الليكود الكتلة الحرجة المعادية للسلام

الليكود الكتلة الحرجة المعادية للسلام
إعداد: إحسان مرتضى
بـــاحث في الشؤون الإسرائيلية

النشأة والقيادات والافكار الاساسية
تميز الفكر القومي اليميني الأوروبي بخصوصيات واعتبارات معينة, كان لها ابلغ الاثر في نشوء ونمو الفكر القومي اليهودي الصهيوني منذ قرن ونيّف. ومن أبرز هذه الخصوصيات والاعتبارات ما يلي:
1) القوة العسكرية, وتشكل العامل الحاسم في الصراعات الدولية والإقليمية والمحلية.
2) مركزية شخصية القائد وهي الاساس السائد ومصدر الإلهام للجميع.
3) تحتل الانتصارات موقعاً معنوياً رافعاً ومستنهضاً للهمم على جميع المستويات العسكرية والثقافية والايديولوجية.
4) العمق التاريخي او الماضي, هما مصدر الالهام الحضاري في الفكر القومي اليميني. وهناك تواصل حضاري ثقافي بين الماضي والحاضر والمستقبل. اما الماضي فهو المرشد وموئل الخلاص.
5) الاعتقاد بأن الأمة هي بجميع أفرادها, وبالتالي فهي أهم بكثير من المكوّنين لها. ولذلك يجب التركيز على خدمة الأمة ككل وليس على خدمة الأفراد.
والملاحظ ان هذه الخصوصية الأخيرة تبدو متناقضة مع الفكر الليبرالي الأوروبي الحالي الذي يركز على أهمية الأفراد ويمنح اهتماماً ثانوياً للأمة والمجتمع. كما وانها توضح سبب التشديد على كلمة “قومي” في أسماء الأحزاب التي تتبنى الفكر اليميني الشوفيني المتطرف.
ضمن هذا الجو السياسي ـ الفكري نشأت حركة بيتار([1]) اليهودية الإرهابية في بولندا. وبعد حلّها مباشرة تمّ تنظيم أعضائها برئاسة مناحيم بيغن الذي قاد حركة “اتسل” (المنظمة العسكرية القومية) عام 1937, وبقيت حتى عام 1948, حين تم حلّها أيضاً إثر قيام “دولة إسرائيل” وإنشاء ما يسمى “جيش الدفاع الإسرائيلي” (تساهَل). ومنذ عام 1943 كان قد نشأ حزب حيروت (الحرية) بزعامة “فلاديمير جابوتنسكي” أستاذ مناحيم بيغن, المعروف بتعصبه القومي, والمنحدر في الاساس من حركة بيتار الارهابية. وقد بدأ العمل من أجل المحافظة على التراث اليهودي وإحياء اللغة العبرية والتاريخ والدين اليهوديين, بالإضافة إلى رسم خطط تدريسية تلائم هذه الاهداف.
ومع أن “جابوتنسكي” كان علمانياً إلا انه آمن بان الدين هو الوسيلة الوحيدة للحفاظ على الخاصية القومية ـ الثقافية, كما ويعتبر بمثابة الإدارة التربوية الأصلح والأنجع للشبيبة اليهودية المقاتلة.
اما بالنسبة لتوجهاته وآرائه في مواضيع المجتمع والاقتصاد, فقد تبنى في هذين المجالين ما كان قد أُنجز من فكر ونظريات في الفلسفة الفاشية والنازية, ونظر إلى القوى العمالية, ليس كقوة مضادة للبورجوازية, كما هي الحال في الفكر الشيوعي والاشتراكي, وإنما كقوى مركزية لخدمة الامة ككل.
على الصعيد العسكري والتربوي حاول “جابوتنسكي” جاهداً ان ينظم الشبّان في خلايا تربوية عسكرية, ليكونوا على أتمّ الإستعداد, عندما يحين الوقت, لاحتلال الأراضي في فلسطين وإعادة ما يسمونه الحدود التاريخية لاسرائيل. ورأى جابوتنسكي في الشباب المقاتل القوة المركزية لأي شعب لديه طموح قومي. والأهم من هذا هو بعث واستحضار الاستعداد لدى هؤلاء الشباب من اجل القتال ببسالة. وهذا الاستعداد يرتكز على خلفية ثقافية مستوحاة من الأساطير المرتبطة بشخصيات يهودية رمزية مثل شخصية باركوخفا (قائد الثورة اليهودية ضد الرومان والتي يقال إنها انتهت بانتحار جماعي لليهود) وهي شخصية ترمز الى العنف او “عبادة العنف” وتثير مشاعر الرغبة في الانخراط والمشاركة مع الجماعة من منطلق غريزي عدواني, تماماً كما كان يدعو اليه المفكر “سوريل” احد مؤسسي الفكر الفاشي في فرنسا وايطاليا. والكلام ذاته ينطبق ايضاً على شخصية “يشوع بن نون” وما يرمز اليه من دموية وفتك بالأغيار وفقاً لرواية التوراة بشأن فتح أريحا (يريحو).
في مؤتمر حركة بيتار الارهابية عام 1938 في بولندا, قال مناحيم بيغن, الشخصية المركزية في هذه الحركة, انه لا يمكن الاعتماد على ضمير العالم. ولهذا لا بد من الملاءمة بين سياسة الحركة والواقع السياسي. وهذا يعني انه بدلاً من الصهيونية السياسية, لا بد من تبنّي الصهيونية العسكرية. وفي عام 1940 مات “جابوتنسكي”. وعام 1943 عندما هاجر بيغن إلى فلسطين ورث منظمة “اتسل” الارهابية المتطرفة وأصبح زعيمها الأوحد([2]).
أما الحادثة الحاسمة التي أدت الى تحويل “اتسل” من منظمة عسكرية سرية الى حزب سياسي, فهي حادثة السفينة “ألتا لينا”. ففي تاريخ 20 /6 / 1948 وبعد ستة اسابيع من اعلان “استقلال اسرائيل” وبعد أقل من شهر من الاعلان عن تأسيس الجيش الاسرائيلي, اصبح المستوطنون الاسرائيليون على حافة حرب اهلية. وكانت السفينة تقل 800 متطوعاً وخمسة آلاف بندقية و250 مدفعاً رشاشاً وذخيرة, قد وصلت إلى ميناء حيفا. ولكن بعد إنزال الركاب, طلب الجيش الاسرائيلي من اعضاء “اتسل” تسليم الاسلحة والذخيرة فرفضوا, وتوجهوا نحو تل ابيب حيث تم قصف السفينة واغراقها, وكاد بيغن يفقد حياته من جراء ذلك. وتمكن دافيد بن غوريون, أول رئيس حكومة اسرائيلية, من إخضاع “اتسل” لسلطة الدولة, مما اجبر هذه المنظمة على ان تحل نفسها وان تعلن عن تاسيس حزب جديد اسمه “حيروت” بقيادة بيغن. وكان هذا الحزب الوريث الايديولوجي لحزب الاصلاح, الذي كان قد أسسه “جابوتنسكي”, وقد حصل عام 1949 في انتخابات الكنيست الاولى, على 14 مقعداً. وكان بن غوريون يلقب خصمه بيغن بالفاشي([3]), مما اضطر هذا الاخير الى الانتظار وقتاً طويلاً للحصول على شرعية لدى الجمهور الاسرائيلي([4]).
كانت مبادئ حزب “حيروت” ومواقفه عند تأسيسه, هي ذاتها مواقف التصحيحيين ومواقف منظمة “اتسل” نفسها, إذ اعلن عن تمسكه بـ “وحدة ارض اسرائيل” في حدودها التاريخية على ضفتي نهر الاردن, ورفضه للتقسيم لانه “عمل غير مشروع ولا يلتزم به الشعب اليهودي”, وإن “المهمة الاساسية هي اعادة توحيد اقسام الوطن وبسط السيادة اليهودية فوقها”, وإن “عودة الشعب اليهودي الى وطنه الام ليس فقط حقيقة واقعية بل ضرورة من ضرورات حياة اليهود اينما وجدوا”, وان “مهمة هذا الجيل هي مساعدة اليهود المشتتين في الارض كي يجتمعوا في وطنهم المحرر”([5]).
كما اعلن: “ان لكل يهودي الحق في الهجرة الى اسرائيل, وان أية محاولة للحدّ من هذا الحق, سواء على نحو شرعي أو غير شرعي, يجب ان تتحطم”, وإنه “يجب إرساء مجتمع جديد تكون التوراة دستوراً له”([6]).
وكانت صحيفة “حيروت” الناطقة بلسان الحزب, تدعو باستمرار الى مواصلة القتال ضد الانكليز والعرب معاً, من اجل الوصول الى إقامة دولة إسرائيلية يهودية على مجمل أنحاء ما تسميه “أرض إسرائيل الكاملة”, وكانت تهاجم بن غوريون ورفاقه وتتهمهم بالجبن والانهزامية. وبقيت هذه هي السمة الاساسية لحزب يفضل القيام بدور المعارضة جرياً على النهج الذي سارت عليه “حركة التصحيحيين” منذ تبلورها بزعامة “جابوتنسكي” تجاه القيادة الرسمية للحركة الصهيونية. ولكن في عام 1965 إئتلف حزب حيروت مع حزب الليبراليين, وشكّلا معاً ما سمي تكتل “غاحال”, (غوش حيروت ليبراليم). وفي عام 1967 حصل انشقاق صغير في حزب حيروت أدى الى انشاء كتلة برلمانية مستقلة تحت اسم “المركز الحر” وهي التي تحولت في ما بعد الى جزء اساسي من حركة “لاعام” التي كوّنت تكتل الليكود مع حيروت والليبراليين عام 1973.

وفي شهر أيار 1967 ايدت كتلة “غاحال” تشكيل حكومة وحدة وطنية شارك فيها مناحيم بيغن كوزير بلا حقيبة لاول مرة, ويوسف سابير عن الحزب الليبرالي كوزير بلا حقيبة ايضاً. وفي عام 1969 انضم اللواء (في الاحتياط) عيزر وايزمان, (الذي اصبح رئيساً لاسرائيل في ما بعد) الى حركة حيروت, النواة الصلبة الاساسية في تكتل ليكود, ومثّلها في حكومة الوحدة الوطنية الثانية. وفي المؤتمر العاشر للحركة عام 1970 انتخب وايزمان رئيساً لإدارتها بالرغم من حداثة عضويته. ومنذ ذلك الحين بدأت تظهر خلافات بين نهج وايزمان ونهج زعيم الحركة بيغن. وبرزت تلك الخلافات في اكثر من مجال, منها معارضة وايزمان لانسحاب كتلة “غاحال” من حكومة الوحدة الوطنية الثانية, ومطالبته بتوسيع التحالف في إطار “غاحال” ليشمل بعض الكتل اليمينية الاخرى, مثل المركز الحر والقائمة الرسمية وكذلك تأييده لتغيير النظام الانتخابي([7]). هذا بالاضافة الى سعي وايزمان لتعزيز نفوذه داخل الحركة, الأمر الذي دفع بيغن للتصدي له بحزم. ونجح في هذه المواجهة وحمل وايزمان على تقديم استقالته من منصب رئيس ادارة الحركة عام 1972, ثم أعلن اعتزاله العمل الحزبي السياسي, مما رسخ زعامة بيغن من جديد كزعيم أوحد لحيروت وبالتالي لتكتل الليكود([8]). هذا التكتل الذي بلغ ذروة قوته عام 1977 حين تمكن من اسقاط تجمع “المعراخ” بزعامة حزب العمل, واعتلاء سدة السلطة في الكيان الصهيوني. وقد جاء هذا التطور كنتاج لمجموعة من العوامل غيرت من وضع حيروت, ومن ثم الليكود, وزادت من حجمه في الخارطة السياسية الاسرائيلية ومن اهمها ما يلي:
1-­التحول المستمر داخل التجمع الاستيطاني الصهيوني في اتجاه تزايد النزعات الفاشية المتطرفة, ونشوء روح الاستعلاء العنصري, وخصوصا بعد حرب1967 واحتلال اسرائيل مساحات شاسعة من الاراضي العربية. وهذا ما أدى الى تأجيج روح العنف والتطرف العنصري, وجعل الارض المحتلة, ولا سيما في فلسطين, موضع خلاف على تقرير وضعها ومصيرها بالنسبة للكيان, الامر الذي دخل فيه حزب حيروت كطرف اساسي يمثل الاتجاه الداعي الى ضم هذه الاراضي وعدم التخلي عن أي شبر منها في أية صورة من الصور.
2- -كتل ألاحزاب والحركات اليمينية المتطرفة في تشكيل نيابي موحد له وزن معتبر في الخارطة السياسية, وقد اتخذ في البداية من كتلة “غاحال” عام 1965 إطاراً له ثم تحول بعد عام 1973 إلى تكتل الليكود.
3 - ­تزايد وتعاظم وزن اليهود الشرقيين في الكيان الصهيوني وخصوصاً في أعقاب تزايد تأييدهم لحيروت والأحزاب اليمينية بصورة تدريجية, لأسباب تتعلق بتكوينهم السياسي الناجم عن مرحلة قدومهم إلى الكيان, ولأسباب نفسية ناجمة عن عقدة الشعور بالاضطهاد والتخلف الاجتماعي والاقتصادي وتدني المستوى الثقافي([9]).

الانطلاق التنظيمي والعملي
بعد التقصير الكبير (محدال) الذي ارتكبه “المعراخ” بقيادة حزب العمل وزعامة غولدا مئير في حرب عام 1973, بدت آفاق الامل تنفتح تدريجياً بوجه تكتل ليكود, وتحديداً إثر استقالة غولدا مئير التي ورثها اسحق رابين, ومن ثم ما لبث هو أيضاً ان اضطر إلى الإستقالة اثر فضيحة مالية سببتها له زوجته. ومنذ ذلك الحين بدأ التدهور يأخذ مجراه.
في العام نفسه تم التوقيع على ميثاق تكتل الليكود والإعلان عن تشكيله رسمياً بتاريخ 13/9/1973, إثر مفاوضات مضنية بين الاحزاب والكتل البرلمانية التالية: كتلة “غاحال” (تحالف حيروت مع الليبراليين) وكتلة حزب المركز الحر, وكتلة حزب القائمة الرسمية (وهي بقايا حزب رافي التي رفضت الالتحاق بموشيه دايان إثر فشله عام 1973 كوزيرللدفاع والعودة الى حزب العمل), ومن خارج الكنيست “الحركة من أجل أرض إسرائيل الكاملة”.
وقد هدف تكتل الليكود, كما أعلن عن ذلك الفرقاء المشاركون فيه, الى إيجاد قوة بديلة لتجمع الاحزاب العمالية (المعراخ) استعداداً لخوض الانتخابات العامة للكنيست الثامن التي كانت مقررة في خريف عام 1973, لكنها تأجلت بسبب نشوب الحرب آنذاك.
إلا أن ما تجب الاشارة اليه هنا, هو الدور المميز والخاص جداً الذي قام به اللواء(في الاحتياط) آرييل شارون, في الدعوة الى تحالف الاحزاب اليمينية العلمانية كافة من أجل إسقاط “المعراخ”. وقد اشترط في حينه إدراج اسمه على لائحة “غاحال” لخوض الانتخابات كممثل لحزب الليبراليين (الاحرار). وفي حيروت حمل راية هذه الدعوة التضامنية ايضاً اللواء (في الاحتياط) عيزر وايزمان. اما من خارج غاحال, فكان أشد المتحمسين لفكرة تكتيل القوى اليمينية العلمانية, زعماء القائمة الرسمية والدوائر الصناعية والتجارية التي رأت ان الظروف مؤاتية لشن هجوم يميني موحد على معسكر العمال, خصوصا بعد نجاح اليمين في استقطاب بعض الشخصيات العسكرية اللامعة([10]).
اما التحفظ على هذه الفكرة, فظهر في البداية في أوساط قيادتّي حزبي حيروت والاحرارالليبراليين, اللتين كان لكل منهما تجربة مريرة مع كلٍّ من زعيم حزب المركز الحر (هامركاز هاحوفشي) شموئيل تامير وآرييل شارون, وذلك خشية قيام تحالف ثلاثي بين وايزمان وشارون وشامير, بهدف إحداث تغيير في زعامة “غاحال” ومن ثم الليكود المقترح في ما بعد([11]).

لكن ضغط العسكريين من ناحية, والدوائر الصناعية والتجارية من ناحية اخرى, بالاضافة الى عدم وجود خلافات سياسية اساسية بين القوى المرشحة لتشكيل ليكود, نجح في ازالة تلك التحفظات, او بالتحديد تليين موقف بيغن من ذلك . وبالعودة إلى سجل أحداث تلك الفترة, اي الى المفاوضات والاتصالات التي جرت بين الاطراف المرشحة لتشكيل الليكود, يتبين ان العقبتين الرئيستين اللتين أطالتا فترة التوصل الى اتفاق كانتا:
1-­ العلاقات الشخصية السيئة بين زعيم حيروت مناحيم بيغن وزعيم المركز الحرّ شموئيل تامير.
2-­ مسألة تدريج أسماء مرشحي الكتل المختلفة في القائمة الموحدة وفقاً لنظام التسلسل بالأهمية([12]).
وقد حصلت داخل الليكود على مدى صيرورته التاريخية عدة تطورات داخلية على صعيد تشكيلاته الكتلوية, تمثلت في انشقاق بعضها واندماج البعض الآخر, ثم انسحاب بعضها كلياً او جزئياً وربما عودتها مرة ثانية.

 

الحزب في موازين القوى الداخلية
في عام 1977 تولى شمعون بيرس, المعروف بلقب “الخاسر الاكبر”, زعامة التجمع (المعراخ) فقاده نحو الخسارة المدوية, حين فاز تكتل الليكود بزعامة مناحيم بيغن بـ 43 مقعداً ليصبح الكتلة الأكبر في الكنيست, وليستلم زمام السلطة لأول مرة. وبعد فترة وجيزة في العام نفسه انضمت الى حزب حيروت, حركة شلوم تسيون (سلام صهيون) التي اسسها آرييل شارون والتي كان لها مقعدان في الكنيست, ليصبح عدد المقاعد التي حاز عليها الليكود 47 مقعداً, في حين لم يحصل حزب العمل في حينه سوى على32 مقعداً. وكان لظهور الحركة الديموقراطية للتغيير(داش) برئاسة الجنرال يغائيل يادين, اأثر حاسم في هزيمة حزب العمل وصعود الليكود([13]).
وفي العام 1978 احتل آرييه دولتشين(من الحزب الليبرالي في تكتل الليكود), ولأول مرة, منصب رئيس اللجنة التنفيذية في المنظمة الصهيونية العالمية.
لقد بيّنت فترة حكم الليكود المتقطعة ما بين 1977 وحتى اليوم, حقيقة هذا الحزب ومدى صدقية مواقفه, سواء على صعيد السياسة الداخلية او الخارجية او حتى طبيعة تركيبة زعامته, وهي مواقف كانت ترفض باستمرار السياسة الصهيونية الرسمية التي مثّلها حزب العمل, المتهم من قبل الليكود بالتهاون والمساومة والليونة, في حين كان قادة اليمين ينادون بالتصلّب وعدم التنازل مطلقاً أمام العرب ولو في الامور الشكلية.
إلا ان الممارسات العملية وموجبات السلطة السياسية والديبلوماسية, كانت تحدث تآكلاً في صدقية زعامات الحزب وطروحاته الشوفينية المتطرفة, مما جعل الصحافة الاسرائيلية تصف الحزبين بأنهما وجهان لعملة واحدة, وان احدهما في السلطة هو غيره في المعارضة, وان الميزة الوحيدة التي تميز الليكود عن العمل, هي أنه أكثر وضوحاً في نواياه وأقل ديماغوجية ومكيافيلية, وهي نقطة تسجل لصالح حزب العمل إقليمياً ودولياً, ولغير صالحه على الصعيد الصهيوني الداخلي.
وعلى الرغم من رفض الليكود أيّ شكل من أشكال التسويات السياسية في الماضي, فقد تمت في عهده أضخم صفقة سياسية في تاريخ الصراع العربي الاسرائيلي, وهي صفقة كامب ديفيد, التي قَبِل مناحيم بيغن بموجبها الانسحاب من سيناء واستخدم الجنود لاخلاء المستوطنين من مستعمرة “ياميت”, حين رأى ان المقابل الذي تحصل عليه اسرائيل والصهيونية, اكبر بكثير من الثمن المدفوع, وهو خروج مصر بثقلها العسكري والديموغرافي والاستراتيجي من الصراع العربي الاسرائيلي وإطلاق يد إسرائيل في الضفة الغربية وقطاع غزة.
وفي مؤتمر مدريد, ناور اسحق شامير متهرباً من استحقاقات التسوية وتداعياتها بقوله إنه سوف يفاوض العرب عشر سنوات عجاف, من دون التوصل الى أية نتيجة عملية. وعلى الرغم من كل ذلك, راح بعض المعلقين الاسرائيليين يقول ان حيروت الحقيقي هو “غئولا كوهين” التي انشقت عن الليكود إثر رفضها اتفاقيتي كامب ديفيد وتأسيسها حركة “هتحياه” (النهضة).
إلا انه مع استمرار الليكود في الحكم وتردي الوضع الصحي لمناحيم بيغن, خصوصاً في أعقاب فشل عدوان عام 1982 على لبنان, بدأت تُطرح داخل حيروت قضية الخلافة التي شارك فيها في البداية بعض العناصر الوافدة على الحزب مثل عيزر وايزمان وآرييل شارون. وبعد خروج وايزمان من حيروت, إنحصر الصراع على الخلافة بشكل أساسي بين نائبي رئيس الحكومة (إسحق شامير) وهما: وزير الخارجية دافيد ليفي ووزير الزراعة أولاً, ومن ثم وزير الدفاع, آرييل شارون.


وكان بعض الوزراء من الصف الثاني في الزعامة يدخلون على خط هذا الصراع ومنهم يورام أريدور وموشيه آرنس وروني ميلو, الذين كانوا يميلون الى جانب اسحق شامير ليرجّحوا كفته, وهو ما حصل فعلاً عند استقالة مناحيم بيغن عام 1983, واعتزاله السياسة في مطلع ايلول 1983, فانتقلت زعامة الحزب مباشرة الى شامير. ولكن الصراع عاد من جديد بشكل أكثر حدة إثر حلّ الكنيست وبدء المعركة الانتخابية عام 1984, وقد انسحب دافيد ليفي من التنافس حين رأى الموازين لا تميل لصالحه, فيما أصر آرييل شارون على منافسة شامير. واستطاع ان يحصل على ما نسبته41% من اصوات مركز حيروت, مما يعتبر قفزة بالنسبة لمكانته, ففرض وجوده على الزعامة ومنحه مركزاً مضموناً في الحكومة التي شكلت لاحقاً والتي اخذت تسمية حكومة الرأسين, وهي حكومة ائتلافية, تم الاتفاق بين المعراخ والليكود بأن تكون رئاستها بالتناوب ما بين شمعون بيرس زعيم المعراخ واسحق شامير زعيم الليكود([14]), وذلك بعد التقارب في عدد الاصوات التي حاز عليها كل منهما في انتخابات الكنيست العاشر 1984, إذ حصل الليكود على 48 مقعداً, في حين حصل المعراخ على 47 مقعداً. ومن هنا اعتبرت هذه النتائج خيبة أمل للكتلتين حيث فقد الليكود ما نسبته 5% من قوته, وفقد المعراخ نسبة تزيد عن 1% ([15]). وعلى الرغم من ذلك شكلت هذه النتائج مفاجأة كبيرة لليكود, ولا سيما في ضوء استطلاعات الرأي العام عشية الانتخابات, والتي كانت حكومة الليكود مسؤولة عنها الى حد بعيد. ولذلك فإن تراجع الليكود, في ضوء فشل سياسته تجاه لبنان وفلسطين, لم يكن بمقاييس الإندحار, إذ انه “خلال سبعة أعوام من حكمه, شهدنا انسحاقاً قيمياً وحضارياً في إسرائيل تجلى, من بين أمور عدة ... في الاقتصاد”([16]). وعدم اطلاق صفة الإندحار على قوة الليكود التمثيلية عام 1984 يعود الى انه نجح بالتعاون مع أحزاب اليمين الأخرى في القيام بعملية غسل دماغ للناخبين الاسرائيليين ولا سيما جيل الناشئة بالاشتراك والتعاون مع الاحزاب الدينية, مما أسفر عن تعميق الكراهية للعرب لدرجة ان فئات كثيرة من المجتمع الاسرائيلي غفرت لليكود اخفاقاته كلها, إن على صعيد الأزمة الاقتصادية أو على صعيد حرب لبنان. وفي ما يلي ملخص لأهم الاسباب التي ساعدت الليكود على عدم الانهيار الكلي منذ العام 1984:
1- استطاع الليكود أن يرسّخ في أذهان الاسرائيليين, ولا سيما المستوطنين والمهاجرين الجدد, صورة الحزب الأشد اندفاعاً في التصدي للعرب, خصوصاً الفلسطينيين, ومواجهة المشكلات الداخلية, لا سيما وانه نصّب نفسه نصيراً للطوائف الشرقية, ناهيك بأن المعراخ لم يستطع التخلص من”وصمة المؤسسة الاشكنازية” وتعصبها وانحيازها ضد اليهود الشرقيين (مزراحيم). وفي استطلاع أجراه الاستاذ أشير آريان طرح سؤالاً: أيّ من الحزبين ـ المعراخ أم الليكود ـ يتحمل مسؤولية اكبر عن الظواهر التالية جميعا: العنف, النزوح عن البلد, التضخم المالي, مستوى الاخلاق المنخفض والفساد, الجريمة والتفاوت الطائفي؟
وقد وصف المستفتون الليكود بأنه مسؤول إلى حد كبير جداً عن التضخم المالي المرتفع, وبمدى أقل عن العنف والنزوح عن البلد والجريمة في الدولة. وبالنسبة لمستوى الاخلاق والفساد, حصلت القائمتان على تقدير متشابه. لكن بالنسبة الى التفاوت الطائفي, كانت نسبة الذين حمّلوا المعراخ هذه المسؤولية, كبيرة جداً... وعلى الرغم من ان سياسة المعراخ المعلنة هي التخلي عن بعض المناطق ذات الكثافة السكانية العربية للمحافظة على الأكثرية اليهودية, وان الليكود ينادي بضم جميع المناطق العربية المحتلة عام 1967 بسكانها, فان الليكود اكتسب في اذهان الأكثرية صورة الحزب الأقدر في هذا المجال.
2- ­ينسب بعض المحللين الاسرائيليين استمرار تمكن الليكود من الاحتفاظ بشعبيته الداخلية, الى استمرار التعصب القومي الذي يميّز المجتمع الإسرائيلي بصورة عامة متجاوزاً التقسيم الطائفي. وسبب هذا التعصب يعود إلى خوف ممزوج بالكراهية تجاه العرب عموماً والفلسطينيين خصوصاً ولا سيما في نفوس أبناء الطوائف اليهودية الشرقية.
3- ­عملت التغييرات الديموغرافية خلال العقد الاخير لصالح الليكود. وقد استغل قادة هذا الحزب مشكلة اضطهاد الطوائف الشرقية من قبل حزب العمل, حتى ولو على حساب إثارة النعرات الطائفية وإشاعة الأكاذيب مثلما حصل مع نتنياهو.
4- بقي الليكود اكثر انسجاماً مع شعاراته وأيديولوجيته من حزب العمل. وقد انتقل تكتيكياً في اللحظات الحرجة, كما هي الحال اثناء تشكيل حكومات الوحدة الوطنية, من المعسكر القومي المنفصل, إلى التكتل القومي الجماعي, في حين كان حزب العمل يخسر المزيد من صدقيته مع ناخبيه بسبب قبوله بتضييق الهوة السياسية والايديولوجية مع خصمه الليكود.
في العام 1990 حصل الليكود على 40 مقعداً في الكنيست في حين حصل المعراخ على 38 مقعداً. وتم تشكيل حكومة يمينية برئاسة إسحق شامير. وفي العام 1992 تراجعت شعبية الليكود بسبب شخصية إسحق شامير المكروهة وعودة بروز إسحق رابين بشخصيته المحببة شعبياً. كما ويعود سبب تراجع الليكود أيضاً الى ما تورط به الحزب من فضائح الفساد مثل تلقي الرشاوى وارتكاب أخطاء فادحة, وهي أخطاء ارتكبها آرييل شارون كوزير للزراعة ومن بعده نتنياهو كرئيس للحكومة باسم الليكود عام 1996, هذا بالاضافة الى الخصومات والصراعات الشخصية وتزايد عدد الاحزاب القطاعية المتنافسة على كعكة الموازنة العامة للدولة.
في العام 1992 وبنتيجة الانقلاب الذي جاء بحزب العمل بزعامة اسحق رابين إلى السلطة, حصلت في الليكود هزة عنيفة أدّت الى استقالة أبرز قيادييه وبالأخص إسحق شامير وموشيه أرنس, والى صدور المطالبات والدعوات حول إعادة بناء الحزب من جديد, بعدما انهكته الصراعات الداخلية وحروب المعسكرات والكتل, وذلك على أسس جديدة, على أمل العودة الى السلطة.


و على الرغم من الفوز الذي أحرزه بنيامين نتنياهو على منافسيه داخل الحزب (بيني بيغن وموشيه كتساف ودافيد ليفي) فقد اتضح من الاستطلاع الذي أجري في نيسان 1993, اي بعد سنة على حكومة رابين, وجود تعادل في المفاضلة بين رابين ونتنياهو لرئاسة الحكومة بلغ 38% لكل منهما, في حين رأى 24% ان كليهما لا يصلحان لهذا المنصب.
مهما يكن من امر فان نتنياهو منذ تسلمه مقدرات الحزب حرص على ان تكون بين يديه صلاحيات واسعة, تمكّنه من إصلاحه وإعادة بناء مؤسساته التي كانت تعاني من الفوضى وتمر بأزمة مالية شديدة. وقد استغل كل ذلك من اجل شنّ حرب لا هوادة فيها على خصومه السياسيين, وفي مقدمتهم دافيد ليفي وآرييل شارون.
وكان الليكود قد تحول في آخر حقبة شامير الى حزب, أقرب ما يكون الى الوسط في الخريطة الحزبية السياسية في اسرائيل, منه الى حزب يميني قومي. وحاول نتنياهو تبني سياسة معارضة متشددة تستطيع ان تكتل حول الاحزاب اليمينية والدينية الأصولية, مما جعله يحظى بتأييد الجمهور القومي المتشدد, ولا سيما جمهور المستوطنين, الأمر الذي أبعده الى حد ما عن قاعدته الحزبية العريضة من العلمانيين واليهود الشرقيين. وقد أدّت هذه السياسة الي انشقاق دافيد ليفي عن الحزب وتأسيس حزب جديد يمثل مصالح اليهود الشرقيين وينقذهم من التهميش المتعمد, وإسمه “غيشر” أي الجسر, معلناً رغبته في المنافسة على منصب رئاسة الحكومة الذي لم يشغله أيّ يهودي شرقي مطلقاً منذ تأسيس اسرائيل. وتبيّن لدايفيد ليفي ومؤيديه, ان الليكود ايضاً, لم ينجح في تبني سياسة اجتماعية قائمة على المساواة بين الطوائف والأثنيات. واثناء انتخابات 1996 عاد ليفي مجدداً, ومن موقف الضعف, للإئتلاف مع الليكود بزعامة نتنياهو الذي اعطاه منصب وزير الخارجية إثر فوزه على شمعون بيرس. لكن سرعان ما تبيّن لليفي ان نتنياهو عاد للتعامل معه باستخفاف وتهميش فاستقال من منصبه وهو يحمل له الحقد والكراهية.
في أعقاب ذلك, وبسبب سياسات نتنياهو الشخصانية والاعتباطية والخاطئة في كثير من الاحيان, راح الليكود يتراجع ويتفكك, فاستقال منه روني ميلو رئيس بلدية تل أبيب والذي كان شغل منذ العام 1977 مناصب حكومية عديدة من بينها وزارة البيئة ووزارة الشرطة, وكذلك فعل دان مريدور وبيني بيغن وإسحق موردخاي, الذين اسسوا معاً, ما سمي حزب الوسط بمشاركة رئيس الاركان الأسبق آمنون شاحاك.
و في انتخابات 1999 مُني نتنياهو بهزيمة ساحقة امام خصمه إيهود باراك زعيم حزب العمل. أما بالنسبة للانتخابات الداخلية التي جرت في اللجنة المركزية لليكود من اجل اختيار مرشحي الحزب للكنيست وترتيبهم في القائمة الانتخابية في العام نفسه, فقد تلقى الوزيران الليكوديان الأرفع مقاماً في قيادة الحزب وحكومة نتنياهو: آرييل شارون وزير الخارجية وموشيه آرنس وزير الدفاع, صفعة مدوية, إذ حلّ شارون في المكان الثامن وحل آرنس في المكان السادس والعشرين, مما ألحق ضرراً بالغاً بسمعة الحزب وهيبته. ورأى المراقبون ان الصفعة لم تكن موجهه الى شارون وآرنس بقدر ما كانت موجهه ايضاً الى نتنياهو نفسه الذي قرّب شارون اليه ونفض الغبار عن آرنس.
اما حزب العمل فتحالف مع الجهات الناقمة مثل حزب غيشر وحزب الوسط وحزب ميماد الديني تحت اسم “اسرائيل واحدة”. وفي المقابل ولدت جبهة جديدة مكوّنة من أحزاب أقصى اليمين مثل حزب حيروت الجديد بزعامة بيني بيغن (ابن مناحيم بيغن) وحزب تكوماه الخاص بالمستوطنين اليهود في الضفة الغربية بزعامة أوري اأورئيل, وحزب موليديت (وطن) بزعامة اللواء في الاحتياط رحبعام زئيفي المعروف بعنصريته المفرطة وتاييده لطرد الفلسطينيين, وقد اغتيل انتقاماً لاغتيال أمين عام الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أبو علي مصطفى.
لقد خسر تكتل الليكود الكثير من قوته بسبب التصويت الإثني والديني بشكل خاص, فذهبت أصوات كثيرة من اليهود الشرقيين لصالح حزب شاس, ومن أصوات المهاجرين الروس الى حزب “يسرائيل بعلياه” (إسرائيل في الهجرة) وحزب اسرائيل بيتنا, ومن أصوات المتدينين القوميين الذين فضّلوا حزب مفدال, ومن الأصوات العربية ايضاً على خلفية قومية.
وكان من اسباب ضمور قوة الليكود في الساحة السياسية الاسرائيلية ايضاً, الخلافات الشخصية التي برزت بسبب ممارسات نتنياهو وهو في السلطة والتي أدّت الى انسلاخ مستشاره الشخصي افيغدور ليبرمان, الذي ما لبث ان اسس حزب “اسرائيل بيتنا” بالاضافة الى خلافاته مع دافيد ليفي وآرييل شارون الذي صيغت لارضائه وزارة جديدة اسمها “وزارة البنى التحتية الوطنية”. وقد انتزعت صلاحياتها من عدة وزارات أخرى وذلك تحت ضغط وابتزاز دافيد ليفي الذي هدّد بالاستقالة اذا لم يتم إرضاء شارون. وقد استغل إيهود باراك هذه الأجواء العكرة من الانقسام والصراعات الشخصية في الليكود, وتمكن من الفوز بالسلطة عام 1999 مستفيداً من نظام الانتخابات المباشرة لرئيس الحكومة. إلا أن باراك عاد الى اخطاء نتنياهو ذاتها وسقط في حالة من العجز والشلل السياسي, وفشل في تحقيق الأمن والسلام للشعب الاسرائيلي, فاستقال تاركاً باب السلطة مفتوحاً على مصراعيه لصالح آرييل شارون, الذي استغل فشل باراك ونتنياهو معاً وعجزهما السياسي, فقام بأول خطوة من خطواته الاستفزازية الاستعراضية بانتهاكه حرمة المسجد الاقصى, مما ادى إلى اندلاع نيران انتفاضة الأقصى, التي اسقطت باراك وهزت اركان سلطة شارون بالرغم من “سوره الواقي”.

 

الليكود وقضايا الصراع العربي الاسرائيلي
يتميز تكتل الليكود بمواقفه الصقرية في مجالي الخارجية والأمن. ويبني هذا التكتل استراتيجيته السياسية بالتركيز على الموضوع القومي ومعارضة اليسار بشدة, مما أدى إلى تعميق الشرخ الاجتماعي والاقتصادي, كما وإنه يعارض التوجهات الدينية الارثوذكسية, وهدفه السياسي النهائي هو الوصول الى أغلبية يهودية واضحة ودائمة مع حدود لما يسمى “ارض اسرائيل التاريخية الكاملة”.
وقد ظهرت صقرية حزب حيروت, النواة الصلبة لتكتل ليكود, وتشدده منذ معارضته اتفاقيات الهدنة عام 1949 ثم معارضته الإنسحاب من سيناء وغزة عام 1956, ومعارضته مبدأ الأرض مقابل السلام الوارد ضمن قرار الأمم المتحدة رقم 242 والصادر عام 1967 .
ومنذ العام 1977 أيدّ حزب حيروت, وبالتالي الليكود, تعزيز بناء المستوطنات وعملية ضم الجولان وشنّ حرب لبنان عام 1982, في حين أنه قام عامي 1978 و1979 بعقد اتفاقيتي كامب ديفيد واتفاقية الصلح المنفرد مع مصر (وذلك بهدف عزلها استراتيجياً وعسكرياً واستفراد الجبهة الشرقية, التي تضم سوريا والعراق والأردن). وهكذا حصلت “عملية الليطاني” عام 1978 ضد لبنان, ومن ثم جرى ضم هضبة الجولان عام 1980, وقصف المفاعل النووي العراقي عام1981, والعدوان البربري على لبنان عام 1982, ثم عدوانا 1993 و1996 وما الى ذلك. وما من شك في ان وجود حكومة ليكودية في سدة السلطة في اسرائيل يعني اموراً كثيرة اهمها:
- ­الخطر على أيّ عملية استراتيجية للتسوية, وذلك بتجميدها او اعادتها إلى نقطة الصفر وصولاً الى إضاعة اتجاهها.
­- الخطر المتفاقم على الفلسطينيين ووضعهم على هامش الأحداث في قضاياهم الوطنية.
­- زيادة الاستيطان, من اجل استيعاب المهاجرين الجدد, الذين ينوي الليكود استحضارهم كونه يفكر في رفع عدد اليهود الى عشرة ملايين, تحقيقاً لرغبات وافكار قادة الصهيونية, ووصولاً الى اسرائيل الكبرى.
وبالنسبة الى القضية الفلسطينية بالذات, يرفض الليكود بصورة قطعية قيام دولة فلسطينية غربي الاردن, حتى لو حاول شارون مؤخراً الإيحاء بغير ذلك, مثل حديثه عن القبول بدولة فلسطينية على نحو 42% من أراضي الضفة الغربية, بشرط ان تكون منزوعة السلاح ومحدودة السيادة ومقطّعة الأجزاء. وبالتالي فالتكتل يرفض حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني , كما يرفض الانسحاب من اي شبر من الاراضي المحتلة عام 1967, ويرفض ان تكون القدس موضع مفاوضة, ومن هنا كانت حملة شارون الشعواء ضد اتفاق أوسلو, وذلك انسجاماً مع مواقفه المنهجية السلبية على مدى تاريخه العسكري والسياسي بأكمله منذ مطلع الخمسينات وحتى اليوم. وفي ما يلي استعراض لأهم مواقف شارون من قضايا الصراع:
­- 1979 (يعارض في الحكومة التي ترأسها بيغن) معاهدة السلام مع مصر ويصوّت ضدها.
­- 1985 يعارض في تصويت حكومي انسحاب الجيش الاسرائيلي من لبنان.
­- 1991 يعارض الذهاب الى مؤتمر مدريد ويحيط رئيس الحكومة إسحق شامير بما سمي (الوزراء الأطواق) اي المعرقلين لأية تسوية سياسية مع العرب.
­- 1993 يعارض في تصويت برلماني إتفاقية أوسلو الاولى.
­- 1994 يعارض صيغة معاهدة السلام مع الاردن, ويمتنع عن التصويت عليها في الكنيست.
­- 1995 يعارض اتفاقية أوسلو الثانية في تصويت برلماني.
­- 1997 يعارض من داخل الحكومة (برئاسة نتنياهو) إتفاقية بروتوكول الخليل.
­- 2000 يعارض الطريقة المهينة التي ميزت خروج الجيش الاسرائيلي مما كان يسمى الحزام الامني او الشريط الحدودي المحتل في جنوب لبنان([17]).


كل هذا الرفض كان تحت ذريعة “مصلحة الامن والوطن” ووفقاًً للمصالح القومية بحسب تعبير شارون “المحب للسلام” حسبما وصفه الرئيس الاميركي جورج بوش!!.
الملفت للنظر ان اتفاقية واي ريفر عام 1998, كانت الاتفاقية السياسية الوحيدة بين اسرائيل والفلسطينيين التي حظيت بتأييد شارون, الذي شارك مع الوفد الاسرائيلي في التفاوض برعاية الرئيس الاميركي بيل كلينتون, وكان قد أصبح في حينه وزيراً للخارجية والساعد الأيمن لنتنياهو. ولعله ليس من باب الصدفة ان هذه الاتفاقية لم يطبق منها أيّ شيء على الإطلاق([18]).
حالياً يترك رئيس الحكومة الاسرائيلية آرييل شارون كل الاتفاقات المعقودة, مثل أوسلو وواي ريفر ومفاوضات واي بلانتيشن مع السوريين وتفاهمات كامب ديفيد 2000 وطابا 2001 مع الفلسطينيين وغيرها من الموضوعات الساخنة, خلف ظهره. وهذا ما بدأه عملياً منذ تدنيسه الحرم القدسي في 28/9/2000 وما جرته تلك الخطوة الاستعراضية من انفجارات وتداعيات مأسوية مستمرة حتى اليوم. ومع ذلك فثمة من يزعم ان شارون وحده القادر على صنع “السلام الآمن” في المنطقة, أما على أيّ أساس سيتم بناء هذا السلام المزعوم فيجيب شارون بما يلي: القدس الكبرى الموحدة وغير المجزّأة, بما فيها المسجد الأقصى, عاصمة إسرائيل الأبدية, والمستوطنات باقية في مكانها, واللاجئون الفلسطينيون باقون حيث هم في الشتات العربي, وغور الاردن باق تحت السيادة الإسرائيلية. وأقصى ما يمكن ان يتساهل به شارون هو عدم إعادة إحتلال نابلس وجنين وأريحا وسواها من المدن والقرى ذات الكثافة السكانية العربية. وهو من دعاة إنشاء المناطق العازلة والفاصلة 10­20 كلم شرقي الخط الأخضر, بالإضافة الى منطقة امنية اخرى غربي الخط الأخضر عرضها 5­7 كلم. وكذلك سائر المحاور والنقاط الاستراتيجية والأماكن المقدسة هي كلّها للشعب اليهودي([19]) , فأين هي المساحة المتبقية للدولة الفلسطينية؟


خلال حملة شارون الانتخابية الاخيرة عام 2001 نشرت الصحف الاسرائيلية خطته السياسية للحل وهي كالتالي:
­ - اتفاقية مرحلية طويلة الامد مع الفلسطينيين تنفّذ على مراحل, ودولة فلسطينية(منزوعة السلاح) في الضفة والقطاع على مساحة 42% من الارض.
­-  لن تنقل الى الفلسطينيين مساحات إضافية من الارض.
­- اسرائيل تسيطر على كل منطقة أمنية في غور الاردن وعلى امتداد الخط الأخضر.
­ - لن تخلى اية مستوطنة ولن تبنى مستوطنات جديدة.
­ - حرب موضعية ضد “الارهاب” وامتناع عن العقاب الجماعي والإغلاق.
­ - إقامة سلسلة مستوطنات جديدة في رمال “حليصة”.
­ - إقامة المزيد من التجمعات السكنية اليهودية في الجليل وتوطين نصف مليون يهودي إضافي فيها.
­ - لن يتجدد المسار السوري قريباً.
­ - المواقف التي عرضها باراك في مفاوضات كامب ديفيد 2000 (وطابا 2001) غير ملزمة([20]).
ويفسر الصحافي آري شافيط([21]) مشروع شارون الآنف الذكر بقوله ان شارون مضطر للحديث عن السلام, ولكنه “السلام العدائي” وحتى لو كان كذلك فـ”انه يبعد الحرب, وهو العارف بويلات الحروب”. وبالتالي فإن التفكير السياسي لدى شارون ­حسب رأي شافيط­ لا يذهب أبعد من صيغة “عدم القتال”, لكنه ليس على الاطلاق تفكيراً باتفاقيات سلام نهائية بل ترتيبات باعثة على “الاستقرار والردع وعدم القتال”, مع مراعاة عامل الارض كمركّب أساسي في كل ذلك. ان ما يشغل بال شارون هو “كيف سترد اسرائيل على حالات يتضح ان تقديراته حيالها كانت مغلوطة”. اما خلفية كل هذه الافكار والمخاوف فهي عدم ثقته بالعرب والفلسطينيين, واستعلاء شخصي قائم على نشوة القوة والغطرسة والتفوق العسكري والتكنولوجي.
وفي المقابلة ذاتها, يوضح شافيط ما يعتري نفس الرجل من شكوك وما يداعب خياله من سيناريوهات مفترضة عن حروب قادمة فيقول: “آرييل شارون سمع ايضاً عن تلك الأجهزة النووية البسيطة ووسائل الاطلاق البالستية التي يتحدث عنها إيهود باراك. انه قلق جداً مما يجري في العراق, ومما يتطور في إيران. كذلك فإن تطور الجيش المصري يقلقه كثيراً. مرة تلو أخرى يعيد التذكير بالصواريخ الألف التي لدى سوريا. من يملك ألف صاروخ في هذا العالم؟! الدول العظمى فقط. لكن استنتاجات شارون تختلف عن استنتاجات باراك. فهو يفكر بأنه في عهد الصواريخ بالذات, توجد أهمية كبيرة للارض. وان اسرائيل, في أي حال من الأحوال, لا تستطيع السماح لنفسها بفقدان القليل من العمق الاستراتيجي الذي لديها...”
وحتى يخرج شارون من شكوكه وحيرته يقترح “ترتيبات انتقالية” تواصل اسرائيل بموجبها المكوث في “مناطق أمنية” في الشرق: غور الاردن, وفي الغرب: جبال الضفة الغربية, وكذلك في محاور الطرق وفوق مستودعات المياه الجوفية.
ويرى شارون في المقابلة ان “المتفاوضين في أوسلو لم يعرفوا بماذا يبحثون البته... تفكيرنا السياسي سطحي للغاية. كذلك لا يوجد تفكير استراتيجي منتظم. في حالات كثيرة تحسم الأمور من دون تروٍ. بتسرع وبدافع الرغبة في إرضاء الاخرين. شعب جاد لا يدير أموره بهذه الطريقة. شعب جاد لا يتخذ قراراته هكذا”([22]).
في المقابل يتحدث شارون عن كيف ان العرب “يطبقون بحكمة القرار 181, انهم لا يطالبون بتطبيقه الفوري, بل يقومون بإدخال عناصر منه طيلة الوقت. هكذا هي الحال ايضاً بالنسبة للقرار 194”, وهو يقول في هذا المجال: “بينما نحن نخوض صراعاً عادلاً على الخليل وجنين وبيت إيل, نجدهم يقضمون داخل الخط الاخضر”([23]).
وأمام هذه الرؤية لا يجد شارون من حلّ مع الفلسطينيين والعرب سوى تبادل الرسائل الدموية. ويعلق الصحافي عوزي بنزيمان([24]) على ذلك بالقول: “لقد أثبت (شارون) انه لا يعرف تقبل النقد الموضوعي, وانه لا كوابح لديه في قراراته ولا في تنفيذ مخططاته, وانه يرد بوحشية وبأسلوب يدعو الى الرعب عندما يحس بالاهانة”. وكتبرير لذلك يقول شارون في مذكراته: “وضع البلاد كان يقلقني باستمرار. وشعرت بصوت يستدعيني. الزمن لم يبقَ على حاله. والمنطلقات الجديدة آخذة بالظهور. وانا لا أريد ان أتخلّف عن الركب”([25]). كان اسحق شامير يقول عنه انه لا حدود لأعماله غير المتوقعة, بينما استنكر بيريس حملاته المتواصلة ضد زملائه في الوزارة, وفي وقت ما, اتهمه نتنياهو بالسعي لتقويض اركان حكمه والجلوس في مكانه.


مساء السادس من شهر شباط 2001, عندما ظهرت نتائج التصويت لمنصب رئاسة الحكومة في التلفزيون الاسرائيلي, لم يفاجأ أحد, وكانت التساؤلات تدور فقط حول النسبة المئوية التي سيهزم بها شارون خصمه السياسي باراك. وكانت نسبة مذهلة ولم يسبق لها مثيل: أكثر من 25% من أصوات الناخبين, حيث قرر الشعب الاسرائيلي الانقطاع عن كل ما هو واقعي وحقيقي في هذا العالم. وهذا ما شهدت عليه حكومة “الوحدة الوطنية” التي ضمت الليكود (19 نائباً) وشاس (17 نائباً) والمفدال (5 نواب) والاتحاد القومي واسرائيل بيتنا (7 نواب) وإسرائيل في الهجرة (4 نواب) ويهودية التوراة (5 نواب) بالإضافة الى أصوات حزب العمل وشركائه من ائتلاف اسرائيل واحدة (26 نائباً).
إن كل من يعرف ماضي شارون العسكري, يدرك بان هذا الشخص كان يلجأ باستمرار الى الحروب لتجاوز أزمات سياسية ذات طابع امني, ولكنها كانت في الوقت نفسه, تستهدف تحقيق إنجازات إضافية في حركية الصراع مع العرب, على الصعيد الجيو سياسي. وفي هذا السياق يقول عن العرب انهم مقاتلون جيدون لكن: “يجب ضربهم ضربة كبيرة لكي نجتث من داخلهم الرغبة في القتال”.
إن ليكود آرييل شارون لا يقف عند الخطوط الحمر, وهو يريد ابتلاع اكبر قدر ممكن من الاراضي الفلسطينية والعربية بالاستيطان في الضفة والقطاع والجولان (ومن يدري أين ايضا؟) وهو من دعاة ممارسة القبضة الحديدية ضد المجتمعات المدنية مثلما حصل منذ وقت قريب في جنين ونابلس, ومثلما حصل من قبل في مجازر صبرا وشاتيلا في بيروت. إن النزعة العسكرية القائمة على القوة المتوحشة والمغطاة بالتضليل السياسي والديبلوماسي والاعلامي, هي اليوم أشد خطورة على حقوق العرب من أكثرالاسلحة الاسرائيلية فتكاً وتدميراً.
وفي ما يتعلق بالجولان يبدي شارون تقديره استحالة الانسحاب من هناك, حيث الاستيطان اليهودي بات في نظره من اجمل ما ابدعته الصهيونية. وهو يقول ان ما يحافظ على الهدوء هناك, هو قرب الهضبة من دمشق. ولذلك يزعم انه اذا ما ادار مفاوضات مستقبلية مع السوريين, فسوف يطالب بهضبة الجولان وتقليص الجيش السوري, خصوصا في مجال السلاح الكيميائي والبيولوجي, حسب زعمه, وبخروج الجيش السوري من لبنان, وتفكيك قوى المقاومة بجميع صورها فيه, وعزله عن محيطه العربي, وفرض ترتيبات أمنية مجحفة بحقه...
إن مشروع بيلين­ أبو مازن مرفوض من قبله, ولا يستحق البحث فيه لانه لا يحتوي على أية مناطق عازلة ولا تُراعى فيه السيطرة الاسرائيلية على المياه([26]). اما بالنسبة للبنان فهو يطلق التهديدات والتحذيرات ويعد بان لديه “حلولاً ممتازةً” تمثلت اولاً وليس آخراً بشبكات الاغتيال والتجسس وزرع الرعب والفتن كعادته دائماً.
الصحافي الاسرائيلي بن كسبيت([27]) يلخص أوضاع شارون الحالية بأنه رجل من دون خطة, لأن ما يفكر به لا يوجد له مثيل في العالم. ويضيف أنه بالرغم من استمرار شعبيته فهو لا يكشف عما يريده حقاً لانه يعيش دائماً هاجس الخوف من منافسيه في مركز الليكود وخصوصاً نتنياهو.

 

دور الليكود الحالي على ضوء حرب القيادات
اتسم وضع الليكود الداخلي على مدى العقد الاخير بكثير من الصراعات والخلافات السياسية والشخصية, وذلك إثر مرحلة طويلة من الاستقرار في ظل زعامة مناحيم بيغن, الذي كان راسخ المكانة في حزب حيروت, وكلمته كانت الكلمة الفصل في تقرير خط الحزب السياسي والايديولوجي وتحديد قراراته الاساسية. لكن عندما تولّى إسحق شامير رئاسة الحزب, بعد اعتزال بيغن السياسة عام 1983, فشل في توطيد دعائم زعامته, وانقسم الحزب في عهده الى ثلاثة معسكرات (معسكر شامير­آرنس ومعسكر شارون ومعسكر ديفيد ليفي المكوّن باغلبيته من أبناء الطوائف الشرقية) ظلت تتنازع في ما بينها بشأن النفوذ والمناصب, وظل زعماؤها يتنافسون على المواقع الأولى في الحزب حتى خسارته الحكم عام 1992.
وتوالت الانسحابات من الحزب على اثر هذه الخسارة, وفي المقدمة موشيه آرنس, الذي كان من بين قادة معسكره, شاب طموح وعنيد, هو بنيامين نتنياهو الذي تمكن من التغلب على رجالات المعسكرين الآخرين وفي مقدمتهم آرييل شارون ودافيد ليفي, ففاز برئاسة الحزب عام 1993, في حين راح شارون وليفي يبذلان كل ما بوسعهما لاطاحته.
في اواخر شهرآذار 1995, انفجر بين ليفي ومؤيديه وبين نتنياهو, كقائد للحزب, خلاف حاد بشان أمور تنظيمية, أعلن ليفي على إثره أنه لم يعد يعتبر الليكود بيتاً له وانه سيشكل حركة جديدة لخوض انتخابات عام 1996 كمرشح لرئاسة الحكومة. لكنه لم ينسحب من كتلة الليكود في الكنيست, وبقي فيها بناء على اتفاق بينه وبين زعامة الحزب. وانضم الى ليفي في تحركاته هذه, أنصار الطوائف الشرقية في الليكود. وفي التوقيت الملائم أعلن عن انشاء حزبه الجديد باسم “غيشر”, كما سبق وذكرنا, وهو الحزب الذي ما لبث ان انضم الى تجمع جديد مع حزب العمل وحزب الوسط ضمن ما سمي “تجمع اسرائيل واحدة”.
في العام 1996 فاز نتنياهو بمنصب رئاسة الحكومة في انتخابات مباشرة من قبل الشعب, جرت للمرة الأولى بهذه الطريقة تطبيقاً لتعديل القانون الأساسي الخاص بالحكومة والذي كان قد تم اقراره عام 1992. وبالنسبة لانتخابات الكنيست خسر ما يسمى معسكر اليسار وفاز معسكر اليمين القومي الديني. وصدرت تحليلات سياسية لما حصل, ربطت فشل بيريس امام نتنياهو, بامتناع عشرة آلاف عربي إسرائيلي عن منح اصواتهم له, احتجاجاً على جريمته الشنعاء التي ارتكبها في قانا ضمن ما سمي عملية “عناقيد الغضب”. وبفوز نتنياهو بدأ العد العكسي لسياسة أوسلو, التي كان قد بدأها اسحق رابين منذ عام 1993, وقبل اغتياله على يد شاب يهودي أصولي بموجب فتوى شرعية عام 1995, كتعبير عن مدى التطرف الديني والسياسي اليميني الذي اجتاح المجتمع الاسرائيلي في موجات هستيرية من التعصب والحقد لم يسبق لها مثيل.
كان وصول نتنياهو الى السلطة إيذاناً بانتهاء البراغماتية, التي ميزت نهج حزب العمل تجاه العالم العربي والقضية الفلسطينية, وإعادة للتشدد الايديولوجي, الذي ترجع جذوره الى الصهيونية المتجددة, والذي عبّر عنه نتنياهو بكل وضوح وحدَّة في كتابه “مكان بين الأمم” الذي استلهم افكاره من تعاليم “جابوتنسكي” استاذ والده بن تسيون نتنياهو. وكانت فكرته الاساسية هي حق اليهود في كامل ما يسميه “أرض إسرائيل” أي كامل الأرض الفلسطينية من البحر المتوسط وحتى نهر الاردن في أقل تقدير, لان من بين شعارات الليكود التاريخية مقولة “ان للاردن ضفتين: هذه لنا وتلك الأخرى لنا ايضاً” وبالتالي عندما يسكت اليهود عن المطالبة بشرق الاردن فهذا تنازل ما بعده تنازل, لان العرب هم الذين اغتصبوا هذه الارض بالتواطؤ مع البريطانيين(! ؟) وقد عَنون نتنياهو الفصل الخاص بالانتداب البريطاني على فلسطين بـ”الخيانة”, وصوّر علاقة اسرائيل بالعالم العربي على انها صراع دائم لن ينتهي بين “قوى النور وقوى الظلام”. ولم يحتوِ كتابه على أية إشارة إيجابية تجاه العرب والمسلمين أو تجاه حضارتهم وتاريخهم وحسن معاملتهم لليهود في بلادهم. وظهرت الأنظمة العربية في كتابه بأنها مثال للدكتاتورية وممارسة العنف ضد الآخر سواء أكان عربياً أم أجنبياً. وادعى نتنياهو ان “الارهاب الدولي” هو المنتج التصديري الاول للبلدان العربية. واعتبر ان بعض الحكام العرب, الذين يبدون الود والتقرب من الولايات المتحدة, لا يعكسون عاطفة شعبية حقيقية, بل إنهم يمثلون فقط “قشرة رقيقة على سطح مجتمع عربي واسلامي متفجر”([28]).
لقد ادخر نتنياهو الكثير من حقده وسمومه للفلسطينيين, وشن هجوماً عنيفاً على الرأي القائل ان القضية الفلسطينية تمثل لب الصراع في الشرق الاوسط . وبالنسبة له, هذه “قضية مصطنعة”, هدف العرب الوحيد من ورائها تدمير اسرائيل. وبالتالي انكر على الفلسطينيين اي حق لهم في تقرير مصيرهم ووصف منظمة التحرير الفلسطينية بأنها, بالنسبة الى اسرائيل, بمثابة حصان طروادة يركبه العرب للقضاء على الدولة الصهيونية([29]).
ويضيف في كتابه, مكان بين الأمم, بأسلوبه البعيد كل البعد عن الموضوعية والصدق: “لا سابقة اطلاقاً لمثل هذه الظاهرة التي يطالب فيها معتد مهزوم باستعادة ما فقد في الحرب. ناهيك بكون العرب يطالبون بالاراضي نفسها التي كانت منطلقاً للعدوان”. إن العرب, بالنسبة لثقافة الليكود المشوهة والمسمومة, يحرّفون التاريخ, فاليهود هم الضحايا والعرب يريدون طردهم من أرض أجدادهم ورميهم في البحر, وقد استفادوا من الدعم الشيوعي لمحاربة إسرائيل الصغيرة والمتحضرة, وتحدّوا الإرادة الدولية ورفضوا قرار التقسيم, وحولوا الشرق الأوسط الى برميل بارود, وجلبوا الألم والضائقة للإنسانية بخلقهم أجواء العداء والتطرف والأصولية”!!
من هنا يستعيد نتنياهو فكرة جابوتنسكي القديمة بالفصل بين اسرائيل والعرب بجدار حديدي يتضمن أيضاً مرتفعات الجولان وجبال الضفة الغربية بحجة الضعف الجغرافي الذي تعاني منه اسرائيل, ويتناسى هنا رأي العديد من الجنرالات الاسرائيليين, الذين رأوا ان السيطرة على الضفة الغربية, ليست لها أية ضرورة عسكرية([30]). اما النتيجة التي وصل اليها شخصياً فهي: “ان تقسيم هذه الارض الى أمتين غير مستقرتين وغير آمنتين, ومحاولة الدفاع عما لا يمكن الدفاع عنه هو دعوة لكارثة. واقتطاع الضفة الغربية من اسرائيل يعني تقطيع أواصر اسرائيل([31]).


لقد اتفق نتنياهو مع آرييل شارون في اتهام الغرب ببيع اسرائيل للعرب كما باع تشيكوسلوفاكيا لألمانيا النازية أثناء الحرب العالمية الثانية (بموجب صفقة حصلت ما بين تشمبرلين وهتلر في ميونخ عام 1938). وهما يحاولان معاً إعطاء إنطباع بأن اسرائيل المدججة بكل أنواع أسلحة الدمار الشامل وكل أشكال الطائرات والصواريخ القادرة على حمل هذه الاسلحة حتى آلاف الكيلومترات, إنما هي مجرد واحة ديمقراطية صغيرة معرضة للخطر في حال تخلت عن قطعة صغيرة من الاراضي التي احتلتها عام 1967. وقد اتفق نتنياهو وشارون على القضاء على اتفاق أوسلو عن بكرة أبيه. وكانت البداية بالتعاون بينهما على شنّ حرب تكفير وتخوين ضد عرّابي أوسلو رابين وبيرس. وهكذا تمّت تصفية رابين جسدياً واحتواء بيرس سياسياً.
من هنا تنافس الرجلان على قيادة ائتلاف واسع يضم, الى جانب الليكود, تجمع اسرائيل واحدة بما في ذلك حزب العمل بالاضافة الى مجموعة مميزة من الأحزاب الشوفينية والدينية المتطرفة وغيرها من الاحزاب الصغيرة تحت عنوان كبير هو الإجماع الاستراتيجي الوطني ضد قيام دولة فلسطينية حقيقية ذات سيادة, وضد عودة اللاجئين الفلسطينيين من الشتات, وضد تفكيك المستعمرات, وضد البحث في تقاسم السيادة على القدس, وضد التراجع عن فرض السيادة الاسرائيلية على مرتفعات الجولان, وهذا كله تحت مظلة الحماية الاميركية المكوّنة من حرب كونية شاملة ضد “الارهاب”, بالرغم مما يشوب هذا المصطلح من التباس ونوايا مبيتة تنطلق من قاعدة الكيل بمكيالين ومقولة ان القوة أصدق من العدالة.
لقد قيل عن أسلوب نتنياهو في التعاطي مع القضايا السياسية الاقليمية انه لا يفاوض إلا نفسه, في حين قيل عن آرييل شارون انه يفاوض نفسه والمتطرفين الآخرين في حكومته.
و من هنا أفضى هذا النهج الى معادلة حسابية موضوعية هي انه, كلما تكالب الاسرائيليون على مزيد من الأرض الفلسطينية, حصلوا على سلام وأمن أقل في هذه الارض المحتلة. وكل فعل له ردة فعل مساوية في القوة ومعاكسة في الاتجاه. فعملية ريشون لتسيبون على سبيل المثال, هي ردة فعل طبيعية على مجزرة جنين, ووصف شخص دموي وإرهابي من طراز آرييل شارون زوراً وبهتاناً بانه رجل سلام, يمكن اعتباره آخر مشهد من مشاهد السياسة الاميركية في مسرح اللامعقول, تجاه هذه المنطقة المنكوبة بنعمة النفط, وكارثة وجود الكيان العدواني الصهيوني.
إن دعوة القمة العربية الاخيرة في بيروت, ودعوة القمة الضيقة الثلاثية في شرم الشيخ, من أجل السلام ووقف العنف, قوبلتا بحملة مزايدات هستيرية بين كل من شارون ونتنياهو, في التعبير عن الحقد والكراهية والاستخفاف بنوايا العرب وحقوق الفلسطينيين, وتساوت “دولة” شارون الفلسطينية المزعومة والممزقة والفاقدة لأي شكل من أشكال السيادة بـ”لا دولة” نتنياهو. واختصر الخلاف بين الرجلين على تبادل الاتهامات الشخصية بمصافحة يد عرفات او عدم مصافحتها. فنتنياهو صافح عرفات في واي ريفر, اما شارون فارسل اليه ابنه عومري ولاطفه بقصة التشابه الاسمي بين “ابو عومري وابو عمار”. وقد توجت اللجنة المركزية لتكتل الليكود هذا الخلاف الشخصي بمباركة وتاييد الرجل الاكثر تطرفاً وحقداً على العرب والفلسطينيين, بنيامين نتنياهو, وبتكريس الرفض الجماعي والمطلق لمجرد التفكير في إقامة دولة فلسطينية حتى على جزء يسير من الاراضي الفلسطينية المحتلة, وذلك بعد سبع ساعات من المناقشات والحوارات الحادة.

خلاصة واستنتاج:
إن تكتل الليكود في اجتماع لجنته المركزية الاخيرة في مطلع شهر أيار المنصرم, قد أكد من جديد سياسته وأيديولوجيته الراديكالية السلبية جداً من الحقوق الوطنية والإنسانية والقانونية للشعب الفلسطيني. والخلاف الشخصي بين نتنياهو وشارون بشان قبول او عدم قبول مبدأ قيام دولة فلسطينية, ما هو سوى مشهد من مشاهد هذه الدراما الساخرة التي تبدأ بالاغتصاب وتنتهي بالاغتصاب.
لقد لخّص زعيم المعارضة الاسرائيلية يوسي ساريد سياسة حكومة شارون الحالية بقوله: “ليس لدى هذه الحكومة أيّ شيء سوى العمليات العسكرية: ليست لديها مبادرة سياسية, وهي تقول لكل المبادرات الاخرى لا. لا للمبادرة السعودية, لا للمبادرة المصرية, لا للمبادرة ألاميركية, لا للخطوات السياسية من طرف واحد ولا للخطوات السياسية الثنائية, لا للسياج الفاصل وإخلاء مستوطنات, ولا للقوة المتعددة الجنسيات على حدود 1967 ولا للانتداب الدولي في المناطق”([32]). واعتبر ساريد ان الاحتلال وما يسمى “الارهاب” يغذي أحدهما الآخر. وفي السياق نفسه كتب باتريك سيل يقول: “ينبغي ان يقال للولايات المتحدة, المرة تلو الاخرى, ومن دون كلل أو ملل, إن جذور الارهاب لا توجد في المجتمعات الاسلامية, ولا في فشل الدول العربية في التاقلم مع النموذج الغربي للديموقراطية, بل هي موجودة في السياسات الاميركية في الدعم اللامحدود لإسرائيل, في اضطهاد الفلسطينيين, في الاستمرار في معاقبة العراق بعد مرور 12 سنة على حرب الخليج, في الوجود العسكري المتطفل للولايات المتحدة في الخليج العربي, دعماً للمخططات الاميركية في الهيمنة الاقليمية”. ويضيف سيل :”يتوجب على الرئيس بوش ان يدرك اليوم ان انتصاره او هزيمته في محاربة الارهاب يقرّران في الاراضي الفلسطينية المحتلة. لقد تجاهل الموضوع وأشاح بوجهه حينما اختطف رئيس وزراء اسرائيل آرييل شارون برنامجه ضد الارهاب. ويبدو انه لا يريد ان يفهم ان هدف شارون من تدمير السلطة الوطنية لياسر عرفات, ليس هو إيقاف الهجمات الإرهابية الانتحارية­ وفي واقع الامر ان شارون يعمل على التحريض عليها من طريق الاستفزازات وعن سابق تصور وتصميم­ بل هو استبعاد المفاوضات الجادة التي يمكن ان تفضي الى قيام الدولة الفلسطينية”([33]). وبعد, عندما يجد الشعب الفلسطيني نفسه عالقاً دون معين او مسعف, في هذه الدوامة العبثية القاتلة, هل يُلام على استمراره ببذل الروح والجسد من أجل الوطن؟!.


[1] هو تنظيم شبابي صهيوني تصحيحي أسسه في بولندا يوسف ترومبلدور عام 1923 وكان هدفه إعداد أعضائه للحياة في فلسطين بتدريبهم على العمل الزراعي وتعليمهم مع التركيز على العبرية والتدريب العسكري. وكان اعضاؤه يتلقون أيديولوجيا واضحة التأثر بالأيديولوجيات الفاشية التي سادت اوروبا آنذاك مثل تعليم اليهودي ان امامه خيارين فقط : الغزو او الموت. وان كل الدول التي لها رسالات قامت على السيف وحده.

[2] ايضا “استراتيجية حزب” راجع في هذا المجال مجلة الأرض21/9/1979­موضوع اعتلاء وسقوط الكذبة الكبرى­ روز نيبلوم وانظر الليكود في السلام, توفيق الملحم .ص42 وما بعدها .

[3] كان بن غوريون يصف أعضاء حيروت بأنهم: (القذارة والفاشية, والإجرام والوحشية, وأكلة لحوم البشر, الحشرة التي لا تجلب سوى الضائقة والسآمة التي تخرق القلب والعظم), المصدر السابق.

[4] لمزيد من التفاصيل في هذا المجال أنظر كتاب “حقيقة بيغن وشركائه” يسرائيل شاحاك ­ مقتطفات وثائقية ­ إعداد وتقديم محمد إسماعيل ­ منشورات دار العودة بيروت 1979.

[5] الأحزاب الإسرائيلية والحركات السياسية في الكيان الصهيوني ­حبيب قهوجي­ مؤسسة الأرض للدراسات الفلسطينية ­دمشق ­الطبعة الأولى ­ 1986 ص ­25.

[6] المصدر نفسه.

[7] من الإرهاب إلى السلطة ­ مناحيم بيغن ­ مؤسسة الدراسات الفلسطينية ­ بيروت 1977ص 55.

[8] المصدر السابق.

[9] الأحزاب الإسرائيلية ­ حبيب قهوجي ­ مصدر سابق ­ص 254 .وانظر ايضا الدين والسياسة في اسرائيل ­عبد الفتاح محمد ماضي ­مكتبة مدبولي ص187 وما بعدها.

[10] تمثل الليكود في الكنيست من حيث عدد المقاعد كالتالي : الكنيست الثامن (1973) ­ 39 مقعدا . الكنيست التاسع (1977) ­43 مقعدا ً ­ الكنيست العاشر (1981) ­ 48 مقعداً. الكنيست الحادي عشر (1984) ­ 41 مقعداً. الكنيست الثاني عشر (1988) ­40 مقعداً. الكنيست الثالث عشر (1992) ­ 32 مقعداً. الكنيست الرابع عشر (1996) ­ 32 مقعدا.ً الكنيست الخامس عشر (1999) 19 مقعدا ً أي بخسارة 13 مقعداً دفعة واحدة ­ نشرة مؤسسة الدراسات الفلسطينية ­ المجلد الثالث ­ 1973 ­ ص 582­583 .

[11] المصدر السابق .

[12] مجلة شؤون فلسطينية ­ العدد 26 ­ 1973 ­أضواء على انتخابات الكنيست الثامن ص 21.

[13] لمزيد من التفاصيل أنظر: دليل إسرائيل العام ­ مؤسسة الدراسات الفلسطينية ­ الأحزاب الإسرائيلية ص 141 وما بعدها.

[14] انتخابات الكنيست الحادي عشر ­ الأبعاد السياسية والاجتماعية ­ سمير جبور ­ مؤسسة الدراسات الفلسطينية ص 178 .

[15] المصدر نفسه.

[16] يديعوت أحرونوت 27/7/1984 الليكود كاد يفقد السلطة يشعياهو بن بورات .

[17] طريق شارون ­محمد حمزة غنايم ­ المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية (مدار ) طبعة 2001 ص 86.

[18] المصدر نفسه.

[19] المصدر نفسه.

[20] المصدر نفسه ص 100 .

[21] هآرتس ­ 2/ 2/2001­ مقابلة خاصة مع شارون أجراها آري شافيط .

[22] المصدر السابق.

[23] المصدر نفسه.

[24] هآرتس 2/2/2002

[25] طريق شارون ­ مصدر سابق ص 102 .

[26] ­السفير 5/2/2001 ماذا سيحدث مع اليهود: إسرائيل وفق شارون.

[27] معا ريف ­ 20 /5 /2002 ­ وماذا مع خطة شارون ؟ بن كسبيت.

[28] مكان بين الأمم ­ بنيامين نتنياهو ­ ترجمة محمد الدوبري ص 14 وما بعدها . دار الجليل ­ الأردن ­ عمان .

[29] المصدر نفسه .وانظر أيضا استراتيجية حزب الليكود في السلام­العقيد الركن توفيق الملحم.

[30] يقول جابوتنسكي : “لن نستطيع أن نقدم لا للفلسطينيين العرب ولا للعرب من البلدان الأخرى تعويضاً عن فقدهم أرض إسرائيل ... أن الصهيونية ستبقى اعتماداً على السيف خلف جدار حديدي لا يستطيع السكان المحليون اختراقه . أنظر التنافر في صهيون ­ ما يكل جانسن ص 104.
الحائط الحديدي ­ آفي شلا يم ­ ترجمة ناصر عفيفي ­ مؤسسة روز اليوسف ­ ص 540 .

[31] المصدر نفسه .

[32] ­السفير 7/6/2002 ­حلمي موسى ­الخطة الاميركية.

[33] الحياة ­7/6/2002 ­باتريك سيل ­هل يقودالرئيس بوش العالم الى كارثة؟