اللامركزية الادارية والانماء المتوازن

اللامركزية الادارية والانماء المتوازن
إعداد: د. عصام سليمان
استاذ في كلية الحقوق والعلوم السياسية والادارية ـ الجامعة اللبنانية

تطور مفهوم التنمية فلم يعد يقتصر على تنمية الـموارد والنمو الاقتصادي، بل أصبح يشمل الـموارد البشرية والتنمية الـمستدامة لـهذه الـموارد. وغدت التنمية تنمية اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية وتربوية، فتعددت أبعادها، ورتب ذلك مسؤوليات ليس على السلطة الـمركزية وحسب وإنـما على السلطات الـمحلية أيضا، وعلى الـمجتمع الـمدني، وذلك في إطار توزع الـمهام والأعباء، ومن أجل إفساح الـمجال أمام الـمواطنين للمشاركة في اتـخاذ القرار على نطاق واسع، وفي الـمساءلة والـمحاسبة، بـحيث لا تتركز عملية التنمية في مـجالات مـحددة دون غيـرها، ولا تقتصر على مناطق أو فئات دون الـمناطق والفئات الأخرى، إنـما تشمل الـمجتمع بكامل مناطقه وفئاته بشكل متوازن. وهذا مـا طرح على بساط البحث، الـمؤسسات والـهيئات والآليات الواجب اعتمادها من أجل تـحقيق التنمية الشاملة والـمتوازنة، وطرح بالتالي قضية هيكلية السلطة في الدولة، وتوزيع الصلاحيات والـمهام بين سلطة مركزية وأجهزة تابعة لـها في الـمناطق الإدارية، وسلطة مـحلية قائمة في إطار لامركزية إدارية في دولة موحدة. فاللامركزية الإدارية نشأت في الأساس كوسيلة لتحقيق التنمية والتوسع في اعتماد الديـمقراطية على الـمستوى الـمحلي، وهذا أيضا يندرج في إطار التنمية السياسية التي هي وجه من وجوه التنمية الشاملة.

لقد عرف لبنان اللامركزية الإدارية منذ ما قبل إعلان دولة لبنان الكبيـر عام .1920 ففي عهد مـحمد علي باشا، أنشأ حاكم مدينة بيـروت مـحمود بك نعمة عام ،1833 مـجلسا لـهذه الـمدينة أسـماه (مـجلس الولاية) ضم اثنـي عشر عضواً، اختارهم من العائلات البيـروتية مناصفة بين الـمسلمين والـمسيحيين. وأوكل الـحاكم نعمة إلى هذا الـمجلس مـهمة العناية بنظافة الـمدينة وحراستها وإنارة شوارعها. وفي ظل الـمتصرفية، أنشئت بقرار صادر عن متصرف جبل لبنان، داوود باشا عام ،1864 أول بلدية عرفها لبنان، وهي بلدية دير القمر. وفي عام 1867 تأسست بلدية بيـروت وتألف مـجلسها بقرار من وزير الداخلية في اسطنبول. وفي عهد الانتداب جرى إنشاء العديد من البلديات. وقد تـم التوسع في إنشاء البلديات في مـختلف الـمناطق اللبنانية في عهد الاستقلال ([1])، وجرى الكلام على ضرورة تطوير نظام اللامركزية الإدارية في لبنان منذ الستينات، واعتماد اللامركزية الـموسعة كوسيلة من وسائل تـحقيق التنمية.

 

أولا ً: مفهوم اللامركزية الإدارية

اللامركزية الإدارية نوع من التنظيم الإداري للدولة. فالدول على هذا الصعيد تعتمد، أما الـمركزية وإما اللامركزية، تبعا للنظام السياسي الذي تنتهجه والأهداف التـي تطمح إلى تـحقيقها، وتبعا للمسؤوليات الـملقاة على عاتقها.

فالـمركزية تقضي بتسييـر مـختلف إدارات الدولة مباشرة بواسطة موظفين تابعين للسلطة الـمركزية ومعينين من قبلها في الـمحافظات والأقضية والـملحقات. وهذه السلطة هي سلطة موحدة تقوم بإدارة شؤون البلاد وتصدر الأوامر والتعليمات التـي تنفذ على سائر مواطنـي الدولة وفي جـميع الأراضي التابعة لـها. وتاليا، فإن الـمركزية الإدارية تقوم على استقطاب السلطة الإدارية وتـجميعها في يد شخص واحد أو هيئة واحدة أو توزيعها بين وحداتـها ومصالـحها الإدارية الـمركزية والإقليمية، على أن تبقى مرتبطة بالـجهاز الـمركزي، هي ومن يتولونـها، برباط من التبعية والتسلسل الـهرمي.

فالـمركزية الإداريـة لا تـحول دون تقسيم أراضي الدولة إلـى أقسام إداريـة (مـحافظات، أقضية، ملحقات، ألخ ...)، بل على العكس، تفرض وجود مثل هذه الأقسام الإدارية، التي لا غنـى عنها لتسييـر شؤون الدولة العامة وشؤون الـمواطنين. غيـر أن هذه الأقسام تـخضع بشكل كامل ومباشر للسلطة الـمركزية.

فالـموظفون الذين يتولون إدارتـها يرتبطون بـهذه السلطة بتسلسل هرمي إداري مـحدد، ويعتبـرون مـمثلين لـها في الـمناطق التي تشكل الأقسام الإدارية. فهم يتلقون التوجيهات والأوامر من السلطة الـمركزية وينفذونـها من دون أن يكون لـهم أي نوع من الاستقلال عن الإدارة الـمركزية القائـمة في العاصمة. فالسلطة التسلسلية هي الـمعيار الأساسي الذي تتميز به الـمركزية عن اللامركزية. والبناء الإداري القائم على نظام الـمركزية يبدو بشكل هرم ينطلق من القمة، حيث تتجمع السلطات والصلاحيات كافة، وينتهي بالقاعدة مروراً بأشخاص وهيئات ينفذون، كلž في إطار اختصاصه وضمن نطاقه، الأوامر والتعليمات الصادرة عن القمة أي عن الـمركز، مع بقائهم مرتبطين بقاعدة التبعية للسلطة الـمركزية.

أما اللامركزية الإدارية فتقوم على توزيع الوظيفة الإدارية في الدولة بين الـحكومة الـمركزية وبين هيئات مـحلية مـختلفة منتخبة، تتمتع بالشخصية الـمعنوية وتـمارس وظائفها الإدارية، على الـمستوى الـمحلي، تـحت إشراف الـحكومة الـمركزية ورقابتها، غيـر أنها تـحتفظ لنفسها باستقلال إداري، بـحيث لا تكون خاضعة مباشرة للحكومة الـمركزية في مـمارسة وظائفها الإدارية، وإن كانت هذه الـحكومة تـمارس عليها الإشراف والرقابة.

 

معيار اللامركزية الإدارية

إن مبـرر اعتماد اللامركزية الإدارية هو وجود مصالـح متميزة الوحدات الـمحلية عن الـمصالـح الوطنية، واعتراف الـحكومة الـمركزية بـهذه الـمصالـح. ومن أجل تـحقيق هذه الـمصالـح على أكمل وجه تترك الـحكومة الـمركزية قضية إدارة الشؤون الـمحلية لـهيئات منبثقة من الشعب في وحدات الإدارة الـمحلية. ومـما لا شك فيه أن للمناطق حاجات تـختلف من منطقة إلى أخرى، وأبناء هذه الـمناطق هم أدرى بـحاجاتـهم وأقدر على حل مشاكلهم من الـموظفين الذين تعينهم الـحكومة الـمركزية والذين يرتبطون بـها مباشرة، بتسلسل إداري هرمي، والذين يـخضعون في مـمارسة وظائفهم للروتين الإداري. والتمييز بين الشؤون الـمحلية والشؤون الوطنية هو من الـمرتكزات الأساسية لنظام اللامركزية الإدارية، وهو الذي يـحدد درجة الـمركـزية الـمعتمدة في الدولة. وقد اعتبـر جورج فيدال (G. Vedel) أن اللامركزية مشروطة بوجود مستقل لبعض الـمصالـح التـي تعتبـر بذاتـها عامة. ولكن عموميتها أقل اتساعا من الـمصالـح التي تقع على عاتق الدولـة كالـمصالـح البلدية أو الاقليمية مثلا ([2]). كما أن جان ريفيـرو (J. Rivero)، في معرض كلامه عن اللامركزية، بيَّن الـحاجات التـي تـهم الشعب بأجمعه وتقع مهمة إشباعها على الإدارة، وبيَّن الـحاجات الـخاصة بـمجموعة مـحلية بالذات، كعمليات النقل داخل البلدة مثلا. واعتبـر أن الاعتراف بـهذا التمييز بين الشؤون الوطنية والشؤون الـمحلية هو الـمعطى الأول لكل لامركزية ([3]). أما تـحديد الشؤون الـمحلية التي تتولى الـهيئات الـمحلية إدارتـها، فلا يتم عن طريق هذه الـهيئات التي لا يعود لـها تـحديد اختصاصها والشؤون التي تدخل في إطار هذه الاختصاصات، إنـما يتم ذلك، إما بواسطة الدستور الذي يعترف بوجود الـجماعات الـمحلية ويـحدد حصراً هيئاتـها الـمحلية، وإما بواسطة السلطة الاشتراعية التي تـحدد هذه الصلاحيات في قوانين تصدر عنها وتعدلـها، بـما يتفق مع السياسة العامة للدولة.

إن اعتراف السلطة الـمركزية بـمصالـح مـحلية مـميزة عن الـمصالـح الوطنية العامة لا يكفي لتحقيقها اللامركزية، إنـما يـجب أن يقترن هذا الاعتراف بوجود هيئات مـحلية تتولى إدارة هذه الـمصالـح، أي هيئات منبثقة من البيئة الـمحلية ومنتمية إلى الـمجتمع الـمحلي لأنـها تكون أقرب إلى السكان وأعرف بـمصالـحهم وأقدر على تـحقيق هذه الـمصالـح. وهذه الـهيئات الـمحلية يـجب أن تتمتع باستقلال إداري. وهذا ما طرح موضوع كيفية اختيار هذه الـهيئات وقاد إلى جدل بين الـمهتمين بدراسة اللامركزية الإدارية، فقال بعضهم أن العنصر الأساسي في نظام اللامركزية ليس اختيار الـهيئات الـمحلية بطريقة معينة، إنـما هـو استقلال هـذه الـهيئات في مـمارسة وظائفها من دون أن تكون خاضعة لتوجيهات أو أوامر السلطة الـمركزية. وانتخاب هذه الـهيئات ليس برأي هؤلاء، شرطا أساسيا لتحقيق اللامركزية. فـمعيار الانتخاب لا قيمة مطلقة له في وجود اللامركزية، أو في إضفاء اللامركزية على السلطة الـمحلية، والـمعيار الـحقيقي للتنظيم اللامركزي يكمن في استقلال الـمجالس الـمحلية عن السلطة الـمركزية، وإن كـان الانتخاب يعتبـر الوسيلة الـمعتادة لتحقيق هذا الاستقلال، في حين أن فريقا آخر أعتبـر أن انتخاب الـهيئات الـمحلية من قبل الناخبين على أساس أن فكرة اللامركزية الإدارية امتداد للديـمقراطية، هو شرط لتحقيق اللامركزية. وفي هذا الـمجال يقول موريس هوريو (M. Hauriou) إن اللامركزية الإدارية تـميل إلى خلق مراكز إدارية عامة مستقلة يـحدد أشخاصها عن طريق الـجسم الانتخابي للوحدة الإدارية، ليس بـهدف اختيار أفضل السبل لإدارة الوحدات الـمحلية، إنـما من أجل مشاركة أكثر ديـمقراطية للمواطنين. فالـمركزية قد تؤمن على الصعيد الإداري، إدارة أكثر حذقا وتـجردا واقتصادا من اللامركزية. لكن الوطن لا يحتاج فقط إلى إدارة حسنة، بل هو بـحاجة أيضا إلى حريات سياسية. والـحريات السياسية تفترض مشاركة واسعة من الشعب في الـحكم بواسطة الانتخابات والـجمعيات السياسية. والناخبون وأعضاء الـمجالس لا يستطيعون تكوين ثقافتهم السياسية إلا عن طريق الانتخابات الـمحلية وفي الـمجالس الـمحلية ([4]).

وإذا ما عدنا إلى النشأة التاريـخية لنظام اللامركزية، نرى أن هذا النظام ارتبط بفكرة الديـمقراطية التي تفترض انتخاب الـهيئات الـمحلية الـمولـجة إدارة الوحدات الـمحلية، من قبل الناخبين في هذه الوحدات، وتستبعد فكرة تعيين أعضاء هذه الـهيئات من قبل السلطة الـمركزية.

والانتخابات هي من ناحية ثانية، الضمان لاستقلال الـهيئات الـمحلية اللامركزية عن السلطة الـمركزية. فهذا الاستقلال لا يـمكن تـحقيقه بصورة فاعلة، إلا إذا اعتمدت الانتخابات كقاعدة لاختيار الـمجالس وطرحت جانبا فكرة تعيين السلطة الـمركزية لأعضاء الـهيئات اللامركزية، لأن السلطة الـمركزية ستجنح، إذا ما تـم تعيين أعضاء الـمجالس الـمحلية بواسطتها، إلى التدخل في شؤون هذه الـمجالس والتأثيـر على أعضائها، وإن بصورة غيـر مباشرة. فالعضو الـمعين يبقى من حيث الواقع مرتـهنا لإدارة السلطة التي عينته ولن يتمتع بإرادة حرة في مباشرة أعماله، وستفقد مؤسسة اللامركزية تالياً، غاية وجودها، بل جوهر وجودها، بفقدانـها الـحرية والاستقلال.

 

الشخصية الـمعنوية ومفاعيلها

إن استقلال الـهيئات الـمحلية على الصعيد الإداري في إدارة شؤون الوحدات الـمحلية في نظام اللامركزية، يفترض تـمتع هذه الـهيئات بالشخصية الـمعنوية أو القانونية. وهذا يعنـي أن الـهيئات تصبح قابلة لاكتساب حقوق والتزام واجبات، وتستقل عن الأشخاص والعناصر الـمادية الـمكونة لـهم. ويترتب على منح الـهيئات الـمحلية الشخصية القانونية النتائج التالية:

- إعطاء وجـود قانوني للوحدات الـمحلية وكيان ذاتي خاص مستقل عن الدولة، ومستقل عن الأشخاص الـمكونين لـها وعن أولئك الذين يتولون إدارتـها، بـحيث يبقى هذا الوجود مستمرا بصرف النظر عن تغييـر الـمجالس الـمحلية أو تبديلها.

- اعتبار الـموظفين التابعين للمواقع الإدارية الـمحلية مستقلين في نظامهم عن نظام موظفي الدولة.

- مشاركة الدولة في بعض مظاهر السلطة العامة، كاللجوء إلى وسائل القانون العام في مباشرة وظائفها، ونزع الـملكية والاستملاك ضمن الـحدود التي يرسـمها القانون. وتـخضع القرارات التي تصدر عن الـمجالس الـمحلية، كالقرارات الصادرة عن الدولة، للطعن أمام القضاء الإداري لعدم شرعيتها، ولطلب التعويض، إذا ما تسببت بضرر للغيـر في مـمارسة نشاطها.

- تـمتع أشخاص الإدارة الـمحلية بذمة مالية خاصة، مع ما يترتب على ذلك من نتائج قانونية كاكتساب الـحقوق والتزام الواجبات وقبول الـهبات وتنظيم موازنات خاصة مستقلة عن موازنة الدولة.

- الأهلية للتقاضي بوصفها مدعية أو مدعى عليها.

إن استقلال الـهيئات الـمحلية في إدارة شؤون الوحدات الـمحلية، واكتسابـها الشخصية القانونية، يعنـي أن هذه الـهيئات مستقلة في اتـخاذ قراراتـها. فهي تتمتع بسلطة تقريرية، ضمن حدود صلاحياتـها. وهـي لا تـخضع لتوجيهات السلطة الـمركزية وأوامرها، لأنـها لا تـخضع أساسا لسلطتها التسلسلية، فصلاحياتـها تنبع من القانون مباشرة وليست مفوضة إليها من الـحكومة، والقرارات التي تتخذها قد تكون نافذة بذاتـها وقد يـحتاج بعضها إلى مصادقة السلطة الـمركزية، لأن القانون ينص على وجوب تصديق السلطة الـمركزية على بعض قرارات الـهيئات الـمحلية، غيـر أن هذا التصديق لا يغيـر شيئا في طبيعتها، كون الـهيئات الـمحلية تبقى مسؤولة وحدها عن الآثار التي تترتب عليها، ولـها وحدها حق العودة عنها أو إلغاؤها، على رغم تصديق سلطة الوصاية عليها، أي السلطة الـمركزية، في حين أنه لا يـحق لـهذه الأخيـرة إدخال أي تعديل عليها. ويـحق للهيئات الـمحلية في نظام اللامركزية، مقاضاة السلطة الـمركزية أمام القضاء الإداري والـمطالبة بإبطال القرارات الصادرة عنها، إذا كانت ماسة بـحقوقها واستقلالـها الإداري، في حين أن الـموظف الـخاضع للسلطة التسلسلية ليس له حق الطعن في قرارات رئيسه أمام القضاء، حتـى ولو كانت مـخالفة للقانون، ما لـم تـمس بشخصه أو تكون متعلقة بـمصلحة شخصية له، فهو يبقى تابعاً وخاضعاً في عمله الوظيفي لرئيسه. وهذا ما يـميز الشخص الـمعنوي اللامركزي عن الـموظف الـمركزي.

إن استقلال الـهيئات اللامركزية في اتـخاذ القرارات الإدارية يفترض وجود جهاز إداري خاص تابع لـها يتولى تنفيذ هذه القرارات، ويـمنحها حق وصلاحية اختيار أفراد هذا الـجهاز، ووضع نظام خاص له مستقل عن النظام العام للموظفين، وهذا ما يعزز استقلال الـهيئات اللامركزية عن السلطة الـمركزية. ويستتبع ذلك استقلال هذه الـهيئات ماليا. فالاستقلال الـمالي عنصر أساسي في تـحقيق اللامركزية الإدارية، لأنه يـمكّن الـهيئات الـمحلية من القيام بالأعباء الـملقاة على عاتقها وتنفيذ الـمشاريع الواجب تنفيذها. فللـهيئات اللامركزية موازنات مستقلة عن موازنة الدولة العامة، ولـها مـحاسبتها الـخاصـة. أمـا أمـورها الـماليـة فتختلف مصادرها (رسوم، هبات، مساعدات من الدولة). فالدولة تلجأ إلى مد الـهيئات اللامركزية بأموال نقدية لتمكنها من تغطية نفقات بعض الـمشاريع التي تتطلب أموالا تفوق قدرة هذه الـهيئات. غيـر أن ذلك يؤثر على استقلال الـهيئات اللامركزية ويـجعلها عمليا في موقع التابع للسلطة الـمركزية. وقد حذر (هوريو ـHauriou ) من اعتماد الـهيئات اللامركزية على الـمساعدات الـحكومية لأنـها تعطل مفهوم اللامركزية، على أساس أن تـمويل الـمشاريع من قبل الـحكومة يعتبـر عملاً مرادفاً للمركزية ووسيلة من وسائل فرض النظام الـمركزي. فبقدر مـا تعتمد الـهيئات اللامركزية على مواردها الـمالية الذاتية، يتعمق استقلالـها ويتسع، وبقدر ما تعتمد على مساعدات الدولة، يضيق هذا الاستقلال.

إن استقلال الـهيئات اللامركزية إدارياً عن السلطة الـمركزية، يقع ضمن حدود معينة. فهو ليس استقلالاً بـمعنـى أن الوحدات اللامركزية تـمتلك كيانات سياسية تتمتع بسلطات اشتراعية وإجرائية وقضائية، لأنـها لا تـمتلك مثل هذه السلطات الـمنفصلة عن السلطة الـمركزية. غيـر أنـها لا ترتبط بالسلطة الـمركزية بالتسلسلية الـهرمية. فهي ليست مستقلة سياسيا وإنـما إداريا فقط. وهي مرتبطة عضويا بالسلطة الـمركزية. فالاستقلال غيـر الـمنضبط ضمن حدود معينة يـهدد وحدة الدولة. كما أن علاقة التبعية في إطار السلطة التسلسلية تقضي على اللامركزية. والرابط بين السلطة الـمركزية والسلطة اللامركزية يتجسد بالرقابة الإدارية التي تـمارسها السلطة الأولى على الثانية. وهذه الرقابة الإدارية هي التي تـمكّن الدولة من الـحفاظ على وحدتـها في ظل اللامركزية.

 

ثانياً - اللامركزية الإدارية واللاحصرية

لا بد من التمييز بين اللامركزية واللاحصرية. فاللاحصرية هي نظام إداري يقوم في إطار الـمركزية، ويقضي بتوسيع صلاحيات الذين يتولون إدارة الوحدات الإدارية، ويعتبـرون مـمثلين للسلطة الـمركزية في هذه الوحدات، لأنـهم يرتبطون بـهذه السلطة مباشرة وفق تسلسل هرمي. وهؤلاء الـموظفون لا يتمتعون بأي استقلال إداري في مـمارسة وظائفهم، ويـخضعون مباشرة لسلطة رؤسائهم في السلطة الـمركزية، غيـر أنـهم يـمارسون بعض الصلاحيات الـممنوحة من السلطة الـمركزية من دون الرجوع إلى هذه السلطة. فالسلطة الـمركزية تـمنح بعض صلاحيات السلطة الإدارية في العاصمة إلى مـمثليها في الـمناطق من أجل الإسراع في بت الـمعاملات، وتسهيل شؤون الـمواطنين ومن أجل تـخفيف الأعباء الـملقاة على عاتق السلطة الـمركزية. والـحصرية القائمة على حصر كل الصلاحيات في القائمين بـمهام السلطة الـمركزية في العاصمة، لـم تعد تتلاءم ومقتضيات العصر التـي فرضت على الدولة القيام بوظائف لـم تكن تقوم بـها في السابق، مـما قضى بتوزيع الوظائف الإدارية بيـن جهاز قائم في العاصمة وأجهزة مرتبطة به في مـختلف الوحدات الإدارية، (وهذا الارتباط هو ارتباط تبعي وفقا لقواعد التسلسل الـهرمي مع ما يستتبع ذلك من سلطة رقابة وتوجيه وإعطاء الأوامر والتعليمات وسلطة تأديبية) ([5]). وهذا ما يـميز اللاحصرية عن اللامركزية. فاللاحصرية شكل من أشكال الـمركزية تعطى فيه بعض صلاحيات التقرير والتنفيذ لـموظفين خاضعين مباشرة للسلطة الـمركزية، في حين أن صلاحيات التقرير والتنفيذ اللامركزية تعطى لـهيئات مـحلية تـمثل السكان وتتمتع بالاستقلال الإداري والـمالي عن السلطة الـمركزية غيـر أنـها خاضعة لرقابة هذه السلطة.

 

ثالثاً- اللامركزية الـمرفقية

اللامركزية الـمرفقية أسلوب من أساليب إدارة الـمرافق العامة، يتلخص بإدارة مرفق عام بواسطة هيئة إدارية يـمنحها القانون الشخصية الـمعنوية، وتكون تالياً، مستقلة إدارياً وفنياً عن السلطة الإدارية التي أنشأتـها.

لقد فـرض اتساع وظائف الدولة وتعددها وجـود مرافق عامة ذات أهداف متنوعة (إنـمائية، اقتصادية، تـجارية، ثقافية، عمرانية، ألخ). ومن أجل أن تؤدي هذه الـمرافق الوظائف التي وجدت من أجلها، اعتمدت بعض الدول أسلوب اللامركزية الـمرفقية، فأنشأت هيئات عامة، منحتها الشخصية الـمعنوية والاستقلاليين الـمالي والإداري، على أساس أن هذه الطريق تساعد الـمرافق العامة على تـحقيق الأهداف الـمطلوبة عن أكمل وجه ومن دون تباطؤ، كونـها تتخلص إلى حد ما من الروتين الإداري.

وإذا ما أجرينا مقارنة بين اللامركزية الإدارية واللامركزية الـمرفقية، نرى أن الفارق كبيـر بينهما. فاللامركزية الإدارية تقوم على أقاليم من الدولة تتولى إدارتـها هيئات مـحلية تتمتع ببعض الاستقلال الذاتي عن السلطة الـمركزية، وتشمل سلطتها الإقليم الذي تقوم فيه كل هيئة من الـهيئات الـمحلية والأفراد الذين يقومون فيه، في حين أن اللامركزية الـمرفقية لا تشمل أقاليم الدولة، إنـما تنحصر في إدارة نشاطات مـحددة، وسلطات الـهيئات التي تدير هذه النشاطات مـحصورة فيها ولا تتعداها إلى الإقليم الذي تقوم عليه، فهي سلطة مـحدودة وليست عامة وشاملة كسلطة الـهيئات الـمحلية في اللامركزية الإدارية. لـهذه الأسباب أثيـر الـجدل حول ما إذا كان بالإمكان اعتبار الـمؤسسات التي تدير الـمرافق العامة وتتمتع بالشخصية الـمعنوية وبالإستقلالين الـمالي والإداري، هيئات لامركزية وإدخالـها في إطار نظام اللامركزي بـمفهومه القانوني. فرأى البعض أن اللامركزية الـمرفقية لا تتضمن أيا من خصائص اللامركزية الإقليمية، إذ هي فرع من فروع الإدارة العامة، بينما رأى البعض الآخر أنه يـمكن الاعتراف بـهذا بصفة اللامركزية إذا ما توافر فيها عدد من الشروط الأساسية، كانتخاب الـمسؤولين عن الـمرفق أو مـجلس إدارة الـمؤسسة من قبل الـموظفين الفنيين إضافة إلى الشخصية الـمعنوية الـممنوحة للهيئة التي تدير الـمرفق العام والاستقلالين الـمالي والإداري، وإلى وجود نظام خاص بالـموظفين، وتـمتع هذه الـهيئة بسلطة تقريرية فعلية.

والـحقيقة أنه ليس ما يـمنع إطلاق تسمية اللامركزية الـمرفقية أو الفنية على الـمؤسسات والـمصالـح العامة إذا ما اعترف لـها بالشخصية الـمعنوية وبالاستقلالين الـمالي والإداري عن السلطة الـمركزية، وأنيط بـمجلس إدارتـها سلطات تقريرية وتنفيذية تباشرها بـمعزل عن السلطة الـمركزية، وإذا ما اقتصرت علاقتها بـهذه السلطة على الرقابة والوصاية الإدارية، كما هو الشأن في اللامركزية الإدارية. فإذا ما اجتمعت لـهذه الـمؤسسات كل تلك العناصر، فلا بأس من اعتبارها مؤسسات لامركزية من نوع خاص. لأن اللامركزية الـمرفقية تقع في منـزلة قائمة بين اللامركزية واللاحصرية، وقد تكون أقرب إلى اللاحصرية منها إلى اللامركزية الإدارية.

 

رابعاً - اللامركزية الإدارية في لبنان

إن التنظيم الإداري في لبنان يقوم على أساس الـمركزية النسبية أو اللاحصرية الإدارية. فالدولة اللبنانية مقسمة إلى وحدات إدارية إقليمية، ترتبط الأجهزة التي تتولى إدارتـها مباشرة، وفـي إطار التسلسلية الـهرمية، بالسلطة الـمركزية القائمة في العاصمة، وتتلقى منها الأوامر والتوجيهات وتنفذها بـحذافيـرها. فهذه الأجهزة الإدارية الـمحلية تعتبـر مـمثلة للسلطة الـمركزية على الـمستوى الـمحلي، في الـمحافظات وفي الأقضية، ومن شأن هذا التنظيم الإداري تسهيل عمل السلطة الـمركزية، وأعمال الـمواطنين في آن واحد.

أما اللامركزية الإدارية فتقوم في لبنان، حتى الآن، على مستوى البلدية واتـحاد البلديات فقط. وقد صدرت قوانين عديدة منذ عام 9221، نظمت شؤون البلديات، وآخرها الـمرسوم الاشتراعي رقم 118 تاريخ 30/6/1977 وقد أدخلت عليه عدة تعديلات. ومنحت البلديـات، بـموجب هـذه التشريعات، الشخصية الـمعنوية والاستقلال الـمالي والإدارية، لكي تتمكن من القيام بأعباء الإدارة الـمحلية بـحيث تشكل نواة الإدارة الـمحلية اللامركزية في لبنان.

وتتألف الإدارة الـمحلية في لبنان من سلطتين: سلطة تقريرية يتولاها مـجلس منتخب هو الـمجلس البلدي، وسلطة تنفيذية يتولاها رئيس البلدية يعاونه جـهاز من الـموظفين الإداريين والفنيين.

 

خامساً - دور اللامركزية الإدارية في عملية التنمية

تلعب اللامركزية الإدارية دورا أساسيا في عملية التنمية، وهي قامت في الأساس من أجل تـحقيق التنمية على الـمستوى الـمحلي. فالسلطة الـمركزية، وبعد أن ازدادت الـمهمات الـمناطة بـها، نتيجة التحول الـحاصل في مفهوم الدولة التي أصبحت دولة رعاية، غدت السلطة الـمركزية عاجزة عن القيام بـما تطلبه التنمية الـمحلية، دون الاستعانة بـهيئات مـحلية. فتراكم الأعباء على الإدارة الـمركزية، والبيـروقراطية التي تعيشها هذه الإدارة إضافة إلى الروتين الإداري الذي يؤخّر اتـخاذ القرار وتنفيذه. كل هذه الأمور قضت بالاعتماد في تـحقيق التنمية الـمحلية على هيئات منتخبة تعبّـر عن إرادة الـمواطنين وتطلعاتـهم ومصالـحهم. فهم أدرى بشؤونـهم وبكيفية إدارة هذه الشؤون، من السلطة الـمركزية، البعيدة عنهم والتي لـها مشاغلها الكثيـرة. وإعطاء هذه الـهيئات الصلاحيات اللازمة والإمكانيات الضرورية، وبـخاصة الإمكانيات البشريـة والـمالية، يؤهلها لتنظيم شؤون الـمحلة (بلدة أو مدينة) وتوفيـر الـخدمات فيها، وتطوير أوضاعها العمرانية والاجتماعية والثقافية. وهذه كلها أمور تساعد على تـحقيق التنمية بأبعادها الـمختلفة.

 

سادساً - الإنـماء الـمتوازن

يشمل مفهوم الإنـماء الـمتوازن مضمون عملية التنمية وبعدها الـجغرافي في آن معا. فمـن ناحية الـمضمون، لا يـجوز أن تقتصر التنمية علـى ناحية دون النواحي الأخرى، فالتنمية الاقتصادية يـجب أن تقترن بالتنمية الاجتماعية والثقافية والتربوية والسياسية، لكي تكتمل عملية التنمية، خاصة أن تنمية كل عنصر من عناصر التنمية تنعكس إيـجاباً على العناصر الأخرى. فالتنمية الاقتصادية تساعد على تـحقيق التنمية الاجتماعية والثقافية والسياسية، كما أن التنمية السياسية تساعد على تـحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، غيـر أن ذلك يبقى رهناً بتوافـر شروط موضوعية وذاتية، يأتي في طليعتها توافر الـمؤسسات القادرة على القيام بعملية التنمية، والعنصر البشري والإمكانات الـمالية.

أما من ناحية البعد الـجغرافي للتنمية ، فمن الـمفترض أن يشمل الإنـماء الـمتوازن مـختلف الـمناطق بـحيث لا يقتصر الإنـماء على مناطق دون الأخرى، ولا تكون درجة التفاوت في إنـماء الـمناطق كبيـرة. فللخل في التنمية على مستوى الـمناطق انعكاسات سلبية على الاستقرار الاجتماعي والسياسي، لأنه غالبا ما يقترن بـحركة نزوح من الـمناطق الأقل تنمية إلى الـمناطق الأكثر تنمية. وهذا النـزوح غالبا ما يتسبب بـمشاكل كبيـرة ومعقدة، كما أن الـخلل في التنمية، وما ينتج عنه من فقرŸ وتردŸ في الأوضاع الاجتماعية، يقود الفئات الـمهمشة والتي تعاني من سوء الأوضاع الـمعيشية إلى حالة تـمردŸ على الواقع، والـمطالبة بإجراء تغييـرات جذرية في الواقع السياسي. بينما يؤدي تـحقيق الإنـماء الـمتوازن إلى استقرار اجتماعي وسياسي. فيستقر الـمواطن في الـمنطقة التي ينتمي إليها، ويُنتج فيها، فيسهم في تنميتها، ويرتاح إلى الأوضاع السياسية بـحيث تزول عنده روح التمرد على الواقع والنظام لأن النظام السياسي يوفر له شروط العيش الكريم.

مـن ناحية ثانية يؤدي الإنـماء الـمتوازن إلى ترسيخ الوحدة الوطنية، فيشعر أبناء الوطن، بـمختلف مناطقه، أن الدولة تـحتضنهم وترعى شؤونـهم، فتزول الـحساسيات التي قد تنشأ بين أبناء الـمناطق نتيجة الـخلل في التنمية والتفاوت بين مناطق نامية ومناطق غيـر نامية، كما يتقلص التفاوت في الـمستوى الاجتماعي بيـن أبناء الـمناطق. وهذه أمور تؤدي إلى زيادة تـماسك النسيج الوطنـي.

 

سابعاً- الإنـماء الـمتوازن في وثيقة الوفاق الوطنـي والدستور

عانى لبنان من خلل في عملية التنمية، وقد تـجلى ذلك في التفاوت الـهائل في مستوى التنمية بين العاصمة ووسط لبنان من جهة والـمناطق النائية مـن جهة أخرى. وإذا كان من الطبيعي أن تكون العاصمة والـمناطق القريبة منها أكثر نـمواً من الـمناطق البعيدة عنها، فـمن غيـر الطبيعي أن يبلغ التفاوت فـي التنمية بين الـمناطق حداً كبيـراً. هذه الـمشكلة أشار إليها بوضوح تقرير بعثة (إيرفد) التي ترأسها الأب (ليبـريه) والتي استقدمت إلى لبنان في مطلع عهد الرئيس فؤاد شهاب. وقد أولت الـحكومات التي تعاقبت في عهد الرئيس شهاب اهتماما خاصة بالـمناطق النائية وأقامت فيها الطرقات الـمعبدة وشبكات الكهرباء والـماء والـمدارس، غيـر أن الإهمال عاد ليخيم على هذه الـمناطق. وقد أدى ذلك إلى انعكاسات سلبية على الاستقرار السياسي في البلاد وعلى الوحدة الوطنية. وعندما اجتمع النواب في مدينة الطائف في الـمملكة العربية السعودية، للاتفاق على وثيقة الوفاق الوطنـي، ضمّنوا هذه الوثيقة التي وضعت بتاريخ 22/10/،1989 بنداً ينص على ما يلي: (الإنـماء الـمتوازن للمناطق ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً ركن أساسي من أركان وحدة الدولة واستقرار النظام) وقد ورد هذا البند تـحت عنوان (الـمبادئ العامة والإصلاحات). وعندما عُدل الدستور بـموجب وثيقة الوفاق الوطني، بالقانون الدستوري الصادر في 21/9/،1990 أُدخل هذا النص حرفيا في مقدمة الدستور وشكل البند (ز) من هذه الـمقدمة. وقد اعتبـرت مقدمة الدستور، في قرارات الـمجلس الدستوري، جزءا لا يتجزأ من الدستور.

إن إدراج الإنـماء الـمتوازن في الدستور، يعنـي أن الدولة اللبنانية رفعت هذه القضية إلى مستوى القضايا الأساسية، وبـخاصة أنـها ربطتها بوحدة الدولة واستقرار نظامها السياسي، وهذه أمور أساسية لا يـمكن التهاون بـها. وهذا يعنـي من ناحية ثانية أن الـحكومة ملزمة بإعطاء الإنـماء الـمتوازن الأهمية التي يستحق، في رسم سياساتـها وتـحديد موازناتـها، وأن الـمجلس النيابي عليه أن يأخذ بالاعتبار هذه القضية، في مـمارسة دوره في مـجال التشريع، وفي مراقبة الـحكومة ومـحاسبتها.

 

ثامناً - اللامركزية الإدارية كوسيلة لتحقيق الإنـماء الـمتوازن

اللامركزية الإدارية وسيلة لتحقيق التنمية الـمحلية، غيـر أن مؤسسات اللامركزية الإدارية تبقى لوحدها عاجزة عن تـحقيق الإنـماء الـمتوازن، نظرا لتواضع إمكانياتـها بالنسبة لـما تتطلبه عملية الإنـماء الـمتوازن. فهذه العملية تتطلب إنشاء بنـى تـحتية متطورة في مـختلف الـمناطق بـما فيها الـمناطق النائية، وربط هذه الـمناطق ببعضها بشبكة طرق حديثة، وتنمية الـمناطق اقتصاديا من طريق تطوير الزراعة واستخدام الوسائل الـحديثة فيها ، وإيـجاد مناطق صناعية في مـختلف الـمناطق. وهذا يتطلب رسم سياسات على مستوى السلطة الـمركزية وتنفيذها. وإذا كانت التنمية الاقتصادية في الدول ذات الأنظمة الليبـرالية كلبنان تعتمد على القطاع الـخاص وليس على القطاع العام، فإن القطاع العام، وتـحديدا السلطة الـمركزية، تلعب دورا أساسيا في توفيـر الشروط الـمادية والتشريعات التي تشجع القطاع الـخاص على الاستثمار في الـمناطق الريفية وبـخاصة النائية منها. لذلك لا يـمكن للسلطة الـمركزية أن تتخلى عن دورها في تـحقيق الإنـماء الـمتوازن، وتترك هذه الـمهمة للإدارة الـمحلية القائمة في إطار اللامركزية الإدارية.

وعلى الرغم من الدور الأساسي الذي يـجب أن تضطلع به السلطة الـمركزية في مـجال الإنـماء الـمتوازن، يبقى للإدارات اللامركزية دور لا بد من أن تقوم به في إطار الإنـماء الـمتوازن، وهو دور مساعد. فالإدارات اللامركزية إذا ما توفرت لـها الإمكانيات البشرية والـمالية ، ومُنحت الصلاحيات الضرورية، يـمكنها أن تلعب دوراً مساعداً للسلطة الـمركزية في تـحقيق الإنـماء الـمتوازن، وذلك من خلال الدور الذي تلعبه على مستوى التنمية الـمحلية التي هي عنصر أساسي من عناصر الإنـماء الـمتوازن. فالإدارات اللامركزية لا يقتصر دورها على تقديـم الـخدمات الضرورية على الصعيد الـمحلي، وتنظيم وإدارة الشأن العام في إطار عملها الـجغرافي، إنـما يتعدى دورها ذلك إلى إنشاء واستثمار بعض الـمرافق الاقتصادية، التي تغذي موازنتها السنوية بالـمال، وتـمكنها بالتالي من القيام بالأعباء الـملقاة على عاتقها، فتلعب دوراً متعاظماً في عملية التنمية الـمحلية وبالتالي في مـجال الإنـماء الـمتوازن. وفي الدول الـمتقدمة التـي تعتمد اللامركزية الإدارية الـموسعة، كفرنسا وبريطانيا وإيطاليا وألـمانيا، تقوم مؤسسات اللامركزية الإدارية بدور أساسي في مـجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية، بفعل الصلاحيات التي تتمتع بـها والإمكانيات الـمالية والبشرية الـمتوفرة لديها مـما يزيد من فاعليتها، ويعزز دورها في مـجال التنمية الـمتوازنة.

وإذا ما تناولنا تـجربة لبنان في مـجال اللامركزية الإدارية وتـحديداً البلديات، نرى أن الـمرسوم الإشتراعي رقم 118 تاريخ 30/6/1977 والذي لا يزال يـحكم، مع تعديلاته، عمل الـجالس البلدية، نرى أنه منح البلديات صلاحيات واسعة، بـحيث لا تنحصر صلاحياتـها في إطار الـخدمات العادية والضرورية فقط; بل تتجاوزها إلى كل ما له علاقة بالتنمية الشاملة على الـمستوى الـمحلي. فقد نصت الـمادة 47 من الـمرسوم الـمذكور آنفا على أن (كل عمل ذي طابع أو منفعة عامة، في النطاق البلدي، هو من اختصاص الـمجلس البلدي، وللمجلس البلدي أن يعرب عن توصياته وأمانيه في سائر الـمواضيع ذات الـمصلحة البلدية، ويبدي ملاحظاته ومقترحاته في ما يتعلق بالـحاجات العامة في النطاق البلدي). وقد نصت الـمادة 48 على أن (للأنظمة التي يصدرها الـمجلس البلدي في الـمسائل الداخلة ضمن اختصاصه صفة الإلزام ضمن النطاق البلدي).

أما الـمادة ،49 فقد عددت الـمهام التي يتولاها الـمجلس البلدي على سبيل الـمثال لا الـحصر، ذلك أن هذه الـمهام ترتبط بكل ما له علاقة بالـمنفعة العامة، ولا يـمكن بالتالي حصرها في نص قانوني. وإضافة إلى الـمهام الـمتعلقة بشق وتعبيد الطرقات والنظافة والبيئة والتنظيم الـمدني والتجميل وغيـرها، أنيطت بالـمجالس البلدية مهام ترتبط مباشرة بالتنمية الـمحلية بـمفهومها الواسع فقد نصت الـمادة 50 من الـمرسوم الاشتراعي رقم 118 على أنه يـجوز للمجلس البلدي ضمن منطقته أن ينشئ أو يديـر بالذات أو بالواسطة أو يسهم أو يساعد في تنفيذ الأعمال والـمشاريع الآتية: الـمدارس الرسـمية ودور الـحضانة والـمدارس الـمهنية، الـمساكن الشعبية والـحمامات والـمسابح والـمستشفيات العمومية والـمصحات والـمستوصفات والـمتاحف والـمكتبات العامة ودور التمثيل والسينما والـملاهي والأندية والـملاعب، والوسائل الـمحلية للنقل والأسواق العامة.

وعلى الرغم من هذه الصلاحيات الـمعطاة للمجالس البلدية لـم تتمكن هذه الـمجالس من القيام بـمعظم الـمهام الـموكلة لـها، وذلك بسبب ضعف مواردها الـمالية، وعدم إعداد الـجهاز البشري العامل فيها إعدادا جيدا، والقيود الـموضوعة عليها في إطار الرقابة من قبل السلطة الـمركزية. فالرقابة ضرورية ولكنها إذا ما تـجاوزت حدودا معينة تصبح عائقا أمام تنفيذ قرارات الـمجالس البلدية، وبـخاصة إذا كانت الإدارة الـمركزية تعاني من مشكلة الروتين والبطء في عملها ([6]). كما أن تـجاوز السلطة الـمركزية للصلاحيات الـمعطاة لـها كسلطة رقابة على الـجالس البلدية يؤثر سلبا على عمل هذه الـمجالس ([7]). من ناحية أخرى نرى أن عدم إجراء الانتخابات البلدية في مواعيدها، وتأجيلها مرارا ولفترات طويلة، أدى إلى شلل هذه الـمجالس وعدم تـجديدها، فالـمجالس البلدية التي انتخبت عام 1964 لـم يـجر انتخاب أعضائها مـجددا سوى في العام .1998 كما أن الـخلافات التي تنشب أحيانا في بعض البلدات، تشل عمل الـمجالس البلدية فيها.

لـهذه الأسباب جـميعها، لـم تلعب البلديات عموما الدور الـمفترض أن تلعبه على صعيد التنمية الـمحلية، وبالتالي لـم تلعب دورا على صعيد الإنـماء الـمتوازن، وبـخاصة أن السلطة الـمركزية لـم تضع حتى الآن خطة لتحقيق الإنـماء الـمتوازن، الذي لا يزال حتى الآن مـجرد شعار يطرح في التداول السياسي فقط، على الرغم من أنه أصبح بندا في الدستور اللبناني، عوضا عن أنه بندž في وثيقة الوفاق الوطنـي.

ونظرا لأهمية الإنـماء الـمتوازن، ليس فقط بالنسبة لأبناء الـمناطق الـمفترض أن تستفيد منه، إنـما بالنسبة للوطن، بسبب انعكاساته الـمباشرة على الوحدة الوطنية والاستقرار، فإن الواجب الوطنـي والالتزام بـما ورد في وثيقة الوفاق الوطنـي والدستور، يقضيان بوضع خطة لتحقيق الإنـماء الـمتوازن من قبل السلطة الـمركزية وتـمويلها وتنفيذها وإعطاء دورا فيها للإدارات القائمة في إطار اللامركزية الإدارية بعد اعتماد اللامركزية الإدارية الـموسعة التي نصت عليها وثيقة الوفاق الوطنـي التي جاء فيها ما يلـي: (اعتماد اللامركزية الإدارية الـموسعة على مستوى الوحدات الإدارية الصغرى (القضاء وما دون) عن طريق انتخاب مـجلس لكل قضاء يرئسه القائمقام، تأمينا للمشاركة الـمحلية).

كما أن الوثيقة نفسها نصت على (اعتماد خطة إنـمائية موحدة شاملة للبلاد قادرة على تطوير الـمناطق اللبنانية وتنميتها اقتصاديا واجتماعيا، وتعزيز موارد البلديات والبلديات الـموحدة والاتـحادات البلدية بالإمكانات الـمالية اللازمة). وقد آن الأوان لوضع هذه الـخطة ووضع قوانين جديدة للامركزية الإدارية الـموسعة تعطى في إطاره مـجالس الأقضية الصلاحيات والإمكانيات الـمالية اللازمة كما تعطى أيضا للمجالس البلدية الإمكانات الـمالية، وتزال العراقيل الإدارية التي تعرقل عملها. لكي تستطيع الإدارات الـمحلية، القائمة في إطار اللامركزية الإدارية، من لعب دور فاعل في مـجال تـحقيق الإنـماء الـمتوازن، ضمن الـخطة التي تضعها السلطة الـمركزية.

 


[1] د. عصام سليمان، الانتخابات البلدية، الدليل الديـمقراطي، مؤسسة رينه معوض ،1998 ص .7

[2]  VEDEL (G), Droit administratif, Puf, Paris, P.286

[3]  RIVERO(J), Droit administratif, Dalloz, Paris, P.226

[4]  HAURIORU (M), Précis de Droit administratif, Paris, 1921, P109

[5]  د. خالد قبانـي، اللامركزيـة ومسألة تطبيقها فـي لبنان، منشورات عويدات، بيـروت - باريس، ،1981 ص .44

[6]  طوني عطا الله، درجة الـمركزية واللامركزية: دراسة معاملة بلدية في مـحافظة البقاع، وردت في كتاب (اللامركزية الإدارية في لبنان)، الـمركز اللبناني للدراسات، بيـروت- ،1996 ص 207-.215

[7]  د. عصام سليمان، تـجربة البلديات في بيـروت، نشر في كتاب (واقع البلديات في لبنان وعوائق الـمشاركة الـمحلية والتنمية الـمتوازنة)، الـمركز اللبنانـي للدراسات، بيـروت ،1998 ص 27-.97