قضايا اجتماعية

القانون والأمراض العقلية
إعداد: ناديا متى فخري

كيف يبــــتّ القضـــــاء بالأفعــــال الإجرامية غير المسؤولة وكيف يسعى الطب الى تبريرها؟

 

العلاقة بين القانون والطب علاقة قديمة, كما يتضح من مراجعة الكثير من المواد الواردة في شريعة حمورابي, وما تلاها من تشريعات. ومع أن معظم الثوابت التي تم التأكيد عليها في الفقرات التشريعية, انصبّ على الحقوق والمسؤوليات في ما خصّ الجرائم والجنح وسائر الأفعال التي تسري عليها أحكام قانون العقوبات, إلا أن تلك التشريعات, كانت بداية لمبدأ تحمّل المسؤولية على العمل الذي يرتكبه فرد بحق فرد آخر من أفراد المجتمع, أو بحق المجتمع نفسه وما يعود إليه. وقد أخذت تلك التشريعات بمبدأ العقاب بالمثل, ولم تأخذ في الإعتبار, ما يمكن أن يتوفّر من تبريرات تجيز التخفيف من العقاب. وحتى في الأزمنة التي نُظر فيها بهذه التبريرات والتي تقلل من مسؤولية الفرد عن أفعاله, فإن العمل بها لم يشمل مرتكبي المخالفات من المرضى في عقولهم, بل على العكس فقد سرت عليهم العـقوبة أسوة بمن اقترف جرماً وهو بكامـل قـواه العقـلية.. ورغـم أن الطب قد أسهب منـذ القدم, في بحثه النواحي الخافية التي تؤلـف عناصر الجريمة أو الجنحة, وعلّل الناحية الكامنة في طبيعة الفعل والفاعل معاً, من حيث المبررات عند وجودها, إلا أن نظرياتـه في هذا الشأن, لاقـت معـارضة من قبل مشرّعي القوانين الذين أصروا على ضرورة فرض العقوبة على كل مخالف للشرع والقانون, وبالدرجة التي تتلاءم مع الجرم الواقع. وبالتالي فقد انتقد مشرّعو القـوانين الأعـذار التي تجـيز للمريـض عقلـياً حقّ الإعفاء, حتى وإن ثـبت بالدلـيل القاطع أن المتـهم كان حين اقـترافه الفعل المعزو إليه في حالة جنون وتيه, ومصاباً بآفة عقـلية أنقصـت قـوة الوعي لديه, فأقـدم على فـعل غير مقصود.

 

النظرة الإنسانية

من الثابت في معرض النصوص القانونية, أن التشريع يتخذ موقفاً متصلّباً في التمسك بضرورة إثبات الجريمة وخطأ فاعل الجرم, بينما انصرف الطب الى النظر للمتهم ­ المذنب, على أن ارتكابه للجرم يأتي بفعل إرادة مريضة, وتحديات نفسية تفقده الوعي والسيطرة على أعصابه, ما يجعله غالباً يقدم على تصرفات مخالفة للقانون وهو يجهل نتائج فعله. ولذلك, تمسّك الطبّ بالمبدأ التشخيصي للحالة المرضية للمتهم والتي تجعل الجرم ممكناً, وكانت نظرياته في مجال تفصيل الجريمة بكافة عناصرها القانونية والمادية والمعنوية, هي الأساس الذي بُني عليه واقع التبرير, أو الإتهام المطلق. وقد أصرّ الأطباء النفسيون على أهمية فهم حقيقة الوضع النفسي للمتهم قبل البدء بمحاكمته, والتأكد من سلامته العقلية, التي في ضوئها يتقرر البتّ في انتفاء مسؤوليته أو العكس تماماً.
ولعلّ أهم ما يتميّز به عصرنا الحالي, هو النظرة الإنسانية التي ينظر بها أهل القضاء والطب للمريض عقلياً, حيث ظهر جلياً الإستعداد لتقبّل تبرير الجرائم الناشئة عن حالات مرضية ­ عقلية, ومعاملة المتهم ­ المريض على مستوى أقلّ من المسؤولية.. وهذا التحوّل, قد يكون أحدث تقارباً بين وجهات النظر, وجعل المواثيق القانونية تقرّ بمبدأ التسليم بـ”العذر المحلّ”, الذي هو في غاية الإنصاف عدلاً ومنطقاً.. غير أن القانون, رغم هذا التحوّل الإيجابي, ظلّ يشدد على ضرورة إثبات الواقع المرضي, وجعل قواعد الإثبات مشددة الى حد يصعب الوصول إليها من دون الاستناد الى دلائل قاطعة تبنى على أساسها أسباب التبرير.

 

النظرة القضائية

هنالك بعض الفروق في تصريف قضايا الإجرام العقلي, وقد اعتمدت التشريعات القانونية نصوصاً أصيلة في ما خصّ الجرائم البسيطة والجرائم الخطيرة.. ومعظم هذه التشريعات كانت متعاونة في الجرائم الواقعة بتأثير حالة عقلية, وتركت للدفاع كما للإتهام حقّ إثبات أو نفي الحالة المرضية إثباتاً لا شائبة فيه, وإذا ما قُبلت البيّنة, فإن المحكمة وحدها هي المخوّلة بإصدار القرار المناسب, فإما أن تصدر حكمها بتأجيل المحاكمة حتى يُثبت الطب الشرعي صحة افتراض الدفاع, أو الإتهام, وإما أن تتابع مسيرة المحاكمة, مع الأخذ في الإعتبار المعطيات التي تزوّدت بها من الطرفين.
 

● في الحوادث البسيطة:
في تصريف حوادث الإجرام البسيطة, قد يسلك القاضي طريقاً أو آخر من الطرق التالية: فهو إما أن يجد بأن مرتكب الجرم غير مذنب, كونه يجهل طبيعة الجرم وخطورة ما أقدم عليه, أو أنه يعتبره مذنباً, ويحكم عليه تبعاً لما يستحقه جرمه من عقاب.. وفي حال ثبوت إصابته بآفة عقلية أصيلة, يقضي القاضي بضرورة حجزه في سجن خاص أو إحالته الى مستشفى للأمراض العقلية لمعالجته ومتابعة حالته.
 

● في الحالات الخطيرة:
في الحالات الأكثر خطورة, تنظر المحاكم العليا بهذه القضايا سواء توفّرت الأعذار أو لم تتوفر, وتعتمد في تصريفها على الوثائق التي تعتبر المرجع الصالح للبتّ في القضية. والمبدأ المعتمد هنا, هو أن يقدّم الدفاع البيانات الكافية التي تثبّت صحة إدعائه بأن المتهم مريض عقلياً, ويستند الدفاع عادة على التقارير الطبية, وللإتهام كما للدفاع أن يطعن بهذه التقارير ويناقش أصحابها, وأن يطالب بتعيين إختصاصيين آخرين لإجراء المزيد من الفحوص الطبية على المتهم للتأكد من سلامة التقارير المأخوذ بها, وإذا اقتنع المحلفون الجزائيون بصحة التقارير والبيانات, فإن لهم حق إصدار القرار بتأجيل المحاكمة الى أجل غير مسمى, تنتهي صلاحيته عندما يصبح المريض في حالة تمكنه من الدفاع عن نفسه. أما إذا ظهر أن التقارير المشار إليها ليست سليمة, فمن حق السلطة القضائية إبرام الحكم النهائي وبما يتناسب مع درجة الجريمة الواقعة... ومع أن هذه القضايا يُبتّ فيها قبل البدء بمحاكمة فعلية, تجنباً لمحاكمة غير عادلة لمتهم مريض عقلياً, إلا أن بعض القضايا الإجرامية, لا تستفيد من العذر المخفف, وتواجه محاكمة فعلية, وخاصة تلك التي لا تتوفر فيها القناعة الكافية من قبل جميع الأطراف المختصة (الهيئة القضائية, الدفاع, الإتهام).

 

نظريات متناقضة في الإجرام المتكرر

الإجرام المتكرر, حيثية أخذت طريقها مؤخراً في المجال القانوني, ولم يُفرد لها في معظم القوانين ما يبين إدراكها كحيثية مرضية, رغم أن تعدّد الحالات الإجرامية التي يقوم بها بعض الأفراد, بشكل متكرر ومن دون ارتداد, أو خوف من العقاب المترتب على جرائمهم, قد دفع الى التأمل في مدى قدرة هؤلاء المرتدين عن القانون, على التحكّم بإرادتهم وبالشكل الكافي للإمتناع عن القيام بأعمال إجرامية. وحول الجرائم المتكررة كان للقانون رأي وللطب رأي آخر.
من الناحية الطبية, أشار الاختصاصيون الى وجود نمط من أنماط الشخصية يتجه منذ وقت مبكر نحو الأعمال الإندفاعية المؤذية أو الضارة بالمجتمع, والتي يبدو أن مرتكبها لا يستطيع الحدّ من اندفاعه, كما أنه لا يندم عادة على ما ارتكبه من أفعال جرمية, ولا يتوقف عن تكرار أعماله الإندفاعية في المستقبل بالرغم من معرفته بما ينتظره من عقوبة, وقد سمّيت هذه الشخصية, بالشخصية المضادة للمجتمع (الشخصية السايكوباتية). ومع صعوبة توصّل الطب الى فهم كامل دوافع وخصائص هذه الشخصية العدوانية, إلا أنه قد أدرجها ضمن حدود الشخصية المضطربة عقلياً, باعتبار أن صاحبها فاقد الإرادة السليمة, ويفتقر الى الوعي والإتزان الكافي لردعه عن ممارسته الجرمية.
أما القانون, فلم يتجاوب مع هذه النظرة, وامتنع عن التعاطف مع هذه القاعدة الطبية التي تمثّل مخرجاً قانونياً في مصلحة صاحب الجرم, وجاء اعتراضه انطلاقاً من مبدأ أن صاحب هذه الشخصية برأيه ليس مريضاً بالمعنى المحدد للمرض العقلي, كونه يدرك طبيعة العمل الذي يقوم به, وهذا يجعله مسؤولاً عن عمله بصورة مباشرة. أما بالنسبة الى رفضه الأخذ بعدم قدرة المتهم على السيطرة على إرادته, فإن الحجة القانونية ترى بأن تقرير سيطرة الإرادة أمر يصعب تقديره, والقانون ينظر الى الجريمة بمقياس محدد: “مسؤول أو غيرمسؤول”, بعكس الطب الذي يتبع خطاً متواصل الدرجات من المسؤولية, وهو الخط الذي لا يمكن تحديد نقطة ابتدائه أو نقطة انتهائه.

 

الجريمة والمرض النفسي

لا شك أن الضغط النفسي يحضّ الفرد على القـيام بتصرفـات غير مسؤولـة, ولكن القانـون الجزائي وضع حداً فاصلاً بين المـرض النفسي والمرض العقلي, في ما يختـص بالجرائم الجناحية والجنائية, وإذا كان قد برّر الجرائم الواقعة ضمن نطـاق الحالات المرضية ­ العقلية, إلاّ أنـه لم يطبّق الأمر ذاته على الجرائم التي تقـع في إطـار مؤثـرات نفسية مشـدّدة؛ علـى أساس أن المريـض العقلي تحميه عدم أهليته في التفريق بين الخطـأ والصواب, فالعقل هو المحـرك للعمليات النفسية والسلوكـية. وفي وجـود علّة عقليـة يفـقـد المرء توازنه الفكـري والسلـوكي, ويواجه انهياراً في طبيعته الداخلية ومداركه, ومتى حدث ذلك كان الأمـر نذيراً لانقـطـاع صـلة الفرد مع واقعـه, وقــد يجد نفسـه مدفوعـاً لا إراديـاً الى ارتكـاب هفـوات غيـر مقبـولة اجتماعيـاً وقانونيـاً.
ويبقى تبرير الجريمة على أساس المرض النفسي من المواضيع المجادل فيها, غير أن هنالك أدلة عديدة تفيد بأن المشرّعين منذ زمن بعيد, قد فرّقوا بين الجريمة المتعمدة بإصرار وتدبير, وبين الجريمة التي تحدث بشكل طارئ وعفوي.
وختاماً, يظـهر مما تقدم, مدى إمـكانية التعاون والتـلاقي بين القانـون والطـب, في مجال الأمراض النفسية والعقلية, والمشكلات الواقعة بين الجانبين, بالرغـم من الموقـف التقليدي بين القانـون كأداة عقابية, وبين الطـب كأداة علاجية. ويـأتي هذا التعاون والـتلاقي نتيجة تفهم الجانبين القانوني والطبي, بأن مهمتهما, حتى ولو اختلفت في الظـاهر, فإنها مهمة إصلاحية ووقائـية ليس للـفرد وحده وإنمـا للمجتمع بشكل عام.