- En
- Fr
- عربي
اللعبة الاستيطانية بين إسرائيل وأميركا
الدور الإسرائيلي الذاتي
في صبيحة الخامس من حزيران / يونيو 1967 شنَّت إسرائيل، كما هو معلوم، حرباً ضد العرب عرفت بحرب الأيام الستة وأسفرت عن توسيع رقعة الكيان الصهيوني في أراضي الدول العربيـة المجاورة، أو دول الطوق، بلغت مساحتها الإجمالية أربعة أضعاف المساحة التي احتلتها من فلسطين عام 1948. وقد شمل هذا التوسع الضفة الغربية وشبه جزيرة سيناء وقسماً هاماً من هضبـة الجولان وقطاع غزة، هذا بالإضافـة إلى إخضاع نحو 1.750 مليون مواطن فلسطيني للحكم العسكري الإسرائيلي.
وعلى أرضية هذا التحول الدراماتيكي من الناحيتين التاريخية والجيوسياسية قامت الحكومات الإسرائيليـة المتعاقبـة بدعم المستعمرات والأنشطة الاستيطانية المختلفة في المناطق المحتلة حديثاً، تحت ذرائع وتبريرات أمنية ودينية وقومية لا نهاية لها. وبالتالي لم تعد مسألـة السيطرة على مناطق محددة من الأراضي العربيـة قاصرة على التفكير العسكري الأمني لوحده، بل لقد برزت إلى الصدارة معتقدات إيديولوجيـة وسياسية عميقة لها علاقة وطيدة بتفسير الصهيونية الحديثة وحدود "دولة إسرائيل" الدائمة في المستقبل.
وقد أدت هذه التطورات المفصلة إلى كثير من الجدل والنزاع الداخلي والخارجي لخَّصها الباحث الإسرائيلي هرست بقولـه: "لقد اكتشف الإسرائيليون المحدثون من جديد بين عشيـة وضحاها الحماس والحلم اللذين كانا قد ألهما الرواد الأوائل. وقد انطلق هذا البعث الصهيوني في تيار متدفق من الموروثات والتصورات "الثوراتية - الاستراتيجية والاكليركية - العسكرية([1])".
وتبين في ذلك الحين أن إسرائيل لم تحقق مكسباً صافياً من دون أيـة مشاكل، بل إن الموقف العام هو أنه لو قامت رسمياً بضم الضفـة الغربية وقطاع غزة فسوف تضيف أكثر من مليون عربي إلى سكان يساوون أقل من ثلاثة ملايين يهودي، هذا ناهيك بإمكان تفاقم المشكلة الديموغرافية أكثر فأكثر من جراء تفاوت نسبـة التكاثر الطبيعي في صفوف كـل من الفلسطينيين واليهود. ومع ذلك تذرع يغآل آلون الذي تولى مناصب هامة في العديد من حكومات حزب العمل حتى مطلع السبعينات، بأنه من الضروري توافر وجود يهودي في ما وصفه نقاط استراتيجيـة في الضفة الغربية، ولذا اقترح خطة تهدف إلى تأمين حدود إضافيـة آمنة لصالح إسرائيل على طول وادي الأردن بإقامـة مستوطنات بالأسلوب الإسرائيلي التقليدي. وقد بين آلون في حينه أن "حدود الأمن التي ليست حدود دولة ليست حدود أمن - وحدود الدولة التي لا يستوطنها اليهود على امتداد طولها ليست حدود دولة"([2]). وفي عام 1970 تم في إسرائيل تشكيل اللجنة الوزارية للاستيطان بوصفها صانع القرار النهائي في المسائل المتصلة بواقع الاستيطان في المناطق ذات الأولويـة. ومنذ تشكيلها وحتى انتخاب حكومة ليكود اليمينية عام 1977 ترأس هذه اللجنة آلون نفسه أو يسرائيل غاليلي أقرب حلفائه السياسيين. وهكذا أصبحت خطة آلون حجر زاوية السياسة الاستيطانية الإسرائيلية في الضفة الغربية بشكل خاص([3]).ولكن الجدير بالذكر هنا هو أنه منذ "انقلاب" عام 1977 وتسلم الليكود السلطـة في إسرائيل بعد نحو ثلاثين عاماً من المعارضة بدأ مشروع الاستيطان الاستعماري الصهيوني يرتكز وينطلق من مفهوم "أرض إسرائيل الكاملة"، وتم رسمياً ضم القدس إلى إسرائيل في 30 تموز / يوليو 1980 ثم مرتفعات الجولان في 14 كانون الأول / ديسمبر 1981، وباتت مناطق عدة أخرى مهددة بالمصير نفسه([4])، وذلك انسجاماً مع مقولة الباحث الإسرائيلي ميرون بنفنستي: "إن تاريخ المشروع الصهيوني هو سلسلة من الوقائع المفروضة، من خلال الاستيلاء على الأرض والاستيطان"([5]) .
وباختصار يمكن الإشارة إلى تيارين رئيسيين في صوغ البرامج الإسرائيلية لاستيطان الأراضي المحتلة عام 1967: تيار ركز على "دواعي الأمن" ويمثله حزب العمل بشكل أساسي حيث رأى أن "للمستوطنات دوراً استراتيجياً في تقوية الوضع الأمني وهي تقدم أساساً ثابتاً وقوياً لمطلب إسرائيل في السلام مع الحدود الآمنة التي يمكن الدفاع عنهـا وأن هدف الاستيطان تجديد وتوسيع الحدود التي يمكن الدفاع عنها". واعتبره مبرراً قوياً لإجراء تعديل على الحدود. أما التيار الثاني فيمثله تكتل ليكود خاصـة ويؤكد على "ضرورة استمرار سيطرة إسرائيل على جميع أجزاء فلسطين بحدودها الانتدابيـة"([6]). ويستند في دعوته الاستيطانية على الأسس العقائدية والدينية ولا يجد ضرورة للربط بين الدخول في تسوية سياسية مع الفلسطينيين وبين وقف الاستيطان.
والجدير ذكره في هذا السياق أيضاً أن مختلف الحكومات الإسرائيلية سعت باستمرار إلى تكثيف النشاط الاستيطاني بالترافق مع طرح "المبادرات السياسية" أو وجود "مشروع تسويـة" في الأفق، وهذا ما حصل على سبيل المثال أثناء البحث في مستقبل الأراضي المحتلة في غضون اتفاقيتي كامب ديفيد وأثناء التحضير لمؤتمر مدريد وذلك تحقيقاً لهدفين هما السعي لإعاقة وتعقيد عملية التسوية لإفشالها واستخدام المستوطنات كأوراق مساومة قويـة لرفض العودة إلى حدود ما قبل عام 1967، وذلك ضمن مخطط مقصود لكسب الوقت وإيجاد واقع جديد و"حقائق منتهية" تحت عناوين مضللة ذات مغزى سياسي وإنساني مزيف تمهيداً لحرب جديدة وتوسع جديد.
لقد سبق لرئيس الحكومـة الراحل اسحق رابين، الذي كان رئيساً للأركان في حرب عام 1967، أن اعترف بمبادرة إسرائيل للعدوان في ذلك الحين بقولـه: "إن عبد الناصر كان يناور فقط ولم يكن ينوي مهاجمة إسرائيل في أيار - حزيران (مايو - يونيو) 1967"([7]). وكتب أحد الوزراء الأعضاء في حكومـة الائتلاف التي قادت حرب حزيران يقول: "كل هذه الحكايـة عن خطر الإبادة اخترعت بجميع أجزائها وضخمت بعد ذلك لتبرر الاستيلاء على أراض عربية جديدة"([8]). كما وأن الجنرال يوسي بيليد اعترف بقولـه: "ليس من سبب يدعو إلى إخفاء الحقيقـة وهي أنه منذ سنة 1949 لم يكن هناك إنسان يجرؤ أو يمكنه أن يضع وجود إسرائيل موضع بحث. وعلى الرغم من ذلك فقد واصلنا تغذيـة الشعور بالنقص كما لو كنا شعباً ضعيفاً وصغيراً، يعيش في قلق دائم وخوف الإبادة في كل لحظة. واستخدمت المؤسسة الإسرائيلية المخاوف التي أثارتها لدى الشعب كي تمضي في تحقيق أهدافها"([9] )
الدور الأميركي الرديف: الخداع
يوضح وزير الخارجية المصري الراحل محمود رياض أن واشنطن خدعت العرب عام 1967. ويقول في مذكراته إن الرئيس الأميركي ليندون جونسون لجأ أيضاً إلى استغلال أطراف أخرى في عملية الخداع تلك مثل استخدام الأمين العام للأمم المتحدة يونانت في نقل رسالـة إلى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر يحثه فيها على عدم البدء بالعدوان. وعلى الرغم من موافقـة هذا الأخير فإن جونسون نجح أيضاً في إشراك الاتحاد السوفياتي في سيناريو الخداع إذ طلب السفير السوفياتي فجر يوم 27 أيار مقابلة عاجلـة مع عبد الناصر حيث سلمه رسالة من قادة الكرملين يطلبون فيها ألا تكون مصر هي البادئة بإطلاق النار فوافق الرئيس المصري على فحوى الرسالة. وبذلك يكون جونسون قد حصل لإسرائيل على تأكيدات عدة من عبد الناصر بعدم توجيه مصر الضربـة الأولى. وعندما اطمأن تماماً إلى ذلك بقي أمامه احتمال أن يفشل الهجوم الإسرائيلي وتتحول المعركة لغير صالح تل أبيب، ولذلك عندما بدأ العدوان الصهيوني صرح جونسون أن واشنطن لا تعلـم من الذي بدأ أولاً بإطلاق النار تاركاً بذلك المجال أمام بلاده لمساندة إسرائيـل بكل الوسائل وفي كل الظروف. وعلى الأثر وبعد أن تبين تفوق إسرائيل الساحق على العرب في ميدان المعركـة، حصل تحرك دولي شارك فيه الأميركيون وأدى إلى استصدار القرار الشهير رقم 242 عن مجلس الأمن والذي أدى إلى التباسات لا تنتهي حول مسألـة الانسحاب من "أراض" احتلت في حرب عام 1967 أو من كل الأراضي المحتلـة. وقد أوضح يوجين روستو الذي كان في حينه مساعداً لوزير الخارجيـة الأميركي وأحد الذين وضعوا صيغـة القرار المذكور أنه "ليس هناك في قرار مجلس الأمن الرقم 242 حظر على الاستيطان الإسرائيلي في يهودا والسامرة. لا يضمن القرار مطالبـة إسرائيل بالعودة إلى حدود عام 1949"([10]). لكن الولايات المتحدة تجاهلت ذلك([11]) واعتبرت أن كل المناطق التي احتلتها إسرائيل في الحرب تعود ملكيتها للعرب وأن على إسرائيل الانسحاب منها.إلا أن هذا الموقف لم يأخذ طريق التطبيق العملي وبقي في الواقع مجرد ضريبة كلامية كما سنبين لاحقاً.
من جهة أخرى أوضح المندوب البريطاني في مجلس الأمن اللورد كارادون الذي تقدم بمشروع القرار 242 ملابسات هذا القرار بقوله: إن الدول العربية كانت تصر على أنه يجب توجيه الاهتمام الخاص إلى استعادة الأراضي المحتلة فيما كان الإسرائيليون يشددون على أنهم لن ينسحبوا أبداً إلى الحدود غير الآمنة التي كانت قائمة قبل الحرب، إنهم يربطون أي انسحاب بتحقيق السلام غير المشروط مع الدول العربيـة في حين كانت نظرية الأمم المتحدة تتجه نحو الانسحاب المشروط بعدم تحقيق أي مكاسب سياسية أو عسكرية خلافاً لمبادئ القانون الدولي والشرعية الدولية.
أما في ما يتعلق بالموقف الأميركي فإن الوزير المصري الراحل محمود رياض تحدث عن أول لقاء له مع السفير الأميركي في مجلس الأمن غولدبرغ، وقد سألـه عن المفهوم الأميركي لمضمون القرار 242 ومداه واستوضحـه تحديداً موقف واشنطن من قضيتين محددتين هما:
-1 القضيـة الفلسطينية المدرجة في جدول أعمال الجمعية العامة منذ عام 1947 وهي القضية الأساسية في الصراع العربي - الإسرائيلي.
-2 العدوان الإسرائيلي على مصر وسوريا والأردن.
وقد راجع غولدبرغ حكومته ثم عاد وأبلغ الوزير رياض بأن واشنطن ترى أن المشاورات والقرار يجب أن تقتصر فقط على نتائـج حرب حزيران من دون التعرض للقضيـة الفلسطينية، أي من دون البحث في قرار التقسيم والانسحاب إلى الحدود الواردة فيه وهي ما وراء حدود عام 1967. كما وأن غولدبرغ أبلغ السيد رياض رفض واشنطن قيام دولة فلسطينية تنفيذاً للقرار 181 (قرار التقسيم عام 1947) الذي أضفى الشرعية الدولية على الوجود الإسرائيلي من الأساس([12]). ولاحظ الوزير رياض أثناء مشاوراته مع غولدبرغ أن هذا الأخير يصر على استخدام كلمة "عدوان" في التعبير عما قامت بـه إسرائيل يوم 5 حزيران / يونيو 1967. وأكثر من ذلك قال غولدبرغ لرياض: "لا تنسى أنكم الذين بدأتم بالعدوان ضد إسرائيـل. فالحرب من وجهـة نظرنا بدأت بإغلاقكم خليج العقبة وليس بالأعمال العسكرية الإسرائيلية. واحتلال إسرائيل للأراضي العربية هو نتيجـة لهذا العدوان"([13]). وتحت هذه المظلة تمسكت إسرائيـل بمبدأ "الانسحاب الناقص أو المشروط من الأراضي المحتلـة". وهذا ما تأكد في تصريحات لكبار المسؤولين مثل رابين وديان وغولدا مئير وسواهم.
تصدعات في الموقف الدولي
منذ العام 1947 تبنى مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة أكثر من 300 قرار تمس التصرفات الإسرائيلية غير الشرعية وغير القانونية في الأراضي المحتلة قديماً أو حديثاً، وكان رد إسرائيل باستمرار هو تجاهلهـا. وكانت الولايات المتحدة غالباً ما تجد نفسها في موقف حرج بوصفها الدولة الوحيدة التي تناصر أو تحمي إسرائيل في ممارساتها الخارقـة باستمرار للنظام العالمي العام، الأمر الذي أفقدها الكثير من صدقيتها وهيبتها كدولة عظمى تنادي بقيم الديموقراطية وحقوق الإنسان. وكانت تصرفات واشنطن، إذا تعلق الأمر بالانتهاكات الإسرائيلية القانونية والأخلاقية أقل بكثير مما توحي به كلماتها. والشاهد على ذلك ما تقدمه لها من مساعدات وهبات ومنافع خاصـة لا تحصى، ناهيك بسكوتها عن الاحتلال والزحف الاستيطاني الجنوبي الذي يرمي إلى توجيه ضربة استباقية لإمكانية أن يقرر الفلسطينيون مصيرهم بأنفسهم، وإلى نسف أساس السيادة الفلسطينية المحتملة من خلال تدمير تواصل الأراضي التي يسيطرون عليها. وذلك مصداقاً لما كان وزير الدفاع الأسبق آرييل شارون أعلنه عام 1982 بشأن "ياميت" آخر المستوطنات اليهوديـة في سيناء: "إن ياميت تمثل أقصى ما يمكننا التنازل عنه. وسننصرف منذ الآن إلى تقوية أمننا وإلى تطوير أنفسنا في جميع الميادين. كما أننا سنوجه اهتمامنا إلى زيادة وتقوية مستوطناتنا في هضبة الجولان ويهودا والسامرة وقطاع غزة"([14]). علماً بأن شارون هو اليوم وزير البنيـة التحتية لدولة إسرائيل وهو الذي ما يزال يواصل سياسة الاستيطان ذاتها وبشراسة أكبر على مرأى ومسمع من كل المسؤولين الأميركيين.
لقد نجحت إسرائيل على مدى عشرات السنين وبدعم من واشنطن في تعطيل كل الجهود التي بذلتها الأمم المتحدة والدول المحبة للسلام للجم الاحتلال والاستيطان الصهيونيين. وقد استغل اليهود الأميركيون، ولا سيما "لوبي إيباك" و"لوبي النساء"، نقاط الضعف في البنية التنظيمية والقانونية للإدارة الأميركية من أجل وضع الإدارة وجهاً لوجـه مع الكونغرس والعكس بالعكس وذلك خدمةً لمصالحهم الخاصة في أميركا أو إسرائيل على حد سواء. والشاهد على ذلك أن الكونغرس طلب تقريراً من وزارة الخارجيـة في إطار مشروع قانون مخصصات المساعدة الخارجية للعام المالي 1991 نتيجـة الجدل الدائر في شأن موضوع المستوطنات الذي نجم عن طلب إسرائيل مبلغ 400 مليون دولار كضمانات قروض لتوطيـن المهاجرين الروس أيضاً([15]). والخلاصة التي توصل إليها التقرير في حينـه هي أن توطين المهاجرين اليهود السوفيات في الأراضي المحتلة يتم بوتيرة أسرع بأربع مرات مما جاء في مزاعم الحكومة الإسرائيلية. ومع ذلك لم تحرك الإدارة الأميركيـة ساكناً وتغاضت عن كل التجاوزات الاستيطانية، بمجرد حصولها على بعض التأكيدات غير الموثوقة كالتي وردت في رسالة وزير الخارجية الإسرائيلية دافيد ليفي عام 1990 التي أرسلها إلى الوزير الأميركي جيمس بيكر والتي جاء فيها([16]):
- إن سياسة حكومـة إسرائيل هي أنها لا توجه اليهود السوفيات إلى ما وراء الخط الأخضر ولا توطنهم هناك.
- إن استخدام ضمانات قروض الإسكان التي توفرها الولايات المتحدة سينحصر في المناطق الجغرافية التي كانت خاضعة لإدارة حكومة إسرائيل قبل 5 حزيران / يونيو 1967.
- لا توجد أية حوافز خاصة لتشجيع المهاجرين اليهود السوفيات على الاستيطان وراء الخط الأخضر.
- ستزود حكومة إسرائيل الولايات المتحدة من حين إلى آخر بخطط البناء التي تضعها لإسكان المهاجرين، بما في ذلك الحوافز المالية الخاصة.
- سيسعى الوزير ليفي جهده لتوفير أقصى قدر ممكن من المعلومات سنويـاً في ما يتعلق بالدعم المالي لحكومة إسرائيل الخاص بعمليات الاستيطان ولإبلاغ حكومة الولايات المتحدة - من حين إلى آخر - أية نشاطات حكومية (إسرائيلية) تتعلق بالاستيطان.
إلا أنه على الرغم من كل هذه التوضيحات والتأكيدات فإن حركة الاستيطان الصهيونية الزاحفـة في الأراضي المحتلة لا تتوقف على الإطلاق وتشارك فيها وزارة الزراعة ووزارة البناء والإسكان ووزارة البنى التحتيـة ووزارتا المال والدفاع ومصلحة المياه بالإضافة إلى تمويل إضافي لا يرد له أي ذكر في الموازنة العامة.
وقد اتضح أنه بينما كان المستوطنون في بداية عمليات الاستيطان في المناطق المحتلة، أي منذ بداية السبعينات، ينتمون في معظمهم في المكان الأول إلى قطاعات أخرى من السكان وخاصة المتدينين المتطرفين والإسرائيليين العاديين والمهاجرين الجدد. وتبين أن ثمـة سياسة مرسومـة ترمي إلى محاصرة المهاجرين الجدد اقتصادياً واجتماعياً بسياسة رسمية غير معلنة هدفها وضع هؤلاء المهاجرين بين خيارين صعبين هما إما البطالـة والتشرد والدخول في العالم السفلي من المجتمع الإسرائيلي وأما اقتناص فرصة شراء شقة بتسهيلات ومساعدات كثيرة والتقدم اقتصادياً في المناطق الخطرة المطلوب إشغالها باليهود حتى لو كان ذلك قريبـاً جداً من المناطق المأهولة بكثافة سكانية عربية.
لقد انتقد الكثير من المفكرين الأميركيين سياسة واشنطن الخارجية إزاء الشرق الأوسط وخاصـة إزاء الأراضي المحتلة. وفي هذا المجال قال ريتشارد فولك إن سياسة أميركا الخارجيـة تجاه الشرق الأوسط تنطلق مما يسميه "التوجه الإمبريالي"([17]). ورأى أن الولايات المتحدة "أمبراطورية سائرة في طريق الانحلال".
وكتب وزير الخارجية السابق جورج بول عام 1977 مقالة في مجلـة فورين أفيرز تحت عنوان "كيف يمكن إنقاذ إسرائيل رغماً عنها" دعا فيهـا للضغط رسمياً على إسرائيل للتقيد بقرار مجلس الأمن الدولي رقم 242. وبعد ذلك بعام أكد بول أن مصالح إسرائيل وأميركا ليست متطابقة:
"إن ثمة تبايناً في كيفية إدراك بعض القادة الإسرائيليين لمصالح إسرائيل... هناك كثيرون من الزعماء الإسرائيليين يتوجهون... إلى معادلة الأرض والأمن. أرى أن هذا وهم. ولن تتمكن إسرائيل في المدى الطويل من أن تضمن أمنها الحقيقي ما لم تكن مستعدة للانسحاب انسحاباً جوهرياً إلى حدود ما قبل سنـة 1967([18]). ويضيف بول إن أمن إسرائيل يتيسر بالسلام وبالاعتراف بالأماني المشروعـة للفلسطينيين ومن دون ذلك يتحتم على الإسرائيليين أن يصبحوا "دولة ثكنة" كي يحافظوا على أنفسهم.
ويتحدث مالكولم كير في مقالة عن السياسة الأميركية في الشرق الأوسط[19]) عن الموقف الأميركي من العلاقة بين "إسرائيل وفلسطين" حيث يرى أن مشكلة أميركا الأساسية تكمن في أن البحث الصريح والعقلاني في هذا الموضوع يكاد يكون مستحيلاً، لأن تأثير القضية الفلسطينية على صعيد صوغ القرارات هو تأثير سلبي كابح. فأهل الحكم الذين يقع عليهم واجب التفكير الجدي في هذه الأمور - حسب كير - يتهربون في الغالب من القضايا المثيرة للجدل والخلاف، لهم ولرؤسائهم، وبالتالي ينكفئون إلى تقويم استراتيجي ينسجم مع التفكير السائد في الكونغرس والصحافة والرأي العام بتشجيع من "اللوبيات" الكثيرة وأبرزها "الايباك" و"لوبي النساء"، وهذا التفكير السائد يقوم على المبادئ التالية:
-1 إن إسرائيل ليست هدفاً لتعهد أميركي قائم وثابت فقط، بل هي مصدر قوة ونفع لأميركا في المجالات العسكرية والسياسية والخلقية.
-2 إن موضوع التطلعات الوطنية الفلسطينية يجب أن يوضع جانباً عند صوغ أيـة تسويـة للمشكلة العربية - الإسرائيلية لأن التطلعات تتم تغذيتها بصورة مصطنعة وخبيثة.
-3 إن الموضوع الرئيسي هو الرفض العربي لقبول وجود إسرائيل ويعود ذلك إلى تعقيدات نفسية خاصة بالعرب وحدهم.
-4 ليس الحل أمراً أساسياً على أية حال، لأنه ينقص العرب الاهتمام والقدرة والإرادة على فعل الكثير من أجل التسوية.
وقد يقوم بين حين وآخر بعض الأفراد من موظفي الحكومـة أو أصحاب الرأي بتحدي بعض هذه المبادئ، لكنها أضحت جزءاً لا يتجزأ من ثقافة أميركا السياسية، ولذا فهي تطغى على صنع القرارات السياسيـة في المدى الطويل - فعندما يأتي رئيس جديد إلى البيت الأبيض مثل نيكسون أو كارتر أو بوش أو كلينتون وهو مصمم على إجراء تقويم شامل للسياسة في الشرق الأوسط ثم تصدر عنـه بعض بوادر التغيير، فإنه سرعان ما يجابه جدلاً وبلبلة ومخاطر وفضائح لا يمكنه تحملها فينكفئ إلى "التفكير السائد"، سواء كان مقتنعاً بذلك أم لا.
ولاشك في أن من بين الأسباب التي تمنع الإدارات الأميركية من إظهار اهتمام أكبر بمعالجة موضوع المظالم القومية ضد العالم العربي وفلسطين بالذات، ومن تخفيف دعمها الهائل وشبه الأعمى لإسرائيل، في ظلمها واحتلالها وتوسعها، أنها لم تشعر حتى الآن بأي ضغط كبير يرغمها على ذلك. والنتيجـة العملية لهذه المعادلة العجيبة هي أنه لا بأس بالاستمرار في سياسة التسويف والمماطلـة ما دام العرب يسمحون لها بفعل ذلك من دون أن تخسر أية مصالح تذكر في العالم العربي. وبهذه الطريقة سوف تستمر إسرائيل والولايات المتحدة في الحديث الببغائي الممل عن السلام والتسويـة في فلسطين وسائر الأراضي المحتلة في حين يستمر قادة إسرائيل من اليمين واليسار في تنفيذ خطط الاستيطان المنظمة لضم كل الأراضي المحتلة وطرد سكانها بالقتل والقهر والسجن والحصار الاقتصادي.وقد وقف رئيس الحكومة الإسرائيلية الحالي بنيامين نتنياهو بكل وقاحة في مستوطنة آرئيل مؤخراً ليعلن أمام الملأ قائلاً: انظروا هذه الأراضي الجرداء الفارغة علينا أن نشغلها بالمستوطنين وأن نوقظ فيها الحياة. وهذا تكرار لمقولة أرض بلا شعب لشعب بلا أرض التي انطلقت منها الصهيونية منذ نحو مئة سنة، واللعبة القذرة ما تزال سارية المفعول ضمن الشروط المأساوية المشار إليها آنفاً، وضمن مراعاة المصالح الأميركية الذاتية العليا وهي: ضمان بقاء إسرائيل قوية ومتفوقة واختبار وتطوير أنظمة أسلحة جديدة وحماية مصادر النفط والتحكم بأسعاره. أما قضية السلام العادل والشامل لشعوب المنطقـة فكانت وستبقى مجرد قضية خطابات وبيانات وتصريحات بين حين وآخر، لا وزن ولا قيمة عملية لها أمام خدمـة السياسات الأميركية لسياسة فرض الوضع الراهن الزاحف التي تمارسها إسرائيل بالاستيطان وضم الأراضي العربية ومواصلة التزود بأكثر أنواع الأسلحة فتكاً في العالم من أجل فرض ما يسمى السلام العبري الذي إنما يرمي إلى تحويل "إسرائيل الكبرى" إلى دولة إقليمية عظمى تنوب عن الولايات المتحدة في إدارة الشرق الأوسط.
ضريبة كلامية والتسوية هي الضحية
على الرغم من مراوغات إسرائيل الدبلوماسيـة والإعلامية بأنها لا تسعى للاستيلاء على الأراضي المحتلـة، وبالرغم من إنذارات الأمم المتحدة في هذا الشأن فإنها أعلنت عن توحيد القدس وضمها إلى الأبد كما وأنها أقامت بتاريخ 10 حزيران / يونيو 1967 أول مستوطنة إسرائيلية في المناطق المحتلة وهي مستوطنة ماروم هاغولان قرب القنيطرة في مرتفعات الجولان. وفي 24 أيلول/ سبتمبر 1967 أدلى ليفي اشكول رئيس الوزراء آنذاك باول بيان علني بشأن خطط الاستيطان الإسرائيلية قال فيه إن إسرائيل سوف تعيد بناء المستوطنات في منطقة عتسيون وهي منطقة خصصت للعرب بموجب خطة التقسيم عام 1947.
وبعد يومين انتقدت الولايات المتحدة بيان اشكول قائلة إنه بمثابة تغيير لموقف إسرائيل السابق ضد الاستيطان وأنها لم تبلغ ذلـك لواشنطن. وصرح ناطق باسم وزارة الخارجية أن سياسة إسرائيل الجديدة تتعارض مع إعلان الرئيس جونسون في 19 حزيران / يونيو 1967 بأن الولايات المتحدة تدعم وحدة وسلامة الأراضي في جميع أنحاء المنطقـة. وكان هذا الانتقاد هو توبيخ واشنطن العلني الثاني لإسرائيل خلال أربعـة أيام. وحذر آرثر غولدبرغ سفير الولايات المتحدة لدى إسرائيل بقوله: "إذا أعمى النجاح أياً من الدول الأعضاء عن إدراك أن لجيرانها حقوقهم ومصالحهم الخاصـة"([20]) فإن ذلك لا يخدم قضيـة السلام. ولكن الولايات المتحدة لم تفعل أكثر من هذه الاعتراضات الكلاميـة أي شيء ولم تأت نهاية عام 1967 حتى كانت إسرائيل قد أقامت مستوطنات في أراضي مصر والأردن وسوريا المحتلة([21]). وبدأت بمصادرة المزيد من الأراضي وبطرد المئات من العرب المسلمين في الحي اليهودي في القدس القديمة ودمرت قرى عربية بأكملها قرب أريحا كما دمرت 144 بيتاً في غزة وشرعت سراً بإقامـة أربع مستوطنات كبيرة في القدس العربية([22])، وذلك في أكبر عملية تهويد لكافة أنحاء الأراضي المحتلة ولا سيما القدس. وفي عام 1987 استولى آرييل شارون وزير الإسكان في حكومة شامير على شقة في الحي الإسلامي وعبر عن موقفه بالقول: "لقد وضعنا لأنفسنا هدفاً يقضي بأن لا يبقى مكان في القدس الشرقية بلا يهود وهذا هو الشيء الوحيد الذي يضمن وجود مدينة موحدة في ظل السيادة الإسرائيلية"([23]).
في مقابل هذا الضم الزاحف الاستيطاني اليهودي كانت كل إدارة أميركية، سواء كانت ديموقراطية أو جمهوريـة، تعتبر إقامة المستوطنات اليهودية في الأراضي المحتلة انتهاكاً لمعاهدة جنيف الرابعة وبالتالي غير قانونية إلى أن بدأ عهد الرئيس ريغان المناصر القوي لإسرائيل.
وكان تشارلز يوست سفير أميركا لدى الأمم المتحدة قد أعلن تلك السياسـة في عهد نيكسون ولأول مرة بقولـه: "إن ذلك الجزء من القدس الذي وقع تحت سيطرة إسرائيل في حرب عام 1967 كغيره من المناطق، هو منطقة محتلـة وبالتالي يخضع لأحكام القانون الدولي التي تحدد حقوق والتزامات الدولة المحتلة"([24]).
في 23 آذار / مارس 1976 صرح وليم سكرانتون سفير الرئيس فورد لدى الأمم المتحدة في مجلس الأمن بأن مستوطنات إسرائيل في المناطق المحتلـة غير قانونية وأن ادعاء إسرائيل بأن جميع القدس لها ادعاء باطل. وذكّر سكرانتون بالمادة 49 في معاهدة جنيف الرابعـة بقوله: "على الدولة المحتلة أن لا تبعد أحداً أو تنقل قسماً من سكانها المدنيين إلى الأراضي التي تحتلها. ومن الواضح إذن أن إعادة توطين قسم لا يستهان به من المدنيين الإسرائيليين في المناطق المحتلـة، بما فيها القدس الشرقية العربيـة غير قانوني بمقتضى المعاهدة، ولا يمكن اعتباره حكماً يقرر نتائج المفاوضات في المستقبل بين الأطراف أو يرسم حدود دول الشرق الأوسط. والحقيقة هي أن وجود هذه المستوطنات في نظر حكومتي عقبـة في سبيل نجاح المفاوضات من أجل سلام عادل ونهائي بين جيرانها"([25]).
وكانت إدارة كارتر أكثر الإدارات الأميركية ترداداً للبيانات الكلامية المعارضة للمستوطنات، وكذلك وزير خارجيته سايروس فانس. وكان أول قرار لمجلس الأمن، موجَّه بالتحديد ضد بناء المستعمرات الإسرائيلية هو القرار رقم 446 الصادر بتاريخ 22 آذار / مارس 1979 أثناء ولايـة الرئيس كارتر نفسه. وقد جاء في ذاك القرار أن "سياسة إسرائيل وممارساتها بإقامـة المستعمرات ليس لها أي مستند قانوني، وتشكل عقبة خطيرة في وجه التوصل إلى سلام شامل وعادل ودائم"([26]). وقد اتخذت واشنطن من هذا القرار منبراً للتعبير عن آرائها النظريـة وعن حدود تلك الآراء في الواقع العملي، في وقت امتنعت مثلها مثل بريطانيا من التصويت إلى جانب القرار. وبعدئذٍ صدر أيضاً القرار رقم 452 الداعي لوقف الأنشطـة الاستيطانيـة في المناطق المحتلـة. وانسجاماً مع المواقف المزدوجة والمترددة ذاتها امتنعت الولايات المتحدة عن التصويت ومع ذلك أكد المندوب الأميركي في مجلس الأمن أن "تلك المستعمرات تحكم مسبقاً على نتيجـة مفاوضات السلام في الشرق الأوسط ] التي كانت جارية في حينه عام 1979 مع مصر [ وهي تتعارض مع القانون الدولي واتفاقيـة جنيف الرابعة"([27]). وكانت الولايات المتحدة الدولة الوحيدة العضو في المجلس التي امتنعت عن التصويت. هذا في حين أنه خلال السنوات الخمس الأولـى التي أعقبت كامب ديفيد بلغت القروض التي قدمتهـا الولايات المتحدة لإسرائيل وأعفتها من سدادها والهبات التي قدمتها لها نصف ما قدمته الولايات المتحدة من مساعدات للعالم بأسره([28]). ومنذ كامب ديفيد أيضاً مولت الإدارات الأميركية بصورة غير مباشرة في الأغلب المستعمرات اليهوديـة في داخل المناطق العربية المحتلـة من خلال تدبير فريد من نوعه بين جميع الدول التي تتلقى مساعدات أميركيـة خارجية وهو تقديم مبلغ إجمالي لإسرائيل لدعم ميزانيتهـا دون ربط ذلك بأي تصنيف أو مشروعات أو إنجازات أو برنامج زمني أو تقارير مرحلية([29]). وأكثر من هذا أنه في عام 1979 بالذات سعت حكومة كارتر جاهدة لإخفاء الأدلة على قيام إسرائيل بتفجير قنبلـة نووية مع الدولة العنصرية في جنوب أفريقيا في حينه. وتبين بوضوح أن كارثر مثله مثل سائر الرؤساء الأميركيين الآخرين، لم يكن يرغب في استخدام أكثر من إظهـار رمزي للقوة والدبلوماسية الأميركية للاعتراض على بناء المستعمرات اليهودية. وقد أوضح كارتر مواقفه تلك بقوله: "ثمة حد لما نستطيع فعله لفرض إرادتنا على دولة ذات سيادة"([30]).
و باختصار وحتى العام 1980 كانت سياسة الإدارات الأميركية حيال المستعمرات اليهودية تستند إلى خمسة مبادئ يمكن تلخيصها كالتالي:
-1 المستعمرات غير شرعية وتخرق القانون الدولي.
-2 بناء المستعمرات يحكم مسبقاً على نتيجة المفاوضات وهو عقبة في طريق السلام.
-3بعد بناء المستعمرات لا يمكن تفكيكها بسهولة.
-4 إن مصير المستعمرات هو موضوع للمفاوضات.
-5 لن تذهب واشنطن إلى أبعد من تقديم الاحتجاجات الشكلية على استمرار بناء المستعمرات.
إلا أن مثل هذه المبادئ أو التوصيفات تراجعت فجأة مع تسلم الرئيس رونالد ريغان زمام البيت الأبيض فصرح بشأن المستوطنات بقوله: "لم أوافق عندما أشارت الإدارة السابقـة إليها بأنها غير قانونية... إنها ليست كذلك"([31]). ومع ذلك فإنـه غالباً ما اعتبر تلك المستعمرات بأنها "عقبة في طريق السلام" لإرضاء الدول العربية المتعاطفـة مع أميركا وشل قدرتها على الاعتراض. ولكن الرئيس جورج بوش ووزير خارجيته جيمس بيكر عادا وأكدا بأن المستعمرات الإسرائيليـة ليست عقبـة في سبيل السلام وحسب بل أنها غير قانونية أيضاً. فرد عليهما اسحق شامير عام 1992: "لم يسبق لحزب ليكود أن أخفى عزمه على المطالبة بالسيادة على يهودا والسامرة خلال المفاوضات حول وضعهـا النهائي. فقد طبـق الحزب المبدأ الذي يقضي بالتمسك بحق اليهود في الاستيطان في جميع أنحاء أرض إسرائيل طوال مسار المفاوضات. فالضمانة الوحيدة ضد السيادة العربية غربي نهر الأردن هي الاستيطان اليهودي في المدن والأرياف في جميع أنحاء يهودا والسامرة"([32]).
لكن الرئيس بوش وجه رسالة إلى شامير في حزيران / يونيو 1990 حذره فيها من أنـه إذا استمرت الخلافات بين البلدين بشأن المستعمرات ومسيرة السلام فإنه: "لن يكون هناك خيار أمام الولايات المتحدة إلا أن تحدد موقفها بصورة واضحـة، علناً وفي الأمم المتحدة"([33]). وأهاب بوش بشامير أن "يفكر في إحداث تغيير في سلم أولويات حكومة إسرائيل لأن مقدرتنا على التقدم بمسيرة السلام تتوقف على التوصل إلى تفاهم بين حكومتينا بشأن موضوع الاستيطان"([34]).
رؤية المستقبل
على الرغم من كل هذه المواقف الاستعراضية والمشادات الكلامية، فقد كان بوش نفسه، وضمن اتفاق تم التوصل إليه مع إسرائيل في نهاية ولايته هو الذي وافق أول مرة على نشاط استيطاني واسع النطاق، وذلك بعد أن أحس بالخطر على طموحه لتجديد ولايته مرة أخرى، ولكن بعد فوات الأوان، لأن اللوبي الصهيوني كان قد عقد العزم على التصدي لبوش وإسقاطـه، وكانت النتيجة في النهاية هي سقوط البطلين شامير وبوش سوياً في حلبـة الانتخابات عام 1992 وفوز كل من الرئيسين كلنتون ورابين، وذلك بعد أن أرسى بوش مع رابين اتفاقاً بشأن المستعمرات اليهودية يقضي بإعادة ترتيب إسرائيل أولوياتها القوميـة بشأن الاستيطان في حين أنه في الجوهر كان الاتفاق يقضي بما يلي:
أ- "أن تغض واشنطن الطرف" عن استمرار بناء المستعمرات في القدس الشرقية المضمومة.
ب- الموافقة على استمرار البناء في الضفة الغربية إلى أبعد مما هو جار الآن لاستيعاب "النمو الطبيعي" للمستعمرات.
ج- توفير معلومات دقيقة قدر الإمكان بشأن خطط البناء.
د- موافقة إسرائيلية على عدم إقامة مستعمرات جديدة.
وعلى هذا الأساس حصلت إسرائيل بزعامة رابين على ضمانات قروض بقيمة 10 مليارات دولار، كان من أولى نتائجها "قيام استيطان غير محدود في القدس وعلى طول خطوط المواجهة([35]).
وفي 4 تشرين الأول / اوكتوبر 1994 وفي شهادة أمام الكونغرس ألقى مساعد وزير الخارجية، روبرت بللترو، المزيد من الأضواء على تطور سياسة الولايات المتحدة إزاء المستعمرات في ظل إدارة كلنتون، ويتضح منها ما يلي([36]):
- توسيع المستعمرات بعد اتفاق اوسلو، لم يعد "عقبـة على طريق السلام" بل مجرد "عامل تعقيد في مسيرة السلام".
- توسيع المستعمرات لا يعتبر متعارضاً مع "إعلان المبادئ" أي مع اتفاق اوسلو.
- البناء الاستيطاني بالتمويل الخاص لا يعتبر خرقاً لأي اتفاق مع الولايات المتحدة. وفي هذا المجـال نلاحظ الإقبال الشديد من قبل يهود أميركيين على تمويل شراء أراض واسعة في القدس الشرقية من فلسطينيين أميركيين يعيشون منذ وقت بعيد هناك.
- توسيع الاستيطان في القدس الشرقية لم يعد يعتبر عملاً أحادي الجانب، مجحفاً بتحديد الوضع النهائي للقدس، حسبما نصت عليه اتفاقيتا اوسلو.
هذه العناصر في السياسة الأميركية الراهنة تشكل تراجعاً أكبر عن مواقف اعتراضية سابقة ضد الاستيطان اليهودي الزاحف، ويتكرس هذا التراجع أكثر فأكثر مع تزايد الهيمنة الأميركية على دوائر الأمم المتحدة ومجلس الأمن وعلى الأوضاع الميدانيـة في الشرق الأوسط، خصوصاً بعد تنحية الأمين العام بطرس غالي الذي عاند واشنطن بشأن نشر التقرير الخاص بمجزرة قانـا أثناء عدوان "عناقيد الغضب" وانتخاب أمين عام جديد هو كوفي انان الذي لم يعد مسموحاً له أن يكون أكثر من موظف بسيط يطبق ما تمليه عليه وزيرة الخارجية الأميركيـة الجديدة مادلين اولبرايت التي وقفت بوجـه غالي ووافقت على العدوان الإسرائيلي على المدنيين في جنوب لبنان والتي لا تنفك تعرب بصراحة عن مواقفها المتعصبة لصالح التوسع الإسرائيلي الأمر الذي ينذر بمزيد من التعقيدات على شتى المسارات في كل من فلسطين وسوريا ولبنان بنوع خاص. فمبادئ مدريد قد عفا عليها الزمن وأية تسوية من الآن فصاعداً على شتى المسارات الثنائية بين إسرائيل وجيرانها يجب أن تقوم على أساس الاتفاق بين الأطراف المعينـة، حيث توازن القوى مائل لصالح الإسرائيليين وحيث تعمل الإدارة الأميركية على عزل وتنحية وتحييد القوى الفاعلة الأخرى في العالم وفي مقدمتها أوروبا والصين واليابان عن أداء أي دور فاعـل في رسم الخطوط الجيوسياسية القادمة في فلسطين وفي الإطار الحيوي غير المحدد وغير المعروف الذي تدعي الصهيونية حاجتها إليه وفقاً لإمكاناتها المادية والبشرية المتطورة.
[1] ديفيد نيومان، "الاستيطان الصهيوني"، ترجمة جمال السيد، كمبيونشر للدراسات والاعلام والنشر والتوزيع. ص 29
[2] المصدر السابق ص 33
[3] المصدر نفسه
[4] الاستعمار الاستيطاني للمناطق العربية المحتلة" - مؤسسة الدراسات الفلسطينية - تقديم ص24
[5] المصدر السابق
[6] الاستيطان الإسرائيلي في فلسطين بين النظرية والتطبيق" - سلسلة الثقافة القومية (15)بيروت - مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى 1988 ص 10
[7] فلسطين تاريخها وقضيتها" - مؤسسة الدراسات الفلسطينية ص 172
[8] المصدر نفسه
[9] المصدر السابق
[10] شؤون الأوسط - العدد 54 - آب أغسطس 1996 ص 69 - مقالة لعزرا زوهر، المستشار السابق للوكالة اليهودية لشؤون الاستيطان في "يهودا والسامرة" وغور الأردن
[11] المصدر نفسه
[12] مذكرات محمود رياض - الجزء الأول ص 131 الفصل الرابع بيروت 1981
[13] المصدر نفسه
[14] ستيفن غرين، "مساومات مع الشيطان"، ص 106
[15] مجلة الدراسات الفلسطينية العدد 7 - صيف 1991 ص 68
[16] المصدر نفسه ص 69
[17] السياسة الأميركية في الشرق الأوسط" - مؤسسة الدراسات الفلسطينية - المقدمة ص 15
[18] المصدر السابق ص 28
[19] المصدر نفسه ص 173
[20] بول فندلي، "الخداع"، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، ص 209
[21] المصدر نفسه ص 210
[22] المصدر نفسه
[23] المصدر نفسه
[24] المصدر السابق ص 212
[25] المصدر السابق
[26] جيفري ارونسون، "مستقبل المستعمرات الإسرائيلية في الضفة والقطاع"، مؤسسة الدراسات الفلسطينية ص76
[27] المصدر السابق نفسه
[28] ستيفن غرين، "مساومات مع الشيطان"، شركة المطبوعات للتوزيع ص 156
[29] المصدر نفسه
[30] مستقبل المستعمرات"، مصدر سبق ذكره، ص 79
[31] بول فندلي، "الخداع"، مصدر سابق، ص 213
[32] المصدر السابق ص 214
[33] مستقبل المستعمرات"، مصدر سابق، ص 81
[34] المصدر نفسه
[35] بول فندلي، "الخداع"، مصدر سابق، ص 213
[36] المصدر السابق ص 214