بين الأمس واليوم

الكلية الحربية

مقلع الأبطال والشهداء
نشأتها وتطوّرها قبل استقلال لبنان وتأسيس الجيش اللبناني


يطلّ عيد الجيش هذا العام وقد تضاعفت مهمّات المؤسسة العسكرية عند الحدود وفي الداخل، لتغطي مساحة الوطن بكامله. هذا الوطن الذي قدّر له أن يواجه المزيد من الأخطار والتحديات، بفعل رسالته الحضارية ورسوخ قيمه الإنسانية بين سائر الأوطان.
ولم تكن المهمّات لتنجح وتنتهي إلى نصرٍ وفوز، من دون رجال يقدّمون الذات بذلًا وعطاء على مذبح الوطن، فيضرّجون بالدم في ساحات الوغى، قبل أن يرتفعوا إلى دنيا الخلود شهداء أبرارًا. ولم يكن هؤلاء الأبطال ليندفعوا إلى الميدان شجعانًا لا يلين لهم ساعد ولا تهون إرادة، من دون أن يكون هناك معهد أشمّ يعدّهم للبطولة والفداء، إنّه مدرسة الرجال الأولى، إنه الكلية الحربية.


لمحة تاريخية
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى نَظّم الجيش الفرنسي في الدول الخاضعة لانتدابه وحدات من مختلف الأسلحة، فبرزت الحاجة إلى ضباط ومترجمين واختصاصيين وطنيين بهدف تشكيل ملاكات لهذه الوحدات وتحضيرها لتصبح مستقلة.
وهكذا تمّ إنشاء وحدة تدريبية في مدينة دمشق العام 1921، أطلق عليها اسم «المدرسة الحربية»، لإعداد ضباط للوحدات الجديدة. وقد بقيت هذه المدرســة في مدـينــة دمشــق حـتـى العــام 1932، حيث انتقلت إلى مدينة حمص.

 

مهمّتها
كان يتمّ التحاق التلامذة وتخريجهم خلال شهر تشرين الأول من كلّ عام، حيث يرقّون بعد انتهاء فترة التدريب إلى رتبة ملازم بموجب مرسوم، ويقام لهم احتفال على مستوى الدولة يترأسه غالبًا رئيس الحكومة السورية، ويتسلم خلاله الضباط المتخرجون: شهادة آمر فصيلة (في اختصاص مشاة - خيالة - مدفعية - هندسة)، وشهادة كفاءة لرتبة ملازم.
بعد التخرج يٌشَكَّل الضباط المتخرجون بموجب مذكرة خدمة إلى مختلف وحدات الجيش، حيث يؤلّفون فيها الملاكات اللازمة لإمرتها، ويسهرون على تدريبها وتنشئتها وقيادتها.

 

إنشاء مدرسة حربية مستقلة في لبنان
في 15 آب العام 1945، تمّ تسليم منشآت المدرسة الحربية في حمص إلى السلطات السورية، فيما انتقلت الوحدات اللبنانية والفرنسية إلى لبنان، حيث التحق المدربون والتلامذة في ثكنة القبّة – طرابلس، ووضعوا إداريًا بتصرّف إحدى سرايا الكتيبة الثالثة المتمركزة هناك، ومنح التلامذة مأذونية لمدة 15 يومًا، على أن يلتحقوا بعد ذلك بمخيم أقيم في بلدة كوسبا - قضاء الكورة في شمال لبنان.
في 25 أيلول من العام نفسه، انتقلت المدرسة إلى دير مار أنطونيوس في بعبدا، حيث بقيت لمدة سنة تقريبًا، وفي 14 تشرين الثاني من العام 1946، انتقلت إلى ثكنة شكري غانم – الفياضية وألحقت إداريًا بمفرزة القيادة والإدارة، ولا تزال في موقعها حتى يومنا هذا.
وكانت أبنية المدرسة عبارة عن منشآت استعملها الجنود الإنكليز قبل مغادرتهم لبنان.
وفي الحادي والثلاثين من كانون الأول العام 1951 يوم ذكـرى الجلاء، قام رئيس الجمهورية في حينه الشيخ بشارة الخوري بتدشـين الأبنية الجدـيدة للمدرسة الحربية.
بموجب القانون رقم 163 تاريخ 17/08/2011 والمعمم تحت رقم 276 /ت خ/ دراسات تاريخ 12/10/2011، تحوّلت المدرسة الحربية الى كلية حربية ووضع نظام جديد لها.

 

شعارها
يد تقبض على كتلة من اللهب، تحيط بها سنبلتان، وتعلوها كلمتا معرفة وتضحية.
تدلّ اليد التي تقبض على النار على إرادة التضحية وتحمّل المشقّات والمصاعب مهما بلغت، في سبيل الحصول على المعرفة.

 

مهمّة الكلية الحربية
• تنشئة وتدريب:
-  تلامذة الضبَاط (جيش، أمن داخلي، أمن عام، أمن دولة، جمارك).
-  الضبَاط الاختصاصيين المعيَنين كضباط متمرنين.
-  الضبَاط الأعوان (دورة آمر سرية).
-  الضبَاط مجندي خدمة العلم.
-  الرتباء المؤهلين للانتقال إلى ملاك الضبَاط.

 

• يتم التركيز في تنفيذ مهمة الكلية على الآتي:
-  التنشئة المعنوية والوطنية.
-  التنشئة العسكرية.
-  الأهليَة الجسدية.
-  التنشئة العلمية والثقافة العامة.

 

تضحية حتى الشهادة
توسّطت كلمة تضحية الشعار العسكري المعروف «شرف، تضحية، وفاء»، تمامًا كما توسّطت الأرزة العلم الوطني. والتضحية، حين تقدّم نفسها فوق منابر المجد، فإنّما تكون مغسولة بالعرق، مزيّنة بالتعب، ملوّنة بالدم وهو أعزّ ما يمنحه الله للإنسان، وأغلى ما يفتدي به هذا الإنسان إرث أجداده وحلم أبنائه في الوطن.
انطلق الجيش اللبناني منذ بداياته الأولى العام 1945، بخطى حتّمها قسم عسكري نبيل، ورعتها قيم ومثل عليا، في مقدّمها الاستعداد للتضحية في سبيل لبنان حتى الشهادة. من هنا فإنّ المسيرة العسكرية تعمّدت بدماء الشهداء، لأنّ التجارب التي رافقتها كانت صعبة، والمواجهات كانت قاسية، وكان لا بدّ من أن يرتوي التراب الوطني بمداد الشرايين والعروق.
ولمّا كانت المهمّة الدفاعية هي جوهر المهمّات، ومحور الواجبات، فقد استحقّت العطاء الأكبر من التضحيات، والحصّة الأولى من الأحمر القاني، في مواقع تنوّعت مناسباتها، وتواصلت أخطارها. فقد خاض الجيش، وهو فتي، أولى معاركه البطولية في المالكية العام 1948، واستطاع تحرير هذه البلدة من العصابات الصهيونية التي كانت آنذاك تستأنف غزواتها ضدّ فلسطين وما جاورها من الدول العربية، بغية إنشاء الكيان الإسرائيلي، وتكوين دولته.
وتوالت سلسلة المواجهات مع هذا العدو في السنين اللاحقة، لا سيّما في منطقة سوق الخان العام 1970، وعلى محوري بيت ياحون - تبنين وكفرا - ياطر العام 1972، وفي صور العام 1975، إلى أن كان اجتياحا 1978 و1982 اللذان خلّفا احتلالًا بغيضًا لم نتحرر منه حتى العام 2000، حيث كاد التحرير أن يكون تامًّا ناجزًا لولا بقاء مناطق غالية من الوطن تحت نير الاحتلال: مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والقسم الشمالي من بلدة الغجر. ونضيف إلى محطات المواجهة مع العدو عمليتي تصفية الحساب 1993، وعناقيد الغضب 1996، والعدوان على عربصاليم والأنصارية 1997، والملحمة الوطنية الكبرى خلال عدوان تموز 2006، ثمّ موقعتي العديسة العام 2010 والوزاني العام 2011، حيث استبسل فيهما جنود الجيش في الدفاع عن سيادة لبنان وترابه الغالي.
أمّا المهمّة الثانية التي استدعت التضحيات الجسام، فهي مهمّة حفظ الأمن، والأمن هو الركيزة الأولى في انتظام عمل الدولة ومؤسساتها، وفي تأمين سلامة المواطنين وحرياتهم، إذ يقوم على ردع المخلّين بالنظام العام، وعلى مواجهة شبكات الإرهاب والتجسس والعمالة. وكان أبرز المواجهات قد حصل ضدّ تنظيم فتح الإسلام الإرهابي الذي حاول إلباس نفسه لباس القضية الفلسطينية حينًا، ولباس الدين حينًا آخر، وذلك في مخيم نهر البارد 2007، حيث كانت ملحمة وطنية أخرى استدعت قافلة كبيرة من الشهداء والجرحى والمعوّقين من العسكريين، إلى أن تمّ القضاء على البؤرة الإرهابية.

 

وتكثّفت الأحداث، خصوصًا في السنتين الأخيرتين بفعل انعكاس ما جرى ويجري في سوريا على الوضع الداخلي في لبنان. البداية كانت مع توزّع بعض اللبنانيين في اتخاذ مواقف مؤيّدة لهذا الطرف أو ذاك، مواقف انطلقت سياسية، ثم ما لبثت أن تحولت إلى السلاح، لتشهد معها مناطق لبنانية عديدة اشتباكات وقطع طرقات، ما استدعى تدخّل وحدات الجيش مرارًا وتكرارًا، لإطفاء نار الفتن المتنقلة، فكان ردّ فعل العابثين بالأمن، التصويب على هذه الوحدات، وهذا ما جرى أخيرًا في بلدة عبرا، شرق صيدا، حيث استهدف الجيش مباشرة بهدف إلغاء دوره في الجمع بين اللبنانيين، وفي تأمين استقرارهم. وقد تميّزت مواجهة المسلحين هذه المرّة بارتفاع الثمن الذي اضطرّت القوى العسكرية إلى تقديمه من الشهداء والجرحى، على الرغم من قصر المدّة التي تمّت خلالها العملية، ويعود ذلك إلى سببين رئيسين:
- أسلوب الغدر الذي لجأ إليه المسلحون، ومبادرتهم إلى مهاجمة المراكز العسكرية، وإطلاق النار على عناصرها من دون سبب.
- اكتظاظ المحلة بالمنشآت السكنية، ووجود عائلات كثيرة في أماكن عمل المسلحين، ولجوء هؤلاء إلى القيام بأعمال القنص من خلف تلك العائلات، لا بل استخدامها دروعًا بشرية في بعض الأحيان، ما دفع العسكريين إلى المزيد من التبصّر قبل الردّ على مصادر إطلاق النار.
لكن هذه العملية تميّزت بالمقابل بالنجاح السريع، كما تميّزت بالالتفاف الواسع حول المؤسسة العسكرية من قبل مكوّنات الوطن، مؤسسات رسمية ومواطنين، كما أن جهات دولية عديدة أعربت عن حرصها على أمن لبنان واستقراره، وعن ثقتها بقدرة الجيش على فعل ذلك.

 

دماؤهم أوسمة
يتوزع شهداء الجيش على صفحات سجله الذهبي كما تتوزّع النجوم في سماء لبنان، وهم بالتالي يقيمون في قلب المؤسسة العسكرية، كما في وجدان المجتمع المدني. هذا المجتمع الذي وقف إلى جانب بناتهم وأبنائهم وأهلهم وعائلاتهم، حيث أولاهم عنايته الدائمة تعبيرًا عن تقديره لتضحيات أولئك الأبطال، الذين كان لهم الفضل الأكبر في إنقاذ الوطن من التفكك والضياع، وهذا ما تواظب عليه بشكل خاص الأجهزة المختصة في الجيش بالتعاون مع عدد من الجمعيات الإنسانية، التي ما انفكّت تضيء الشمعة تـلـو الشـمعة، أمـام عـيون أمـهات وزوجـــات وأبـنــاء فقــدوا أعــزّ أحبائهم وكانت دماؤهم حياة للوطن.