القطبة الأميركية - الإسرائيلية المخفية : شرق أوسط صغير و ذكي!

القطبة الأميركية - الإسرائيلية المخفية : شرق أوسط صغير و ذكي!
إعداد: أحمد ابو هدبة
باحث في الشؤون الاسرائيلية

تكتسب المنطقة العربية خاصة، أو ما يصطلح عليه حديثاً بمنطقة الشرق الأوسط عامة، أهمية إستراتيجية قصوى على صعيد ما تمثّله لجهة موقعها الجغرافي المتميّز وفضائها الحضاري وعمقها التاريخي. فهي عقدة برية وبحرية هامة تتصل بها القارات الأربع. وهي كذلك مهد الأديان والحضارات، وتختزن في باطنها أكثر العناصر أهمية للاحتياجات البشرية من الطاقة. لذلك كانت ولا تزال محط أنظار الإمبراطوريات والقوى الكبرى القديمة والحديثة الباحثة عن مناطق نفوذ. هذا إلى جانب ما يميز المنطقة من سمات (مصير مشترك، لغة، دين، عادات وتقاليد) تمكّنها، في حال توحدها تحت سلطة نظام مركزي، من لعب دور كبير الأهمية على الصعيد العالمي.

برزت أهمية المنطقة استراتيجياً بشكل غير مسبوق في العصر الحديث بعد اكتشاف أنها ترقد على بحور من النفط. وفي فترة تاريخية حساسة أدرك قائد أكبر قوة إقليمية عربية، الخديوي محمد علي، ضرورة توحيدها وإبعادها عن النفوذ العثماني، وذلك ضمن مشروع وحدوي، آخذاً باعتباره ضرورة التحديث والعصرنة. غير أن تحالف القوى العظمى ضده وعدم إتقانه لإدارة الصراع على قاعدة المعرفة الدقيقة لتناقضات القوى الكبيرة السائدة، أحبط مشروعه، ففرضت كل من بريطانيا وفرنسا عليه شروطاً تكرّس بقاء مصر تحت الانتداب، ومن ثم الوصاية البريطانية، إلى جانب الإبقاء على بلدان المنطقة التي احتلها تحت سلطة الإمبراطورية العثمانية.

في تقرير نشرته وزارة المستعمرات البريطانية في نهاية القرن السابع عشر أكدت أهمية هذه المنطقة الاستراتيجية على صعيد تحقيق المصالح الأوروبية عامة والبريطانية خاصة، وضرورة وضع اليد عليها كشرط لاستمرار نفوذ وتوسيع الإمبراطورية البريطانية. والأهم من ذلك كانت دعوة التقرير إلى إنشاء رأس جسر بشري "إستيطاني" كشرط لضمان استمرار مصالح الغرب ونفوذه على المدى البعيد. ويلاحظ أن الجهود البريطانية انصبّت خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ومطلع القرن العشرين، على تعزيز سيطرتها ونفوذها في المنطقة العربية ضمن إستراتيجية إضعاف السلطنة العثمانية عن طريق تقاسم "تركة الرجل المريض". وقد تجلّى ذلك بوضوح من خلال اتفاقية سايكس - بيكو التي اعتمدت تجزئة المنطقة وتقسيمها بين النفوذين الاستعماريين البريطاني والفرنسي، وحملت مشروعاّ استيطانياً جديداً في فلسطين جرى التعبير عنه بوعد بلفور الذي أعطى لمن لا حق له "الحق" بإنشاء وطن قومي لليهود على حساب أصحاب الأرض الشرعيين في فلسطين.

ومما لا شك فيه أن تجليات اتفاقات سايكس - بيكو السياسية والاقتصادية والاجتماعية قد عبّرت عن نفسها على شكل دول «قطرية» تقوم على واقع اجتماعي يتسم بالفقر والتخلف والجهل، وتركيبة اجتماعية عشائرية في معظمها، وبنى اقتصادية تجاوزت بالكاد نمط الإقتصاد البدائي. وقد تكرّست هذه الدول القطرية مع الوقت لتحول دون تحقيق أيّ إطار أو رؤية واحدة على الصعيد القومي والإقليمي، على الرغم من وجود إطار عربي جامع هو الجامعة العربية، التي ويا للمفارقة، كان لبريطانيا اليد الطولى في إنشائها. وكرّست هذه الدول القطرية تجزئة المنطقة بما يتلاءم واستمرار أنظمة حكمها التي تطابقت معظمها مع المصالح الغربية، في حين اعتمدت هذه المصالح وضرورات الحفاظ عليها، على المشروع الصهيوني بعد أن تجسّد مادياً في فلسطين من خلال قيام "إسرائيل" التي لعبت ولا تزال الدور المركزي الأهم في تكريس واقع التجزئة، والحيلولة دون تشكل أيّ إطار وحدوي من شأنه أن يعبّر ولو بالحد الأدنى عن مصالح السواد الأعظم من سكان هذه المنطقة من العرب.

إن الوقائع التاريخية للفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، من حصول أغلبية الدول العربية على استقلالها، إلى إقامة الكيان الصهيوني على جزء من الأرض الفلسطينية، وتراجع النفوذ الإستعماري البريطاني والفرنسي، وتقدم الولايات المتحدة لملء الفراغ بعد العدوان الثلاثي على مصر، أكدت كلها سعي الدول العظمى لتشكيل مجموعة من الأحلاف الإقليمية كضمانة غير مباشرة لاستمرار مصالحها في المنطقة ولاسيما منها "حلف بغداد"، وذلك على ضوء النهوض القومي وبروز الحركة الناصرية والأحزاب القومية، وسعيها لإيجاد إطار قومي يعكس مصالح العرب وطموحهم في أخذ مكانتهم على خريطة العالم السياسية والحضارية. مقابل ذلك سعى الكيان الصهيوني إلى الدخول في تحالفات خارج البيئة الاستراتيجية العربية، وبالتحديد مع دول مثل تركيا وإيران (في عهد الشاه) وإثيوبيا إمبراطورية هايلاسلاسي، كإحدى الوسائل المانعة لوحدة المنطقة العربية. أما الولايات المتحدة فقد اعتمدت إستراتيجية مختلفة بعد أن تمّ لها تكريس نفوذها في المنطقة في منتصف الخمسينات، اعتماداً على تحالفات وطيدة مع بعض دول المنطقة العربية التي بدأت تتوجس خفية من تأثير الناصرية والاتجاهات القومية الجارفة في حينه، وذلك تحت شعار مواجهة النفوذ السوفياتي، في سياق سياسة القطبين التي تشكلت بعد الحرب العالمية الثانية ثم الحرب الباردة. وتبنّت على هذا الأساس إسرائيل بشكل تام باعتبارها جزءاً عضوياً من الاستراتيجية الأميركية في المنطقة.

لقد أثبتت الحروب المتكررة التي شنتها إسرائيل ضد العرب، ضلوع السياسات الأميركية فيها، ولا سيما حرب حزيران عام 1967 التي كان لها الأثر الكبير على تشكّل السياسات الإقليمية والدولية التي أعقبت، سواء لجهة استمرار الصراع العسكري ضد إسرائيل، أو لجهة خروج مصر من دائرة هذا الصراع بعد حرب تشرين 1973 وزيارة السادات لإسرائيل وتوقيع اتفاقات كامب - ديفيد، الأمر الذي أصبحت فيه مسألة تكريس الدولة القطرية المسألة الأهم في نظر الأنظمة العربية، على حساب التوّجهات "القومية"، وفتحت الأبواب أمام نجاح الكثير من المشاريع والمبادرات الأميركية والغربية بشكل عام، الداعية إلى هيكلة وصوغ المنطقة من جديد.

ويلاحظ أن غزو لبنان عام 1982 جاء في سياق رؤية أميركية - إسرائيلية مشتركة على صعيد إعادة صياغة المنطقة بما يتلاءم ومعطيات تلك المرحلة إقليمياً ودولياً، وفي مقدمتها السعي لتعميم اتفاقيات كامب - ديفيد وصولاً إلى تكريس النفوذ الأميركي على قاعدة التوسّع الإسرائيلي، باعتباره مصدر القوة العسكرية الإقليمية الكبيرة القادرة على حماية أية اتفاقات من هذا القبيل.

ولقد كان واضحاً أن التحوّلات الكبيرة التي ألمّت بالعالم وبالمنطقة، إلى جانب التحوّلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الداخلية الإسرائيلية قد دشّنت عهداً جديداً في العالم. فإذا كان انهيار الاتّحاد السوفياتي قد فتح أمام إسرائيل خزّان الهجرة اليهودية الروسية، فإن نتائج حرب الخليج الأولى عزّزت الخلل الحاصل في موازين القوى لصالح إسرائيل أصلاً. إلى جانب أن هذه التحوّلات الكبرى قد ألغت ظروف الحرب الباردة، ومعادلة قطبي الصراع، وكرّست في الوقت نفسه  معادلة عالم أحادي القطب، كان له الأثر المباشر على الاستراتيجية العالمية بشكل عام والاستراتيجية الأميركية في المنطقة بوجه خاص، وما سوف تحمله من تداعيات على منطقة الشرق الأوسط وعلى الصراع العربي-الإسرائيلي. وهي وجدت تعبيراتها المباشرة في مؤتمر مدريد الذي قادته ورعته الإدارة الأميركية في عهد الرئيس جورج بوش الأب.

إن أحد أهم أهداف استراتيجية الإدارة الأميركية من وراء حلّ الصراع العربي - الإسرائيلي وإقامة نظام شرق أوسطي جديد، هي إعادة صوغ وترتيب المنطقة العربية بما يتلاءم وإستراتيجية واشنطن لبناء نظام عالمي جديد على أسس سياسية وأمنية واقتصادية جديدة، يتم إدخال إسرائيل خلالها في نسيج المنطقة، و من ثم تصبح المركز الرئيسي لنظامها الإقليمي.

إن الجدل الإسرائيلي الداخلي حول هذه التحوّلات والاستراتيجية الأمثل  لمواجهتها عبّر عن نفسه من خلال رؤيتين مختلفتين للتعاطي مع مكانة ودور وأهداف إسرائيل خلال هذه المرحلة. فقد رأى "اليسار الإسرائيلي" ممثلاً بحزب العمل , أن المتغيّرات فتحت أمام إسرائيل "نافذة من الفرص" الواسعة، وجعلتها قوة إقليمية كبيرة ولا بدّ بالتالي من السعي لحل إقليمي للصراع يقوم على استيعاب أي كيانية فلسطينية، وعلى الأقل، ألاّ تتناقض هذه الكيانية مع متطلّبات الأمن الاستراتيجي الإسرائيلي، وذلك خلافاً لليمين الإسرائيلي الذي قال على الدوام بسياسة الإخضاع وفرض التسويات. ولقد وجد كل من إسحاق رابين وشيمون بيرس فرصتهما في هذه التحوّلات، وفي المبادرة الأميركية، لعقد مؤتمر مدريد. الأول اتجه إلى أوسلو لعقد اتفاق سياسي مع الفلسطينيين، في حين طرح الثاني رؤيته الإقتصادية للشرق الأوسط الجديد من خلال كتابه الشهير.

 

إسرائيل والشرق الأوسط الجديد

يمكن اختصار الخطوط الأساسية لرؤية شيمون بيرس للشرق الأوسط الجديد بالمرتكزات والمعطيات  التالية:

"المدرسة الدفاعية التقليدية لا تقدّم حلولاً حقيقية للحقائق الجغرافية أو التهديدات التكنولوجية مع تطوّر الصواريخ الباليستية. في الوقت الحاضر فإن الامتيازات المادية في الاستراتيجية التقليدية مثل العوائق الطبيعية والإستحكامات الاصطناعية وحشد القوات ومواقع العمليات، لم تعد ذات قيمة في مواجهة الهجمات الصاروخية، بل وحتى الصواريخ المضّادة للصورايخ باتت لا تجدي، إضافة إلى كلفتها العالية. وذلك أدّى إلى التقليل من أهمية "العمق الاستراتيجي"، الأمر الذي يتطلّب في نظر بيرس إيجاد رؤية جديدة للنظام الإقليمي الجديد في إطار نظريته حول الشرق الأوسط الجديد وذلك للاعتبارات التالية: ([1]).

- إن مشكلة الصراع في هذه المنطقة من العالم لا يمكن أن تحل على يد دولة منفردة، أو على مستوى ثنائي أو متعدد.ّ أن التنظيم الإقليمي هو المفتاح إلى السلام والأمن، ولسوف يعزز إشاعة الديمقراطية والتنمية الاقتصادية والنمو الإقتصادي والإزدهار الفردي؛ إلاّ أن هذا التحوّل لن يتم بسحر ساحر، بل يقتضي ثورة في المفاهيم.

- إن الأصولية تشق ّ طريقها سريعاً وعميقاً في كل بلد عربي في الشرق الأوسط، مهددة بذلك السلام الإقليمي، ناهيك عن استقرار حكومات بعينها، ووسائل الإعلام الغربية هي واحدة من بين الأطراف المسؤولة عن هذا النمو، حيث يتوفّر للمتطرّفين شبكة اتصالات فوق قومية يستغلونها لخدمة أغراضهم. “وثمة ضرورة للتصدّي لهذا الخطر على نحو منظّم بغية صون الحرية والاستقرار السياسي والسلام. وهذا يكون بقيام نظام إقليمي منظّم يخلق أطراً جديدة للمنطقة، ويوفّر القدرة على النمو الإقتصادي والاجتماعي، وإطفاء نيران التطرّف الديني، وتبريد رياح الثورة الساخنة" ([2]).

- إن ارتفاع مستوى المعيشة هو شرط مسبق لخفض التوتّرات في الشرق الأوسط، وطالما كانت هنالك هوّة تفصل بين مطامح الناس وفرصهم الحقيقية داخل النظام الاجتماعي - السياسي، فإن المجال يصبح رحباً للأصولية. وإنشاء منظمة تعاون إقليمية تتحرّك على قاعدة فوق قومية، هو الرد الإيجابي بل الوحيد على الأصولية. زد على ذلك أن المنظمة الشاملة هي القدرة على إقامة منظمومة ريّ مشتركة عالية التطور”([3]) وضرورية لكبح زحف الصحراء، وتمكين البلدان من إنتاج ما يكفي من الغذاء وتوفير فرص العمل لسكانها.

- يحتاج الشرق الأوسط إلى الديمقراطية حاجة الكائن البشري إلى الأوكسجين. إن إشاعة الديمقراطية تعني خلق أداة لمهاجمة الأوضاع “المَرضية” داخل الأمم دون المساس بالأمة نفسها. وبالمقابل أثبتت الأنظمة الشمولية أنها مكلّفة وغير كفوءة وتتطلّب قوّة بوليس كبيرة وجيشاً يلمّع الأحذية، ورقابة دائمة، ويعيش المواطنون فيها في خوف دائم.

- إن بنية نظام الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط سوف تتمحور على نمطين من الالتزامات المتبادلة: أمة/أمة (ثنائية ومتعدّدة) وأمة/منطقة. والترتيبات المباشرة، أمة/أمة ستكون في ذاتها ولذاتها، بمثابة رادع للعدوان وستساعد على فرض السلام. ذلك أن الإطار الإقليمي هو وحده الذي سيسمح بتفكيك هياكل القوة ويعمل باتجاه نزع السلاح وفرض الرقابة على الأصابع الشغوفة بالزناد.

- إن مفهوم الاقتصاد الإقليمي في نظر الإسرائيليين عامة وشيمون بيرس على وجه الخصوص، ينطوي على خطوات تدريجية لإقامة جماعة تشبه كثيراً الأمم الأوروبية.فالشرق الأوسط بحاجة إلى مقاربة تشبه المقاربة التي أنشئت على خلفيتها السوق الأوروبية المشتركة.

فقد كان دمج اقتصاديات الضفّة الغربية وقطاع غزة المحتلّين أول نتائج اتفاق أوسلو التي تم التعبير عنها خلال اتفاق باريس الاقتصادي (1995) والذي بدأت تجلّياته الملموسة تدبّ على الأرض على شكل بناء مناطق صناعية وتجارية في كثير من المناطق التي تفصل بين إسرائيل وسلطة الحكم الذاتي، وربط العمالة الفلسطينية نهائياً بسوق العمل الإسرائيلية، على طريق ربط مجمل البنى التحتيّة الإقتصادية الفلسطينية بعجلة الإقتصاد الإسرائيلي.

 

قمّة الدار البيضاء الإقتصادية

وجد الزعماء الإسرائيليون في المؤتمرات الاقتصادية الإقليمية فرصتهم لتكريس إسرائيل في واقع المنطقة إقتصادياً، بعد أن ضمن مؤتمر مدريد اعترافاً سياسياً بوجودها من قبل معظم أطراف النظام العربي الرسمي، ومّهد لها اتفاق أوسلو جميع السبل للالتفاف على القضيّة الفلسطينية وإيجاد تسوية إقليمية في إطار الاستراتيجية الأمنية الإسرائيلية. لذلك كانت المشاركة الإسرائيلية في قمّة الدار البيضاء في الثلاثين من تشرين الثاني عام 1994, كبيرة وفاعلة، وكان الوفد الإسرائيلي من أكبر الوفود المشاركة، إلى جانب مشاركة مجموعة من المؤسسات الاقتصادية الإسرائيلية - الأوروبية - الأميركية - المشتركة التي تطلق على نفسها لقب "مؤسسات المبادرة من أجل السلام والتعاون في الشرق الأوسط"، وهي مجموعة معروفة باسم "جماعة الوشاح الأزرق"  تتخذ من أيرلندا مقرّاً لها. وجاء مشروع تأسيس بنك التنمية الإقليمي في مقدّمة المشاريع التي عرضتها إسرائيل على القمّة، ليقوم بتنسيق السياسات الاقتصادية للمنطقة ويحدّد أولوياتها الإقليمية التي تصبّ في خانة ازدهار الإقتصاد الإسرائيلي. وتضمنت الوثيقة الإسرائيلية مشاريع لإقامة قنوات بين البحار الأحمر والأبيض المتوسط والميّت، وخطوطاً لنقل النفط والغاز من بلدان الخليج ومصر إلى إسرائيل، وميناءً بحرياً ومطاراً في العقبة، وطرقاً برّية سريعة لربط إسرائيل بأوروبا عبر البلدان العربية، ومشروع عبّارات لربط إسرائيل مع مصر ودول الخليج، وشبكة كهربائية مشتركة لإسرائيل والسلطة الفلسطينية والأردن ومصر، ومشروعاً لنقل المياه التركية إلى إسرائيل.

وتقسّم الوثيقة الإسرائيلية الشرق الأوسط إلى خمسة مراكز، حرصت خلالها على عدم قيام رابط برّي يجمع بين سوريا ومصر ومناطق السلطة الفلسطينية، وهذه المناطق هي: المركز الشمالي ويضم (إسرائيل وسوريا ولبنان), ومراكز المنطقة العليا ويضم (سوريا والأردن والضفّة الغربية وإسرائيل), ومركز المناطق الواطئة ويضم (الأردن والضفّة الغربية وإسرائيل), والمركز الجنوبي ويضم (مصر وقطاع غزة وإسرائيل), أما المركز الخامس والأهم فهو (إسرائيل) الذي سيربط المراكز الأربعة الأخرى بطريق برّي سريع ([4]).

 

مؤتمر عمّان الإقتصادي الإقليمي

عُقدت القمّة الإقتصادية الثانية للتنمية الاقتصادية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في عمّان بين 29 و 31 تشرين الأول عام 1995, وبلغ عدد الدول المشتركة فيها) 63 (دولة،)فيما اشتركت في قمّة الدار البيضاء التي سبقته (60) دولة, وارتفع عدد الدول العربية المشاركة فيها من (12) في قمّة الدار البيضاء، إلى (13) بعد أن انضمت إليها موريتانيا.

وما ميّز تلك القمّة أنها انعقدت في ظروف سياسية معقدّة بعد أن بدأت تجلّيات أوسلو الإسرائيلية تظهر على الأرض على شكل زيادة الوتائر الاستيطانية اليهودية في الضفّة والقطاع، ومصادرة المزيد من الأراضي الفلسطينية، وحصر السلطة الفلسطينية في مناطق محدودة، ومطالبتها بلعب دور أمني، في مواجهة رفض الشعب الفلسطيني المتزايد للممارسات الإسرائيلية القمعية، وخصوصاً بعد أن تسلّم اليمين السلطة بزعامة نتنياهو، ومن ثم سقوطه ومجيء حزب العمل بزعامة باراك واتضاح السياسات الإسرائيلية حيال أوسلو. لذلك حرص الزعماء الإسرائيليون الذين حضروا المؤتمر، ولاسيما رابين وبيرس، على فصل كل ما هو سياسي عن أعمال المؤتمر، فيما قدّمت إسرائيل رسمياً وثيقة ركّزت على موضوعين: الأول، ضرورة أن تعكس السوق الإقليمية نمط الحضارة الأوروبية وجوّ التنافس بدلاً من وضع الحواجز في الطريق، والثاني، عدم ربط العلاقات الإقتصادية بعملية السلام. وأكدّت الوثيقة أن “هدف إسرائيل الأساسي هو إنشاء سوق مشتركة على غرار السوق الأوروبية المشتركة، وأن تغطي هذه السوق "منطقة الصدع" الممتدّة من سوريا إلى البحر الأحمر، عبر مصر والسعودية، كما تولي الورقة شرق الأردن أهمّية قصوى من أجل إفشال بناء جبهة شرقية فعّالة. أما عُمَان فهي مهمّة جداً لإسرائيل كموقع على الخليج والمحيط الهندي، من أجل صدّ العراق وإيران" ([5]).

كان مؤتمر عمّان الاقتصادي في نظر الإقتصاديين الإسرائيلين بمثابة قفزة نوعية إذ أدخل الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى مرحلة جديدة عندما قرّر إقامة مؤسسات إقليمية ثابتة ذات أهداف محددة للحفاظ على استمرارية فكرة الشرق الأوسط الجديد وترسيخها، حيث تمّ الاتفّاق على إقامة بنك التعاون والتنمية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ومقرّه القاهرة، برئاسة إسرائيلية، لدعم القطاع الخاص ومشاريع البنية التحتية، والمجلس الإقليمي لدعم التعاون والتجارة لإزالة الحواجز والمعوقات أمام تدفّق السلع والبضائع في إطار منطقة التجارة الحرّة، والأمانة العامة التنفيذية ومقرّها الرباط، ولجنة متابعة مجموعة العمل الإقليمية. وقد حدّد يوسي بيلين توجّه إسرائيل نحو الشرق الأوسط الجديد خلال تلك القمّة فقال:"هذه رؤيتنا للشرق الأوسط الجديد: حدود مفتوحة، تعاون إقتصادي يقود إلى نموّ إقتصادي، حرّية حركة الأشخاص والمنتوجات والخدمات عبر الحدود»، فيما دعا إسحاق رابين العرب إلى عدم تأجيل العلاقات الاقتصادية حتى تكتمل عملية السلام"([6]).

 

قمّة القاهرة الإقتصادية

عُقد مؤتمر القاهرة الإقتصادي للتنمية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بين 12 و 14 تشرين الثاني 1996 تحت ضغوط أميركية على الدول العربية، في ظل تراجع الحكومة الإسرائيلية عن اتفاق أوسلو، وزيادة وتائر الاستيطان، والتهديدات المستمرة بإشعال الحرب ضد سورية، والتخلّي عن مبدأ الأرض مقابل السلام. لكن ما يميّز هذه القمّة أنها انعقدت بإشراف المنتدى الاقتصادي العالمي (دافوس) ومجلس العلاقات الخارجية الأميركي. وقامت الولايات المتحدة رسمياً بتوجيه الدعوات إلى ثلاث مجموعات رئيسية تتمثّل بالوفود الرسمية التي تمثّل تسعين دولة، ورجال أعمال من المهتمّين بالمنطقة (حوالي 1500) ومجموعات من المفكّرين والأكاديميين والكتّاب وممثّلي الصحافة ووسائل الإعلام. ومثّل إسرائيل وفد رفيع المستوى وكبير العدد ضمّ أكثر من ثلاثمائة عضو من رجال الأعمال والسياسيين والمفكّرين في المجالات كافّة برئاسة رئيس الحكومة نتنياهو ووزيري الخارجية والمالية، إلى جانب شيمون بيرس صاحب مشروع الشرق الأوسط الجديد. وفيما حثّ نتنياهو رجال الأعمال الإسرائيليين على المشاركة في المؤتمر قائلاً لهم: "هبّوا إلى عقد الصفقات، فهذا جيد لكم أكثر منه للعرب"، أكّد شيمون بيرس على أن الشرق الأوسط الجديد يرتكز على التنمية الاقتصادية قبل السلام، وأن عملية السلام في المنطقة يجب أن تسير على قدمين إحداهما سياسيَّة والأخرى إقتصادية" ([7]).

 

مؤتمر الدوحة الإقتصادي الإقليمي الرابع

عقد هذا المؤتمر في13 /11/1997 وكانت نتائجه الفاشلة معروفة مسبقاً وذلك بسبب الخلافات العربية حول مكان انعقاده وجدول أعماله. وعلقّت صحيفة "الحياة" على نتائج هذا المؤتمر من خلال قول نسبته إلى وزير الخارجية الأميركية جاء فيه: "إذا ما فشل مؤتمر الدوحة فإن مسؤولية ذلك ستقع على عاتق إسرائيل التي حالت بسبب عنادها دون تقدّم عملية السلام" ([8]). غير أن الإنجاز الوحيد التي خرجت به إسرائيل من هذا المؤتمر هو التوقيع على اتفاقية لإنشاء منطقة التجارة الحرّة في إربد بين الأردن وإسرائيل.

 

منطقة تجارة حرّة في الشرق الأوسط

تسبّب اقتراح الرئيس الأميركي بعقد اتفاقية إنشاء منطقة تجارة حرّة في الشرق الأوسط بأصداء كثيرة في الأوساط الأكاديمية والاقتصادية الإسرائيلية. ففيما سارعت بعض الجهات السياسية والاقتصادية في إسرائيل إلى حثّ الحكومة للمسارعة في وضع الخطط والبرامج والاستعداد لهذا الحدث باعتباره يشكّل إحدى اللبنات الاقتصادية الأولى لشرق أوسط كبير بعد احتلال العراق، حذّرت جهات إسرائيلية أخرى من المخاطر التي قد ينطوي عليها هذا الاقتراح على الاقتصاد الإسرائيلي. وفي معرض تناوله للاقتراح، نشر مركز ديَّان لدراسات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ([9])، رؤية إسرائيلية حول جدوى ومخاطر هذا الاقتراح، استعرض تلك المخاطر التي تكمن في تدفّق البضائع العربية على منطقة التجارة الحرّة المفتوحة، وإمكانية أن تحلّ جزءاً من أزمة العمالة العربية، وتضعف اتفاقية التجارة الحرّة المعقودة بين إسرائيل والولايات المتحدة. والمثال الحي على ذلك من وجهة نظر تلك الدراسة، المنافع التي حققها الأردن بعد التوقيع على اتفاقية التجارة الحرّة مع الولايات المتحدة، والتي أدت إلى زيادة مثيرة في الصادرات الأردنية إلى الولايات المتحدة، إذ ارتفعت قيمتها بشكل كبير، ووفّرت نحو 40 ألف فرصة عمل جديدة في قطاعات الاقتصاد الأردني.

وترى جهات اقتصادية إسرائيلية بأن اقتراح الرئيس بوش ليس الوحيد المطروح  على طاولة البحث في هذا المجال، فهناك اقتراح برشلونه عام 1995 الذي اقترح الاتّحاد الأوروبي عبره إنشاء منطقة تجارة حرّة شرق - أوسطية حتى عام .2010 وباعتبار الاتّحاد الأوروبي عملاقاً اقتصاديًا, فإن تأثيره على الأسواق العربية لا يقل عن تأثير الولايات المتحدة، إذ بلغ دخله عام 2001 نحو 800 بليون دولار، وبلغت قيمة صادراته نحو 1300 بليون دولار )دون احتساب صادرات دول الاتّحاد إلى بعضها البعض,( وتساوي إيراداته من الدول العربية نحو 67 بليون دولار، فيما وصلت قيمة صادراته إلى الأسواق العربية نحو 73 بليون دولار. ويسعى الاتّحاد الأوروبي، بحسب الدراسة، إلى ضمّ اثنتي عشرة دولة شرق أوسطية جديدة إلى الاتّحاد الأوروبي كشركاء في منطقة التجارة الحرّة الأوروبية ([10]) إضافة إلى دول من وسط وشرق أوروبا المرشّحة للعضوية الكاملة للاتحاد.

وتشمل هذه المنطقة إذا ما تحقّقت 40 دولة تضم ما بين 600 و 800 مليون زبون ومستهلك، الأمر الذي يوفر للإتحاد سهولة الوصول إلى أسواق الشرق الأوسط ودول وسط وشرق أوروبا، ويمنحه بالتالي حظوظاً أكثر مما هو متوفّر بالنسبة للإقتراح الأميركي. وأكدّ إقتصاديون كبار من البنك الدولي على أهمية إقتراح بوش، من حيث أنه يسهّل سبل وصول الدول النامية إلى أسواق الدول الصناعية، ووصول السلع والبضائع من دول الشرق الأوسط إلى الأسواق الأميركية، على اعتبار أن قوانين التجارة الأميركية أكثر ليبرالية من تلك القائمة لدى دول الاتّحاد الأوروبي. لكن المسألة الأكثر حراجة من وجهة نظر الدراسة هي قوانين التجارة العالمية الإقليمية في المنطقة وحجم المنتجات المعدّة للتصدير قبل أن يتم تصنيفها على أنها منتجات محلّية، وهو أمر يستدعي مزيداً من التدخل الحكومي إقليمياً في القوانين المذكورة، ويشجّع دول المنطقة على التعاون الإنتاجي، وبالتالي يحفزّ على إنشاء مناطق تجارية حرّة داخل منطقة الشرق الأوسط حصراً. وتدلل الدراسة على ذلك بقولها أن العديد من الدول خارج الشرق الأوسط قد استفاد من تزايد عملية الاندماج بالاقتصاد العالمي. فالصين وكوريا الجنوبية والهند وفيتنام زادت بشكل كبير من منتجاتها المصدّرة، الأمر الذي أدىّ إلى ارتفاع مستويات الدخل والعمالة لديها، وزادت نسبة صادراتها بين عاميّ 1998-1999 إلى أكثر من 120%.

وترى الدراسة أن الخطورة الاقتصادية التي تنشأ عن دخول الدول العربية في سوق تجارية حرّة مع الولايات المتحدة أو الاتّحاد الأوروبي، تكمن في إغراق أسواق المنطقة بالبضاعة العربية، بينما تسعى معظم الدول العربية إلى إزالة المزيد من القيود الضريبية على الصادرات والواردات، ما قد يترك تأثيرات كبيرة على الإنتاج المحلّي وقاعدة الدخل القومي في المنطقة برّمتها.

وحول دوافع كل من الولايات المتحدة والاتّحاد الأوروبي من وراء إقامة مناطق تجارة حرّة في المنطقة، تقول الدراسة، بأن الولايات المتحدة تسعى بوضوح إلى زيادة صادراتها إلى الأسواق العربية، وتشجّع على تطوير اقتصاديات البلدان العربية لزيادة شهية هذه الأسواق إلى مزيد من الصادرات الأميركية. لذلك فإن اتفاقية التجارة الحرّة التي تقترحها الولايات المتحدة قد تتجاوز تلك الاتفاقيات المطروحة من قبل الاتّحاد الأوروبي، أو قد تنافسها على الأقل، فيما يسعى الاتّحاد الأوروبي إلى ضمان أوسع مشاركة له في أسواق البلدان العربية، ويعمل على تسريع عملية تطوير اقتصاديات هذه البلدان بسبب خشيته من هجرة جماعية لعمال عاطلين عن العمل من البلدان العربية، ويعمل كذلك لضمان وصول الطّاقة (النفط) إلى أسواقه أسوة بالولايات المتحدة، ورغم ذلك فإن أسواق دول الاتّحاد الأوروبي لن تكون مفتوحة بالكامل أمام المنتجات الزراعية والصناعات الأساسية للدول العربية غير النفطية.

وتستخلص الدراسة بأن تسويق البضائع ليس بالأمر السهل، واتفاقيات مناطق التجارة الحرّة لا تعني نهاية وضع القيود على السلع على نحو أوتوماتيكي، وهي قيود تشمل في العادة، المنتجات الزراعية بالنسبة للاتحاد الأوروبي على الأقل، والذي أنفق عليها نحو 95 مليون دولار، مقابل 49 مليون دولار أنفقتها الولايات المتحدة على المنتجات ذاتها، إلى جانب أن الدول النامية ولاسيما الدول العربية من بينها، تحتاج إلى خبرات للتسويق والتحكّم بالنوعية وقيام حكومات منفتحة، إضافة إلى ضرورة تحرير تجارتها الخارجية وإعطاء دور أكبر للقطاع الخاص ودور أصغر للقطاع العام. ورغم ذلك فقد أفلحت الكثير من الدول النامية في دفع عملية تحرير اقتصادياتها.

 

إسرائيل بين الشرق الأوسط الجديد والشرق الأوسط الكبير

عقد من الزمن فصل تقريباً بين طرح بيرس لمبادرته عن"الشرق الأوسط الجديد" والمشروع الأميركي عن "الشرق الأوسط الكبير"، وقد جرت خلاله أحداث ومتغيّرات على المستوى الإقليمي والدولي، كان لها الأثر الكبير على مجريات الأحداث السياسية الإقليمية والعالمية على السواء. فإذا كان مؤتمر مدريد قد شكّل تعبيراً واضحاً لمجمل المتغيّرات التي ألمّت بالعالم والمنطقة، فإن العقد الأخير قد حمل الكثير من المتغيّرات التي أثّرت بشكل مباشر على الرؤية الأميركية وكان مؤتمر مدريد وكذلك مشروع بيرس، يشكّلان دلالتين رئيسيتين على استراتيجية الولايات المتحدة حيال المنطقة. فاتفاق أوسلو ومشتقاته المختلفة، واندلاع الانتفاضة، وأحداث 11 أيلول، والحرب الأفغانية، ومن ثم غزو العراق واحتلاله، كان لها الأثر البالغ على تشكّل السياسات الاستراتيجية الأميركية التي ترى إسرائيل جزءاً أساسياً منها.

إن وصول التسويات لحل الصراع العربي - الإسرائيلي، وفي مقدّمتها اتفاق أوسلو، إلى طريق مسدود، واندلاع انتفاضة الأقصى، قد أثّر على السياسات والطروحات السياسية. فقد أفشلت الانتفاضة المنطق الإسرائيلي في التعاطي مع التسويات، وفرضت منطقاً آخر كانت إسرائيل تحتاج فيه كل مرة، إلى الغطاء السياسي الأميركي. وكانت المبادرات السياسية تحمل في كثير من الأحيان "أسماء حركيّة" مختلفة للأمن الإسرائيلي. ثم إن تداعيات الانتفاضة على مجمل الأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية كان لها الأثر البارز على مجمل التراجعات التي منيت بها السياسات الاستراتيجية الإسرائيلية على المستوى السياسي أولاً والمستوى الاقتصادي ثانياً، على الرغم مما تركته تداعيات 11 أيلول والغزو الأميركي لكل من أفغانستان والعراق، وفوضى وتآكل النظام العربي، من نتائج إيجابية على المستوى الاستراتيجي إسرائيلياً، وهو الأمر الذي دفع معظم رؤساء الحكومات الإسرائيلية إلى إعادة النظر في كثير من الجوانب الأساسية للسياسات الاستراتيجية المتعلّقة بالصراع، سواء كان ذلك باتجاه الحل السياسي أو العسكري، وأصبحت العلاقة الإسرائيلية الاستراتيجية مع أميركا إحدى أهم المرتكزات في السياسات الإسرائيلية، ولا سيما في عهد شارون، وعلى قاعدة الوضوح التام الذي باتت تّتسم به السياسات الأميركية بعد غزو العراق حيال المنطقة بشكل عام والصراع العربي الإسرائيلي بشكل خاص، وبات بوسع الزعماء الإسرائيليين التركيز على أكثر القضايا أهمية بالنسبة إليهم، على اعتبار أنها ستصبح جزءاً لا يتجزّأ من السياسات الأميركية التي تتعلّق بالمنطقة. لذلك حرص شارون على رفع مستوى التعاون الاستراتيجي مع واشنطن من درجة التماثل إلى درجة التطابق.

وإلى جانب التأكيدات الأميركية بالحفاظ على أمن إسرائيل، فقد شكّلت "التفاهمات" التي عبّر عنها الرئيس بوش الإبن، أوج الالتزامات الأميركية بالأمن الإسرائيلي وخصوصاً في البند الذي يقول "بأن الولايات المتحد ة تلتزم بالحفاظ على الأمن الإسرائيلي، وعلى قوّة إسرائيل، وتعزيز قوّة ردعها في مواجهة أي تهديد منفرد أو جماعي"([11]).

واستغلّت إسرائيل أحداث الحادي عشر من أيلول وتداعياتها على المجتمع الأميركي بحيث دفع شارون بمقارنته المعروفة "لكم بن لادنكم ولنا بن لادننا" ([12]) لتشكّل الأرضية المشتركة للسياسات الأميركية حيال استمرار الصراع على الأراضي الفلسطينية.

إّن حرق الأوراق العربية أدّى إلى تسجيل اختراقات مستمرة في المواقف العربية المبدئية تجاه إسرائيل، وتوّج ذلك استمرار الضغط الأميركي على الأنظمة العربية لإقامة علاقات مع إسرائيل على الرغم من تداعيات الصراع، على اعتبار أن الفوضى العربية الشاملة شديدة الإغراء لإسرائيل للمشاركة في تنظيم المنطقة العربية وفق المشاريع الاستراتيجية الأميركية وعلى رأسها مشروع الشرق الأوسط الجديد من جهة، ولأن الفوضى العربية وتآكل النظام العربي الرسمي يفتح آفاقاً كبيرة أمام المزيد من الاختراقات السياسية والإقتصادية الإسرائيلية([13]).

وانطلاقاً من تجارب الشتات اليهودي، تشكّلت لدى إسرائيل قناعة مفادها قدرة الفيتو اليهودي على تحقيق مكاسب تفوق حجمه بأضعاف. ولذلك كانت إسرائيل مستعدة على الدوام للتورّط في مناطق الفوضى الديموغرافية، من جهة، وتكريس (الغيتو اليهودي الكبير) عبر التحكّم بالعامل الديموغرافي اليهودي وزيادته على الدوام (استجلاب المهاجرين), ونفي العامل الديموغرافي الفلسطيني بكافة السبل)الترانسفير (باعتباره أحد عوامل الصراع في المرحلة الراهنة، وأحد التحدّيات الاستراتيجية التي تواجهها إسرائيل من جهة ثانية.

إن التراجع الكبير الذي أصاب معدّلات النمو الإقتصادي الإسرائيلي، وتراجع معدّلات الإنتاج في القطاعات الإسرائيلية، وارتفاع معدّلات التضخّم  والبطالة، كل ذلك كان نتيجة مباشرة لاستمرار الصراع مع الفلسطينيين،  وبالتالي فإن وقف تدهور الاقتصاد الإسرائيلي رهن بوقف الصراع المسلّح مع الفلسطينيين، ورهن أيضاً بتدفّق المساعدات الاقتصادية والمالية والعسكرية الأميركية لإسرائيل([14]).

مع هذه "التخريجات" الإسرائيلية للأوضاع الصعبة وفي ضوء استمرار وتصاعد الصراع على الأرض الفلسطينية، يقتضي بالضرورة إلصاق المصالح الإسرائيلية على نحو عضوي بالمصالح الأميركية على ضوء إدراك الزعماء الإسرائيليين أن الرغبة الأميركية تقوم على تخطي المفهوم الجغرافي للشرق الأوسط.

 

إسرائيل والشرق الأوسط "الصغير والذكي"

"الانتقادات العربية، والرغبة في أن تقدّم أوروبا صيغاً ومقترحات إصلاحية، أدّت إلى إدخال تغييرات على الصيغة الأميركية اللاساميّة "للشرق الأوسط الكبير" وتخفيف العديد من جوانبها الحادّة. والتغيير الأبرز يجد تعبيراته في  المصطلحات اللغوية. فالحديث بداية لم يكن يدور عن "شرق أوسط كبير"  وإنما عن"شرق أوسط موسّع" مساحته الجغرافية تمتد من شمال أفريقيا وتنتهي في الباكستان وماليزيا؛ لكن التعبيرات اللغوية الأميركية باتت تستخدم مصطلحاً يحمل دلالات أصغر"للشرق الأوسط" الذي تريد أميركا إصلاحه ليشمل الآن دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ودول الخليج؛ وليس لهذا التغيير تعبيراته اللغوية فحسب، وإنما ثمّة  تغيير شامل في الخطة وفي القرار يستجيب للتحفّظات والشكاوى العربية التي ترى أن المشروع الأميركي لم يكن سوى محاولة لاستيعاب الدول العربية والإسلامية والهيمنة عليها، باعتبارها لا تعرف معنى الديموقراطية ولا كيفية صون حقوق الإنسان([15]). ويرى معظم المحلّلين الإسرائيليين أنه بالنظر إلى ردود الأفعال الأوروبية على  المشروع الأميركي، فإن واشنطن لم تغلق أبواب الحوار، لأن معارضة الدول العربية كانت فاقعة لها. "فالأنظمة العربية ودول "الشرق الأوسط الكبير" وفي مقدّمتها مصر التي تحمل لواء المعارضة، تدّعي أن الحديث يدور حول محاولة أميركية  لفرض مشروع من الخارج، وإن الدوافع وراء ذلك ليست سوى مساع مكشوفة لإبطال مؤسسات العمل العربي المشترك، وفرض الثقافة الغربية وأساليبها على العالمين العربي والإسلامي. إلى ذلك فإن وصول السياسات الأميركية في العراق إلى طريق مسدود، سواء على صعيد الرفض للاحتلال، أو على صعيد تنامي وتصاعد المقاومة العراقية، والموقف الأوروبي المعارض حيناً  والمتحفّظ في كثير من الأحيان على الاستراتيجية الأميركية في العراق، كل ذلك ترك تأثيره المباشر على المشروع الأميركي للشرق الأوسط الكبير، وعلى صيغته النهائية كما طرح في قمّة الثماني ومن ثم في قمّة "اسطمبول". فالصيغة الأخيرة للمشروع التي نشرتها صحيفة هآرتس تقول: “إن مشروع الشرق الأوسط الكبير يعرض تنوّعاً شاملاً من أنواع المساعدات، وباستطاعة جميع الإصلاحيين في المنطقة أن يستمدّوا آراءهم منها، إلى جانب أنها خطة ديناميكية معدّة لأن تتوسع مع الوقت وأن تتغير في سياق الواقع العملي لكل حكومة" ([16]).

الخطة أو الصيغة الأميركية الجديدة والمنقحة "للشرق الأوسط الكبير" المطروحة على قمّة دول الثماني، تركزت "بقائمة طعام" متنوعة وتجاهلت مطالب وشروطاً أميركية وردت في صيغ المشروع السابقة، ويجري تقديمها على أنها مبادرة شاملة ومتنوعة، من ضمنها "إقامة منتدى شرق أوسطي" وصندوق دولي من أجل تسريع الديمقراطية، وخطة للتعليم، وكيفية تعليم رجال الأعمال القيام بمبادرات جماعية لدعم الديموقراطية، وصناديق استثمارية متنوعة"، على ألاّ ننسى أنّ هذه الأطر ليست بديلاً عن مؤسسات الجامعة العربية.

والأهم من ذلك في نظر الإسرائيليين أن الخطة الأميركية الجديدة دفعت بمسألة الصراع العربي - الإسرائيلي إلى أسفل بنود القائمة. ويذكر ان صيغة المشروع الجديد تركزت على "أن حل الصراع المذكور سوف يعزز الإصلاحات والديموقراطية في المنطقة، ما يعتبر تسوية أميركية ضرورية لتمرير الخطة ليس إلا" ([17]). وحسب ما يقوله "رون ميلر"، الباحث في معهد بروكنز، والمستشار السابق في وزارة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط، فإن الخطة الأميركية الجديدة المطروحة على الدول العربية هي مجرد قائمة طعام يومية أكثر منها خطة إصلاحات. فالولايات المتحدة تخلّت عن الكعكة قبل تقسيمها، وهي تحتفظ لنفسها بالفكرة المركزية في جلب الديمقراطية والإصلاحات الى الشرق الأوسط ([18]).

من جانب آخر تشبّه مصادر أميركية المبادرة الاميركية بأنها أشبه بصيغة اتفاق هلسينكي عام 1975 التي ارتكزت على حقوق الإنسان والديمقراطية واقتصاد السوق في دول الاتّحاد السوفياتي سابقاً، والتي كان لها الأثر الكبير في بروز الإصلاحيين في تلك الدول.

ويرى المحللون الإسرائيليون أن المبادرة الأميركية قد انخفضت في كثير من مستوياتها وأبعادها الجغرافية، وأن الأميركيين سوف يكتفون بصيغة "شرق أوسط صغير وذكي"، وهي صيغة تقترب إلى حد كبير من المطامح الإسرائيلية التي باتت ترى أن علاقاتها مع المنطقة لا تتجاوز البعدين الإقتصادي والجغرافي، باعتبارها الدولة الديموقراطية الوحيدة التي تحرص على أن تكون جزءاً من الثقافة الغربية، وليس جزءاً من المنطقة ثقافياً وحضاريا ([19]).

 

قمّة اسطمبول بين الشرق الأوسط الكبير والحوار الأوروبي المتوسطي

اكتسبت قمّة الثماني في نظر الإسرائيليين أهمية خاصة كونها أخرجت "مشروع الشرق الكبير" من كونه اختياراً أميركياً ليصبح مسؤولية الثماني الكبار. ولكن ما لفت نظر الإسرائيليين في تلك القمّة هو المكانة التي حظيت بها تركيا خلال القمّة. ولم يكن عبثاً توجّه الرئيس بوش إلى رئيس وزراء تركيا بالقول :"أنت رجل عظيم"، باعتبار أن تركيا، وفي عهد “حزب العدالة والتنمية الإسلامي” باتت  “النموذج الإسلامي المعتدل” الذي تود أميركا أن تقدمه للمنطقة ([20]).

وإلى جانب رهان دول الاتّحاد الأوروبي وبعض الدول العربية على فوز الرئيس بوش الإبن بمنصب الرئاسة ثانية، فإن دول الاتّحاد الأوروبي شرعت في تفعيل الحوار الأوروبي - المتوسطي، بعد أن شكّلت إطاراً خاصاً لهذا الغرض تحت اسم "لجنة سفراء دول الحلف" في بروكسيل، مركز حلف الناتو. واختارت هذه اللجنة تسع دول في الشرق الأوسط والخليج وشمال أفريقيا لتسريع آفاق الحوار مع دول الاتّحاد الأوروبي داخل منظمة حلف الناتو "وكانت المحاولات المصرية خلال ذلك كله بارزة من أجل الحصول على فيتو يمنع إسرائيل من لعب دور مركزي في مشروع الشرق الأوسط الكبير، عندما لم تتم دعوة أيّ من المسؤولين الإسرائيليين ولا حتى السفير الإسرائيلي في بلجيكا لاجتماع اللجنة"([21]).

فالحوار المتوسطي لا يتركز في نظر الإسرائيليين حول نقاء الشرق الأوسط، وموريتانيا والأردن ليستا من الدول المتوسطية. وعلى الرغم من  أن الحوار لا يجري بين طرفين متكافئين، فإن الأوروبيين يطمحون إلى أن تكون لهم الحصّة الأكبر في مشاريع الإصلاح التي قد تنشأ عن مشروع الشرق الأوسط الكبير، إلى جانب إحداث توازن بين التأثير الأوروبي والمساعي الأميركية. ومن أجل ذلك كثر الحديث في قمّة اسطمبول حول صيغة أوروبية التقى حولها زعماء الاتّحاد الأوروبي في حلف الناتو، حول "ترشيد العلاقة المتوسطية". ولهذا طار معاون السكرتير العام للحلف "الكساندر منتوريشو" إلى عواصم دول القمّة عشية انعقادها في اسطمبول.

على أية حال، "بالقدر الذي ركزّ فيه الأميركيون على تركيا (دوراً ومكانة) في سياق تمرير مشروع الشرق الأوسط الكبير في قمّة اسطمبول، كان التركيز الأوروبي مماثلاً على مصر بالنسبة للحوار الأوروبي المتوسطي من جهة، ولإحداث نوع من التوازن بين المشروع الأميركي للشرق الأوسط الكبير والرؤية الأوروبية لهذا المشروع"([22]).

وأياً تكن الصيغة النهائية التي ستخرج بها الولايات المتحدة مشروعها للشرق الأوسط الكبير، فالمواقف الدولية (الأوروبية(عامّة والإقليمية (العربية والإسرائيلية) حياله، لا زالت على حالها، كما أن التطوّرات المتسارعة في العالم وفي المنطقة، ولا سيما المأزق السياسي والعسكري الذي تعيشه السياسات الأميركية في العراق، واستمرار الصراع الجاري على الأرض الفلسطينية، واحتمالات فوز بوش في الانتخابات أو عدمه، هي التي سوف تحدّد مصير هذا المشروع، رغم احتمال عدم تبدّل السياسات الأميركية، في حال فوز بوش الإبن أو خسارته.

 

خلاصة

كانت المنطقة العربية أو ما اصطلح عليه حديثا بالشرق الأوسط، محطّ أنظار الإمبراطوريات قديماً والقوى الكبرى حديثاً، بحكم ما تتميّز به من سمات جغرافية وسياسية وإقتصادية وحضارية. فقد اهتمت الإمبراطورية البريطانية بها في نهاية القرن السابع، عندما أدركت أن السيطرة عليها تسلتزم وجود رأس حربة )استيطانية (تحول دون وحدة المنطقة العربية جغرافياً، وتؤمّن للقوى الأوروبية الاستعمارية، القديمة والحديثة، مصالحها فيها. ومن هنا، لم يكن يتسنّى للمشروع الصهيوني أن يرى النور على الأرض الفلسطينية، لولا ركوبه على أجنحة المشروع الاستعماري البريطاني في فلسطين الذي عبّر عن نفسه بوعد بلفور الشهير. وفي الوقت نفسه حرص زعماء الحركة الصهيونية وفي مقدّمتهم "هرتسل" على تعريف الدولة اليهودية في حال تحقّقها على حساب الدولة الفلسطينية بأنها: "بوابة الحضارة الأوروبية في مواجهة البربرية الشرقية العربية والإسلامية"، في حين أدرك قادة إسرائيل في ما بعد، وعلى رأسهم "بن غوريون"، ضرورة نسج علاقات ذات طابع استراتيجي مع دول خارج المحيط العربي، إلى جانب المراهنة على كثير من الظواهر الأثنية والطائفية والدينية داخل هذا المحيط. وركزت السياسات الاستراتيجية الإسرائيلية عبر تاريخها على الدخول في تحالفات استراتيجية مع قوى إقليمية غير عربية وخارج البيئة الاستراتيجية العربية، تارة بإنشاء تحالف مع إيران الشاه، وأخرى مع تركيا وأثيوبيا، إلى جانب اعتبار إسرائيل نفسها جزءاً عضوياً مما أسمته “العالم المتنوّر”، وهي جنّدت نفسها على الدوام في خدمة المشاريع التي تستهدف السيطرة على المنطقة العربية ومقدرّاتها، بل إنها خاضت المزيد من الحروب في هذا السياق. فلا غرو أن تربط وجودها ككيان أنشئ بالقوة في المنطقة، بمشروع الشرق الأوسط الجديد ومشروع الشرق الأوسط الكبير.

لقد أحدثت التحوّلات الكبرى التي ألمّت بالعالم والمنطقة في نهاية القرن الماضي، إلى جانب التحوّلات السياسية والأمنية والإقتصادية والاجتماعية الإسرائيلية، خللاً كبيراً في موازين القوى، لصالح الولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل، وجدت تعبيراً لها في مبادرة الرئيس بوش الأب، بعقد مؤتمر مدريد لحل الصراع العربي - الإسرائيلي، ومن ثم بالمبادرة الأميركية في بناء شرق أوسط جديد في سياق خطّتها لبناء عالم جديد.

ويتمحور الجدل الإسرائيلي حول هذه المتغيّرات وحول الاستراتيجية الإسرائيلية الأمثل لمواجهتها. وقد عبّر عن نفسه من خلال وجهتي نظر مختلفتين. فقد رأى اليسار الإسرائيلي، وحزب العمل خصوصاً، أن هذه المتغيّرات قد فتحت أمام إسرائيل "نافذة فرص كبيرة"، قد تعتمدها كقوة إقليمية في سياق حل مرتقب للصراع العربي - الإسرائيلي على أساس مقولة "الأرض مقابل السلام" التي قام عليها مؤتمر مدريد، وعلى قاعدة استيعاب أية كيانية فلسطينية قد تنشأ عن التسوية، ولا تتناقض مع متطلّبات الأمن الإستراتيجي. أما اليمين الإسرائيلي فاعتمد باستمرار سياسة الفرض بالقوة. وقد وجد كل من إسحق رابين وشيمون بيرس فرصتهما في هذه التحوّلات لحلّ الصراع وبناء شرق أوسط جديد، فاتجه الأول إلى أوسلو لعقد اتفاق سرّي مع الفلسطينيين، في حين طرح الثاني رؤيته للشرق الأوسط الجديد.

رغم ذلك فالكثيرون من السياسيين الإسرائيليين اعتبروا أن الاتفاقات المعقودة مع الفلسطينيين، ولا سيما اتفاق أوسلو، سيحمل مخاطر كبيرة على إسرائيل على الصعيدين الإقتصادي والديموغرافي. إن الأحداث التي حصلت في الفترة الواقعة ما بين انعقاد مؤتمر مدريد واندلاع انتفاضة الأقصى والحرب الاميركية على العراق ووصول التسويات السياسية إلى طريق مسدود حملت تأثيرات إيجابية وسلبية على السياسات الاميركية والإسرائيلية على السواء. فالحرب على العراق واحتلاله أزالا من قائمة ما سمي "التهديدات الإستراتيجية التي تحدق بإسرائيل"، قوة إقليمية  كبيرة، وبروز المقاومة العراقية ورفض الشعب العراقي للسياسات الاميركية، خفّض كثيراً من سقف التوقّعات الإسرائيلية المتوهّجة حيال الوضع الجديد في العراق. غير أن الحدث الأكثر تأثيراً على الواقع السياسي والأمني والإقتصادي والاجتماعي الإسرائيلي، كان اندلاع انتفاضة الأقصى وما تركته من تداعيات ومفاعيل كبيرة وعميقة الأثر على جميع المستويات، الأمر الذي دفع السياسات الإسرائيلية للتركيز على الأولويات القومية  التي نشأت في ظل استمرار الانتفاضة، بعد أن ارتقى مستوى التعاون الاستراتيجي الأميركي - الإسرائيلي إلى درجة التماثل بين الطرفين بعد أحداث الحادي عشر من أيلول، وأصبحت الأولويّات القومية الإسرائيلية على صعيد "الأمن" وما سمّي بمحاربة الإرهاب وتسوية الصراع مع الفلسطينيين، جزءاً من أجندة الإدارة الأميركية.

وبصرف النظر عن الظروف والأسباب والدوافع من وراء طرح الإدارة الأميركية لمشروعها للشرق الأوسط الكبير، فإنه واجه معارضة أوروبية واضحة، وممانعة عربية رسمية وشعبية واضحة أيضاً، في حين اعتبرته إسرائيل محصّلة للأهداف والطموحات الأميركية المشتركة في ظل الظروف الدولية الجديدة. وعلى اعتبار أن هذا المشروع من بنات أفكار الحلف اليميني الأميركي - الصهيوني المحافظ، فهذان المعارضة والتحفظ العالميان عليه دفعا المحلّلين الإسرائيليين إلى دعوة الإدارة الأميركية للاكتفاء بمشروع "شرق أوسط صغير وذكي" بعد أن ضمنا تحوّله إلى مشروع دولي بموافقة الدول الثماني الكبرى  في قمّتها المنعقدة في نهاية حزيران الفائت، ليصبح إطاراً فكرياً وسياسياً يعمل على أساسه جميع "الإصلاحيين" في المنطقة، مع إقامة أطر إقليمية ودولية ومنتديات وأدوات لتسريعه. غير أن ما أثار حفيظة الإسرائيليين في قمّة الثماني وفي مؤتمر أسطمبول بعد ذلك، المكانة المميزة التي أسبغتها الإدارة الأميركية على تركيا باعتبارها، في ظل نظام حكم حزب العدالة والتنمية الإسلامي، نموذجاً"للإسلام السياسي" الذي تريده واشنطن أن يسود في المنطقة.

وفي الاستنتاجات النهائية فإن المشروع الأميركي للشرق الأوسط الكبير قد انخفض كثيراً في مستوياته الجغرافية، وسيكتفي الأميركيون على ما يبدو بصيغة “شرق أوسط صغير وذكي”، وهي صيغة تستجيب بل تقترب إلى حدّ بعيد من المطامح الإسرائيلية التي باتت ترى أن علاقاتها مع المنطقة بشكل عام لا تتجاوز البعدين الجغرافي والاقتصادي، باعتبارها (الدولة الديمقراطية) الوحيدة التي تحرص على أن تكون جزءاً عضويّاً من الثقافة الغربية، وليس جزءاً ثقافياً أو حضارياً من المنطقة.

 

[1]  الشرق الأوسط الجديد، شيمون بيرس، ترجمة محمد حلمي عبد الحافظ، الأهلية للنشر، 1994.

[2]  المصدر رقم (1).

[3]  المصدر رقم (1).

[4]  المصدر رقم (1).

[5]  د.غازي حسين، المؤتمرات الإقتصادية الإقليمية، إتحاد الكتاب العرب، دمشق 1998.

[6]  دافار، 28/12/1995.

[7]  الرأي العام الكويتية، 30/10/1995

[8]  الحياة، 9/11/1996.

[9]  السفير، 10/11/1997

[10]  سو زير، مركز ديّان لدراسات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، 2003

[11]  إذاعة الجيش الإسرائيلي

[12]  السفير, 10/11/1997.

[13]  ارون ميلر – هارتس 6/6/2004.

[14]  المعضلات التي تواجه العرب بعد احتلال العراق، مركز ديّان للدراسات، 2004.

[15]  الوف بن, هارتس 13/6/2004.

[16]  شرق أوسط صغير وذكي، نتان غوتمان، هآرتس، .7/6/2004

[17]  دراسة اصدرها مجلس الأمن القومي الإسرائيلي, المشهد الإسرائيلي 15/3/2004.

[18]  المصدر رقم 10.

[19]  المصدر رقم 17.

[20]  المصدر رقم 16.

[21]  تركيا في مسار الشرق الأوسط الكبير، جنكيز تشان دار، مركز أوراسيا للدراسات، 12/3/2004.

[22]  العلاقة المتوسطية والدور المصري، أمير أورن، هآرتس، 30/6/2004.

A Small but Smart Middle East
The Arabic region or what is recently  called the middle east was the center of focus of the empires in the past and the great  powers in these days by virtue of its geographic, political, economic and cultural characteristics.
The great changes which hit the world and the region at the end of the last century , in addition to the political , economic, security and social Israeli changes caused a defect in the balance of powers in favor of the united states and its ally Israeli , and was formulated in the initiative of the president   Bush the father in the conference of Madrid aiming to solve the Arabic Israeli conflicts and then in the American initiative to build a new middle east in the context of its plan to build a new world.
The Israeli polemics tackles these changes and the best Israeli strategies to confront them this polemics expresses itself through three different points of view.
The Israeli left parties and especially the labor party considers that these changes offered great opportunities to Israel which it can adapt as a regional power in the context of a prospective solution of the Arabic Israeli conflict on the basis of “ The land against peace” which was the basis of the Madrid convention and on the basis of assimilating any Palestinian entity which might result form the settlement and do not contradict the requirements of the strategic security.
On the other hand, the Israeli right parties adapt continuously the policy of obligation by force. Itzhak Rabin and Shemon Perez have found their chances in these changes to solve the conflicts and  build a new middle east . the first one turned to Oslo to conclude a secret  agreement with  the Palestinians while the second one has introduced his perspective  towards the new middle east putting aside the situations, the causes and tendencies behind the project of the American administration in the middle east.
The project  faced a clear European opposition and also a clear official and public objection in the Arab world . While Israel has considered it as a realization of the common objectives and aspirations of  the united states under these new international conditions considering that this project was the outcome of thoughts of the conservative Israeli_American right alliance, the international opposition and reservations against it incite the Israeli analysts to invite the American administration  to be satisfied with a project of a ” small but smart middle east” after they guaranteed its change to an international project  with the consent of the “Great eight” (G8) in their summit which was concluded at the end of last June to become an intellectual and political cadres adapted  as a basis to all “reformists” in the region with the establishment of regional and international cadres, forums and means to accelerate it.
However, what enraged the Israelis in the summit of the “Great eight” (G8) in the conference of Istambul are the privileges given to Turkey by the American administration which considers it a specimen of  the “ political Islam ”  under the authority of  the Islamic party for justice and development that Washington wants to  reign in the region.
In conclusion, the American  project for the great middle east has decreased a lot in its geographical levels and it seems that the  Americans will be satisfied with the formula of a “ small but smart middle east”. This formula is very close to the Israeli aspirations which realize that its relations with the region in general didn’t overtake the economical and geographical dimensions with regard to the fact that it is the only (democratic state) which seeks to be a principal part of the accidental culture and not a cultural or civilizational part in the region.

Un Moyen-Orient Petit et Intelligent

La région arabe dont le terme moderne est le Moyen Orient fut le centre d’intérêt des empires dans l’histoire, et les grandes puissances récemment, vu ses qualités géographiques, politiques , économiques et culturelles.
Les grands changements qui ont atteint le monde et la région vers la fin du siècle dernier, ainsi que les changements politiques, sécuritaires, économiques et sociaux israéliens ont causé un grand déséquilibre au niveau des balances des forces et ce en faveur des Etats-Unis et son allié Israël. Tout cela fut exprimé par l’initiative du président Bush , le père, en la conférence de Madrid pour résoudre le conflit arabo- israélien, puis par l’initiative américaine pour construire un nouveau Moyen Orient dans le cadre de son plan établi pour construire un nouveau monde.
Le débat israélien se concentre sur ces changements et sur la meilleure stratégie israélienne envisagée pour les confronter. Ce débat s’est exprimé à travers deux points de vue différentes. Selon la gauche israélienne, surtout les Travailleurs, ces changements ont offert à Israël une « grande opportunité » qu’elle pourra adopter en tant que force stratégique dans le cadre d’une solution en perspective pour le conflit arabo-israelien selon le principe de « la terre contre la paix » sur lequel s’est basée la conférence de Madrid, et sur la base de contenir n’importe quelle entité palestinienne qui pourra naître suite à l’arrangement et qui ne se contredit pas avec les exigences de la paix stratégiques. Quant à la droite israélienne, elle a toujours adopté la politique d’imposer avec la force. Ishac Rabin et Shimon Perès, chacun d’eux a connu sa chance dans ces changements pour résoudre le conflit et construire un nouveau Moyen-Orient . le premier s’est dirigé vers Oslo pour conclure un accord clandestin avec les palestiniens, alors que le second a exposé sa vision pour un nouveau Moyen Orient.
Abstraction faite des circonstances , des raisons et des motivations qui ont poussé l’administration américaine à poser son projet concernant le Grand Moyen –Orient, ce dernier a connu une opposition européenne claire, ainsi qu’une obstination arabe officielle et populaire claire ; alors qu’Israël a considéré ce projet comme étant la conclusion des buts et ambitions américains communs à l’ombre des nouvelles circonstances internationales.
Vu que ce projet émane de l’alliance de droite américaine et des sionistes conservateurs, cette opposition et cette restriction internationale ont poussé les analystes israéliens à inviter l’administration américaine à ce contenter du projet d’un « Moyen Orient petit et intelligent » après avoir garanti que ce projet est devenu international avec l’accord des 8 Grands états lors du sommet qui a eu lieu en Juin dernier ;ce projet est alors devenu le cadre politique selon lequel opèreront tous les « conformistes »  dans la région, avec l’établissement des cadres régionaux et internationaux ainsi que des conférences et des moyens pour l’appliquer rapidement.
Or ce qui a suscité la colère des israéliens lors du sommet des huit Grands et ensuite durant la conférence d’Istanbul, fut la position distinguée accordée par l’administration américaine à la Turquie, en la considérant à l’ombre du gouvernement du parti de la justice et du développement  islamique l’exemple de « l’Islam politique » que Washington désire instaurer dans la région.
En conclusion finale, le projet américain pour un Grand Moyen Orient s’est rétrécit au niveau géographique, et les américains se contenteront à ce qu’il paraît de la formule d’un « Moyen Orient Petit et Intelligent » qui répond aux ambitions israéliennes qui considère que ses relations avec la région en général  ne dépassent pas les dimensions géographiques et économiques , vu qu’elle est (l’Etat démocratique) unique qui tient à être un membre vital de la culture de l’Ouest et non pas un membre culturel dans la région.