمة» التي تعتبر مهمتها الأساسيّة تنظيم علاقات المواطنين، والتأكد من تقيّدهم بالقوانين المرعيّة.
تفعل الرواسب التاريخيّة المتراكمة فعلها في المجتمعات المتقادمة، المغمورة بطوفان من العادات، والتقاليد، والخصوصيات، والألقاب. فما بين «الأفندي»، و«الشيخ»، و«البيك»، و«الزعيم الإقطاعي»، و«إبن البيت»، و«شيخ الصلح»، طوفان يأسرنا دائمًا في كهوف ذواتنا، حيث العقليّة المتسلّطة، مستأثرة ومسيطرة تجعل المواطن أمام خيارات قدريّة. فهو إمّا مستسلم على قاعدة «الإيد لما فيك ليا، بوسها ودعي عليا بالكسر»، أو «ثائر» تخطفه «الشعارات الشعبويّة» نحو المزايدات، وما أن يتبددّ صداها عبر الأثير، حتى يعود سجين الواقع المأزوم. وعباءة الزعامة عند بني قومنا، مزركشة بمطرّزات اقطاعيّة، طائفيّة، فئويّة، مناطقيّة، ذلك أن رجال السياسية - بغالبيتهم - شددوا قبضتهم على الإدارة، واستغلّوها لخدمة مصالحهم الشخصيّة، بحيث أصبحت أشبه بأداة لخدمة مصالح السياسييّن، وبعض الفئات الماليّة - الاقتصاديّة النافذة، فيما أصبحت خدمة المواطنين متوقّفة إلى حدّ كبير على مدى تطابق حاجاتهم مع حاجات السياسييّن، أو موظفي الإدارة. أمّا أولئك الذين يرفعون يافطات الاعتراض، و«النق»، فمصيرهم على قارعة الانتظار، إلى أن تقنعهم الحاجة بضرورة التزام الصّف، ولو مكرهين، والرضوخ للواقع المعيوش، في ظلّ غياب المحاسبة، والشفافيّة، والأساليب المبتكرة لتبسيط الإجراءات الحكوميّة، وتسهيل معاملات الناس.

 

الإبرة.. والجبل
غنيّ عن القول أنّ الحروب والنزاعات التي شهدها لبنان، قد ساهمت في تمدّد أخطبوط الفساد ليتحكّم بمعظم مرافق الإدارة العامة، في ظلّ غياب أي استراتيجيّة شاملة لمكافحته. ولعل عهد الرئيس الراحل فؤاد شهاب كان الأكثر فعالية في مكافحة الفساد الإداري، عن طريق استحداث مؤسسات رقابية فاعلة، بينها مجلس الخدمة المدنيّة، التفتيش المركزي، المجلس التأديبي، مجلس شورى الدولة، هيئة التفتيش القضائي... وعلى رأس كلّ منها شخصيّات شفّافة ونزيهة، أمثال الرئيس الراحل الياس سركيس الذي كان حاكمًا لمصرف لبنان، والشيخ فريد الدحداح، وشوكت منلا، وعبد الرحمن الصبارة، وحسن عواضة، وآخرون... وكان حرص الرئيس شهاب يتمثّل في العودة إلى الدستور كلما برز إشكال قانوني.
يمثّل مجلس الخدمة المدنية الدائرة المسؤولة عن الموارد البشريّة في الجمهورية اللبنانية، والهيئة الأولى للرقابة ضمن الإدارة. وقد قادت خطة تحديث المجلس وتحسين أدائه إلى اتخاذ مجموعة من الإجراءات، بما فيها وضع هيكلية استراتيجيّة لسياسة عامة تهدف إلى تطوير عمليّة إدارة الموارد البشريّة، وتنظيم خطة تطوير مجلس الخدمة المدنيّة. وإستنادًا إلى تلك السياسة تمّ تعديل المرسوم الاشتراعي الرقم 114، وأُعيد النظر في نظام تقييم أداء الموظفين الحكومييّن.
وجد مجلس الخدمة، عند تدقيقه في عمل مختلف الهيئات العامة ضعفًا في التنسيق بين المديرين في القطاع العام في ما يتعلّق بالهيكليّة الإداريّة. وكانت الذريعة هي موافقة السياسييّن على الهيكليّة القائمة على أنها مؤقتة؟!. أمّا الذريعة الأخرى فهي المصلحة العليا للدولة أو ما بات يعرف بـRaison D’état انطلاقًا من التوازن الطائفي الذي وظّفه، مديرو القطاع العام، والسياسيّون أيضًا، كذريعة، إستنادًا إلى مبدأ التوزيع «6و6 مكرر» في جميع وظائف القطاع العام من الدرجة الأولى.
بعد الرئيس شهاب، جرت محاولات للتطهير الإداري لم تؤتِ ثمارها، وظلم بعض من طاولهم التطهير، وأفلت بعض الفاسدين منه، وأعاد مجلس شورى الدولة بعضهم إلى مراكزهم.
كانت أحداث 1975 الأسوأ على كل المستويات، فانهارت سلطة الدولة، واستحكمت بالبلاد والعباد ميليشيات بقوّة السلاح، وانتقل لبنان بفضل «اتفاق الطائف» من جحيم الاقتتال الطائفي، إلى الجمهورية الثانية، وأبرز ما تميزت به تقليص صلاحيات رئيس الجمهوريّة، ووضعها في صلب صلاحيات مجلس الوزراء، أمّا صلاحيات «قوى الأمر الواقع» فظلّت مصانة تتحرّك في كل الإتجاهات، وبما يتناسب ومصالحها.
وتواجه الإدارة العامة منذ أحداث 1975، ولغاية تاريخه، العديد من المشاكل، أبرزها الفساد المنتشر بين غالبية الموظفين، فضلًا عن الانقسام في ما بينهم من حيث ولاء كلّ منهم لقيادته السياسيّة، بدلًا من الحرص على المصلحة العامة، إلى جانب انقسامهم المذهبي، والطائفي، في حين أن النفع العام هو الهدف الأول للعمل الإداري في القطاع العام. وتتفوّق التبعية السياسية لدى الغالبية العظمى من الموظفين الحكوميين على علاقتهم مع الدولة، إذ يرون أن وجودهم فيها ليس إلاّ وسيلة لخدمة مصالحهم، ومصالح السياسييّن، وأصحاب بعض المناصب، وأنصارهم.

 

الثقافة الإداريّة
تغيب عن مدارك الكثيرين «الثقافة الإداريّة» التي تفترض مثلًا أن يتولّى شؤون المواطنين في كل الإدارات موظفون يتّسمون بالكفاءة، والخلقيّة المهنيّة، والاحتراف، والاستقلاليّة عن المحسوبيّة السياسيّة، وأن يكونوا ملمّين بجميع المراحل والإجراءات العائدة للمعاملات الإداريّة، وخصوصًا تلك التي تندرج في إطار الخدمات اليوميّة وتطال أكبر شريحة من المواطنين، والإلمام بجميع مراحل وانجاز المعاملات وكلفتها، لا سيما بالنسبة إلى المواطنيين الذين يجهلون حقوقهم الأساسيّة، أو يعيشون أوضاعًا اقتصاديّة واجتماعيّة صعبة. فهؤلاء يجب مساعدتهم على بلوغ حقوقهم، من خلال إعلام إداري متعدّد ومتنوّع، يساعد المواطنين في فهم آليات عمل الإدارات العامة على المستويين الوطني والمحلّي، وذلك للحدّ من الفساد والتبعيّة. ويجب أن تكون المعاملات الإداريّة سهلة ومتدرّجة في صعوبتها بحسب طبيعتها وأهميتها، فلا تشكّل معاملات الحياة اليوميّة هدرًا للوقت. كما يجب أن تكون النماذج والوثائق المرتبطة بالمعاملات مصممة بطريقة سهلة وواضحة، وأن يتمكن المواطن من الحصول ومن دون إبطاء، على نسخة مصدّقة عن القرارات الإدارية الفرديّة التي تعنيه. كما يمكن في الحالات الاضطراريّة إبلاغ مضمون القرار شفهيًّا، على أن يصار إلى تبليغه لاحقًا بصورة خطيّة في أقصر مهلة ممكنة. وينبغي أن يشعر المواطن في تعامله مع الإدارات الرسميّة بالكرامة، والمساواة، وعدم التمييز، وبأنه ليس في وضع استعطاء خدمة أو تزلّف أو ابتزاز أو خضوع، مما يستوجب قيام الإدارة بتقييم أداء الموظفين، خصوصًا لجهة طريقة تعاملهم مع المواطنين.

 

واجبات الإدارة
دخل شارل مالك يومًا إلى قصر بسترس، وكان يشغل يومها منصب مندوب لبنان الدائم لدى الأمم المتحدة، ولاحظ في البهو الكبير مجموعة من الموظفين بثياب «سبور»، غير مناسبة للمقام، فتقدّم من أحدهم، وسأله:
- شو بتشتغل أنت؟
- أنا موظف مراسم.
- شو يعني مراسم؟
أجاب الموظف: أنا ما بعرف.. قالوا لي أنت شوفير (سائق)...
فهزّ مالك برأسه، وقصد مدير المراسم، وتوافقا على وضع كتيّب يحدد مفهوم التشريفات، وكيفيّة تطبيقها، ويقتضي بإخضاع جميع الموظفين إلى دورات تدريبيّة - تأهيليّة، وتوحيد الزيّ الرسمي لموظفي هذه المديريّة كونهم على احتكاك مباشر مع ضيوف لبنان. ولأن الشيء بالشيء يذكر، فإنّ واجب الإدارة في رسم السراط المستقيم للموظف، ضروري وملّح، انطلاقًا من جمع التشريعات المعمول بها، وتصنيفها في مجموعات حسب مواضيعها، وجعلها في متناول المواطنين، والسعي الجاد إلى مكافحة البيروقراطيّة، والروتين الإداري، عبر تبسيط المعاملات، وترشيد كلفتها، واختصار أعداد النماذج، والتخفيف من المستندات، والوثائق والإفادات المطلوبة لإنهاء المعاملات، وتحديد مهل لإنجاز مختلف مراحلها. كما ينبغي العمل على التوسّع في استعمال شبكة الإنترنت تسهيلًا لتقديم المعاملات إلى المواطنين والبتّ بها بسرعة، وإنشاء مكاتب استقبال في الإدارات، والمؤسسات العامة، والبلديات، لتأمين المعلومات اللازمة للمواطنين، وربط هذه المكاتب عبر شبكة معلوماتية، بحيث يمكن لأي مواطن الحصول على معلومات عن المعاملات الرسميّة العائدة له في مختلف الإدارات، من خلال أي مكتب إستقبال. كذلك، يجب توفير فرص اللجوء إلى القضاء أمام جميع المواطنين، واختصار مهل البتّ بالدعاوى، وتعليل القرارات الإدارية الفردية بصورة خطيّة...

 

10 ليرات!
في يوم من ثمانينيات القرن الماضي، ذهب الوالد - رحمه لله - إلى الدائرة العقاريّة في منطقته، لينجز معاملة «حصر الإرث»، واصطحبني معه، وكنت يومها في مطلع الشباب. وما أن وصلنا، حتى تهافت علينا «السماسرة» يعرضون خدماتهم لإنجاز ما تقتضيه المعاملة قبل عرضها على القاضي العقاري المختص للبتّ بها. وبعد أخذ وردّ، تمّت «الصفقة» مقابل عشر ليرات لبنانية بدل أتعاب، وذهب «معقّب المعاملات» في سبيله، وأنجز ما هو مطلوب بسرعة، ثم انتظمنا في الصف ننتظر دورنا لعرض المعاملة، ولمّا زفّت الساعة، نظر القاضي نظرة عابرة إلى الملف، وتطلّع نحونا قائلًا: مش ماشي الحال؟
- لماذا؟!
- بدها بعض التصحيح في السطر الأخير...
عندها أمسك «المعقّب» بيد والدي، وخرجا سويّة إلى خارج القاعة، وهمس في أذنه قائلًا: أعطني عشر ليرات..
- لشو؟
- هلق بتعرف؟!
فما كان من والدي إلاّ أن سحب محفظة النقود الجلديّة الدهريّة من شرواله، وغرس يده عميقًا في دهاليزها، وإستخرج منها ورقة الـ10 ليرات، وناولها للمعقّب. دخل الأخير سريعًا على القاضي، ومن دون استئذان، وخاطبه قائلًا: سيدنا خلصت؟!..
وبلحظة البرق أسقط الـ10 ليرات في الجارور المفتوح عن يسار القاضي، وكان مكتنزًا، فما كان من الأخير إلاّ أن مهر توقيعه بسرعة، ومن دون النظر إلى المعاملة، مع عبارة: «مبروك».
صدمت، وأنا أتابع هذه «المسرحيّة»، لكن ما استحوذ اهتمامي «معلّقة نحاسيّة» كانت تتدلى على الحائط فوق رأسه، وفيها الآتي:

 

خلقيات الوظيفة العامة
على الموظف:
- أن يستوحي في عمله المصلحة العامة من دون سواها، وأن يسهر على تطبيق القوانين والأنظمة النافذة من دون أي تجاوز، أو مخالفة، أو إهمال.
- أن يضع خدمة المواطنين فوق مصالحه وارتباطاته الخاصة.
- أن ينجز معاملات المواطنين بسرعة، ودقّة، ونزاهة، ضمن حدود وظيفته.
- أن يتعامل مع المواطنين ضمن القوانين والأنظمة المرعيّة بتهذيب، وكفاءة، واحترام حقوقهم وكراماتهم.
- أن يسهر على تأمين المساواة والموضوعيّة في التعامل مع المواطنين من دون أيّ تحيّز أو تمييز.
- أن يطلع المواطن المكلّف بمعالجة ملفّه أو طلبه على اسمه، ووظيفته، ورقم هاتف مكتبه، وعنوانه في مركز عمله، كي يتسنّى للمواطن مراجعته عند الحاجة.
... ونحن نغادر المكان نظرت إلى المرحوم الوالد، وسألته: هل شاهدت تلك «النحاسيّة» المتدلّية فوق رأسه.. إنّها جميلة.. فبكم تقدّر ثمنها؟
فأجابني فورًا، ومن دون تردد: 10 ليرات؟!...

 

استفتاء
في يوم من خريف ثمانينيات القرن الماضي، اصطحبني الأمين العام لوزارة الخارجية والمغتربين السفير الراحل فؤاد الترك في جولة على الجالية اللبنانية الموزّعة على عدد من الدول الإفريقيّة، وعندما وصلنا إلى لاغوس (عاصمة نيجيريا) يومها، كان من ضمن البرنامج الرسمي مقابلة محافظ (عمدة) العاصمة. وكان استقباله وديًّا للغاية، وخلال «الدردشة» التي تسبق عادة المحادثات الرسميّة، أبلغنا المحافظ بأنه منهمك كثيرًا هذه الأيام «لأنّنا نحضّر لاستفتاء».
- استفتاء حول ماذا؟. سأله الترك...
- حول الشفافيّة في دوائر المحافظة؟...! بصراحة إننا نعاني الفساد.. وقد أعددنا خطّة لمحاربته، من ضمنها الاحتكام إلى المواطنين كي يقول كل مواطن رأيه بأداء الموظفين، كلّ بموقعه، وحسن أدائه...
أضاف: ومن ضمن الصلاحيات المناطة بنا، قرّرنا اعتماد الشفافيّة في كل ما يتعلّق بإنفاق المال العام، وذلك من خلال الإعلان عن أوجه الإنفاق بواسطة وسائل الإعلام، والإطّلاع على المعلومات ذات الطابع العام، في مواقع الإدارات المختصّة، شرط ألاّ تكون مشمولة بطابع السريّة، وألاّ تمّس الحقوق والحريات الخاصة، أو الشخصيّة لأي إنسان.
وتابع: استبقنا موعد الاستفتاء بحثّ المواطنين على الاطّلاع على موازنة الإدارات والمؤسسات الرسمية، والبلديات بعد 15 يومًا من إقرارها، والإعلان عنها، مقرونة بقطع حساب للسنة المنصرمة، ولائحة بالأشخاص والمؤسسات الذين استفادوا من تقديماتها، وأعلنّا أنّنا سنتقبل الاعتراضات، ودرسها، ليصار إلى إجراء المقتضى.
حصل هذا في لاغوس - نيجيريا في ثمانينيات القرن الماضي، فماذا عن لبنان؟!...