اللغة العربية كأداةٍ استعمارية في الكيان الإسرائيلي

اللغة العربية كأداةٍ استعمارية في الكيان الإسرائيلي
إعداد: الرائد حسين غدار
ضابط في الجيش اللبناني

المقدّمة

تُشكّل الحالة الاجتماعية-اللغوية، أو السوسيو- لغوية، جزءًا عضويًا حيويًا من النظام الاجتماعي الاقتصادي السياسي. فأسلوب الاتصال بين أفراد المجتمع، وكذلك بين مجتمع معيّن وغيره من المجتمعات، مشتق مباشرة من النظام المذكور، ويمثّل ترجمة له في سياق "إنشاء الاتصال".

تعتمد الدول القومية مبدأ المَعْيَرَة (Standardization) في مجالات النشاطات الاجتماعية جميعها، بواسطة أجهزة بيروقراطية متخصصة، لتطبيق الرؤية القومية التي تخدم تماسك الدولة والمجتمع وتُحقق الانسجام بين مكوناته؛ وتُعدّ اللغة ومنتجاتها إحدى أبرز تلك المجالات، بحيث تُقام بُنية مؤسساتية خاصة تشمل جهاز تربية رسميًا وأكاديميات لغوية ووسائل اتصال جماهيرية، أي الإعلام، ومؤسسات أدبية مثل دور النشر، كل ذلك بُغية تحقيق مبدأ المعيَرَة اللغوية[1].

ينطبق مفهوم المعيرة هذا على الدول المستعمِرة، التي تحاول بناء حقل لغوي يلائمها عند الشعوب المستعمَرَة. وفي هذا الإطار، تخضع الحالة الاجتماعية-اللغوية للفلسطينيين في الكيان الإسرائيلي لأجهزة الدولة، كونهم جماعة محتلة. وقد وُجِّهَت اللغة العربية في فلسطين إلى آفاق إخضاع ومعْيَرَة. لكن تدخّل المؤسسات الإسرائيلية على هذا الصعيد لم يكن متجانسًا طوال الوقت، بل تغيّر وفق ظروف عديدة سنأتي على ذكرها في البحث.

سنركز في هذا البحث على اللغة العربية الفصحى الموجهة إلى الجمهور الفلسطيني، وتحديدًا هيئتها النصية المطبوعة، كونها قاسمًا مشتركًا لأفراد الجماعة الوطنية الفلسطينية جميعًا، وعنصرًا أساسيًا في بناء الهوية الجماعية، محاولين استخراج النمط الاستعماري الذي فرضته الصهيونية؛ فقد أفردت أجهزتها حيّزًا واسعًا من اهتمامها وعملت بلا كلل لإعادة صوغ الفصحى بما يتلاءم مع العلاقات الاستعمارية بين الدولة والسكان الفلسطينيين[2].

تتضمن هذه الحلبة البنيوية[3] دُور النشر والتوزيع، أجهزة التربية، محطات التلفزة والإذاعات، الصحف اليومية والمؤتمرات. أما الأنواع الأدبية في هذه الحلبة، فتشمل مقالات الرأي والمقالات الفكرية التي تتناول الموقف الفلسطيني والعربي من الكيان الإسرائيلي، القصة القصيرة والرواية.

إذًا، أنشأ الكيان الإسرائيلي منظومة مؤسساتية تسعى إلى معيَرَة اللغة العربية الفصحى، كجزءٍ من بناء الذات العربية الإسرائيلية. بكلامٍ آخر، ينظر الكيان الإسرائيلي إلى معيَرة اللغة العربية عند الفلسطينيين كفرعٍ من خطة نفي الهوية الفلسطينية. هذه المنظومة المؤسساتية تُنتِج ما يسمى بفائض القيمة، وقد عمل جورج باتاي Georges Bataille على تطوير هذا المفهوم، ومن بعده جان لوك ماريون Jean-Luc Marion الذي بلْوَرَ نظرية الإشباع[4]؛ تفيدنا النظرية بأنّ جهاز القراءة والكتابة الصهيوني يُنتج فائضًا مرتبطًا بالسياق التاريخي للكيان الإسرائيلي. فقد كتبَت الصهيونية من جديد سلسلة من الأحداث التاريخية-الاجتماعية، وبهذا استحوذت على ملكيتها الفكرية والأيديولوجية، ويؤدي هذا النمط إلى تراكم المعاني والانخراط في عملية إنتاج الفائض وبروزه.

في مقابل الفائض، تخلق القهرية لدى الشعوب المستعمَرَة، وتحديدًا الفلسطينيين، دينامية من النقص وفقدان الملكية التاريخية-الاجتماعية، ومعه امتناعًا للقدرة على كتابة الأحداث كمالكيها؛ كل هذا يوجِد فراغًا هائلًا ويُفضي إلى ظاهرة الإشباع، أي تلقّي الفائض الصهيوني وعلامات الكتابة المنبثقة عنه كوسيلةٍ قهرية لإنتاج المعاني والمفاهيم. بل إنّ قراءة المقموع للقامع تتحول غالبًا إلى تقنية بقاء نافعة[5].

على هذا الأساس، بدأت عملية مأسسة الكتابة والقراءة في فلسطين بُغية دمج التناقضات بين الحقلَين اللغويَين الفلسطيني والإسرائيلي، تبعًا لنمط القراءة والكتابة الفائضة الذي تطرّقنا إليه، كأداة قمع استعمارية.

وكان المحور المركزي لتلك المأسسة، التي اكتملت في العقدَين اللذين تَلَوَا إقامة دولة "إسرائيل"، وبلغت ذروتها في العام 1967، هو إلغاء إمكان الكتابة الفلسطينية من الفلسطينيين في بلدهم، وخلق شاشة يضطر الفلسطينيون من خلالها إلى رؤية العالم والتفاعل معه.

خلال العقد الأول بعد إقامة ما يسمى دولة "إسرائيل"، بدأ العمل على العربية كفضاءٍ للصراع وإعادة صوغ الجماعة الفلسطينية؛ وعملت الدولة بواسطة مؤسسات التربية والتعليم العربي والصحافة والأدب، ولم تكن هذه الحقول ناجزة ومنفصلة، بل كانت بينها تفاعلات وعلاقات تبادلية، وذلك عبر الأشخاص الذين عملوا فيها على نحو متزامن، وبالأفكار التي كانت تنتقل بينها، وبالبنى التحتية والرمزية التي كان يوفّرها كل حقل للحقلَين الآخرَين. على سبيل المثال، نُشر معظم الأدب الفلسطيني في الصحافة المحلية، وكان جزء منه يُدَرَّس ضمن مناهج التعليم في جهاز التربية.

كان جهاز التربية والتعليم تحت السيطرة المباشرة للدولة، أما الحقل الأدبي فقد استقطب هو الآخر صراعًا لإخضاعه، وتحديد كيفية كتابته وقراءته ومبناه الإجمالي. وسنفحص في ما يلي موقف المؤسسات الإسرائيلية الحاكمة، وتربيتها لوكلائها على تبنّي الهيئة المفضلة للعربية.

 

ميخائيل أساف Mikhail Assaf وجريدة "اليوم"

في الأعوام الأولى بعد إقامة الكيان الإسرائيلي، كانت مكانة الفلسطينيين وعلاقتهم بالدولة موضوعًا محوريًا في أوساط الخبراء وموظفِي الحكم الجديد، وكانت المجلة الشرقية الإسرائيلية "الشرق الجديد" إحدى الحلبات التي جرى فيها النقاش.

ففي عددها الأول في العام 1949، نُشِرَت مقالة بعنوان "دمج العرب في إسرائيل"، كتبها ميخائيل أساف، وتطرّق إلى طبيعة العلاقة بين الفلسطينيين والدولة؛ وبحسب معاييره، عنى الدمج "تحويل العرب إلى مواطنين يشعرون بحدٍّ أدنى من الولاء لإسرائيل، كمرحلةٍ أولية"[6].

وفي عرضه المجالات الحياتية المختلفة، يشرح أساف العوامل التي تساعد في الدمج، وتلك التي تعوقه؛ وبعد أن يعرض السكن والحكم العسكري والعمل، يأتي دور التربية والصحافة.

يبدأ أساف بتحديد دور وزارة التربية والتعليم في ظل الحكم الإسرائيلي: "هناك أهمية خاصة لنشاط وزارة التربية. أكثر من 75% من أولاد العرب في مئة قرية تقريبًا، وفي ست مدن يقطنها عرب إسرائيل، بدؤوا يتعلمون في مدارس تدعمها الحكومة وتراقبها. بذلت السلطات الإسرائيلية جهودًا كبرى في كل مكان كي تفتح المدارس أبوابها في الموعد المقرَّر أو في أقرب وقت ممكن"[7].

يصف أساف أجهزة الدولة باعتبارها عوامل إيجابية تساعد على دمج العرب، أي إنّها توجِد لديهم ولاء للدولة. في المقابل، يشير إلى عاملَين معوّقَين: الأول هو الآثار الباقية من الفترة السابقة (والمقصود المعلمون غير المؤهلين تربويًا أو نفسيًا أو سياسيًا، وكتب التعليم غير المناسبة)؛ أما العامل الثاني فهو النقص في عدد معلمِي اللغة العربية الذين في إمكانهم أن يربّوا الفلسطينيين وفق التربية الوطنية، وهذا العامل نابع من استراتيجية مواجهة العامل الأول، بمعنى أنّ المعلمين اليهود سيقومون بتربيةٍ تصحيحية مقابل المعلمين الفلسطينيين التقليديين وكُتُبهم التعليمية.

كما يرى أنّ كتب التعليم من الفترة السابقة هي بقايا نصية ملموسة لنوع التربية واللياقة النفسية السياسية، وروح العصر السابق التي يجب إلغاؤها من خلال تعلُّم اللغة العبرية والتقارب بين الفلسطينيين وجهاز التربية اليهودي، الذي سيعرّفهم بلغتهم إلى هويتهم العربية الإسرائيلية الجديدة.

مثّلت الكتب العبرية وكتب التعليم العربية، التي أُلِّفَت أو حُرِّرَت في جهاز التربية الإسرائيلي، نقطة البداية في هذه الاستراتيجية الرامية إلى خلق طبيعة جديدة للعربية تتماهى مع دولة "إسرائيل".

يُبدي أساف اهتمامًا استثنائيًا بالصحافة المكتوبة باللغة العربية؛ وعندما يصف نشاط هستدروت المعلمين[8] أي المنظومة التعليمية التربوية الإسرائيلية، يلخّص حالة الصحافة العربية في الدولة قائلًا: "بعد إلغاء وزارة الأقليات، نُقلت ميزانية جريدة "اليوم" إلى ميزانية وزارة التربية، وأصبحت تصدُر بالعربية في يافا على يد مجموعة مثقفين مستشرقين.

الجريدة ذات طابع معلوماتي عام، وهي صغيرة تُنشر من دون توقّف، ويصل عدد النسخ اليومية إلى 1500، ومحرروها من اليهود وفيهم بعض الكتاب العرب"[9].

فالعرب هم بالنسبة إلى أجهزة السلطة مجموعة تحتاج إلى تربية تصحيحية، والصحافة العربية هي إحدى الوسائل المركزية لتحقيق هذا الهدف، بمعونة المثقفين المستشرقين الذين يفهمون العرب بطريقةٍ منظمة وعلمية ويستطيعون ترجمة معرفتهم إلى جهاز تربوي فعّال. وكانت جريدة "اليوم" التي شغل فيها أساف منصب رئيس التحرير، القناة المركزية التي نقلت عبرها الدولة معلومات عامة إلى الفلسطينيين في الكيان حتى العام 1968؛ حينذاك توقفت عن الصدور واستُبدِلت بها جريدة "الأنباء".

 

عوفاديا ليفي Ovadia Levy وتربية العرب

سنورِد هنا مقتطفات من مقالة لعوفاديا ليفي الذي كان مراسل جريدة "اليوم" في منطقة عكا، وقد نُشرت هذه المقالة في الجريدة المذكورة باللغة العربية، وتطرّقت إلى الحكم العسكري وملامحه الإيجابية، وهي تُشكّل أنموذجًا واضحًا لكيفية تطويع اللغة العربية في خدمة الاحتلال:

"لسنا نكشف سرًا حين نقول إنّ تدعيم السلام في هذه المنطقة، والمحافظة على الأمن في الفترة الانتقالية، والرغبة في بناء أسس العمل والرفاه، هي العوامل التي أدّت إلى قيام الحكم العسكري. أعتقد أنّ انعكاسات الحكم العسكري في عكا ومنطقتها ليست من خلال المكاتب العسكرية الساعية إلى تطبيق الأنظمة العسكرية؛ بل ينبغي أن نرى في هذه المكاتب قبل كل شيء حلقة وصل بين المواطنين والسكان من جهة، والسلطات والمؤسسات الحكومية من جهة أخرى. وفي الوقت عينه، تُشكّل هذه المكاتب مصدر المعلومات الأكثر صدقية بالنسبة إلى أوضاع المواطنين ومطالبهم. إنّ جهل معظم المواطنين بالسبل القانونية لتحصيل حقوقهم تمنح المكاتب العسكرية الأولوية في خدمة الجمهور"[10].

إذا كان ميخائيل أساف قد شرح طريقة إدارة الاتصال بين الفلسطينيين وجهاز التربية، ودفعهم إلى الاندماج من منطلق الولاء، فإنّ ليفي يطبّق هذا المفهوم بشكلٍ عملي؛ إنّه يُرشد قارئيه من الفلسطينيين إلى قبول الحكم العسكري ويُعيد تعريف الوظائف الإيجابية التي يقوم بها الاحتلال. لكنه لا يستطيع التغاضي عن ممارسات القمع والسيطرة والمصادرة والحصار، لذا نراه يعتبر أنّ هذه الجوانب هامشية، مسلّطًا الضوء على الفائدة التي يمكن للعرب تحصيلها من الحكم العسكري ومكاتبه، ومن التعلّق بمؤسسات السلطة، والاندماج على نحو أفضل في الدولة الجديدة.

بالتالي، نجد من خلال مقولات أساف وليفي أنّ العربية والعبرية شكّلتا على السواء جزءًا هامًا من البنية التحتية لإنشاء الاتصال بين الدولة والفلسطينيين، وأنّ كلًا منهما استُخدمت لوظيفةٍ خاصة في عملية الدمج الهرمية، التي حددت فوقية أصحاب العبرية، وتعلُّق أصحاب العربية بهم، بما يلائم أنموذج المشروعات الاستعمارية الأوروبية.

 

النقد الأدبي كأداة دمج استعمارية

شكّل النقد الأدبي إحدى الوسائل الرئيسة التي استخدمتها الدولة الصهيونية بهدف توجيه الفلسطينيين. ومع بداية الخمسينيات، كان هناك الكثير من المنابر الأدبية التي استخدمتها السلطة وأجهزتها للسيطرة على العربية وإعادة صوغها. وكان من أهم تلك المنابر مجلة هميزراح هحداش (الشرق الجديد)، وقد مثّلت موقعًا نشطًا لموظفِي الحكم والمستشرقين الإسرائيليين، الذين طوّروا من خلال المجلة استراتيجيات خطابية للسيطرة على الفلسطينيين.

في العام 1958، نُشرت مطالعة أدبية في القسم الأدبي من الشرق الجديد تحت عنوان "أدب عربي إسرائيلي"، تضمنت مقالًا لإلياهو كـزوم Eliahu Kzom، يصف ما يعتبره الميزة الأساسية للشعر العربي، وهي الجمود؛ إذ يدّعي أنّ تغيير الشعر العربي لن يأتي إلا بالاتصال مع ثقافة أخرى أرقى منه. ويفسّر الكاتب لقرائه أنّ الشعر العربي بقي على حاله عبر عصور طويلة، ولم تحصل فيه تحوّلات جذرية، وأنّ أربابه رفضوا كل تأثير من عوامل خارجية. ويضيف أنّ هذه الصيغة لم تنكسر إلا بعدما هاجرت مجموعة من الشبان العرب إلى الولايات المتحدة الأميركية، حيث خرجت من عزلتها الروحانية الفكرية، واكتسبت مفاهيم أخرى عن فن الشعر[11].

وبحسب كزوم، لن يأتي التغيير من مجرد الاتصال بثقافةٍ أخرى، بل يتوجب على العرب أن ينفّذوا هجرة ثقافية نحو مستوى أكثر تطوّرًا للخروج من الجمود الفكري. وفي حالة الفلسطينيين، يزعم كزوم أنّ استقرارهم في المجتمع الإسرائيلي هو الخطوة الأولى نحو التحرر المنشود، فيقول: "أثّرت البيئة الإسرائيلية في الشباب العربي الذي نشأ وتطوّر في إسرائيل، وأنا مطمئن إلى أنّ الأدباء من بينهم سيكونون طليعة المجددين في أنواع الأدب العربي، لا سيما الشعر[12]".

ثم يذكر كزوم 17 شاعرًا عربيًا إسرائيليًا، أربعة منهم قَدِموا من العراق، ويبني مراجعته لنتاجهم الشعري على محورَين: الفئة العمرية والمضمون. فمن جانب الفئة العمرية، يلفت إلى أنّ معظم الشعراء المذكورين هم في العشرينيات من العمر، وذلك يعني بشكلٍ غير مباشر أنّهم أبناء جهاز التربية الإسرائيلي. أما من جانب المضمون، فيشير إلى أنّه لا يوجد لديهم أنانية ومفاخرة الشعراء العرب، إنّما يمتازون بـنغمةٍ إنسانية. يرمي هذا الوصف إلى تطهير أعضاء المجموعة من عروبتهم، وإنشاء عروبة إسرائيلية لديهم ولدى قرائهم.

بَيْدَ أنّ تلك العروبة الإسرائيلية لا تزال، حسب كزوم، ناقصة غير مكتملة، ولا بد إذًا من مساهمة جمهور القراء في تغذيتها وتشجيعها وغرسها في نفوس أبنائهم. وهو يدّعي أنّ العربي الإسرائيلي سيُكمل عملية تطهيره في حال قطع علاقاته بالثقافة العربية البالية، وتبنّيه الثقافة الإسرائيلية، وبشكلٍ أعم الثقافة الغربية، ليعيد صوغ شعره[13]. ومن الواقعي افتراض أنّ كزوم يَعي مكانة الشعر في الثقافة العربية، وموقعه المركزي فيها.

لم تقتصر جهود تطويع العربية على الكتّاب والمستشرقين الإسرائيليين، إنّما عُني بها أيضًا كتّاب عرب، من بينهم الفلسطيني ميشال حداد، رئيس تحرير مجلة "المجتمع" التي تأسست في العام 1965، بدعمٍ من رئيس الحكومة الإسرائيلي آنذاك موشيه شاريت Moshe Sharrit لتؤدي دور الوسيط الأدبي بين الدولة والفلسطينيين. وقد سعى ميشال حداد إلى تحقيق إعادة تموضع لغوي لدى المجتمع العربي في فلسطين من خلال المقالات التي نشرها في المجلة، والنشاطات المرتبطة بها كإنشاء نقابة لشعراء اللغة العربية الفلسطينيين وإقامة أمسيات أدبية وشعرية[14].

يرسم حداد في العدد الأول من "المجتمع" الطريق الذي سيسلكه كمثقفٍ وكاتب عربي، على حد زعمه، للمساهمة في بلورة الهوية العربية الإسرائيلية المزعومة: "أخذت "المجتمع" على عاتقها تشجيع الحركة الأدبية والعمل على إيجاد كيان أدبي محلي، يحقق للمجتمع العربي الإسرائيلي مدرسة عربية خاصة، تحمل طابع البلاد وتعبّر عن رغبات السكان ونزعاتهم وتدفع عجلة التطوّر قُدُمًا"[15].

ثم يدخل في توظيف اللغة العربية في هذا السياق: "فلو أردنا أن نستعرض أدب مجتمعنا العربي الإسرائيلي، علينا أن نتساءل، ما هو موقف الأدباء والمتأدّبين من مجتمعهم هذا؟ إنّنا لا نرى أنّ واجب الأدباء تصوير شؤون الناس وتسجيل خواطرهم وحسب، وإنّما هو دراسة ظروف مجتمعهم وتحليل ظواهره المختلفة وانتقاء العلاج الناجع وإسداء النصيحة المخلصة وإرشاد الناس بأساليب شيّقة وسهلة (...) سبحنا في أحلام اليقظة، وران على نفوسنا نعاس الخمول وكابوس الخيال مدة طويلة؛ إنّ أدباءنا يحملون على أكتافهم عبء رسالة هامة، عبء تثقيف المجتمع بمفاهيم جديدة حيّة وصريحة"[16].

يبدو للوهلة الأولى أنّه يمكن تفسير تطرُّق حداد إلى الماضي من زوايا مختلفة، إلا أنّ سياق "العربية" يحدد المعنى الذي من الممكن أن يُنسب إليه؛ فاستخدام مفردات مثل "أحلام اليقظة" و"الخمول" و"الخيال" هو استخدام مفردات استشراقية بامتيازٍ، لأنّها مأخوذة من الخطاب الصهيوني الاستشراقي في هيئته كوسيطٍ محلي، يَنسب هزيمة العرب إلى الذهنية الشرقية. وكان من الممكن أن يُعزى هذا النص إلى هدف إصلاحي حقيقي معادٍ للاحتلال، منادٍ بالحرية والعدالة للفلسطينيين، لولا سياقه العربي الإسرائيلي.

نستنتج أنّ اللغة العربية استُعملت كأداةٍ لتشويه منظومة القيم، وهو أمر دأبت عليه سلطات الاستعمار، لا سيما الاحتلال الإسرائيلي، فحوّلت المقاومة والحرية إلى أحلام يقظة وكابوس خيال، والاندماج بالغزاة والرضوخ للمحتل إلى مفاهيم جديدة حيّة وصريحة.

في مثال آخر، نجد المثقف عدنان أبو السعود يصف المشكلات الأساسية للمجتمع العربي الإسرائيلي ويحلّلها ويقترح لها حلولًا شائقة وجريئة كما يزعم، بُغية الحفاظ على مصلحة المجتمع، وتكوين المواطن الصالح الداعي إلى السلم، الساعي إلى الاستقرار. يقول الكاتب: "من واجب الثقافة أن تنتج مواطنًا عربيًا إسرائيليًا واعيًا لماضيه وحاضره ومستقبله، مُدركًا لتطوّر مجتمعه، مُطّلعًا على أحدث نُظُم الفكر، متعمّقًا في كل ما يجري حوله... فذلك العربي الإسرائيلي هو الضمانة الوحيدة لمستقبلٍ عربي زاهر في هذه البلاد"[17].

نلاحظ وجود عدة ثنائيات متعارضة في هذا الطرح: الثنائية الأولى هي بين صورة المثقف الثوري السائدة قبل العام 1948، وصورة المثقف العربي الإسرائيلي؛ أما الثنائية الثانية، فهي بين النظام الصهيوني القائم، الآتي بالتقدم والتحديث، والنظام العربي الرجعي القديم المُثقل بالتقاليد. في الواقع، شكّلت الثنائيات ترجمة للواقع الفلسطيني النفسي والاجتماعي، على حلبة اللغة، وبات الجانب الصهيوني من كل ثنائية يعلو فوق الجانب الفلسطيني مع اشتداد القبضة الصهيونية على فلسطين، وتعاظم قوة الكيان الإسرائيلي، وسيطرة مؤسساته على النواحي الاجتماعية والثقافية لدى الفلسطينيين، وصولًا إلى التحوّل المفصلي بعد حرب النكسة في حزيران من العام 1967.

 

حرب النكسة وموقع "الوساطة" في العربية

تُجمِع الأدبيات البحثية بشأن الفلسطينيين في إسرائيل على أنّ حرب 1967 شكّلت نقطة تحوّل مفصلية بينهم وبين النظام الصهيوني؛ ويدّعي معظم الباحثين أنّ هذا الحدث ساهم مباشرة في تحوّل العلاقة بين المستعمِر الصهيوني والمستعمَر الفلسطيني من مؤقتة إلى ثابتة. فقبل حرب النكسة، أطّر الفلسطينيون النظام الإسرائيلي كمنظومة سيطرة مؤقتة، وبنوا علاقتهم مع الدولة على الانتظار والتأجيل؛ وبعد الحرب، رأى الفلسطينيون في هذا النظام منظومة قوية ثابتة تفرض عليهم الاندماج بها. من هنا عجّلت النكسة في بناء "أدبية" (Literarity) خاصة بالعربي الإسرائيلي، وأبرزت إلى الواجهة الأدبية مجموعة من الأكاديميين الفلسطينيين الذين اكتسبوا معرفتهم ورُؤَاهم الحداثية من داخل المنظومة الأكاديمية الإسرائيلية والخبراء المستشرقين[18].

نشير هنا إلى عمليتَين حصلتا في أوساط الفلسطينيين على أثر النكسة، وهما تبدوان للوهلة الأولى متناقضتَين؛ من جهة، طوّر الفلسطينيون استراتيجيات وتكتيكات اندماج في أجهزة الدولة وفي منظومتها الأكاديمية، ومن جهة أخرى، أخذوا يعبّرون عن هويتهم الفلسطينية والعربية، ومأسسة هذه الهوية عبر نشاط جماعي أكثر تنظيمًا من ذي قبل. ويُشكّل الأكاديميون الفلسطينيون الذين تخصصوا في دراسة اللغة العربية وآدابها، وشاركوا في تأسيس الموقع الجديد للغة العربية، مثالًا لهذا التناقض: فهم اندمجوا في الأكاديميا الإسرائيلية وتلقّوا ثقافتهم اللغوية عبر الاستشراقية الصهيونية، وشرعوا في الوقت نفسه في الإنتاج الأدبي العربي الفلسطيني، من وجهة نظرهم. نذكر من هؤلاء أيمن إغبارية وتوفيق فياض وعطا اللـه منصور وعامر بو سقيلية وغيرهم[19].

هاتان العمليتان تبلورتا بشكلٍ خاص في السنوات التي تلت النكسة، وتحديدًا في أواخر السبعينيات؛ حينذاك، كان عدد لا يُستهان به من الأكاديميين الفلسطينيين قد أكملوا مسارهم التعلُّمي في الجامعات الإسرائيلية، وتخصص هؤلاء في أحد أقسام اللغة العربية وآدابها. وبدأ كثير منهم حياته العملية في جهاز التربية والتعليم العربي، وتقدَّمَ في سُلّم الوظائف لمواقع إدارية وتفتيشية. وإلى جانب عملهم هذا، استمر بعضهم في مسار الدراسات العليا لنيل الماجستير والدكتوراه. وانقسمت مسارات العمل أساسًا إلى ثلاثة أنواع رئيسة:

•  الأول هو العمل في وزارة التربية والتعليم العالي الإسرائيلية في التفتيش وبناء مناهج التعليم باللغة العربية وآدابها.

•  الثاني هو وظيفة التدريس أو العمل كمُحاضِر في مؤسسة أكاديمية عربية.

•  الثالث هو وظيفة في إحدى الجامعات الإسرائيلية وهي في الغالب إما جامعة تل أبيب أو جامعة حيفا[20].

عملت هذه المجموعات الثلاث على بناء الموقع الجديد للعربية من خلال الإنتاج الأدبي ونقده، ووضعت لنفسها مهمة إعادة ترتيب الوضع الفلسطيني وجعله ملائمًا للحالة المستجدة على الأرض، أي الاحتلال. وحظيَ موقع "الوساطة" هذا، بين طرفَي النظام الاستعماري، على اهتمام خاص لناحية صيانته وإدارته من قبل المستعمِر، وتوظيفه لتحويل فعل الاستعمار المناقض للسياق الاجتماعي التاريخي لفلسطين إلى جزء من ذلك السياق.

لقد أفرزت هذه الوساطة سلوكًا وأفكارًا ومشاعر تتسم بالمحاكاة Mimesis [21]؛ فالمعلم الفلسطيني المنضوي في إحدى هذه المجموعات الثلاث يقف في الوسط بين أجهزة إنتاج المعرفة الإسرائيلية ومجموعة التلامذة، ويُفترض به أن يحاكي معرفة الدولة وأن يغرسها في تلامذته، حتى يعمل هؤلاء بموجب قواعد شعورية تلائم الحد الأدنى من الخنوع والولاء لـدولة "إسرائيل".

سيطرت هذه المحاكاة على الجسد المعرفي الذي أنتجه الأكاديميون الفلسطينيون في الكيان الإسرائيلي، وبالتحديد المعرفة التي أنتجوها عن اللغة العربية وآدابها الموجهة إلى الفلسطينيين. وأدى ذلك إلى إلزام الأكاديمي الفلسطيني بمحو ما يعرفه عن اللغة العربية كلغته الأم، بحيث تتفعل ثنائية محو الهوية/اكتساب هوية جديدة.

إذا أخذنا في الاعتبار المنظومة الأكاديمية الإسرائيلية التي أدارت هذه العملية، وجدنا في كل مؤسسة أكاديمية رئيسة مجموعة من الباحثين الفلسطينيين الذين يعملون تحت إشراف باحث إسرائيلي واحد. في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، كان الباحث الإسرائيلي شموئيل موريه Shamuel Moreh يرأس مجموعة من الباحثين الفلسطينيين في الجامعة العبرية في القدس، وفي جامعة تل أبيب أدار ساسون سوميخ Sasson Somekh المجموعة الفلسطينية، وفي جامعة حيفا أدّى دافيد تصميح David Tsameh هذا الدور[22].

وكان لدى ساسون سوميخ ثلاثة من الطلاب الفلسطينيين: محمود كيال وسليمان جبران ومحمود غنايم. وسنركز على محمود غنايم الذي أنهى الماجستير بإشراف سوميخ في العام 1982، والدكتوراه في العام 1990، وهو باحث في الأدب العربي الحديث، وتحديدًا الفلسطيني منه، وقد نشر معظم أبحاثه الأكاديمية في هيئة نقد أدبي باللغة العربية في مجلات أدبية ودور نشر محلية توجّه منشوراتها إلى جمهور القراء الفلسطينيين. من هنا، تُعزى إلى غنايم مساهمة مركزية في عملية إنشاء الوساطة في العربية.

 

ساسون سوميخ ومحمود غنايم وأكْدَمَة[23] العربية الوسطية

اشتهر سوميخ بكونه مدير المركز الأكاديمي الإسرائيلي في القاهرة بين عامي 1996 و1998, وقد برز اسمه في العالم الأكاديمي بعد نشر كتابه عن نجيب محفوظ، بالاعتماد على أطروحة الدكتوراه التي أنجزها في جامعة أكسفورد[24].

لم يقصد سوميخ في البداية أن يدرس العربية، فهو سافر إلى إنكلترا لدراسة اللسانيات العامة، وتخصَّصَ في لسانيات اللغة العبرية، إلا أنّ تدخّل المؤسسة أزاحه عن طريقه ووجّهه نحو مجال آخر؛ في سيرته "أيام الهذيان"، يصف تسلسل الأحداث كالآتي: "بعد شهرين أو ثلاثة في لندن وصلني اقتراح مغر جدًا من تل أبيب، وإنْ كان فيه الكثير من التغييرات والتنقلات الشاقة: تركُ لندن والانتقال إلى أكسفورد، تركُ العبرية واللسانيات العامة من أجل بحث الأدب العربي الجديد؛ اقترحت جامعة تل أبيب تغطية تكاليف الحياة والتعلُّم في أكسفورد حتى انتهاء الدراسة، وفي حال عودتي إلى البلاد بعد حصولي على اللقب، عُرِض عليَّ أن أُعَيَّن في وظيفة رسمية في الجامعة"[25].

نفهم من هذا الوصف للأحداث أنّ تخصص سوميخ في الأدب العربي نتج عن حاجات مؤسساتية؛ فجامعة تل أبيب أرادت أن تقيم برنامجًا للغة العربية وآدابها وكانت في حاجة إلى محاضرين وباحثين متخصصين. وشكّل التوجيه الذي خضع له سوميخ محطة مهمة في مسار إنتاج المعرفة المتعلقة باللغة العربية، وفي تكوين جهاز صياغة القراءة والكتابة الفائضة الصهيونية[26].تُعدّ مجلات الأدب العربي الموجّهة إلى الفلسطينيين من أهم الحقول التي نشط فيها سوميخ بصورةٍ مثابرة ومتواصلة؛ من الأمثلة البارزة على ذلك مجلة الشرق (هميزراح بالعبرية) التي بدأت بالصدور في العام 1970، ويذكر سوميخ في مقالة له نُشرت في العام 1979 تحت عنوان "القارئ العربي والأدب العبري" أنّ "الاهتمام الإسرائيلي بالعالم العربي، سواء على المستوى الأكاديمي أو على المستوى العام، ليس جديدًا بالمرة؛ إذ إنّ تاريخ الاهتمام طويل في هذه البلاد، وهو يعود إلى ما قبل الدولة بكثيرٍ"[27].

يعرض سوميخ في مقالته المؤسسات الأكاديمية والمترجمين وأنواع النصوص التي تُرجمت من العربية إلى العبرية، ويرسم صورة إيجابية لمشروعات الترجمة التي تساهم، كما يرى، في ربط الثقافات والدول بعضها ببعضٍ. بَيد أنّه يميّز بين أنواع مختلفة من الأدب: الأدب العربي الإنسانوي الذي يدعم الحركة الصهيونية، والأدب العربي الذي يعارض الحركة الصهيونية ودولة "إسرائيل" ككيانٍ احتلالي استعماري، بل إنّه لا يعُدّ النوع الثاني أدبًا؛ وهو يفصل بين هذا النوع من الثقافة الفلسطينية والثقافة العربية، ليدّعي أنّه لولا القسم العدائي من الفلسطينيين، لما كانت هناك أي مشكلة بين العالم العربي وإسرائيل. ومما يكتبه في مقاله:

"وأخيرًا، وجد النثر القصصي الأردني والفلسطيني الحديث مَن ينقله إلى العبرية. فقد قام الأديب الإسرائيلي، العراقي الأصل، شمعون بلاص Shimon Plass بترجمة مجموعة قصص أسماها "قصص فلسطينية" صدرت في العام 1975، وضمّت بين دفّتيها ترجمة عبرية لخمس عشرة قصة لأدباءٍ ينتمون إلى الجيل السابق وإلى الجيل الحالي؛ وتحتل القضية الفلسطينية في هذه المجموعة مكان الصدارة إلى حد ظهرت فيه نغمة العداء والكراهية بصورةٍ بارزة، مع ذلك فإنّها لا تخلو من القصص التي تعالج مشكلات المجتمع العربي على ضفتَي نهر الأردن. من بينها قصص الأديبة سميرة عزام المليئة بالحنين والأشواق الشاعرية الصادقة. أما قصص غسان كنفاني، فتغلب عليها الروح الغاضبة على الحركة الصهيونية وعلى بعض الجهات العربية التي استغلت مأساة اللاجئين كدميةٍ تلهو بها وتجد الثراء على حسابها. وعلى الرغم من الجهد الذي بذله مترجِم هذه المجموعة ليُقدّم للقارئ العبري قصصًا ذات مستوى فني لائق، فقد غلبت العدائية على هذه القصص وانحدر مستواها الفني (باستثناء نتاج سميرة عزام)"[28].

يبني سوميخ هنا علاقة سببية بين حكمه برداءة الأدب الفلسطيني عامة، وبين عداء هذا الأدب وحقده وغضبه تجاه الحركة الصهيونية والكيان الإسرائيلي. فالفلسطينيون بالنسبة إليه لا يعرفون كيف يكتبون أدبًا جميلًا راقيًا، ما يعني، وفقًا لتحليله، وجود علاقة جدلية بين الأدب الرديء ورفض الصهيونية.

هذا في حين يعدّ أدب سميرة عزام ذا مستوى راقٍ لأنّها تعالج قضايا الحنين والأشواق الشاعرية الصادقة، أي إنّها، بمعنى آخر، لا تشغل نفسها بالمأساة الفلسطينية التي سبّبها المشروع الصهيوني. وهذا الخطاب الذي يقيس جودة الأدب بحسب الموقف من الصهيونية هو من أوجه الفائض الصهيوني قراءة وكتابة.

على ضوء ما أوردناه، يمكننا أن نعاين آراء محمود غنايم، تلميذ سوميخ، كأحد أهم وجوه موقع الوساطة العربية في فلسطين. فهو إضافة إلى كونه أحد تلامذة ساسون سوميخ، يعمل في جامعة تل أبيب التي نال فيها شهادة الدكتوراه في العام 1990. ولئن كانت نقطة انطلاق سوميخ هي الواقع الإسرائيلي وموقف الفلسطينيين تجاهه، فإنّ نقطة انطلاق غنايم هي إحياء التقاليد العربية الإسلامية داخل الحداثة العربية في مصر والعراق وبقية دول العالم العربي، وذلك في سياق اندماجه داخل الأكاديميا الإسرائيلية، بداية كطالبٍ، ولاحقًا كباحثٍ.

في مقالة نُشرت في مجلة الشرق في العام 1980 تحت عنوان "الموضوعات الاجتماعية في القصة المحلية القصيرة"[29]، يتناول غنايم القصة القصيرة الفلسطينية، متبنيًا السردية الأكاديمية الصهيونية السائدة حول الأدب الفلسطيني، ويستعملها كإطارٍ تاريخي نظري لتحليل جانب مهم من النتاج الأدبي لدى الفلسطينيين. فهو ينطلق في مقاله من كون نقطة الصفر، أي البداية، بالنسبة إلى الفلسطينيين، كشعبٍ له تاريخ وعادات وتقاليد، هي قيام دولة "إسرائيل".

ثم يفصّل الإطار المنهجي ونوع التحليل الذي يعتمده: "إنّ التوجّه الذي تتبناه هذه الدراسة يعتمد على تحليل اللغة والمبنى في النص الأدبي، لكنّه ليس بحالٍ من الأحوال لهدفٍ لغوي بحت، بل للكشف عن الوظيفة والدلالة التي تحملها اللغة وينهض بها المبنى؛ إذ إنّ فهم الأبعاد اللغوية والعناصر البنيوية يساعد مساعدة أكيدة في فهم المضامين التي يطرحها العمل الأدبي"[30].

بعد ذلك، يتمعّن في الموضوعات الاجتماعية المختلفة ضمن حياة الفلسطينيين من خلال القصة القصيرة، فيستعرض الأرض والقرية والحب والجنس كمجالاتٍ تمر بصدمة التحديث عقب إنشاء الكيان الإسرائيلي. ويتناول رواية "المتشائل" لإميل حبيبي مسوّغًا اختياره بأنّها "عمل متميز يخرج بالقصة المحلية من محلّيتها ويتخطى الأسلاك الشائكة نحو الحداثة".

يتبيّن لنا أنّ الإطار التأسيسي الذي يقوم عليه موقع العربية الوسطية هو إقصاء الواقع والإعلاء من شأن العمل الأدبي بمقدار تجاهله لهذا الواقع، وعدم محاكاته للمأساة الفلسطينية، والتطلّع إلى ما هو أبعد وأرقى، كما يحصل في رواية "المتشائل" لحبيبي؛ بمعنى أنّ فهم الأدب الحداثي وإيصاله إلى جمهور القراء الفلسطيني سيُنقذ هذا الأدب من محليّته التقليدية باتجاه العالمية.

يضيف غنايم: "تكمن قيمة الشخصية الرئيسة في القصة، سعيد أبو النحس، في كونها تطمح في نهاية المطاف إلى التسامي فوق الواقع المُعاش، لا من خلال العنف والانقلاب، بل من خلال الاندماج والإيجابية؛ ولعل أبرز ما بثّه "حبيبي" في هذه الشخصية صفة الهدوء والسلمية"[31].

يسير غنايم إذًا بسردية انفصال الأدب عن الواقع، من خلال رواية "المتشائل"، ضمن مسارَين: الأول هو انفصال الفلسطينيين في الكيان الإسرائيلي عن الجماعة الفلسطينية واندماجهم في النظام الصهيوني الاستعماري؛ والثاني هو انفصال الأدب بحدّ ذاته عن الواقع الاجتماعي التاريخي. وبهذا، يصيغ غنايم مبدأه التاريخي، ومفاده أنّه كلما رأت مجموعة الفلسطينيين في إسرائيل نفسها عربية إسرائيلية أكثر، أصبح أدباؤها أكثر قدرة على إنتاج أدب حداثي غير مرتبط بواقعهم الاستعماري.

 

مرحلة التسعينيات وما بعدها: العربية بين أيدي الخبراء الفلسطينيين-مجمع اللغة العربية أنموذجًا

جرت في العقدَين الأخيرَين تغيرات عميقة في العلاقة بين النظام الصهيوني والفلسطينيين. بعض هذه التغييرات مرتبط بعملياتٍ اجتماعية اقتصادية عميقة داخل النظام الصهيوني نفسه، وبعضها مرتبط بمجموعة الفلسطينيين داخل الكيان الإسرائيلي، تحديدًا ذوي المواطنة الإسرائيلية. ومما لا شك فيه أنّ هناك مجتمعًا فلسطينيًا - إسرائيليًا كان قائمًا قبل التسعينيات، لكنّه شهد بعد ذلك تحوّلًا غير مسبوق، ومَعيرة وفق شروط اجتماعية اقتصادية جديدة لم تكن موجودة حتى ذلك الحين[32].

شكّل أفول الأيديولوجيا الوطنية الفلسطينية أحد أسس هذا التحوّل، الذي تبدّى في عدة مجالات أبرزها أكْدَمَة القضية الفلسطينية وشروع الفلسطينيين أنفسهم ببناء نوع جديد من الذاتية، ووضع مكانة جديدة للغة العربية، بشكلٍ يوصف بالجماعي، وليس فراديًا كما كان الحال عليه قبل ذلك.

ومن أبرز مظاهر هذه المرحلة إقامة مجمع اللغة العربية في حيفا في العام 2007 بعد أن أُنشئَ كجمعيةٍ غير رسمية في العام 2004 [33]، بهدفٍ معلن هو دعم موقع اللغة العربية وصولًا إلى اعتبارها لغة رسمية في إسرائيل. لكن حقيقة الأمر أنّ المجمع يقدّم اللغة العربية، قراءة وكتابة، كلغة ظل للعبرية، ويفرّغها من مخزونها التاريخي وذاكرتها الجماعية.

يدّعي سليمان جبران وهو من تلاميذ ساسون سوميخ، الذي اختير ليكون رئيس المجمع، أنّ الأخير أُقيم ليحافظ على خصوصية الفلسطيني في إسرائيل عن طريق الاندماج في أجهزة المؤسسة الرسمية: "إنشاء مجمع للغة العربية في إسرائيل كان حلم الكثيرين من الأدباء والمثقفين، ولم يكن سهلًا ائتلاف عدد كبير من المثقفين الفلسطينيين على إنشائه. لكنْ، ها هو اليوم جمعية رسمية هدفها رعاية اللغة العربية والعمل على حمايتها وتطويرها"[34].

تلك هي الغاية المعلنة، لكن تتبُّع آراء جبران يفيد غير ذلك؛ خصوصًا إذا ما قارنّا أقواله في مرحلتَين: الأولى مرحلة ما قبل إنشاء المجمع، والثانية بعده، مع الأخذ في الحسبان أنّ إنشاء المجمع واستمراره يتم في جزء منه بتمويلٍ من وجوه عربية مندمجة بالكامل في المنظومة الرسمية الصهيونية، أبرزها غالب مجادلة الذي تسلّم منصب وزير الشباب والرياضة في حكومة إيهود أولمرت في العام 2006.

من مرحلة ما قبل إنشاء المجمع، وتحديدًا في بداية التسعينيات، كتب جبران: "أنا لا أرفض محاولات الدولة اليهودية لنيل الاستقلال؛ على العكس من ذلك، أفرح لكل شعب يحظى بالاستقلال والحرية. ما أكرهه هو الفكرة التي تقوم عليها الحركة الصهيونية، ومفادها أنّه بُغية أن توجد هذه الحركة وتزدهر، عليها إذلال الشعب الفلسطيني وطمسه وسلبه استقلاله"؛ ثم يُضيف: "يبدو لي أنّ هناك توجّه واضح لإعادة تصميم اللغة العربية في فلسطين بما يجعلها بلا لون، وتحويلها إلى شكل دوني غير ضار بالسياسة الصهيونية"[35].

مقابل هذا التوجّه الواضح، نلاحظ التبدل في الموقف عند جبران في فترة ما بعد إقامة المجمع، إذ يكتب: "علينا الاعتراف بأنّ اللغة العبرية تطوّرت فعلًا أكثر من العربية، وباتت أقرب إلى العالمية بفعل سهولة الترجمة بينها وبين اللغات الأجنبية من حيث المصطلحات ومباني الجمل. فهي أكثر طواعية من العربية، ولقد تخلّصت منذ عهد بعيد من حركات آخر الكلمة وعلامات الإعراب الأخرى، فغدت سهلة طيّعة تكاد تصوغ الجملة فيها كما ترغب دونما خوف من الوقوع في المحظور أو غير المألوف كما في العربية"[36].

لا يكتفي جبران بادّعاء طواعية العبرية، وهو كلام بحدّ ذاته إشكالي من الدرجة الأولى، لكون هذه اللغة من أفقر لغات العالم بالمفردات وهو أمر لا يَخفى على أي باحث، إنّما يتعدى السياق اللغوي نحو سياق إنساني - اجتماعي فيضيف: "ثم إنّ الإسرائيليين عرفوا كيف يتصلون بالغرب واللغات والثقافات الأجنبية؛ من هنا وجب علينا كفلسطينيين أن نُنْشئَ روابط قوية مع مؤسسات اللغة العبرية، مثل أكاديمية اللغة العبرية، ونتطلع إلى ولوج تلك الأبعاد العالمية"[37].

يربط جبران إذًا بين الاتصال بالعبرية، أي إعادة تموضع العربية، وبين التقدم السريع والرُّقي؛ وهو يتّخذ المنظومة الأكاديمية الإسرائيلية أنموذجًا للتحديث، وبات من الواضح أنّه من القيّمين على موقع الوسطية العربية، وهو موقف لا ينبع من انتماء فلسطيني - قومي، بل من قاعدة الحد الأدنى للولاء تجاه الدولة.

 

وقفة مع "رسمية" اللغة العربية في الكيان الإسرائيلي

بعد أن استعرضنا موقع العربية في أوساط الفلسطينيين، باعتبارها أداة استعمارية موجهة إلى جمهور المستعمَرين، سنُلقي الضوء على موقعها بالنسبة إلى الجمهور الإسرائيلي، سعيًا لتكوين صورة أكثر شمولًا عن وضعها في الكيان الصهيوني.

تُعدّ اللغة العربية لغة ذات مكانة رسمية في الكيان الإسرائيلي بموجب القرار الصادر في العام 1922 إبان فترة الانتداب البريطاني؛ لكنّها ليست اليوم مطلوبة كمادةٍ في امتحان شهادة الدراسة الثانوية. إلا أنّ الأصوات الداعية إلى إلغاء هذه المكانة أو إضعافها تُرافق الدولة منذ إنشائها. في العام 1949، كتب المفتش الرئيسي للتعليم الرسمي موشيه دفنا: "ينبغي التشديد على حصص الرياضة البدنية أكثر من تعليم اللغة العربية، سواء للإسرائيليين أو العرب، والأفضل أن يعتادوا هم علينا ويتعلموا العبرية...علينا التحرر من الدونية الشتاتية"[38].

وفي العام 1955، طالبت النائبة إستر رازئيل نؤوت بإلغاء مكانة العربية في الدولة وجعل الكيان الإسرائيلي أحادي اللغة، إلا أنّ رئيس الحكومة آنذاك دافيد بن غوريون، عارض تلك الخطوة بحجة أنّها ستزيد من نقمة الفلسطينيين وباقي العرب على الإسرائيليين[39].

تعزَّزَ اتجاه إضعاف اللغة العربية في أوساط المواطنين الإسرائيليين، العرب منهم واليهود[40]، بدءًا من العام 2001، في ظل ارتفاع منسوب التوتر الفلسطيني - الإسرائيلي وتفجّر انتفاضة الأقصى في العام 2000؛ وطرح النائب ميخائيل كلاينر اقتراح قانون في الكنيست لإلغاء مكانة العربية[41]؛ وكذلك فعل النواب أرييه إلداد في العام 2005 وآفي ديختر في العام 2011 ويرييف ليفين في العام 2014 [42].

في سياق متصل، أشارت أبحاث أكاديمية كثيرة إلى المكانة المتدنية للعربية في إسرائيل، وإلى الفارق الكبير في مكانتها الرسمية على الورق ومكانتها في الواقع. تبرز هنا دعوة وزير المعارف شاي بايرون، في العام 2014، إلى تقليص مدة تدريس اللغة العربية في الوسط اليهودي وحصرها في ثلاث سنوات تعليم فقط، بدلًا من أربعة، مع الإشارة إلى أنّها لا تُدرَّس كلغةٍ إلزامية في الأساس، إنّما كلغةٍ اختيارية، بحيث يستطيع التلامذة اختيار الفرنسية بدلًا منها، ولا تتجاوز نسبة الذين يدرسون العربية اختيارًا 4% من مجموع التلامذة الإسرائيليين[43].

ومن غير المعتاد أن يكون مدرّسو اللغة العربية للإسرائيليين أشخاصًا ناطقين بها كلغةٍ أم، وذلك في إطار منع استخدامها لتطوير علاقات إيجابية مع العرب؛ فالعربية تُدرَّس بلا عاطفة، في ظل خوف من استحسانها وتحوُّلها إلى مقدمة للصداقة مع العرب. كما أنّها تُعرَض على نحو سطحي لا يتناول الأدب العربي الكلاسيكي الأصيل أو الفلسطيني القومي، ولا يُقارب تجارب كبار الشعراء العرب والفلسطينيين، بل يُكتفى في كثير من الأحيان برواياتٍ بسيطة ومواضيع بعيدة عن واقع الحياة اليومية[44].

واللافت هو أنّ الغالبية العظمى من التلامذة الإسرائيليين لا تعبّر عن اهتمام بتعلّم اللغة العربية، ما خلا قلة تبغي تعلّمها من منطلق رغبة أداتية هي التجنّد لسلاح المخابرات، الأمر الذي يخلق علاقة قوية بين تعليم العربية وأجهزة الأمن في الكيان، وتحديدًا وحدة الاستخبارات العسكرية "تيليم" التي تتمثل مهمتها في التدخل في حياة الفلسطينيين الخاصة وعلاقاتهم ومشاكلهم المالية وأمراضهم، بهدف امتلاك النفوذ والابتزاز والاضطهاد السياسي وتجنيد العملاء، وتحريض الفئات المختلفة من المجتمع الفلسطيني بعضها على بعض[45].

ولعل ما صرّحت به المديرة العامة لوزارة التربية والتعليم في العام 2003، رونيت تيروش، يختصر الموقف التعليمي الرسمي من اللغة العربية؛ فقد قالت: "العربية لغة مرتبطة بفئةٍ سكانية تجعل حياتنا صعبة وتهدد أمننا. مع ذلك، إنّ معرفة الطلاب بها تساعدهم على رؤية الحياة في إسرائيل من خلال عيون العرب، وهو أمر أساسي لفهم دوافعهم واتّقاء أفعالهم"[46].

بلغ هذا المسار ذروته مع إقرار قانون يهودية الدولة من قبل الكنيست في تموز من العام 2018، بحيث نصّ صراحة وللمرة الأولى، أنّ "أرض إسرائيل هي الأرض التاريخية للشعب اليهودي"، وأنّ "اللغة الرسمية الوحيدة هي العبرية وأنّ العربية لغة ذات مكانة خاصة"، مُسقِطًا الرسمية المنقوصة أصلًا عن العربية[47].

إنّ هذا الاتجاه الأكاديمي - الأمني السائد لم يمنع ظهور مساع محدودة لإعادة الاعتبار للغة العربية، أهمها إنشاء لجنة أور التي فحصت جوانب مختلفة من التمييز ضد الجمهور العربي، وقررت أنّ الاعتراف الفعلي للدولة باللغة العربية كلغةٍ رسمية مكتملة المعايير إلى جانب العبرية هو أحد الحقوق الجماعية القليلة التي يتمتع بها المواطنون العرب في الدولة، وأنّ عدم معاملتهم كأبناء جزء من الشعب له هويته المستقلة وعاداته الخاصة، يزيد من شعورهم بالغُبْن والإجحاف[48].

في المحصلة، نرى إلى أي مدى تم تصميم منهج العربية كلغةٍ موجهة إلى الجمهور الإسرائيلي، لأهدافٍ أمنية وسياسية وتعليمية محددة، تتلاقى مع خط معيرة العربية وإعادة تموضعها في موقع الوسطية على يد باحثين وأكاديميين فلسطينيين.

 

الخاتمة

تندرج التغييرات التي مرت بها اللغة العربية في فلسطين ضمن العمليات التحويلية العميقة التي خضع لها الفلسطينيون جميعًا ؛ فاستُهدفت البنية الشعورية العامة تجاه النكبة التي يمكن اعتبارها آخر المحطات التاريخية لمعظم الفلسطينيين، بلحاظ الهوية الفلسطينية الحقيقية.

هذه التغييرات اعتمدت التدخل المباشر لنسف القدرة على الفقدان، بمعنى أنّ إلغاء الشعور الجماعي بالفقدان الذي تولّد في أعقاب النكبة كان ركنًا أساسيًا من أركان سياسة الدولة الصهيونية[49]. وظهر هذا الاتجاه التطويعي على المستويات الاجتماعية والسياسية والثقافية المختلفة.

وبعد أن كانت هوية الفلسطينيين كجماعةٍ وطنية جوهرًا ومقوِّمًا ثابتًا يشمل اللغة العربية كإحدى علاماته البارزة، باتت هذه الهوية مبنيّة لدى جزء واسع من الشعب الفلسطيني على مبدأ الحد الأدنى من الولاء للدولة. في هذا السياق، ظهر نمط من فائض القراءة/الكتابة القهرية، ما أدى إلى إعادة تموضع العربية وابتعادها عن الجوهر الفلسطيني. لقد حاولنا تتبّع هذه الوضعية الوسطية في الحلبة البنيوية العربية، وتحديدًا في جريدة "اليوم" ومجلة "الشرق الجديد" اللتَين صدرتا بعد النكبة، ثم مع الفلسطينيين الذين تدرجوا في الجامعات الإسرائيلية وتولوا مناصب تعليمية وأكاديمية فيها، لا سيما محمود غنايم وسليمان جبران تلميذَي ساسون سوميخ. ولم تكتفِ أجهزة الدولة بمطالبة الفلسطينيين بإعلان الولاء، إنّما جرى تأطير جديد لهذا الولاء على أنّه نهضة فكرية ووطنية. وفي بداية تسعينيات القرن الماضي تقاطعت عمليات المعْيرة هذه مع تطوّر البنى التحتية المادية المؤسساتية فأُقيم مجمع اللغة العربية، الذي سعى إلى ترجمة أنموذج اللغة العبرية في جسد العربية الفصحى.

يتبيّن لنا أنّ السردية التاريخية للعربية وصلت إلى موقع جمعت فيه متناقضَين متنافرَين هما طرفا العلاقة الاستعمارية أي الفلسطينيين والإسرائيليين، وشكّلت أداة يفرض النظام الصهيوني من خلالها الهوية العربية الإسرائيلية. هذا في حين يبدو الفلسطينيون غير قادرين على إنتاج بنية فكرية لغوية مقاوِمة، في ظل تقهقر الروح الفلسطينية التي تعرضت لسلسلة هزائم على عدة صعد. ولا شك في أنّ الانقسام الفلسطيني وتراجع الدعم العربي وغياب الرؤية الموحدة عند العرب وعند الفلسطينيين، كلها تؤدي إلى إمعان الكيان الصهيوني في أسرلة العربية وتفريغها من روحها.

 

يجدر بالإشارة أنّ هناك مركزَين لم تقم أجهزة الدولة الصهيونية بإخضاعهما لمبادئ القهرية:

•  الأول هو القرآن الكريم بوصفه النص الإسلامي المقدس؛ وهو مصدر للتشريع والأحداث بالعربية الفصحى التي لها تأثير بالغ على الفلسطينيين بوصفهم جماعة دينية إسلامية. وقد أُقيمت بنية تحتية مادية في الدولة الصهيونية بهدف خلق رابط ديني مع الفلسطينيين، مثل المحاكم الشرعية الإسرائيلية التي تُدير الأحوال الشخصية للمسلمين في الكيان الإسرائيلي، ومناهج التعليم الديني الإسلامي، وتُعيّن رجال دين أئمة للمساجد[50]؛ بيد أنّه لم تحصل نشاطات نصية مرتبطة بالقرآن وتفسيره كما حدث في مجالَي الشعر والأدب. هذا يعني أنّ جزءًا مهمًا من الجماعة الدينية الإسلامية الفلسطينية استطاع الحفاظ على اتصاله مع العربية الفصحى ذات الهوية الأصيلة.

•  الثاني هو الترابط اللغوي العربي الذي تُتيحه وسائل التكنولوجيا الحديثة، وتحديدًا وسائل التواصل الاجتماعي، التي تُشكّل طريق اتصال عابر للقوميات، ينفُذ الفلسطينيون من خلاله إلى الجمهور العربي الواسع رغم النشاط الدائم للمؤسسات الإسرائيلية المختصة في هذا المجال، ويبقون على ارتباط بالنبض القومي المعادي للصهيونية؛ غير أنّ هذا الترابط لا يُعدُّ مصدرًا لإعادة إنتاج الهوية الفلسطينية.

أما المحطة التالية للعربية في فلسطين، فسوف تتحدد على ضوء مسارات تاريخية وسياسية واجتماعية متشعبة، تبدأ بمستقبل الصراع العربي - الإسرائيلي، وموقف الدول العربية من الكيان الإسرائيلي، ومستقبل الخلاف الفلسطيني - الفلسطيني. ولعل طريق التحرر، إذا وُجد، يبدأ من حدث خارجي كبير يعكس مفاعيل الهزائم العربية المتتالية منذ النكبة وحتى يومنا هذا.

 

المراجع

- أبو السعود، عدنان، ثقافة المواطنين العرب في المجتمع الإسرائيلي، دار حيفا، الطبعة الأولى 1966.

- الناشف، إسماعيل، القناع الاستعماري، مركز الدراسات العربية، قطر، الطبعة الأولى 2016.

- الناشف، إسماعيل، حول النظم الاستعمارية، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، 2011.

- الناشف، إسماعيل، معمارية الفقدان، دار الفارابي، بيروت، الطبعة الأولى 2016.

- بابك، حلمي، موقع الثقافة، روتدج برس، لندن، 1994.

- جبران، سليمان، على هامش التجديد، منشورات مجمع اللغة العربية، حيفا، 2009.

- حداد، ميشال، علاقة الأدباء بمجتمعهم، مجلة المجتمع، العدد 1، من أرشيف مؤسسة الدراسات الفلسطينية.

- حمدان، حسن، نمط الإنتاج الاستعماري في فلسطين، دار الفارابي، بيروت، الطبعة الأولى 1990.

- غرّه، رمسيس، المجتمع العربي في إسرائيل، دار فان لير، القدس، 2016.

- غنايم، محمود، الموضوعات الاجتماعية في القصة المحلية القصيرة، العدد 112، من أرشيف مؤسسة الدراسات الفلسطينية.

- كزوم، إلياهو، الشعر العربي في إسرائيل، هميزراح هحداش، العدد35.

- أساف، ميخائيل، دمج العرب في إسرائيل، هميزراح هحداش، العدد1 1949 (بالعبرية).

- بنزيمان، عوزي، عرب إسرائيل: مواقفهم وسياستهم، مطبعة القدس، 1992 (بالعبرية).

- سوميخ، ساسون، الأدب العربي والقارئ العبري، الشرق، العدد82 (بالعبرية).

- كوفولبيتس، عمانوئيل، مشاكل تعليم العربية، منشورات أكاديمية المعلمين، 1993 (بالعبرية).

- ليف، آري، اعرف جيرانك، هآرتس، 26 شباط 2003 (بالعبرية).

 

 

 

- Anderson, Benedict, Imagined Communities, Verso, London, 1998

- Anderson, Benedict, Reflections on the Origins and Spread of Nationalism, Verso, London, 1983.

- Cook, Jonathan, Israe's Army and Schools, Middle East Eye, September 27, 2015.

- Eibner, John, The Future of Religious Minorities in the Middle East, Lexington Books, London, 2018.

- Ferguson, Charles, Word Review, n.2.

- Marion, Jean-Luc, Saturated Phenomena, Fordham University Press, New York, 2002.

- Mendel, Yonathan, The Creation of Israeli Arabic, Macmillan, London, 2014.

- Nashif, Ismail, On the Palestinian Abstraction, Raya Publications, Hayfa, 2014.

- Wulf, Christoph, Culture and Society, University of California Press, 1995.

 

[1]-     . Anderson, Benedict, Reflections on the Origins and Spread of Nationalism, Verso, London, 1983, p.44

[2]-     .Anderson, Benedict, Imagined Communities, Verso, London, 1998, p.72

[3]-     الحلبة البنيوية هي مجال من المجالات التي تتحرك فيها العلاقات الاجتماعية. يُنظر في هذا المجال:

.Ferguson, Charles, Word Review, n.2, 1969, p.25

[4]-     .Marion, Jean-Luc, Saturated Phenomena, Fordham University Press, New York, 2002, p13

[5]-     بابك، حلمي، موقع الثقافة، روتدج برس، لندن، 1994، ص. 58.

[6]-     أساف، ميخائيل، دمج العرب في إسرائيل، هميزراح هحداش، العدد1 1949، ص2 (بالعبرية).

[7]-     المصدر نفسه.

[8]-     الهستدروت (معناها الحرفي: التنظيم) هو الاتحاد العام للعمال الإسرائيليين، وهو يضم اتحادات صغرى منها هستدروت المعلمين أي الاتحاد الخاص بهم.

[9]-     المصدر نفسه.

[10]-    غرّه، رمسيس، المجتمع العربي في إسرائيل (بالعبرية)، دار فان لير، القدس، 2016، ص 84، نقلًا عن الأرشيف الصحافي في جامعة تل أبيب.

[11]-    كزوم، إلياهو، الشعر العربي في إسرائيل، هميزراح هحداش (الشرق الجديد) العدد 35، ص 8.

[12]-    المصدر نفسه.

[13]-    المصدر نفسه.

[14]-    .Nashif, Ismail, On the Palestinian Abstraction, Raya Publications, Hayfa, 2014, p.114

[15]-    حداد، ميشال، علاقة الأدباء بمجتمعهم، مجلة المجتمع، العدد 1، ص1-3، من أرشيف مؤسسة الدراسات الفلسطينية.

[16]-    المصدر نفسه.

[17]-    أبو السعود، عدنان، ثقافة المواطنين العرب في المجتمع الإسرائيلي، دار حيفا، الطبعة الأولى 1966، ص 183.

[18]-    الناشف، إسماعيل، القناع الاستعماري، مركز الدراسات العربية، قطر، الطبعة الأولى 2016، ص120.

[19]-    المصدر نفسه، ص94.

[20]-    حمدان، حسن، نمط الإنتاج الاستعماري في فلسطين، دار الفارابي، بيروت، الطبعة الأولى 1990، ص 239.

[21]-.Wulf, Christoph, Culture and Society, University of California Press, 1995, p.211

[22]-    الناشف، إسماعيل، القناع الاستعماري، ص139.

[23]-    اخترنا تعبير "الأكدمة" للدلالة على تطويع العربية ودمجها في النظام الأكاديمي الإسرائيلي.

[24]-    .Somekh, Sasson, The Changing Rhythm, Brill, London, 1985, p17

[25]-    سوميخ، ساسون، أيام الهذيان، هكيبوتس همؤوحاد، تل أبيب، 2008، ص97 (بالعبرية).

[26]-    راجع المقدمة في ما يتعلق بالفائض الصهيوني.

[27]-    سوميخ، ساسون، الأدب العربي والقارئ العبري، الشرق، العدد82، ص19(بالعبرية).

[28]-    المصدر نفسه.

[29]-    غنايم، محمود، الموضوعات الاجتماعية في القصة المحلية القصيرة، العدد 112، ص 9.

[30]-    المصدر نفسه.

[31]-    المصدر نفسه.

[32]-    الناشف، إسماعيل، حول النظم الاستعمارية، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، 2011، ص7.

[33]-    موقع مجمع اللغة العربية في حيفا: www.arabicac.com الدخول بتاريخ 3/11/2018.

[34]-    كلمة أُلقيت خلال المؤتمر الأول للغة العربية في حيفا في العام 2004، منقول من موقع المجمع (مرجع سابق).

[35]-    مقال بعنوان "تحويل فلسطين" نُشر ضمن مجموعة مقالات تحت عنوان "مصير اللغة العربية في فلسطين"، دار حيفا، 2001.

[36]-    جبران، سليمان، على هامش التجديد، منشورات مجمع اللغة العربية، حيفا، 2009.

[37]-    المرجع نفسه.

[38]-    كوفولبيتس، عمانوئيل، مشاكل تعليم العربية، منشورات أكاديمية المعلمين، 1993، ص18 (بالعبرية).

[39]-    بنزيمان، عوزي، عرب إسرائيل: مواقفهم وسياستهم، مطبعة القدس، 1992، ص155 (بالعبرية).

[40]-    يُشكّل العرب الإسرائيليون ما نسبته 20% من مجمل مواطني الكيان.

[41]-    اقتراح قانون متوافر باللغة العبرية على موقع الكنيست الإسرائيلي:

www.kenesset.gov.il

[42]-    المصدر نفسه.

[43]-    .Mendel, Yonathan, The Creation of Israeli Arabic, Macmillan, London, 2014, p.47

[44]-    .Cook, Jonathan, Israel's Army and Schools, Middle East Eye, September 27, 2015

[45]-    .Mendel, Yonathan, The Creation of Israeli Arabic, p.50

[46]-    ليف، آري، اعرف جيرانك، هآرتس، 26 شباط 2003. (بالعبرية).

[47]-    نص القرار متوافر بالعبرية على موقع الكنيست الإسرائيلي (مصدر سبق ذكره).

[48]-    تقرير لجنة أور المنشور في العام 2003 بالعبرية.

[49]-    الناشف، إسماعيل، معمارية الفقدان، دار الفارابي، بيروت، الطبعة الأولى 2016، ص9.

[50]-    .Eibner, John, The Future of Religious Minorities in the Middle East, Lexington Books, London, 2018, p.23

The Arabic language as a colonial tool in the Israeli entity

The contradictory relationship between the israeli occupation and the palestinian society has taken many forms on several levels, but it has remained linked to the basic operation of "standardization", carried out by specialized bureaucratic bodies, with the aim of creating a forced harmony between the colonizing state and the colonized people.

The arabic language certainly represented a prominent area of activity for the members of the zionist state, considering that the israeli mind regards the arabic language as a part of the plan to deny the Palestinian identity and re-form the palestinian mindset through the institutions of arab education, journalism and literature.

These activities emerged in various forms, the most important of which are:

- Articles in hebrew in various newspapers and magazines aimed at drawing a clear path for the relevant israeli institutions and proposing appropriate measures for corrective upbringing of the palestinians.

- Arabic articles dealing with part of the palestinian literary output in harmony with the occupation, which promotes the idea of positivity and progress and condemns hostility and negativity.

- Integrating the palestinian teachers into the israeli academic system and placing them in an intermediate position between the two parties of the colonial system and employing them to produce new values of knowledge appropriate to the zionist regime.

- Encouraging israeli academics to thoroughly study the arabic language and create a new path for it, with a positive effect (in the israeli sense) towards the palestinian recipients.

- Support the establishment of linguistic assemblies and arab publishing houses to produce an arab literality that is appropriate to israeli plans.

At the same time, the defeats suffered by the arab states at the hands of the israelis, specifically the 1967 war, increased the crisis of the palestinian identity and pushed the Israeli project forward.

The aim of this article is to approach Israeli procedures in the field of written Arabic and to highlight the linguistic operational tools used by israeli institutions to impose a new value system that suits their policy.

La langue arabe comme outil colonial dans l'entité israélienne

La relation contradictoire entre l'occupation israélienne et la société palestinienne a pris de nombreuses formes à plusieurs niveaux, mais elle est restée liée à l'opération fondamentale de standardisation, menée par des organes bureaucratiques spécialisés, dans le but de créer une harmonie forcée entre l’État colonisateur et le peuple colonisé.

La langue arabe représente certainement un domaine d’activité de premier plan pour les organes de l’État sioniste, étant donné que la mentalité israélienne considère la langue arabe comme faisant partie du plan visant à nier l’identité palestinienne, et à réformer l’esprit palestinien à travers les institutions de la société arabe, le journalisme et la littérature.

Ces activités ont pris différentes formes, les plus importantes étant:

- Des articles en hébreu dans divers journaux et magazines visant à tracer une voie claire pour les institutions israéliennes compétentes et à proposer des mesures appropriées pour l'éducation corrective des Palestiniens.

- Des articles en arabe traitant une partie de la production littéraire palestinienne en harmonie avec l'occupation, qui promeuvent l'idée de positivité et de progrès et condamnent l'hostilité, la négativité.

- Intégrer les enseignants palestiniens dans le système universitaire israélien et les placer dans une position intermédiaire entre les deux parties du système colonial et les utiliser pour produire de nouvelles valeurs de connaissance adaptées au régime sioniste.

- Encourager les académies israéliennes à étudier à fond la langue arabe et à lui ouvrir une nouvelle voie, avec un effet positif (au sens israélien) sur les destinataires palestiniens.

- Soutenir la création d'assemblées linguistiques et de maisons d'édition arabes afin de produire une littérature arabe appropriée aux plans israéliens.

Dans le même temps, les défaites arabes aux mains des Israéliens, notamment la guerre de 1967, accentuèrent la crise de l'identité palestinienne et poussèrent le projet israélien vers l'avant.

Le but de cet article est d’aborder les procédures israéliennes dans le domaine de l’arabe écrit et de mettre en évidence les outils opérationnels linguistiques utilisés par les institutions israéliennes pour imposer un nouveau système de valeurs adapté à la politique israélienne.