نفذ الأمر

القوات الجوية ابتكرت، قصفت، انتصرت
إعداد: العقيد أنطوان نجيم - ريما سليم ضومط - تريز منصور

نفذ الأمر وانتهت المعركة بنصر غالٍ. نصر عماده عزم العسكريين وعرقهم ودمهم، لكنه أيضاً النصر الذي تحقق بفضل التماسك والتعاون والتنسيق، على مستوى كل قطعة، وعلى مستوى القطع المشاركة جميعها. أياً كان دور القطعة وحجمها.
في ما يأتي من صفحات، يتحدث ضباط قادة عن قطعهم وعسكرييهم والظروف التي خاضوا فيها المعركة. ويتحدثون ايضاً عن وسائل تمّ ابتكارها «خصيصاً» لتلائم طبيعة الأرض وسير العمليات، ومن هذه الوسائل ما كان بحق انجازاً عزّ نظيره في الجيوش، وكان عنصراً حاسماً في كتابة آخر فصول المعركة. أمّا ما قاله البعض وما أحجم عن قوله آخرون، فهو ما يعلمه الجميع: جيشنا قاتل باللحم الحيّ، وهو يحتاج إلى المعدات والسلاح.

نصر غالٍ عماده عزم العسكريين والتماسك والتنسيق على مستوى القوى المشاركة
 

دخل الجيش معركة مخيم نهر البارد بالقوى البرية في البدء تساندها القوى البحرية والقوى الجوية لجهة تأمين مراقبي المدفعية، وحماية الشاطئ ونقل العتاد والجرحى، إلا أنه بعد تطوّر المعركة وتأزمها لناحية تحصّن الارهابيين، بعد حصارهم في بقعة صغيرة نسبياً، في ملاجئ من الخرسانة، كان لا بد من حلٍ، لم يتأخر وأتى من خلال استعمال الطوافات كقاذفات قنابل بعد ابتكار قنابل جديدة وأجهزة حمل وإطلاق. حول هذا الموضوع التقت مجلة «الجيش» قائد القوات الجوية العميد الركن الطيّار نهاد ذبيان وكان هذا الحديث.

    
مهمة القوات الجوية
• ما كان دور القوات الجوية في هذه المعركة؟

- في البدء استعملت طوافات القوات الجوية في عمليات إخلاء الجرحى، ونقل العناصر والعتاد، ولـم تستعمـل كحل في حرب المخيـم نظراً إلى طبيعـة القتـال وطـرق الإرهابيين في الاختباء، إذ أنهم لم يعتمدوا على المواجهة وإنما على القنص والتسلل.
ولكـن في المرحلـة الأخيـرة، وحسمـاً لمعـركـة طالت، تفتـّقـت عبـقريـة طيـاري وضبــاط وعناصــر القــوات الجويـة عن فكــرة استعمـال القنـابـل المتوافرة في مخـازن القـوات الجويـة والعائدة لطائرتي «ميراج» و«هـوكر هنتر».
ولكن المشكلة كانت في إيجاد طريقة لحمل هذه القنابل وإطلاقها من طوافة «UH-1H».
ولم نعدم الوسيلة فكان أن ابتكر جهاز حمل وإطلاق رُكّب على الطوافة المذكورة التي نجحت في إطلاق حمولتها على الهدف بكل دقة مع هامش خطأ لم يتعدَّ 10 أمتار.
ومن ثمَّ تمّ تصنيع قنابل محلية لتستعمل كذلك، وصل وزنها إلى 250 كلغ من المتفجرات، وحقّقنا النتائج المرجوة.
ولقد نفّـذت القـوات الجوية 100 طلعة جوية خلال عشـرين يومـاً، شارك فيها جميع الطيّارين.
مــن ناحيــة ثانيــة، وبعدما تسلّمت القوات الجويــة طوافــات «غازيل» هبـة من دولـة الإمارات العربيــة قبــل بدء معـركــة نهر البارد بفتـرة قصيرة جداً، ومع تطور الاشتبــاكـات، تدخلت هذه الطوافات لمساندة القوى البرية لضرب الأهداف الحساسة والمحصّنــة من مسافات بعيدة باستعمال المدافع الرشاشة وصواريخ موجّهة جو - أرض من نوع «هوت» (Hot) ذات مدى 4 كلم.


قصة القنبلة المطيعة
اعدّها: العقيد انطوان نجيم
تطورت المعارك في مخيم نهر البارد، وما انفك إرهابيو «فتح الإسلام» مثابرين على أعمال القتال عن بعد كالقنص والقصف بالهواوين والقواذف المضادة للدروع، واستمروا في قتال العصابات متحصّنين بملاجئ خرسانية يخرجون منها فقط لممارسة غدرهم القاتل.
ونتيجة لهذا الوضع التكتي الذي وصلت اليه وحدات الجيش المشتركة في المعركة، كان لا بد من إجراء تعديلات على طريقة القيام بالأعمال القتالية من أجل تحقيق الأهداف المرسومة.
وفي أحد الاجتماعات مع قائد الجيش العماد ميشال سليمان، طُرحت فكرة إلقاء قنابل من الجو لا سيما أن الجيش يملك قنابل قديمة تعود لطائرة «الميراج» وعمرها 40 سنة ووزنها 400 كلغ، وقنابـل تعود لطائرة هنتر المحالـة على التقاعد ووزن الواحدة 250 كلغ، فوافق العماد سليمان شرط ضمان حماية العسكريين إن في الجو أو على الأرض، والتأكد من فاعلية المشروع قبل تنفيذه.

 

في البدء، كان الحل شبه مستحيل فلا طائرات نفّاثة والطوافات غير مجهّزة والوقت قصير جداً، ولكن لا بد من تذليل المستحيل ليصبح واقعاً.
اجتمع طيّارو القوات الجوية ومهندسوها ودرسوا الأمر فقر الرأي في البدء على تحويل الطوافة UH-1H المُعدّة أصلاً للنقل إلى طوافة قاذفة قنابل، ولكن تحديات كثيرة برزت وأهمها:
1- كيفية تعليق القنابل على الطوافة HUEY UH-1H المُعدّة للنقل فحسب؟
2- كيفية إصابة الهدف من دون وجود جهاز تسديد HEAD-UP Display - HUD)) على الطوافة؟
3- كيفية إطلاق القنبلة وصلي شهابها الذي يتم أصلاً بدارة كهربائية متوافرة في الطائرات المقاتلة على سرعات معيّنة؟
4- كيفية تجنب الرمايات الأرضية نظراً إلى أن الطوافة UH-1H غير قادرة على المناورة وسرعتها بطيئة؟
قُسِّم المشروع إلى عدة مراحل ضرورية لا يمكن تخطي أي منها.


1- اشتغال القنابل:
في المرحلة الأولى تمّ التأكد من إمكان اشتغال القنابل الموجودة في المخازن من زمن بعيد. فأجريت التجربة على قنبلة 50 كلغ فاشتغل شهابها وانفجرت طبيعياً، فتأكد أن الشهابات الموجودة تعمل كما القنابل المخزونة كلها بشكل صحيح، وذلك نظراً إلى تخزينها بالشروط المطلوبة.


2- جهاز الحمل والإطلاق:
في المرحلة الثانية انصب الاهتمام على طريقة حمل هذه القنابل (قنبلة الهانتر 250 كلغ، وقنبلة الميراج 400 كلغ) على الطوافة. وبعد الدراسات والتجارب تمت الاستعانة بجهاز الحمل والإطلاق العائد لطائرة هوكر هنتر النفّاثة وأجريت عليه تعديلات ليركب على الطوافة، فاستبدلت الخرطوشة الدافعة التي كانت تطلق القنبلة في الطائرة النفّاثة بضاغط (Piston) يعمل بالهواء المخزون في خزانات هواء وضعت خصيصاً للمهمة على متن الطوافة. وهنا لا بد من الاشارة إلى أن التعديلات التي أجريت لم تتأثر بها الطوافة، بمعنى أنها بقيت سالمة من دون أي تعديل أو تحوير. فأضيف لوح ألمنيوم مقوّى خاص (أرضية ملالة استرجعت من التنفية) على أرض الطوافة من الداخل وثبّت عليه من الخارج محور حامل لجهازي الحمل والإطلاق (أُخِذَ هذا المحور من مخازن القوات البحرية). ثُبِّت هذا اللوح على أرض الطوافة بعد أن وضع بينهما عازل من الكاوتشوك لمنع انتقال الذبذبات الناجمة عن اهتزاز الطوافة إلى محور الحمل والإطلاق، وذلك تأميناً لثباته واستقراره.


3- إطلاق القنبلة:
تأميناً لهذه العملية، استبدلت الخراطيش المستعملة على الطائرات المقاتلة ذات الأجنحة الثابتة والتي كان يشغلها الطيار لإطلاق القنبلة، بضاغط هواء.
يتألف جهاز الإطلاق من:
- خزان هواء مضغوط (200 بار BAR) ويبلغ معدّل ضغط الهواء في المنظم لعملية الإطلاق 10 بار، وقد درست هذه الكمية بكل دقة لتتم عملية الإطلاق بنجاح.
- حنفية تعمل على الكهرباء (28 فولتاً أخذت من كهرباء الطوافة) وتسمح للهواء المضغوط بالانتقال من الخزان الى الضاغط وذلك بناءً على أمر من الطيّار. والجدير بالذكر أن هذا الضاغط هو نفسه المستعمل على الطائرات وإنما استبدلت الخرطوشة بالهواء.


4- صلي شهاب القنبلة:
أجريت كامل الدراسات الباليستية والحسابات الرياضية من أجل ان يُصلى شهاب القنبلة، وهو الشهاب الأصلي المستعمل في القنابل. ويدخل في عملية صلي الشهاب عاملا سرعة الطوافة وارتفاعها.
حسب دليل الشهاب يجب أن تصل سرعته إلى 150 عقدة بالساعة (العقدة حوالى 1.8 كلم) لكي يصلي، وبما أن الطوافة تطير بسرعة 90 عقدة كان يجب زيادة سرعة القنبلة إلى 150 عقدة حتى تتم عملية الصلي. لذلك، وبما أن القنبلة ستلقى في سقوط حر، كان لا بد من حساب ارتفاع الطوافة، والمسافة من الهدف الواجب اعتمادها لتنفيذ عملية الإطلاق. وترتبط عملية تحديد المسافة بعدة عوامل أهمها: مقاومة الهواء، الشكل الانسيابي للقنبلة والتأخير في نظام GPS حوالى 5/1 جزء من الثانية على سرعة 90 عقدة والتأخير في نظام الهواء المضغوط، بالاضافة إلى السرعة التي حددت بـ90 عقدة.
وهكذا حُدّدت المسافة للقنبلة 250 كلغ بـ650 متراً تقطعها القنبلة إلى هدفها خلال 13.9 ثانية، مكتسبة خلالها تسارعاً يسمح بصلي الشهاب. وحُدّد الارتفاع الضروري للطوافة بألف متر (حوالى 3000 قدم). وقد اعتمد هذا الرقم من أجل تأمين الحماية للطوافة من نيران الأسلحة الخفيفة، وتخفيفاً لهامش الخطأ الناجم عن الارتفاع وتأميناً لصلي الشهاب.
وعند إطلاق القنبلة تتحرر مروحة مثبتة في رأس الشهاب من شريط كان يصلها إلى جهاز الحمل والإطلاق، فيتسارع دورانها مع تسارع القنبلة ليصل إلى 1800 دورة (+ -100 دورة). وبسبب القوة النابذة للمروحة خلال دورانها، تأخذ مجموعة الناقر الوضعية الملائمة للناقر ليضرب الذخيّر عند ارتطام القنبلة بالارض.


5- طريقة التسديد:
استعملت صورة جوية التقطت سابقاً للمخيم والصور المأخوذة من الأقمار الصناعية وتمت مقارنتها مع الخرائط العسكرية، وحضرت البيانات الباليستية وجداول الرمي على الارتفاعات المقرّرة والسرعات المعتمدة، وربطت كلها بأجهزة تسديد الكترونية (نظام تحديد المواقع العالمي GPS) أمّنت دقة عالية للرمايات ليلاً وداخل الغيوم وفي مختلف الظروف العملانية.
أما بالنسبة إلى جهاز حمل وإطلاق القنبلة زنة 400 كلغ فطبقت المراحل السابقة كلها وانما عُلّقت القنبلة على بطن الطوافة بدلاً من الجانبين. ولكن نظراً إلى قطر القنبلة وعدم قدرة الطوافة على استقبالها وهي جاثمة على الأرض، تمّ تصنيع مزاحف من الحديد بعلو 60 سنتم واستعملت لتقلع عنها الطوافة حاملة القنبلة.


6- التجارب وتدريب الطيّارين:
بعد كل هذه الاعدادات أجريت التجارب فكانت ناجحة تماماً إذ لم يتعد هامش الخطأ 10 أمتار.


7- تصنيع قنابل محلية:
بعـد نجاح التجارب بدأت عمليـة التنفيـذ، فاختيرت الأهـداف بدقـة متناهيـة، ودُرسـت وحُـدّدت بغية تأمين المناورات الجويـة اللازمة لتحقيق إصابـات دقيقــة وفعـّالـة مـن الطلـقة الأولى تأمينـاً لحمايـة القوى الصديقـة وتـلافي أي رمـاية طـارئة لا تكـون في الحسبـان، ونُفّذت الرمايات بدقة متناهية حيث دمرت كلياً الأهداف من أبنية وملاجئ ودشم في ظروف رؤية غير ملائمة، إذ تمّ نصف الرمايات ليلاً ومن خلال الغيوم ومن دون الحاجة إلى رؤية الهدف بالعين المجرّدة. بعد ذلك، بدأت القوات الجوية وفوج الهندسة بعملية تصنيع قنابل كبيرة بالتعاون مع اللواء اللوجستي، وذلك اعتماداً على الشكل الانسيابي لقنابل الطائرات. فصنعت أبدان القنابل وحُشيت بالمواد المتفجرة المختلفة واستعملت الشهابات العائدة للقنابل الأساسية.
القنبلة الأولى كانت للتجربة وحملت الإسم LAF-GS-ER-00 وكذلك الثانية حملت الإسم LAF-GS-ER-01، وجُرِّبتا في حقل رماية الطيبة وجاءت النتائج ممتازة.
وكرّت سبحة القنابل فتم تصنيع عدد منها راوحت أوزان حشواتها بين 102 كلغ و 117 كلغ من المتفجرات، وراوح وزنها الإجمالي بين 220 و360 كلغ. وأطلق على القنبلة 250 كلغ اسم LAF-GS-ER2 والقنبلة 400 كلغ إسم LAF-GS-ER3.
وحققت هذه القنابل إصابات دقيقة جداً ما سرّع في حسم المعركة.
والجدير بالذكر أن في هذه القنبلة لم يستعمل أي شيء جديد، فكل مكوّناتها أخذت من مديرية التنفية في اللواء اللوجستي، حتى أنه يروى أن جندياً كان يعمل في تنفيذ هذه القنبلة، ولما فرغ من شرب تنكة مشروبات غازية سأل الضابط المصمّم والمنفّذ إن كان بحاجة إليها في عملية التصنيع أو يرميها.
وهكذا، أثبت الجيش كما في تاريخه الطويل - وهل ننسى صناعة الصاروخ أرز 1 وأرز 2 ونجاح إطلاقهما في الستينـيـات من القرن الماضي - أنه قادر على اجتراح المعجزات من «حواضر البيت» فالايمان بلبنان كبير، واعتناق شعار شرف تضحية وفاء مبدأ يتصدّر المناقبية العسكرية.
فهذا النوع من العمليات، صناعة القنابل المطيعة التي أطاعت أوامر عقل أبدعها هي الخالية من أي ذكاء إلكتروني، وتحويل الطوافة ناقلة الجرحى والعتـاد والميـاه لإخمـاد الحرائق، إلى طوافـة قاذفة قنابل هي الأولى مـن نوعها في العالم بشهـادة كبــار الخبراء العسكرييـن، هذا النوع أثار دهـشة الجيـوش الأجنبـيـة التي سجّلـت للجيـش اللبناني ومن ورائه للشعـب اللبناني حدّة الذكاء، وقوة الشكيمة، وعلو الشأن في المكارم والأخلاق.