إقتصاد ومال

القطاع المصرفي اللبناني أمام تحدّيات كبيرة في زمن الأزمات والمتغيّرات
إعداد: تريز منصور

سلامة يطمئن وطربيه يقول: «معتادون على إدارة المخاطر»


تحديات كبيرة وحساسة يواجهها القطاع المصرفي العالمي، إن لناحية الإفلاسات نتيجة تداعيات الأزمة المالية العالمية التي حصلت نهاية العام 2008، أو لناحية الخضّات السياسية التي يشهدها العالم العربي نتيجة الثورات العربية... وبالتالي فإن الخسائر المالية في هذا القطاع تسجّل نسبًا عالية، والنمو فيها يكاد يلامس الصفر في المئة، ولا سيما في مناطق النزاع مثل مصر وسوريا وتونس وليبيا...
وباعتبار أن القطاع المصرفي اللبناني جزء من المنظومة الاقتصادية العالمية، فمن الطبيعي أن يتأثر عمله ويواجه هذه التحديات، على الرغم من أن نسبة أرباحه لامست الـ 7 في المئة العام 2011، وهو ما زال يحتفظ بكتلة نقدية كبيرة تناهز خمسة أضعاف الناتج المحلي. كما أن تسليفاته للقطاعين العام والخاص، ما زالت متواضعة مقارنة مع قدرته الكبيرة في هذا المجال، أما ما تسلّفه البنــوك فــي الخــارج فيشكــل نقطــة في بحر إمكاناتها المحليّة.
كيف يواجــه القطــاع المصرفــي اللبنانــي كــل هــذه التحديــات المالية والسياسية الكبيرة، ولا سيمــا أن وكالــة التصنيف الائتماني موديــز «Moodys»، عدّلت سلباً، توقعاتها لأربعة مصارف لبنانيّة كبيرة؟


سلامة: القطاع المصرفي سليم ومحصّن
يقول حاكم مصرف لبنان رياض سلامة عن واقع القطاع المصرفي:
«لم تغب الأجواء السلبية عن لبنان تحديدًا في الأشهر الستة الأولى من هذه السنة، وتأثرت أسواقنا كما اقتصادنا بالصراع السياسي الداخلي المستمر منذ تموز العام 2010، وبالإشاعات حول مصارفنا بسبب الأحداث في سوريا». وقدّر الحاكم أن يسجل «النمو الحقيقي لهذه السنة (2011) 2 في المئة، موضحًا أن «الودائع شهدت تحسنًا راوح بين 7 و8 في المئة، بينما سجل ميزان المدفوعات عجزاً وصل إلى 1.5 بليون دولار في أيلول الماضي».
وشدّد على أن القطاع المصرفي ليس مستهدفاً، كما أن لا عقوبات مرتقبة عليه. وأوضح «أن  تحرّك مصرف لبنان في هذا الشأن، ومنذ قضية «البنك اللبناني الكندي» كان مثمرًا وكل ما قيل أو سيقال سلبًا عن قطاعنا مجرّد إشاعات»، مؤكدًا استقرار الفوائد عند مستويات تحفّز النمو وتحقق وفرًا في خدمة الدين العام. وأعلن الحاكم «أننا تدخّلنا لشراء السندات الحكومية للحفاظ على هذا المستوى من الفوائد، واشترينا أكثر من 6 آلاف بليون ليرة لبنانية من هذه السندات في الأشهر الـ11 الأولى لتحقيق هذا الهدف، ونجحنا».
وفي ما يخصّ تقرير «موديز»، أعرب الحاكم  عن تقديره لمؤسسات التقييم التي يفترض ان يكون لديها المهنية المطلوبة لقيادة الأسواق في هذا العالم المليء بالمخاطر، لكنه أوضح «إننا لا نوافق «موديز» الرأي على قرارها، لأنه لا يستند إلى عناصر مقنعة أو إلى تغييرات جديدة تبرر التعليق عليها، بل إلى توقعات خاصة لم تُبحث معنا».
وأكد أن «القطاع المصرفي سليم ومحصّن، ويلتزم معايير بازل 3 ، ولا سيما أن معايير الملاءة التي تبلغ حاليًا نحو 7 في المئة، سترفع إلى 12في المئة لغاية الـ2015، وذلك بالإستناد إلى توقعاتنا الإيجابية للقطاع وإمكاناته».  
ان خفض تصنيف المصارف اللبنانية لم يراع حجم السيولة التي تتمتع بها خلافًا للمصارف العالمية، إذ أنها تفوق الـ30 في المئة، وفق سلامة الذي يوضح أن «مصرف لبنان اخضع المصارف لاختبار الضغط بغية تحديد آثار مخاطر المنطقة عليها، وتبين أنها معدومة وقد تصل في حد أقصى إلى 10في المئة من الأرباح».
 ويؤكد سلامة أن «الأموال التي تدخل إلى القطاع ليست كلها من دول عربية تشهد اضطرابات، فمصارفنا موجودة في دول خليجية ونفطية تشهد نسب نمو مرتفعة».

 

طربيه: القطاع المصرفي اللبناني خرج قويًا من كل المخاطر
من جهته يقول رئيس اللجنة التنفيذية لاتحاد المصارف العربية والاتحاد الدولي للمصرفيين العرب رئيس جمعية المصارف الدكتور جوزف طربيه: «نحن نرى أن هناك راحة على الصعيد المصرفي، ونأخذ بالطبع في الحسبان الأحداث الحاصلة في المحيط الخارجي ونقف أمامها بترقب». ويعلّق على قرار وكالة التصنيف الائتماني «Moodys» بالقول إنّ هذا القطاع الذي يبلغ حجم أصوله خمسة أضعاف الناتج المحلي، معتاد على إدارة المخاطر، كما أن مؤسسات التصنيف الدولية تراجع دوريًا تصنيفها للإقتصادات وللمصارف، مشددًا على أنّ «ما يحصل في المحيط تستطيع المصارف اللبنانية مواجهته وتخطيه من دون أي أضرار جوهرية».
ويلفت إلى أن ّ «المصارف اللبنانية موجودة في دول عديدة في المنطقة، والأحداث المذكورة قد تضع مؤسسات التصنيف في حالة ترقّب، نظرًا إلى انعكاس هذه الأحداث على الوضع المصرفي وخصوصًا وضع التسليفات التي تمنحها المصارف».
كذلك يرى طربيه أنّ «لا علاقة لقرار تعديل أفق التصنيف بالمسائل السياسية، بل له علاقة بالتوقعات التي يمكن أن تنتج من عدم الاستقرار الحاصل، وهو وضع طبيعي وليس له تأثير أساسي على المصارف اللبنانية التي لحقها هذا التصنيف. فمحفظة تسليفات المصارف المعنيّة في الخارج، لا تشكل إلا نقطة في بحر إمكاناتها في لبنان وعلى الصعيد العالمي... والنظام المصرفي اللبناني، أصبح نظامًا إقليميًا وعالميًا، ومقدراته لا تؤثر عليها أي مؤشرات سلبية تحصل في أي بلد من البلدان».
وفي إطار هذه النظرة التفاؤلية التي تبدو إلى حد ما مفرطة، يشدّد رئيس الجمعية على أنّ المصارف اللبنانيّة «معتادة على إدارة المخاطر، فلبنان مرّ في تاريخه بمراحل عدم استقرار طويلة، واستطاع القطاع المصرفي اللبناني أن يخرج بقوة من كل المخاطر السياسيّة والاقتصاديّة».
وحول عمل القطاع المصرفي في ظل «الربيع العربي» يقول: «إن الصورة ليست قاتمة، بالرغم من أن الثقة بالاقتصادات المالية العربية لم تتم استعادتها بعد، وقد يستلزم وقتاً طويلاً لاستعادتها، علمًا أن القطاع المصرفي هو أكثر القطاعات الاقتصادية العربية حيازة للثقة. وبالرغم من الضغوط الكبيرة، فإن المصارف العربية لا تزال تعمل على نحو طبيعي وتدعم الاقتصاد والقطاعين العام والخاص تحديدًا، بمزيد من الأموال لتمكين القطاعات الاقتصادية الأخرى من تخطي آثار الأحداث».
ولفت إلى ضغوط كبيرة، وخصوصًا في المالية العامة للدول نتيجة الانخفاض الكبير في إيرادات الحكومات، إضافة إلى زيادة النفقات الاجتماعية، يضاف إليها ضغوط على ميزان المدفوعات بسبب انخفاض التدفقات المالية الداخلة، وخصوصا الإيرادات السياحية والاستثمار الأجنبي المباشر، في مقابل ارتفاع التدفقات المالية الخارجة بسبب سحب جزء من الاستثمارات.
كما يشير طربيه إلى ضغوط تتمثّل في انخفاض التدفقات المالية والاستثمارات الوافدة إلى المنطقة هذه السنة (من أكثر من 20 بليون دولار إلى نحو 4.8 بليون)، نتيجة عدم الاستقرار الإقليمي والزيادة في عجز الموازنة «بما يستتبع تدهورًا في مجالات أخرى، كانخفاض النمو الاقتصادي وارتفاع التضخم والبطالة وازدياد المديونية العامة، وتراجع الاحتياطات الأجنبية، وقيمة العملة، وارتفاع أسعار الفوائد، وانخفاض نمو ودائع القطاع المصرفي، وهبوط الأسواق المالية وانخفاض التصنيف السيادي».
ويوضح أن السلطات المالية والنقدية في الدول العربية عمومًا وفي تلك الدول التي تشهد أحداثًا خصوصًا، «اتخذت إجراءات وتدابير متعددة للحد من تأثير الوضع السياسي على الاقتصاد، ومنها ضخّ السيولة في الأسواق للحد من انكماشها، وضبط معدلات الفوائد وأسعار الصرف عبر التدخل لتلبية الطلب على الدولار، وخفض معدلات الاحتياط الإلزامي للمصارف، لتمكينها من تلبية السحوبات وزيادة قدرتها على الإقراض، إضافة إلى تعليق مؤقّت للعمل في البورصات لوقف تدهور أسعار الأسهم وغيرها. وقد كان لهذه الإجراءات تأثير إيجابي، وإن على نحو متفاوت، على الأسواق المالية العربية، لكن في حال طالت الأزمة في المنطقة، فربما يتحوّل ما سُمي بـ «الربيع العربي» إلى شتاء اقتصادي قارس».


طبيعة التسليفات المصرفية وتوزّعها

تشير الإحصاءات المتعلقة بطبيعة التسليفات الممنوحة من قبل القطاع المالي إلى نسبة عالية منها ( 30،5 في المئة)، لا تزال تأخذ شكل تسهيلات مكشوفة وغير موثّقة بضمانات overdrafts في نهاية العام 2010مقابل 31،5 في نهاية العام 2009، تلتها القروض مقابل تأمين عقاري، والتي بلغت حصّتها 25،5 في المئة مقابل 23،3 في المئة في نهاية التاريخين على التوالي، ثم القروض بكفالات شخصية التي مثّلت 17،5 في المئة و17،3 في المئة من المجموع تباعًا. مع العلم أن القروض المكشوفة تُمنح عادة للزبائن ذوي الأهلية الائتمانية العالية أو كبار الزبائن، حيث يتركز إجمالي التسليفات، وبالتالي فإن حصة هذه التسليفات من المجموع تتناسب مع توزّع التسليفات حسب القيمة والمستفيدين.
وبالنسبة إلى توزّع التسليفات على القطاعات الاقتصادية  - باستثناء القطاع الزراعي الذي يحتاج إلى صيّغ تمويل متخصصة، كما هي الحال في معظم الدول المتطورة والناشئة - فهو يتوافق بشكل عام مع حصة القطاعات من الناتج المحلي الإجمالي. وقد أظهرت الإحصاءات ارتفاعًا هامًا في التسليفات المستعملة والممنوحة لجميع القطاعات الاقتصادية العام 2010، نذكر منها ارتفاع القروض السكنية بنسبة ملحوظة بلغت 60،8 في المئة، والتسليفات الممنوحة للصناعة بنسبة 16،6 في المئة وتلك الممنوحة للزراعة بنسبة 31،4 في المئة. ونتيجة لاختلاف نسبة زيادة التسليفات بحسب القطاعات، حصل بعض التغيّر في حصة كل قطاع من المجموع بين نهاية العامين 2009 و2010. وقد استمر تركّز التسليفات في قطاع التجارة والخدمات على الرغم من تراجع حصة هذا القطاع إلى 36،1 في المئة في نهاية العام 2010مقارنة مع نهاية العام 2009. كما تراجعت قليلاً حصة الصناعة (11،3 في المئة نهاية العام 2010 مقابل 22،2 نهاية العام 2009)، متأثرة بارتفاع القروض السكنية التي تدخل ضمنها على نحو لافت، بحيث وصلت حصّتها إلى 11،7 مقابل 8،9 في المئة في التاريخين على التوالي. كذلك ارتفعت حصة كل من قطاعي البناء والمقاولات إلى 16،3 في المئة، وارتفعت قليلاً حصة كل من الزراعة إلى 10 في المئة وحصة الوساطة المالية إلى 8،5 في المئة من مجموع التسليفات.

المصادر: مصرف لبنان، نشرة جمعية المصارف
الصحف (السفير، النهار، الأخبار)، مؤتمرات إقتصادية.

 

«مستقبل العالم العربي في ظل التحولات الراهنة»
أزمة المال والاقتصاد العالمية والأحداث التي تشهدها دول عربية وتداعياتها على اقتصادات المنطقة والتحديات التي أفرزتها والواجب مواجهتها، دفعت المتحدثين في افتتاح «المؤتمر المصرفي العربي السنوي للعام 2011»، الى الدعوة للعمل على «وضع خريطة طريق اقتصادية، وإعلان حالة طوارئ اقتصادية عربية، وتأسيس صندوق تمويل عربي تدعمه الدول العربية الغنية».
رئيس مجلس الوزراء اللبناني المهندس نجيب ميقاتي، رعى افتتاح المؤتمر الذي عقد بعنوان «مستقبل العالم العربي في ظل التحولات الراهنة»، والذي نظّمه اتحاد المصارف العربية بالتعاون مع مصرف لبنان، بمشاركة نحو 500 شخصية اقتصادية، عربية وأجنبية، وذلك في فندق «فينيسيا» في بيروت. وحضّ ميقاتي الاتحاد على المشاركة في وضع خريطة طريق اقتصادية عربية، تحصّن ثرواتنا ومجتمعاتنا وأجيالنا المقبلة.
مواضيع جلسات العمل تمحورت حول اتجاهات التغيير في العالم العربي، فرص الاستثمار في ليبيا، دور المصارف العربية في مواكبة التغيير، أزمات الديون السيادية وآليات وفرص استعادة الاستثمارات العربية والأجنبية.
وصدر عن المؤتمر توصيات ركّزت على: تطوير مسار التنمية الاقتصادية والاجتماعية، تنشيط دور القطاعين العام والخاص في تصويب وتصحيح برامج الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي لمكافحة الفقر والبطالة والتهميش الاجتماعي، التزام الشركات والمؤسسات معايير مالية واقتصادية كفيلة بتعزيز مستوى الإفصاح والشفافية، توحيد تشريعات الاستثمار العربية وإقرار الحوافز الضرائبية وإزالة المعوّقات أمام حركة الاستثمارات العربية المشتركة، إعطاء الأولوية القصوى للمشاريع الاستثمارية القادرة على إيجاد فرص عمل للكفاءات العربية الناشئة، توجيه الاستثمارات العربية الخاصة نحو تنمية مستويات التعليم المختلفة وتأهيل المهارات البشرية، إنشاء سوق مالية عربية مشتركة، التركيز على جهود المصارف للخروج من الأزمة، ضرورة الإسراع في تفعيل دور المصارف في إطار بناء آليات النظام المالي الإقليمي والدولي، ضرورة زيادة حجم التبادلات التجارية العربية البينية تمهيدًا لإقامة السوق الاقتصادية العربية المشتركة، تحفيز مصارف الاستثمار على أداء دور استشاري وتوجيهي للمستثمرين الأفراد، تشجيع التعاون ما بين السلطات النقدية الرقابية وبين الوحدات المصرفية لاستنباط حلول استباقية لدرء المخاطر والاختلالات التي قد تطرأ على الوحدة المصرفية.