في كل بيت

اللعب للطفل يساعده على تطوير مهاراته ويقوده الى الإبداع
إعداد: ناديا متى فخري

وظيفة مربحة وعلاج فعّال

 

جوهر التربية، تنشئة جيل تتوافر فيه السمات الإيجابية والإبداعية، جيل قادر على مواجهة التحديات التي تواكب مراحل نموّه وتطوّره الطبيعي، ويُبدي مشاركة وجدانية واجتماعية ناضجة، ويتحلّى بسمات المواطنة الصالحة.
والتربية الناجمة هي التي لا تسقط من حسابها أي عامل من العوامل المحفّزة التي تخدم انطلاقة الجيل الصاعد وتكسبه الخبرة والمعرفة المفيدة، لذلك جدير بنا كأهل ومربين أن نتحمّس لتربية مشوّقة تتوجه بالدرجة الأولى الى حواس الطفل ثم الى تفكيره، فالإحساس بالشيء يسبق التفكير والعمل، والشعور بالسعادة مثلاً يمنحنا السلام المعنوي ويجعلنا ننظر الى الحياة نظرة متفائلة نعرف معها إيجابية التكيّف، والشعور بالثقة والكفاءة الذاتية يقلّل من احتمال الفشل ومن تدهور الحياة الإنفعالية.
ومسؤوليتنا أن نحضّر الطفل لأن يعتمد على حواسه ويتخذ منها سبيلاً لزيادة رأس ماله الفكري، كما يجب أن نتيح له الفرص الملائمة التي تسمح له باكتشاف عالمه بشكل صحيح، وبذلك نكون قد هيأنا له الأرض الخصبة حتى يعطينا ثماراً صالحة.

 

ابتكار أنشطة ترفيهية

يحتاج الطفل الى ضمانات تحميه من سوء التكيف، وهذه الحماية تتوافر في التربية المشوّقة التي تتركز فيها جميع الوسائل التي تشرّع الأبواب أمامه للإنطلاق وممارسة النشاطات والهوايات التي يجد فيها ملاذاً للتعبير عن ذاته ورغباته والتحرّر من إحباطاته وصراعاته النفسية...
من حق الطفل أن يحظى برعاية شاملة حتى يكبر ويشتد عوده... وفي ذلك أسمى آيات التكافل والتضامن الإجتماعي. لذلك لم تألُ علوم التربية والنفس والإجتماع جهداً في سبيل ابتكار مناهج هادفة تغني عالم الطفولة وتملأه حياة وسلاماً وطمأنينة.. فكان الإتجاه نحو الأنشطة الترفيهية واللعب الذي وجد فيه الخبراء أهمية بالغة للنضج المعرفي عند الطفل وقيمة علاجية ووقائية نافعة، حيث ثبت أن اللعب يساعد الطفل على تصريف انفعالاته الحبيسة، ويُخرجه من صحراء الرتابة والملل ويملأ وقته بالمفيد، وقد سمّى خبراء التربية وعلم النفس مرحلة الطفولة، «سنوات اللعب».. واجمعوا على أنه عنصر هام للتكيّف السويّ.
يعدّ اللعب من المهارات التي تتيح للطفل فرصاً جيدة، ويمكن القول أن الطفل بدءاً من الشهر الأول لولادته وحتى عمر السنتين ينتقل من نشاط الى آخر ويكون فياضاً بالحيوية، ويشغل اللعب حيزاً كبيراً من نشاطه الذهني واهتماماته، وتعتبر هذه المرحلة من أهم مراحل النمو الحركي والذهني التي يمر بها حيث يبدأ منها باكتشاف العالم من حوله وفي حدودها تتكوّن خبراته ومفاهيمه واهتماماته.. وقد بيّنت الدراسات أن اللعب هو الوسيلة الأولى للتعبير والنشاط، والطفل المحروم من اللعب هو طفل محروم من السعادة، وهذا الشعور يسيء اليه ويجعله انطوائياً، متمركزاً حول ذاته، عاجزاً عن التركيز، فاتراً في العلاقات التي تتطلب المشاركة مع الآخرين، كما إن حرمان الطفل من اللعب، يحوّله الى فردٍ إنسحابي وأنانيّ وسلبي المعشر.
من اللعب يتزوّد الطفل القدرة على التركيز والإنتباه.. وهو مجال خصب لتعلّم الفنون التي تبلور إدراكه وتصقل خياله وتساعده على تكوين قاموسه المعرفي والوصول الى مستوى متقدم من المهارة والإبداع.. صحيح ان اللعب ضروري لإيجابية التكيّف عند الطفل وأنه يشكّل دوراً كبيراً في ثباته الإنفعالي، ولكنه ايضاً يوجب الحذر وانتباه الأهل، لأن لعب الأطفال يتخذ شكلاً عشوائياً في الأشهر الأولى من عمرهم، حيث يُظهر الطفل حماسة كبيرة للعب واللهو ويعبث بكل ما يصل الى متناول يده من أشياء وأدوات، وقد تكون حادّة ومؤذية وهذا يشكّل خطراً على سلامته، وعلى الأم أن تكون حذرة وأن تترك طفلها في مكان خالٍ من أي مخاطر، مثلاً، أشياء صغيرة يستطيع أن يلتقطها بسهولة ويضعها في فمه، أدوات حادّة، مواد سامة... عقاقير أدوية، مساحيق تنظيف.. وغير ذلك مما قد يؤذيه.
وننصح الأهل بشراء الألعاب التي تناسب عمر الطفل ليلهو بها: كالألعاب المصنوعة من البلاستيك، دُمى من القماش الناعم، كرة خفيفة تناسب حجم يده وقدرته على الرمي، والألعاب التي تدور مع موسيقى ناعمة وغيرها من الألعاب المشابهة التصنيع التي تجذب الطفل وينشغل بها من دون أن يتأذّى.
ومما يلفت النظر، أن التذوق الفني يظهر بشكل مبكّر لدى الأطفال، فالصغار ينجذبون منذ الأشهر الأولى للأشياء البرّاقة والألوان الزاهية الوهّاجة، ويطربون لسماع الموسيقى والغناء، وينفرون من الضحيح والأصوات العالية والرائحة الكريهة.

 

مهارة الإدراك الحسّي

بين عمر السنة والثلاث سنوات يكتسب الطفل مهارة الإدراك الحسّي، ومهارة الإنتباه، والنطق والتفكير والخيال وهذا يجعله أكثر تعلّقاً بالألعاب التي تسمح له بالإكتشاف والإختبار، فنجده يُقبل على اللعب بحماس ظاهر ويستحسن في هذه السن أن نختار له الألعاب التي تنمي خياله وتشحن ملكة الإبداع لديه: دفاتر رسم نترك له الخيار بتحديد ألوانها، وتشجيعه على ابتكار رسوم من وحي خياله، ألعاب «بازل» (Puzzle) بسيطة وسهلة، وألعاب خشبية تركيبية تناسب سنة وقدرته على التركيز، لأن الطفل في هذا العمر يكون في بداية مرحلة التطور الذهني ويسأم بسرعة من الألعاب المعقّدة.
وفي المقابل، قد يلجأ الطفل لأدوات واقعية، مثل هاتف حقيقي، أو وهمي مستعملاً اداةً ما على أنها هاتف ويمثل أنه يتحدث إلى شخص ما ويطلب منه أمراً يرغب به. وفي هذه السن يفيد اللعب النمو العضلي ويطلق الطاقة العصبية ويمنح الطفل الإحساس بالرضى.
ومن عمر الى عمر تختلف أوجه اللعب فنجد الطفل بين سن الرابعة والتاسعة وقد بدأ بالتدريج يكوّن أصدقاء اللعب، وهنا تظهر الأهمية الإجتماعية للعب، حيث يتعلّم من خلاله بعض العادات الإجتماعية التي تظهر في سلوكه مثل: أصول اللعب ومراعاة ادوار الآخرين واحترامه لأفكارهم، وتظهر روح التعاون لديه ويميل الى النشاطات الرياضية التي يجد فيها لذة كبيرة عدا كونها وسيلة لتجديد النشاط والترفيه.. وفي هذا العمر منافع اللعب كثيرة ويجب أن نوفّر للطفل العاباً مختلفة فالتنويع في اللعب مهم جداً لأنه يعلّم الطفل حُسن التمييز.. وهنالك ايضاً مواد للعب أكثر مرونة للتعبير وتعد من الأنشطة الفنية.. مثل: اللعب بالرمل، فالطفل هنا يستخدم خياله لصنع طرقات وهضاب ونماذج اخرى... انه يحب معالجة المواد السلسة عن طريق ضغطها ودفعها وجذبها، الخ... كالصلصال والشمع، وعجينة الورق... وكلها وسائل جيدة لأنها توجد احتكاكاً مباشراً بينه وبين المادة حين يبتكر الأشكال. أما الرسم والتلوين فمن الأنشطة التي تهيء الظروف لحصول الطفل على خبرة حسّية - فنية تسمح له بالتعبير الحرّ وينطلق معها الى عالم الإبداع والتميّز. والملفت ان الطفل يشعر بسعادة حين يعرض انتاجه الفني على الغير ويأسره الإحساس بالفخر والإعتزاز وكأنه قد أنجز عملاً لا يستطيع أن ينجزه أحد سواه،. وهذا يدلّ على ثقة الطفل بنفسه وقدرته على الإبتكار.

 

الاختيار الناضج

بعد سن التاسعة يصبح الطفل أكثر اتكالاً على نفسه وينهمك في المشاركة بنشاطات ترفيهية مختلفة، ويتعلم مهارات جديدة ويصبح اختياره لألعابه اختياراً ناضجاً، وهذا أمر طبيعي، لأن أي طفل لن يستطيع ان يتعلم مهارات الكبار إلا إذا تطورت قدراته الرئيسة، أي، أن هنالك حالة من الجهوزية الداخلية التي يجب أن تتم قبل أن يستطيع الطفل إكتساب مهارات الراشد. وبعد هذه المرحلة العمرية وحتى سن الثانية عشر ينتقل الطفل من اللعب المنفرد والبسيط الى اللعب الجماعي ويكتسب خبرات غنية في الحوار والمشاركة والتصميم. وتظهر عنده بوادر الإبتكار فينهمك في اختراع ألعاب كرتونية من صميم خياله، أو يلعب مع الآخرين ادواراً تمثيلية، وكثيراً ما يكون الأبطال أفراد أسرته. فيشارك مثلاً في لعبة رياضية (سباق الركض - الفوتبول، الخ) أو قد يقوم بأحد الأدوار المسرحية، حيث يتخذ كل ولد من المجموعة دوراً محدداً لخلق سيناريو ملائم لإتمام اللعبة على أكمل وجه.
وفي هذا العمر تتكوّن الصداقات الأولى عن طريق اللعب وممارسة النشاطات الترفيهية - المدرسية، ونلاحظ أن ملء فراغ الوقت باللعب يأخذ شكلاً آخر فقد يختار مثلاً: المطالعة أو الرسم، أو الإستماع الى الموسيقى، وغير ذلك من فنون جميلة ومفيدة يبدأ معها أولادنا رحلتهم مع النضج.
وفي الطفولة المتأخرة والمراهقة المبكرة تظهر الهوايات، وترجع أهميتها الى انها تعطي الفرد فرصة التعبير عن فرديته وميوله واهتماماته وتحقق له الشعور بالمكانة، خصوصاً إذا كان لا يستطيع تحقيق ذلك في اللعب الجماعي.
وفي مرحلة المراهقة يسود اللعب الإجتماعي حيث تغلب التجمعات وأوجه الترفيه الإجتماعية كما في الحفلات أو التجمع مع الأصدقاء، أو المشاركة في المخيمات وتبادل النشاطات الهادفة اجتماعياً وهنا يتضح التفاعل الإجتماعي الذي تسوده روح الجماعة والنشاط المستمر.

 

العلاج باللعب

يعالج اللعب سوء التكيّف، وذلك عن طريق تشجيع الطفل بطريقة أو بأخرى على تمثيل المواقف التي يواجه فيها صعوبات نفسية أو إنفعالية، كما يتم تشجيعه على إخراج المشاعر المكبوتة، فما يصعب عليه الإتيان به في عالم الواقع يقوم به في عالم الخيال، فإذا كان يعجز عن التعبير عن عدوانه تجاه أحد أفراد أسرته، فإنه يستطيع أن يفعل ذلك في إطار اللعب حيث يسمح له أن «يؤدب» وأن «يعاقب» دميته، وقد تمثّل هذه الدمية أي شخص يريده الطفل.
أما عن الأسس النفسية أو الدعائم التي يقوم عليها هذا اللون من العلاج فتكمن في فكرة «الفضفضة» أو التطهير الإنفعالي أو تفريغ الشحنات الإنفعالية الحبيسة داخل الطفل، ويمكن أن ترجع الى أسس أخرى أوجدتها البيئة من حوله. وقد يخاف بعض الناس من أن الطفل إذا عبّر عن مشاعره السلبية في اللعب سوف يشجعه ذلك على التعبير عنها في عالم الواقع، ولكن الحقيقة ان العكس هو الصحيح فقد دلّ البحث والإختبار العلمي على أن الطفل بعد أن يعبر باللعب عن أسباب قلقه يصبح أقل توتراً أو أكثر قبولاً للحياة الواقعية، ذلك لأنه يمثّل في اللعب صراعاته ويتحرّر منها وينقل للحياة الواقعية تلك الحلول التي وجدها في اللعب.
فالألعاب تعمل في الحقيقة على كسر الجليد، وتساعد على إتمام التواصل بين الطفل والحياة الإجتماعية.