الفوضى هدامة وليست خلاقة

الفوضى هدامة وليست خلاقة
إعداد: العميد الركن الياس فرحات
مدير التوجيه

خضع العالم منذ بداية العصر الحديث لمراحل من النظام الدولي، أبرزها معاهدة وستفاليا عام 1648 التي أوضحت مفهوم سيادة الدولة، ومع مطلع القرن العشرين بعد الحرب العالمية الأولى، أنشئت عصبة الأمم كتنظيم دولي للعالم، ما لبث أن انهار على أثر اندلاع الحرب العالمية الثانية، والتي كان من أهم نتائجها اتفاقية يالطا التي نظمت الصراع بين القطبين الجبارين: الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي، وفي ما بعد بين الحلف الأطلسي وحلف وارسو. عام 1992 أعلن الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش انتهاء عصر القطبين نحو عالم أحادي القطبية  تقوده الولايات المتحدة وأسماه النظام العالمي الجديد.

لم يتبلور هذا النظام، لا باتفاقيات ولا بمعاهدات، في حين أطلقت الولايات المتحدة مفاهيم حقوق الإنسان والحريات لتحاسب عليها الدول التي لا تدور في فلك سياستها، وضمن إطار هذا النظام استمرت النزاعات الإقليمية وأبرزها النزاع العربي – الإسرائيلي ونزاع كشمير ومشاكل افريقيا، وظهرت مشاكل إقليمية جديدة نتجت عن تفكك النظام الإقليمي في البلقان ونشبت حروب طائفية وعرقية في عقر دار اوروبا تطلبت تدخلاً عسكرياً لوضع حد لها من دون التوصل إلى تسويات سياسية دائمة. مع سيطرة المحافظين الجدد على مواقع القرار في الولايات المتحدة ظهرت نظرية "الفوضى الخلاقة" التي تهدف إلى تهديم الأنظمة التي لا تتماشى مع المفاهيم الأميركية، ومن ثم إعادة بنائها من جديد، وترافقت هذه النظرية مع الحرب ضد الإرهاب التي جعلت منه عدواً كبيراً، مما أدى إلى صوغ سياسات وخطط تسلح وتعبئة داخل الولايات المتحدة وبعض دول أوروبا لمواجهة هذا العدو المستجد.

نموذج الفوضى الخلاقة في أفغانستان لا يشجع، فبعد نحو أربع سنوات على غزو أفغانستان والإطاحة بنظام طالبان، لم يتغير شيء، بن لادن ما زال موجوداً وتنظيم القاعدة يكبر ولا حل سياسي فعلي، أمَّا في العراق فالتخبط يسود البلاد والفوضى تعم كل القطاعات ولا أفق بحل سياسي ناجح رغم الانتخابات وتشكيل حكومة جديدة (وهي بتركيبتها العقائدية ليست موالية لأميركا)، وشبح التقسيم يلوح وخطر الحروب المذهبية والطائفية يتصاعد، وهو مرشح للامتداد وإيقاظ كل الخلافات الاثنية والدينية في المنطقة برمتها..

خطر الفوضى الخلاقة يتقدم على غيره من الأخطار، وهذه الفوضى في جميع الأحوال هدّامة وليست خلاقة، وهذا لا يعني أبداً التمسك بالاستقرار البليد وعدم التوجه نحو التغيير بل الحذر من الانزلاق إلى فوضى تطيح بالاستقرار وبإنجازات الشعوب وبإمكانية التطوير والتقدم.