قضايا اجتماعية

المال عصب الحياة لكنه ليس هدفها
إعداد: ناديا متى فخري

النظـرة إليه تساهم في بناء شخصية الولد وسلوكه

 

من التعاطف الى الحزم

دور الأهل في التنشئة أساسي من الناحيتين الشخصية والإجتماعية, والعامل الأهم هو توفير أفضل المناخات النفسية والفكرية التي تشكّل اللبنة الأساسية للإرتقاء بالمستوى السلوكي للأبناء وتنميته وإثرائه... وعموماً تحتل اتجاهات الوالدين وطريقة معاملتهم لأولادهم مكانة مهمة في تكوين شخصية أولادهم. وكثيراً ما يفشل الآباء في جعل أولادهم يشاركون في نشاطات الحياة بشخصية منفتحة, واثقة, بشجاعة وإرادة قوية تتدخل عند الحاجة لتجنبهم الإستسلام للمصاعب والصدمات. فما هي الأسباب التي تقود الى مصير مماثل, وتكمن وراء فشل الأهل؟
لا شـك في أن الولد حـين ينشـأ في منـاخ عائلي تسوده الإلفـة والتسامـح والإستقرار, تـزداد ثقـته بنفـسه وبمن حوله ويصير قادراً على مواجهة الحياة بشجاعة وتفاؤل. غير أن المبالغة في التعاطف مع الأبناء ومجاراتهم في ميولهم, الى حدّ غير مقبول به, (ترك الولد يتصرف على مزاجيته وكما يحلو له خصوصاً في مسألة تبذير المال من دون حسيب أو رقيب), يدفع بالولد الى التيه والإنجراف في سلوكيات مرفوضة إجتماعياً وأدبياً, منها مثلاً: الكبرياء, الإتكال على الغير, الأنانية, الطمع, وغيرها من المظاهر التي تجعله مستقبلاً عاجزاً عن تنظيم أموره والتعاطي بإيجابية مع واقعه اليومي كفرد في الأسرة وخارج نطاقها أيضاً. وإذا كان التسامح في الطفولة المبكرة يدخل الطمأنينة الى نفس الطفل, فهو في المقابل غير مسموح به في المراحل اللاحقة إلا وفق نسب معينة, تحددها شروط التربية السليمة التي توجب على الأهل تعديل هذه المعاملة تدريجياً, لتصبح أكثر حزماً في الفترات الإنتقالية من عمر الطفل حيث يكون فيها أكثر نُضجاً ووعياً. فالتغيير المفاجئ والحاد بين الطفولة الأولى التي تحظى بالتسامح والحرية والحب المفرط, وبين المراحل التالية التي ينتقل إليها الطفل وتكون إمتداداً لنموّه حتى مرحلة النضج التام, والتي تستدعي التوجيه والإرشاد والتنظيم واعتماد مبدأ الحزم, يُحدث إضطراباً في نفس الأولاد, وبصورة خاصة في مجتمع الناشئة وبداية عمر المراهقة. ففي هذه السن, ثمة فئة تتقبل واقعها بصعوبة, وفئة أخرى ترفض رفضاً قاطعاً الرضوخ للواقع والتسليم به, ولعلّها تتحداه وتحاول الإفلات من قيوده وتتنكر له بعناد. ومسؤولية الحالة الأخيرة يتحملها الأهل الذين وضعوا أولادهم وجهاً لوجه أمام واقع مرفوض منهم من دون تهيئة مسبقة.
بديهي, أن يتنكر الأولاد لواقع يحد من طموحاتهم ولا يفي بإحتياجاتهم, ولكن غير مقبول أن لا نأخذ بيدهم ونساعدهم ليتفاعلوا بإيجابية مع الواقع مهما كان مريراً.. وحين نتحدث مع أولادنا, يجب أن يكون كلامنا واضحاً وبلا أقنعة, ما معناه, أن ننقل إليهم رأينا بصراحة ونشرح لهم ظروفنا من دون تمويه.. ولا بد من التركيز على أن الإعتماد على النفس أقصر الطرق لتحقيق المراد, وأن قيمة الإنسان مستمدة مما يُنتجه وليس مما يكتسبه عن طريق إرث مثلاً. فبذلك نفتح أمامهم مجالاً للنظر الى الغد, نظرة تفاؤل ورضى.

 

المال ليس غاية

في تنشئة الأولاد ثمة إعتبارات لا يجوز أن نتغاضى عنها, لما لها من انعكاسات على تفكيرهم وتوجههم, وأخطرها “النظرة الى المال”, وهنا نلفت الى ضرورة توضيح الصورة الحقيقية للمال والدور الذي يلعبه في حياتنا؛ وأن نعزّز لدى الولد النظرة الى المال كقيمة ووسيلة للعيش وليس غاية. فالولد لا يستطيع تحديد ماهية المال وقيمته إلا إذا توضحتا عنده وفق ترجمة صحيحة.
لا شك أن المال بالنسبة للكبار عنصر أساسي للنهوض بأعباء الحياة ومتطلباتها, وعندما يسمع الأولاد من والديهم وجهة نظرهم عن المال كحاجة أساسية في الحياة تشدهم الرغبة الى كسبه.. لذلك لا بد من حذر الأهل ووعيهم في شرح الهدف الأساسي من وجود المال في حياتنا, لأننا حين نبرز دوره بطريقـة خاطئة جاعلـين منه تمثالاً يُعبد وغاية كل شيء, نسمم أفكار أولادنا الى حـد المرض, فيصبح المال عندهم غاية على نقيض ما هو في الحقيقة. فالمـال ليس سـوى وسيلة للعيش والإعتياش وليس غايـة نتطلـع إليها كهـدف أساسي لا بد من الحصول عليه مهما كان الثمن.
المطلوب من الأهل أن يضبطوا خيال أولادهم, ويعدّلوا نظرتهم الى المال, وذلك بإلقاء الضوء على الحقيقة التي يمثلها المال في حياة الناس, وأنه علينا تحصيله وكسبه بالتعب وعرق الجبين, فهذا يجـعل للمال قيمة عندهم فيبتعدون عن إنفاقه وتبذيره بشكل عشوائي, وتزداد فيهم الرغبة للعـمل وبذل الجهد لجني المال وإدخاره لوقـت الحاجـة.. فحين يفهم الأولاد أن المال ليس إلا وسيلة للعيش بكرامـة يتحـوّلون الى إدخاره بقناعة تفادياً للوقـوع في عجز يضطرهم الى العوز.

 

مصروف الجيب... وأصول التدبير المالي

بمسؤولية تامة ينبغي أن نعالج مسألة “مصروف الجيب”.
نحن نعرف أن غياب الدعم المادي للأبناء له مفعول إغداق المال نفسه على أولادنا, فنحن حين نحرم أولادنا من المصروف الشخصي بحجة أننا نشجعهم بذلك على الإعتماد على أنفسهم مستقبلاً ونعوّدهم على القناعة وتقبّل الأمور كما هي, قد نعزز فيهم الميل الى الحصول على المال بأي وسيلة, فيضعون كل الإعتبارات جانباً, ويسلكون أي درب توفّر لهم تحصيل المال وإنفاقه؛ وهنا الخطورة, فقد يجنحون الى السرقة, والكذب, وما شابه من سلوكيات جانحة تمكّنهم من حيازة المال, وبطرق سهلة. وفي المقابل, إن السخاء المادي على الولد يجعله إتكالياً وجشعاً وسعيداً بحياة اليسر, وغالباً ما يتحوّل الولد الى أناني ينتهز الفرص للمطالبة بالمزيد, وهذا أمر خطير أيضاً, خصوصاً حين تقع الأسرة في عجز مادي, وتصبح عاجزة عن الإيفاء بمتطلبات الإبن.
من هنا نجد أن الطريق الى إفساد الولد مليء بالنوايا الطيّبة, فنحن حين نترك له الحبل على الغارب ليبذّر المال وينفقه بلا مبالاة نخطئ, ونخطئ أيضاً, حين نحرمه من مصروف جيبه.

 

مكافأة لا رشوة

في بعض الأسر, نجد الأهل يعتمدون إعتماداً كلياً على المال لإغراء أولادهم وحضّهم على التعاون والمشاركة في عمل مدرسي أو أسري, وقد يكون هذا التصرّف سليماً من جهة كونه ينمي إدراك الولد لقيمة المال ويكسبه متعة الكسب الشريف, إلا أنه يتحوّل من جهة ثانية الى “رشوة”, تدفع الولد الى التردد في تنفيذ ما يُطلب منه, معتبراً أنها أفضل محاولة للحصول على هذه الرشوة.
لا ضير في أن يتقاضى الولد مبلغاً من المال تقديراً لعمل قام به, فهذا يجعله راضياً عن نفسه وأكثر تعاوناً وإنتاجاً, لكن حين نعطيه المال يجب أن نوضّح له أنه قد استحقه فعلاً, ولم يُعط له على سبيل الرشوة, بل كمكافأة على تعاونه ومشاركته.
ومن جهة ثانية, طبيعي أن الولد يحتاج الى “مصروف جيب”, فرنين النقود يُسعده ويُشعره بالرفاه المعنوي, ويحميه من عقدة النقص والشعور بالحرمان, ولكن المطلوب أن نوقظ فيه الوعي ونجعله يدرك أن المال وسيلة وليس غاية كما سبق وأشرنا.. يجب أن يفهم أولادنا أن المال مجرّد وسيلة نحقق فيها رفاهنا المعيشي وحسب, ولكنه لا يحقق لنا السعادة والنجاح, فنحن لا ننجح لمجرد أننا أثرياء, فالنجاح سمة المتفوّقين, علماً وأدباً واجتهاداً, نحن ننجح حين نعمل بشرف وجهد وإرادة وكفاح حقيقي ومثالي.

 

الولد يتعلم من “كيسه”

لا غرابة في أن ينفق الولد ما يحصل عليه من مصروف على أشياء قد تكون من وجهة نظر الكبار عديمة الفائدة والقيمة, لاعتقاده أن السبيل الذي صرف فيه المال صحيح وجيّد, فقد يأتي يوم يُدرك فيه الولد خطأه وتكون هذه التجربة أفضل معلّم له ليتوجّه الى تبديد المال على الأشياء المفيدة وليس العكس, وهذا أمر مفيد له, ودرسٌ جيد يتعلّم منه أصول التدبير المالي, والتوفير للصرف على أمور أكثر إفادة.. ولكن إذا تكررت هذه الأفعال ولم يتعلّم الولد من التجربة وانساق الى التكرار والتصرف بعبثية, لا بد من تدخّل الأهل لحسم هذا التكرار في تصرفاته اللامسؤولة.
إن مهمة الأهل دقيقة جداً, فهم مسؤولون عن تشكيلة سلوك أولادهم وتوجيههم نحو الأعمال الحسنة, فبناء الأجيال متوقف عليهم... وخير الأمور, أن نكون عمليين في تعاطينا مع دورنا كأهل في مراحل التنشئة والتطبيع, ونعلّم أولادنا أن يحسبوا للغد ألف حساب, ونشجعهم على التعاون وتحمّل المسؤولية منذ الصغر.