المبادرات الغربية حول الشرق الاوسط

المبادرات الغربية حول الشرق الاوسط
إعداد: د. مفيد قطيش
الجامعة اللبنانية - كلية العلوم الاقتصادية وادارة الاعمال

نجحت الولايات المتحدة الأميركية في تحويل أنظار الرأي العام واهتمامه عن الفظاعات التي ارتكبتها في يوغسلافيا وأفغانستان والعراق، وعن مساهمتهما في المجازر التي تنفّذ بحق الشعب الفلسطيني، إلى نقاش انتشر بسرعة هائلة حول مشاريع أميركية لإعادة ترتيب أوضاع العالم، وبشكل خاص في الشرق الأوسط. بات الأمر يبدو وكأنّ كل ما فعلته وتفعله الإدارات الأميركية المتعاقبة مبرراً: فالبلدان المتخلّفة في هذه المناطق من العالم وإداراتها مسؤولة عن بروز الإرهاب وانتشاره. والأنظمة الاستبدادية فيها مسؤولة عن الفقر والجرائم والهجرات غير المشروعة. ومن يمتلك أو حاول أن يمتلك أسلحة الدمار الشامل يشكل خطراً على أمن أميركا والعالم أجمع. ولذا فإن المنطق يقول بضرورة إصلاح الأوضاع في هذه المناطق لتدارك هذه المخاطر. وبما أن أميركا تعتقد بأن حكام هذه البلدان عاجزون عن تنفيذ الإصلاحات المطلوبة، يكون من الضروري أن تتدخل هي مباشرة وبالتعاون مع حلفائها في الغرب، لإنجاز هذه الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية- التربوية. وهذا هو مغزى تدخلها في الشؤون الداخلية لبلدان العالم، أكان ذلك بالطرق السلمية أو العسكرية، كما تحاول الإدارات الأميركية أن تفسر ذلك.

ولو اقتصر الأمر على التأويلات الأميركية لهذا المسار من الأحداث الذي بدأ منذ مطلع التسعينات مع انهيار الاتحاد السوفياتي، لما طال النقاش وتشعّب. لكن ما أعطى النقاش حدّته هو أن نخباً عربية وعالمية تبرّعت لتبرير هذا المنطق والترويج له باعتبار أن ما تريده أميركا هو الإصلاح فعلاً، وأن غياب قوى إصلاحية في هذه المناطق يبرّر التدخل الأميركي في أيّ بلد من البلدان. من هنا برز المفهوم السيئ الصيط «الإحتلال الديمقراطي»، والاحتلال بديل عن الديكتاتورية والإرهاب.

وتكمن المفارقة في أن قوى سياسية وإجتماعية واسعة حملت على مدى القرن العشرين لواء الإصلاح والتغيير الديمقراطي في أربع أرجاء العالم، بما في ذلك في العالم العربي، فقدمت مشاريع  شاملة وجذرية بهذا الشكل أو ذاك، كلٌّ حسب قدرته وتصوراته، في حين أن الولايات المتحدة وحلفاءها في الغرب عملوا بجهد لإبقاء الأوضاع على حالها، لكي لا يتحقق أي تغيير ديمقراطي، واختارت واشنطن التحالف مع القوى الرجعية والديكتاتوريات المختلفة، معيقة بذلك أي عملية إصلاحية، باعتبار أن من يحمل لواء هذه الإصلاحات ويستفيد من تحقيقها «هي قوى عميلة للإتحاد السوفياتي والشيوعية الدولية»، بل أنها شجعت الثورات المضادة والإرهاب الأصيل بوجه محاولات ديمقراطية ناشئة في مختلف مناطق العالم (في تشيلي ونيكاراغوا)، وسعت لدعم رأسماليات ناشئة بوجه محاولات بناء إشتراكي في هذه المنطقة من العالم أو تلك. وفجأة، بعد تغير الوضع الجيوسياسي في العالم، وجدت أميركا أنها بحاجة لتحقيق إصلاحات ديمقراطية في مناطق معينة دون غيرها*، واكتشفت أن سلوكها السياسي لم يكن متناسباً مع «مبادئها الأخلاقية»، ثم اكتشفت النواقص المميتة في حياة الشعوب. وهكذا وضعت نصب عينها إصلاح الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط «المولّدة للأزمات والفقر والإرهاب والتطرف والهجرات غير المشروعة»، وأطلقت مشروع «الشرق الأوسط الكبير»([1]) الذي أثار موجة النقاشات والسجالات الواسعة التي بدا من خلالها كأن قوى ديمقراطية واسعة ترفض الإصلاحات من خلال رفضها للمشروع الأميركي.

هذه المفارقة تطرح حقيقة الموقف الأميركي والمواقف الأخرى من الإصلاحات في الشرق الأوسط، وهي مسألة لا يمكن تفسيرها وفهمها إلا ّ إذا حددنا موقع المشروع الأميركي في استراتيجية الأمن القومي الأميركي التي وضعتها الإدارة الأخيرة كنسخة منقّحة عن مشاريع للإدارات الأميركية السابقة، فالأمن القومي الأميركي واحد مهما تغيّرت الإدارات.

إن الفرضية التي أود التأكيد عليها هي أن مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي أطلقته الولايات المتحدة مؤخراً، والذي اتخذ شكلاً معدّلاً في لقاء قمة الثماني في سي آيلاند في حزيران 2004 "شراكة من أجل المستقبل"، هو جزء من استراتيجة الأمن القومي الأميركي؛ أنه مخطط تنفيذي لهذه الستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط، يستهدف تأمين مصالح الولايات المتحدة في هذه المنطقة التي أعلنت منطقة مصالح حيوية لأميركا، ويكتسب تنفيذه أهمية كبيرة في سياق تحقيق استراتيجية الأمن القومي الأميركي التي ترى أن الحوار التاريخي الذي ستواجهه أميركا في هذا القرن سيكون مع الصين، بالدرجة الأولى، ومع الهند وروسيا بالدرجة الثانية.

 

خلفية الستراتيجية الأميركية: العولمة الإمبريالية ([2])

ترى الستراتيجية الأميركية: أن الصراعات الكبرى في القرن العشرين بين قوى الحرية وقوى الإستبداد انتهت بنصر حاسم لقوى الحرية ولنموذج واحد مستدام للنجاح القومي يشمل الحرية  والديمقراطية والتجارة الحرة (أي الرأسمالية، وهذا هو مضمون بدعة «نهاية التاريخ").

أما المهمة المعاصرة لأميركا، صاحبة القوة العسكرية الهائلة،وفق هذه الستراتيجيا، فهي محاربة الإرهابيين والدكتاتوريين والدول المارقة الساعية لامتلاك أسلحة الدمار الشامل، التي تهدد أمن أميركا وحلفائها: تهديد مصادر الموارد الطبيعية، إمتلاك أسلحة عصرية تنزل الضرر بها، ممارسة الإرهاب ضد المواطنين، تهديد الحرية والتجارة الدولية. وأميركا ترحب بالمسؤولية الملقاة على عاتقها من أجل تصفية هذه المخاطر.

وترى الستراتيجية الأميركية الأولوية في تعطيل وتدمير المنظمات الإرهابية في جميع أنحاء العالم، واستخدام كافة عناصر القوة الوطنية والدولية..

على أن يطال التصدي الإرهابيين والدول التي تأويهم وتساعدهم والمرشحة لأن تكون مسرحاً لعملياتهم... وتتضمن هذه الستراتيجية حرب الأفكار لكسب المعركة، وتشرع إجراءات وقائية بما في ذلك القوة في جميع الحالات، وتشمل فعاليات في جميع الميادين الاقتصادية والسياسية والثقافية والأمنية. وتتوقف الستراتيجية الأميركية عند العلاقة مع الصين حيث ترغب بظهور صين قوية، إلا أن الصين تسعى لامتلاك القدرات العسكرية المتقدمة لتتمكن من تهديد جيرانها في إقليم آسيا والباسفيك، لذا فهي تسلك طرقاً خارج العصر الذي نعيشه والذي من شأنه أن يعيق سعيها للعظمة القومية في نهاية المطاف... ناهيك عن الخلافات مع الصين بشأن حقوق الانسان.

إن إستراتيجية الأمن الأميركي تسعى لتحقيق طمأنة الحلفاء والأصدقاء، وصرف النظرعن المنافسة العسكرية مستقبلاً وردع مصادر التهديدات ضد مصالح أميركا وحلفائها، وهزيمة الأعداء بشكل حاسم إذا لم تجد سياسة الردع معهم نفعاً...

وعندما تصوغ الإدارة الأميركية المخاطر التي تهدّد أمنها وأمن حلفائها تنطلق من رؤية محددة للمصالح ولسبل تحقيقها، وكذلك لمضمون الخطر والتهديد الذي يطالها. وعلى هذا الأساس تكمن المصلحة الأساس لأميركا في عالم ما بعد الحرب الباردة، في إقامة نظام عالمي تحكمه جملة القواعد والمبادئ والقيم التي صاغتها، تكون فيه القطب الأوحد صاحب القرار، كونها القوة العظمى الوحيدة في العالم، وكونها المنتصرة الأساسية في الحرب الباردة. وترجمة هذا النظام عسكرياً هي تحويل حلف الناتو الى وزارة دفاع للعالم والقوة العسكرية الوحيدة الشرعية. اما في الجانب الاقتصادي فإن إقامة اقتصاد عالمي مفتوح لا حدود بين عناصره ولا قيود أمام حركة عوامل الإنتاج فيه تعتبر هدفاً أمثل بحيث تشكّل منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، بالإضافة للقاء الثماني الكبار وأركان الشركات العابرة للقوميات، الإدارة الأساسية فيه. وعلى الصعيد السياسي يتطلب الأمر نسيان السيادة القومية كمفهوم قديم. ومن نافل القول أن الإعلام والإتصالات لا تقبل أيّ قيد أمام حركتها. ويتطلب الحقل الثقافي إفساح المجال أمام تفكيك الثقافات القومية من أجل ترك الساحة لثقافة مهيمنة وحيدة. وعلى الصعيد التكنولوجي يسود تقسيم للعمل يجعل إنتاج المبادئ التكنولوجية احتكار دولة واحدة هي أميركا ويحول دون تحقيق أية خروقات فيه من أية دولة مهما علا شأنها.

تلك هي الخلفية التي تشكل الإطار العام الذي على أساسه ترسم إستراتيجية الأمن القومي الأميركي. انها العولمة الإمبريالية وخلفيتها الأيديوليجيةـ الليبرالية المتطرفة، التي ترى في السوق الوسيلة الوحيدة الناظمة لعلاقات البشر، افراداً وجماعات ودولاً ومجموعات دول.وليس هناك أدنى شك في أن إطلاق العنان للمنافسة بين الدول ومجموعات الدول او الحضارات سوف يكون لصالح البلدان المتقدمة، وأن خسارة البلدان الفقيرة أمر حتمي.

وعليه فإن إنتهاء الحرب الباردة بانتصار أميركا والغرب عموماً كان ينبغي أن يؤمن حالة من الاسترخاء والاستقرار في العالم. ذلك أن أحد طرفي الصراع لم يعد موجوداً والأحلاف العسكرية لم تعد ضرورية وباستطاعة البشرية أن تستفيد من تحويل الإنفاق العسكري الى إنفاق مدني. وعلى الغرب أن يستفيد من طور ازدهار جديد. غير أن ما نشهده منذ انهيار الإتحاد السوفياتي يشهد على حالة معاكسة تماماً، إذ ليس مبالغة القول إننا نشهد منذ العام 1998 نوعاً من الحرب العالمية الثالثة، بدأت بالحرب على يوغسلافيا، ثم تلتها الحرب على أفغانستان، وبعدها جاءت أحداث 11 أيلول وصولاً للحرب على العراق واحتلاله. وخلال هذه الفترة لم تتوقف  حرب الإبادة بحق الشعب الفلسطيني، وتخللتها ولا تزال تهديدات لكوريا الشمالية وإيران وسوريا. الى ذلك جرى توسيع الناتو بضمّ بلدان وسط وشرق أوروبا وجمهوريات البلطيك، وضخّمت الموازنة العسكرية الأميركية الى حدود فاقت أحجامها أيام الحرب الباردة. وبذلك ترتسم لوحة قاتمة لبداية القرن سوف تحدد صورته الأساسية: إنها حالة اللاإستقرار والإختلالات الكبرى الناجمة عن قرار ذاتّي صادر عن الولايات المتحدة الأميركية، وليس نتاجاً منطقياً لتطور البشرية عند تقاطع القرنين يقضي بإبقاء مناطق واسعة من العالم ساحة مواجهة.

ويقودنا المنطق الى التساؤل حول مغزى أن يقوم المنتصر في الحرب الباردة بتفجير حرب عالمية وما يرافقها من ثمن معنوي - أخلاقي ومادي - لماذا قررت أميركا أن تهزّ العالم وأن تعرّضه وتعرّض نفسها للمخاطر؟ هل هي فعلاً حرب على الإرهاب؟ أم أنهاتستهدف نزع أسلحة الدمار الشامل؟ أم للتخلص من الأنظمة الديكتاتورية ولحماية حقوق الإنسان؟ أم أن لها استهدافات أخرى؟

 

الحرب . مطلب أميركي متعدد الجوانب

أثبتت الوقائع أن الموديل الرأسمالي الأميركي لا يمكن أن يستمرمن دون وجود عدو رسمي معترف به، ولذا فإن خلق عدو جديد لترهيب الشعب الأميركي وشعوب الغرب عموماً بات مهمة ملحة أمام الإدارة الأميركية، وقد وجدت في الإرهاب العدو المطلوب،خصوصاً بعد 11أيلول([3]).

من جهة أخرى أثارت النهاية السريعة وغير المتوقعة للحرب الباردة على شكل استسلام غير مشروط، شهية غير محدودة لدى الإدارة الأميركية من أجل ممارسة الضغوط على العالم لتأمين وضعية إستثنائية لأميركا فيه. إنه جنون العظمة المعطوف على موقف إيديولوجي، إذ اعتادت أميركا على تقسيم العالم الى قسمين: الخير والشر. والإيديولوجيا الليبرالية تتصف بعدم الإحتمال تجاه الآخر، لأن العالم لا يتسع لهؤلاء جميعاً. وبالمحصلة دخل العالم طوراً من الصراع والحقد الإيديولوجيين لم يعرفهما من قبل، فاحتلّت الليبرالية المفرطة الساحة ونظفتها من كل عقلانية، وسارعت لإعلان النهايات: نهاية التاريخ والإنتصار النهائي للرأسمالية وصراع الحضارات ككلمة أخيرة. وبالتالي فإن هذه النهايات تحتاج لإنجاز، تتطلب خوض المعركة الأخيرة بوجه بقايا الماضي ـ الأشرار، ممثلي الأنظمة المارقة والإرهابيين والأنظمة الديكتاتورية. وقد أخذت الولايات المتحدة هذه المهمة على عاتقها، وهي التي انتصرت في الحرب الباردة، مؤهلة للإنتصار في هذه الحرب الأخيرة. ولذا على العالم القبول باعتبار شعبها شعباً مختاراً، تقع على عاتقه مهمة ترويض من بقي خارج تقاليده. إنه جنون العظمة الذي يخفي خوفاً من باقي البشر ومن ثأر محتمل يقوم به المهزومون  في لحظة تاريخية مناسبة. ولذا لا بد من إحكام السيطرة المطلقة.

إن الحرب بهذا المعنى هي وسيلة لتثبيت نتائج الحرب الباردة بالقوة، بالإرتكاز على إيديولوجيات تحولت من الليبرالية الى فاشية تروّج لعدم إضاعة فرصة تثبيت الإنتصار على عدو ما زال يتخبط في هزيمته.

ويبدو من هذا المنطق الليبرالي الأميركي أن على كل شعب أو دولة أن يبرر وجوده في هذا العالم بمدى قربه من هذا النموذج، لأن الإصرار على الخصوصية والأفكار الوطنية هو في نهاية المطاف تعبير آخر عن فشل فرض هذه النهائيات المذكورة. وهذا يعادل موت هذا النموذج، وهو أمر غير محتمل: أما وقد انتصرت أميركا في الحرب الباردة، فينبغي القبول بتنصيبها وليّ أمر العالم والبشرية، تفرض قواعد السلوك والحياة وتفرض تفوّقها، ليس النسبي وإنما المطلق، بمعنى ألا يكون هناك أي وهم أو إحتمال بإمكانية تفوّق بلد آخر حتى ولو كان من الطينة الرأسمالية نفسها. فكيف لو كان هذا الآخر هو الصين أو الهند أو روسيا، أو حتى أوروبا؟

لكنّ التفوّق المطلق لأميركا يبدو في دائرة الشك من جراء الدينامية الموضوعية التي تكمن في أساس التطور المتفاوت في العالم. وإذا كانت أوروبا مرتبطة بعرى محددة مع أميركا، وفي نهاية المطاف محكومة بهذه العرى، فلا يبدو أن الصين التي يعد بعض الخبراء بتفوقها على أميركا بحجم الناتج المحلي في وقت قريب، في نفس وضعية أوروبا، وتبقى منافساً حتمياً لأميركا، وربما كانت كذلك الهند وروسيا، على الرغم من منحى التطور الذي أخذته. من هنا ترى الولايات المتحدة أن حوارها التاريخي الحقيقي في وقت قريب من هذا القرن هو مع الصين بالدرجة الأولى. وما تقوم به الآن هو من قبيل تحقيق النقاط، وتسعى لأن يصبّ في مسار تحويل التفوق الأميركي إلى قانون، حتى لا يدفن التقدم الغربي ومثله الليبرالية، كما يعتقد مهندسو هذا النموذج.

من ناحية أخرى تعتبر هذه الحرب مطلباً ضرورياً لنمط الاستهلاك الغربي والأميركي بشكل خاص، الذي يعتبر تأمينه معيار النجاح والفشل للإدارات الأميركية. ويتذكر جورج بوش الإبن كيف أن المستهلك الأميركي عاقب والده في مطلع التسعينات بعد انتصاره على العراق. لكن الصدف شاءت أن تتزامن الأزمة الاقتصادية الدورية مع ذلك الانتصار فعوقب جورج بوش الأب في الانتخابات الرئاسية.

لكن المسألة اليوم تتجاوز الأزمة الدورية. إنها من ناحية خطر المنافسين الجدد المحتملين المهددين للتفوق الاقتصادي الأميركي - الصين، الهند، وروسيا. أضف إلى ذلك دخول التطور الإقتصادي الغربي أزمة طويلة الأجل  ناجمة عن الطور الإنحداري لدورة كوندراتيف والذي يفترض أن يستمر حتى أواسط العشرينات من القرن الحالي.

إن هذا الانحدار يشهد على استنفاذ عوامل النمو التكثيفي، وهو نمط يقوم على إنتاج نمو أكبر دون التوسع في استخدام موارد إضافية وقد ساد على مدار الثلث الأخير من القرن الماضي. وهذا بدوره يضع نمط الإستهلاك الغربي في دائرة الخطر، مما يعني ضرورة البحث عن مخارج من هذا المأزق.

بكلام آخر، إصطدم النمو في الغرب بحدوده عندما وصل الأسلوب التكنولوجي للإنتاج الى سقفه الأعلى، وبات الإبداع يقتصر على النسخ وليس على خلق الأفكار والمبادئ التكنولوجية الجديدة: لقد دخل الغرب أزمة ذهنية وتعرقل الإبداع، وساد ميل لخلق عالم افتراضي منقطع عن المعارف الجديدة، وعن الاقتصاد الحقيقي، مما يقفل الباب أمام إيجاد مخرج من هذا المأزق. ويبقى طريق وحيد هو النمط التوسعي للنمو وما يفترضه من إعادة اقتسام للموارد الطبيعية في العالم.

وما زاد الأمر تعقيداً هو أن المؤسسات البحثية والنوادي الغربية باتت تتحدث بجدية عن محدودية الموارد الطبيعية في الأرض، وأن بعضها يشارف على النفاذ. وهذا يعني أن هذه الموارد غير كافية لتأمين الإزدهار للجميع. وبالتالي فإن الغرب يبدو في هذه الحالة أمام خيارين: فإما التخفيف من استهلاك هذه الموارد الطبيعية وبالتالي تخفيف الإستهلاك الفردي في الغرب (يعني إجراء تصحيحات في الشهية) وهذا أمر مستحيل، وإما استبدال هذه الموارد بمواد إصطناعية يكون إنتاجها نتاج خرق تكنولوجي، تبيّن أن الغرب غير مؤهل لتحقيقه. ولذا بقي خيار آخر هو وضع اليد على موارد العالم، أي مصادرة هذه الموارد من شعوبها لإنقاذ نمط الحياة للمليار الذهبي الذي لا رجعة عنه.

لكن هذا المخرج يستدعي سياسة إمبريالية جديدة لتحقيق هذا الهدف لصالح النخبة المختارة، وهي سياسة تحتاج للتبرير النظري لأنها كانت مرفوضة حتى الأمس القريب، ليس من قبل اليسار فحسب، وإنما أيضاً من قبل القوى الليبرالية. لذا يجد الغرب ضالّته في الداروينية الإقتصادية- الإجتماعية.

يتلخص مضمون هذه الإيديولوجيا في اعتبار آليّات السوق الحرة آليّات وحيدة في تنظيم الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وما يعنيه ذلك من إلغاء كل أشكال الدعم والمساعدة للمشاريع الإقتصادية والإجتماعية. وعليه فإن السوق وحدها تقرر جدارة وأهلية المشروع والفرد بالحياة. ولقد طبّقت هذه الأفكار سابقاً على المشاريع المتعثرة، إلا أنها تعمم الآن لتطال الأفراد والمجموعات الإجتماعية التي يفرض عليها منطق التطور الاقتصادي والاجتماعي اللجوء لطلب المساعدة. هكذا تقسّم الأمة الى من هم جديرين أو غير جديرين بالحياة. وتدخل في هذه الإيديولوجيا السياسات الإجتماعية والنقدية والمالية التي تفرضها المؤسسات الدولية على الدول النامية، كشرط لتقديم المساعدة لها، وكذلك خصخصة المشاريع الحكومية. وتعتبر الخصخصة أحد أهم الشروط المساعدة للتوسع الإمبريالي بهدف وضع اليد على الموارد الطبيعية في مختلف بلدان العالم.

 

لقد تمخّض البحث في الغرب لحل العجز عن استراتيجية خاصة تتضمن:

- تسهيل وصول الاحتكارات الغربية إلى الموارد الطبيعية في البلدان النامية..

- إحتكار استطلاعها والتنقيب عنها وفرض تقسيم دولي للعمل يحول دون استخدامها صناعياً خارج دائرة المليار الذهبي ويلغي الطابع الصناعي للبلدان النامية.

- إجبار البلدان المنتجة للموارد الطبيعية على فتح أبوابها أمام الرأسمال الغربي.

- إلغاء ملكية الدولة للموارد الطبيعية وفرض تشريعات تحول دون إمكانية إستخدام هذه الموارد التي تباع بالأسعار العالمية.

- تحويل للإستثمارات والأدمغة إلى الخارج، مما يجعل المنتج المحلي خارج التاريخ، وترفع شأن المرتبط بالأعمال في الخارج.

هذه الستراتيجية تعبير عن جوهر نموذج المجتمع المفتوح الذي يسعى الغرب لفرضه في كل العالم، كنموذج لبيئة الإنتقاء السوقي الطبيعي للبشر، نموذج يقيّم كل شيء فيه بالنقود، من الموارد الطبيعية الى الضمير والسيادة والقرارات الوطنية. وعلى هذا النحو تمّت صياغة الآليات لمصادرة الموارد الطبيعية من «غير الجديرين» بامتلاكها، وتأمين تدفقها في أيدي الجديرين باستخدامها: في البداية يتّم تخصيص الموارد الوطنية وفتح الأبواب، ومن ثم تؤمن آلية السوق تهجيرها الى الخارج بواسطة الأسعار العالمية التي تجعل الصناعة الوطنية عاجزة عن شراء هذه الموارد.

لكن العقلية الإستعمارية الجديدة تعرضت «لصدمة وعي» جديدة دفعتها للتساؤل حول شرعية دفع أثمان هذه الموارد لمن لا يستحق استخدامها، في وقت يمكن مصادرتها بالقوة، عبر إبعاد هؤلاء «المتخلّفين» عن منابع النفط ومصادر الخامات الأخرى. وتفتقت هذه العقلية عن إقامة أنظمة عميلة حامية لهذه الخامات تقودها نخب مأجورة معزولة عن شعبها، تسهّل مصادرة الموارد مقابل نسبة مئوية معينة تبعدها نهائياً عن المصالح الوطنية. إن نجاح أميركا في هذه المهمة يتطلّب تفجير حرب أهلية داخل كل بلد وعلى الصعيد العالمي بين الجديرين وغير الجديرين.

إلا أنه من الصعب إقناع الرأي العام الغربي بشرعية هذه الحرب من أجل النفط أو بواسطة التحريض لإنقاذ نمط الإستهلاك. لذلك أطلق على هذه الحرب أسماء مستعارة من نوع صراع الحضارات، وصراع الحضارة ضد الهمجية، والحرب على الإرهاب، ونزع أسلحة الدمار الشامل. ومع ذلك فالرأي العام الغربي لم يعد غير مبال تجاه واقع الصدف التي لا تولد إرهاباً وأصوليات وأخطاراً وأسلحة دمار شامل إلا في محيط آبار النفط ومصادر الموارد الطبيعية. وبات واضحاً ان صياغة نظرية محور الشر قد استندت الى تزايد الأهمية النسبية للموارد الطبيعية في مناطق العالم وتزايد عدم القدرة على تحمل المسؤولين الأميركيين لوجود سكان في هذه المناطق.

إن الهستيريا العنصرية التي تسعّرها أميركا بوجه شعوب العالم قاطبة بدأت تأخذ شكلها الأكثر فجاجة. فقد تبيّن أنه داخل نادي النخبة تسود تراتبية يقف في أعلاها الشعب الأميركي المختار تليه «أوروبا الجديدة» ومن ثم «أوروبا القديمة» التي بدأت تدفع ثمن تواطئها مع أميركا، كما دفعته يوم تنازلت أمام هتلر قبيل الحرب العالمية الثانية. الأمر يتكرر اليوم مع جورج بوش الساعي لإعادة اقتسام العالم وموارده بالقوة، حيث لن تحصل أوروبا على شيء. وتقف في أسفل الهرم مليارات من البشر تصنّف في خانة الأعداد الفائضة من وجهة نظر السوق،والتي ينبغي التخلص منها.

لقد خططت أميركا لإقامة النظام العالمي الجديد القائم على نظريات المجتمع المفتوح والداروينية الإجتماعية والمليار الذهبي إلى ما هنالك، لذلك سعت وما زالت لإعادة تجميع القوى في ناد خاص هو نادي النخبة من أجل تأمين العمل لآلية الانتقاد السوقي «الطبيعي». ومثل هذا الأمر لا يمكن أن يتحقق إلاّ على أيدي النوع الرديء من البشر في الغرب، لأن حاملي القيم الإنسانية هناك لا يمكن إلاّ أن يعوا مخاطر هذا النهج. وهذا ما يقلّص القاعدة الإجتماعية للنظام العالمي ويوسّع دائرة المتضررين منه ويجعله أسير قوة بوليسية عارية وغطاء لديكتاتورية الأقلية.

لذلك تكتسب الحرب التي تخوضها أميركا طابع عملية تطهير طبقي للعالم من العناصر «غير المتحضّرة» والتي ما زالت، حتى بعد انتهاء الحرب الباردة، تتمتع ببعض عناصر الحماية الذاتية، مثل الدولة القومية والجيش والأيديولوجيا والسياسات الوطنية. لذا ترى أميركا أن مهمتها تكمن في نزع أسلحة الحماية الذاتية لهذه الشعوب من أجل كشفها وتعريتها في الصراع. فهذه الأيديولوجيا موجّهة حتى ضد دول رأسمالية. فأميركا لم تعد بحاجة لرأسماليين متفوقين في الأطراف بمواجهة إشتراكية قادمة. إن ما تحتاجه هو التخلص من الأفواه الزائدة المهددة بالتهام الموارد الطبيعية.

وإذا كان الاتحاد السوفياتي قد فرض على أميركا وحلفائها سلوكاً يراعي حقائق العصر، فإن انهياره أخرج الروح الاستعمارية الغربية من القمقم وفتح الباب أمام عملية ثأر يقوم بها الرأسمال المعولم لكل التنازلات التي قدّمها خلال القرن العشرين. إن أميركا تصوغ مطلبها بكل وضوح: إما أن يصبح هذا العالم أميركياً وإلا فليذهب الى الجحيم. والترجمة الملموسة لهذا التحذير تكمن في إقامة ديكتاتورية القطب الواحد وإجبار العالم على تقبّلها. وهي ديكتاتورية، كسلطة للأقلية، تقوم على الخوف المميت: ترهيب النخب في الغرب وبلدان العالم الأخرى بتهديدات خطر كبير وتقديم وعد بحمايتها من هذا التهديد. ويدخل في السيناريو تخويف النخب المحلية من شعوبها وإقناعها بالتحرّر من هذه الكتل الضخمة. كما يدخل فيه زيادة عدد الدول ـ الرهائن المعتمدة، كما والنخب، على الدعم الأميركي. وبالتالي تتشكل القنوات الفعّالة لجعل المعزولين - دولاً ونخباً - يعتمدون أكثر فأكثر على الولايات المتحدة، ليكونوا بالمقابل قنوات نقل التأثير الأميركي الى بلدانهم ونقل خيرات بلدانهم الى أميركا. تلك هي الأمركة التي يدور الحديث بشكل واسع عنها في الآونة الأخيرة: إقامة الديكتاتورية الأميركية ـ عبر افتعال الصدام بين النخب وشعوبها، بين البلدان المختلفة وإشاعة الفوضى في العالم ـ أي تصدير عدم الاستقرار الى مختلف مناطق العالم. في هذا السياق تشكل أميركا حزب الثأر والانتقام في العالم من قوى الرأسمال المعولم في الغرب والنخب المتعاملة معها في الأطراف، مستلهمة أفكار «توافق واشنطن» التي تجسّد الليبرالية المتطرفة و التي أصبحت الكتاب الأبيض للمؤسسات الدولية في تطبيق آلية الانتقاء السوقي «الطبيعي» الذي يرفع «الجديرين» ويسقط المتعثرين دون أن يلقي مسؤولية ذلك على هذا الحزب أو ذاك. وتقوم النخب المحلية بمهمتها بإشعال الحروب المحلية والأهلية في بلدانها. وكلما فرّط هؤلاء بالسيادة والموارد والحدود والكرامة الوطنية تزايدت حاجاتهم للدعم الخارجي. ويتحولون الى جالية إقتصادية ترحل في العالم من مكان لآخر بحثاً عن الربح، وتمثّل بيئة عولمية جاهزة لطلب الدعم من الخارج. إنهم مهاجرون في أوطانهم يبحثون عن وطن آخر. وما يميز هذه النخب تجاه الإمبريالية هو أن الأخيرة لا تستطيع خوض أيّ حرب من دون مساعدة هذه النخب في تسفيه شعوبها والحطّ من قدرها وإظهار عدم جدارة هذه الشعوب في إدارة أرضها ومواردها، واستعدادها للمشاركة في أي سلطة يضعها المستعمر.

إن هذه الحرب العالمية الثالثة تتمخض اليوم عن إعادة استعمار غالبية مناطق العالم الغنية بالموارد الطبيعية حيث سرّعت تنفيذ مخططها منذ مطلع التسعينات في المدى السوفياتي السابق ـ آسيا الوسطى ـ مروراً بأفغانستان وصولا الى العراق وكل منطقة الخليج. من أجل ذلك بالتحديد تقوم بنزع أسلحة الحماية الذاتية لهذه البلدان تمهيداً لمصادرة مواردها، وليس لدرء خطر مزعوم([4]). إن أميركا تقوم بما أسمته «تصحيح الخطأ التاريخي» المتمثل بمنح شعوب آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية استقلالها، مما سمح لها بامتلاك هذه الأسلحة لحماية استقلالها ومواردها، وسمح لبعضها بخرق التقسيم الدولي للعمل بمساعدة الإتحاد السوفياتي فقامت بعمليات تصنيع جيدة وتطوير مجالات الأبحاث.

 

لقد بات واضحاً أن ستراتيجية أميركا في هذا المجال تتمثل بأسلوبين لإعادة استعمار العالم:

يتمثل الأسلوب الأول في الاعتماد على النخب المحلية في فتح أبواب بلدانها (عبر إقامة المجتمع المفتوح) أمام الرساميل الغربية لوضع اليد عليها، وعبر خصخصة الموارد من قبل النخب كمرحلة أولى ثم مصادرتها من الأجانب في مرحلة ثانية. ويتحقق ذلك عبر حرب أهلية باردة وأحيانا ساخنة بين هذه النخب وشعوبها التي تحرم من كل ما حققته من مكاسب. بهذا المعنى يصبح المجتمع مفتوحاً بمعنى فتح الأبواب أمام تدخل الأجنبي بكل الأمور. أما الأسلوب الثاني وينطبق على البلدان التي تحكمها نخب وطنية مرتبطة ببلدانها وشعوبها وتحمي مصالحها. في هذه الحالة تساق مختلف أنواع التهم بحق هذه البلدان من أجل إعلان الحرب عليها وإنزال الضربات بها، ومن أجل نزع سلاحها ومصادرة مواردها وتغيير الأنظمة فيها.

إن هذه الآلية لا تتوقف عند حلقة تدخل وتغيير واحدة بل يمكن أن تكون متعددة الحلقات والمراحل في البلد الواحد، يجري خلالها تصفية غير المرغوب بهم من النخبة المتعاملة ذاتها.

ان «تصحيح الخطأ» هذا يعيد الأمور إلى ما ينبغي أن تكون عليه من وجهة النظر الأميركية في التقسيم الدولي للعمل: للغرب طليعة التطور والوظائف العالية وما يمليه ذلك من مستوى حياة رفيع، وللأطراف دور التابع الذي يتمتع بما يترك له من فتات الموارد. هكذا تكون الحملة الدارونية الاجتماعية قد حققت غرضها استعداداً للمنازلة الفعلية مع الصين، وتتحدد الأطر الدقيقة لنادي العولمة «المشروع». أما إذا أردنا تلخيص مضمون هذه الستراتيجية الخبيثة فيمكن القول إنها عملية احتكار شروط الحياة على الكرة الأرضية لضمان ازدهار وتقدم جزء بسيط من البشرية - المليار الذهبي - على حساب مليارات البشر، وهذا هو الشكل الجديد للفاشية.

تلك هي الخلفية التي عليها بنيت الستراتيجية الأميركية لإعادة ترتيب الأوضاع في العالم، وتلك هي الحوافز الكامنة وراء الحروب التي فجرتها أميركا حتى الآن. وبالتالي فالمسألة ليست حقوق الإنسان ولا الإرهاب ولا أسلحة الدمار الشامل. إنها مشاكل قديمة جداً تعرفها أميركا. وليست الديمقراطية في العالم هي محرك الآلة العسكرية الأميركية. فإدارة جورج بوش داست هذا المفهوم وأوضحت كرهها له عندما وصف رامسفيلد فرنسا وألمانيا والدول الأوروبية الأخرى المعترضة على الحرب ضد العراق بأوروبا القديمة، وبريطانيا وإسبانيا والموافقين على هذه الحرب بأوروبا الجديدة. علماً أن ما سمّي بأوروبا القديمة تصرّفت ديموقراطياً بالخضوع لإرادة شعوبها المعادية للحرب على العراق، بينما تلك الجديدة تصرفت بعكس رغبة شعوبها المعترضة أيضاً على الحرب. كما أن وولفويتز إتهم الجيش التركي بأنه لم يلعب الدور القيادي الفعلي الذي كان متوقعاً منه عندما لم يلجأ لإجبار الحكومة للدوس على إرداة الرأي العام والسماح للقوات الأميركية باستخدام أراضيها للقيام بعمليات عسكرية ضد العراق. علماً ان هذا «النسر» الأميركي يعتبر نفسه من الموافقين على نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط. أما جورج بوش فإنه لم يجد حرجاً من الاستخفاف بالأمم المتحدة وإبعادها عن تقرير الموقف من العراق باعتبارها مكاناً للمجادلات العقيمة فقط. في هذا السياق ينبغي فهم المشروع الأميركي «الشرق الأوسط الكبير»، الذي جاء لتحقيق عدة أهداف في آن واحد.

وبالانتقال من العرض العام لنتائج تفحص الستراتيجية الأميركية في العالم المعاصر بدءاً بمبدأ التدخل الخاص بـ «النظام العالمي الجديد» (جورج بوش الأب) الى مبدأ «التدخل الإنساني» (بيل كلينتون) وصولاً الى زمن «الحرب على الإرهاب»، ندخل في البحث الملموس للمخطط التنفيذي لهذه الستراتيجية في الشرق الأوسط.

لا تخفي الإدارة الأميركية أن ما يقلقها هو أن يلتقي العالم الإسلامي (العالم العربي بالدرجة الأولى) مع الصين. وهذا ما تعبّر عنه دراسة وضعها مركز القرن الأميركي الجديد في نهاية نيسان 2003، الذي يعدّ لصالح الإدارة الأميركية أهم التوجهات الستراتيجية المتفقة مع عقيدة الهيمنة الأميركية التي يتبناها جورج بوش. وتركز هذه الدراسة على طريقة تنفيذ عقيدة بوش عملياً والتعامل مع التحديات التي تواجهها إدارته في مأسسة دور واشنطن بصفتها القطب الأعظم في العالم. وهو في الواقع خطاب متقارب مع نصّ استراتيجية الأمن القومي التي وضعتها إدارة بوش في العام .2000 وترى الدراسة «ان التطبيق العملي لعقيدة بوش بلغ ذروته في صدّ الإسلام المتطرف وفي احتواء الصين الشعبية وتطويقها لمنع نهوضها وتحولها الى موقع القوة العظمى. ولذا يصبح من الطبيعي منع التعاون الستراتيجي الرسمي أو القائم كأمر واقع بين أي دولة معادية لواشنطن وبين بكين»([5]). وترى أيضاً أن الإنتصار في أفغانستان والعراق لا يمثل سوى خطوتين أوليتين في عملية واسعة النطاق من أجل إصلاح السياسة المنهارة في الشرق الأوسط الكبير.

وتبشّر الدراسة بأن الولايات المتحدة ستكّف عن اعتبار الأنظمة العربية المستبدة والضعيفة وقادتها شركاء استراتيجيين وموثوقين. أما ما يطال الصين فترى الدراسة إمكانية احتواء الصين ومساعدتها للانتقال من الشيوعية الى الليبرالية، ومن دولة خارج النظام الدولي الى دولة ترضى العيش في نظام دولي ليبرالي. ولا يخفي أصحاب الدراسة تخوّفهم مما يسمونه تسامح الصين مع كوريا الشمالية. كما يتخوّفون من محاولات بحث الدول الإسلامية عن حلفاء أقوياء لهم بوجه الغرب لأن قيام حلف بين هؤلاء والصين يعقّد عملية فرض السلام الأميركي في العالم. ولذا على أميركا أن تسعى لمنع حدوث هذا التحالف.

وتنصح الدراسة بإنشاء مؤسسات دولية جديدة من أجل مأسسة نظام القطب الواحد الأعظم بخلق تحالفات مناسبة، لأن المؤسسات الدولية الراهنة لا تلبّي الحاجة بل تشجع الإرهابيين.

 

المشروع الأميركي "للشرق الأوسط الكبير"

في ضوء هذا العرض ليس صعباً الإستنتاج أن هكذا رؤية للعالم وللأمن الأميركي تتطلّب إعادة هيكلة النظام في الشرق الأوسط في جميع مكوناته: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية - التربوية. إن إقامة نظام جديد في الشرق الأوسط خاضع للولايات المتحدة يشكل حاجة ملحة لإدارة تضع نصب عينيها مواجهة قوى عظمى في آسيا. من هنا ولد المشروع الأميركي المتعدد الأهداف كتعبير عن عدم رضى الإدارة الأميركية عن نوعية الخدمات التي تقدمها الأنظمة الراهنة، بل وتحولها الى عقبة أمام تنفيذ الستراتيجية الأميركية.

أطلق المشروع بعد احتلال العراق، وقبله احتلال أفغانستان، الاحتلالان اللذان تبعا أحداث الحادي عشر من أيلول. إن فلسفة هذا المشروع تتلخص في أن المنطقة العربية منطقة مأزومة في تطوّرها، حبلى بالأزمات، تولّد الإرهاب وبالتالي فإنها تشكل خطراً على الأمن والازدهار للمجتمع الدولي ولمجموعة الثماني بشكل خاص. وقد اعتمد واضعو المشروع على تقريري الأمم المتحدة حول التنمية البشرية العربية للعامين 2002 و2003، اللذين حددا النواقص الثلاثة (الحرية والمعرفة وتمكين النساء) التي تعاني منها البلدان العربية، واعتبار هذه النواقص مسؤولة عن صعود أفكار التطرف والإرهاب، أي أن أسباب هذه الظواهر محض داخلية لها علاقة بغياب الديمقراطية.

ويتوسع المشروع في توصيف النواقص والمشاكل الإجتماعية للبرهنة على تقرّح الوضع العام في المنطقة (إذ بدون هذه المنهجية ـ منهجية التسفيه - لا يمكن التأسيس لطرح البدائل المطلوبة لأصحابه). بعد ذلك يخرج المشروع بطرح البدائل: فإما إستمرار الوضع على ما هو عليه وإفراز الكوارث والمخاطر، وإما سلوك طريق الإصلاح، إستجابة لنداءات التقريرين المذكورين. وقد أعد المشروع لطرحه في قمة الثماني التي عقدت في "سي آيلاند" في حزيران 2004 (وهذا ما حصل فعلاً) للقيام بمبادرة لصياغة شراكة بعيدة المدى لتشجيع الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي في المنطقة على أن تتضمن الأولويات التالية:

- تشجيع الديمقراطية والحكم الصالح.

- بناء مجتمع معرفي.

- توسيع الفرص الإقتصادية.

أما أولوية الإصلاح فهي تنمية المنطقة "حيث أن الديمقراطية والحكم الصالح يشكلان الإطار الذي تتحقق داخله التنمية، والأفراد الذين يتمتعون بتعليم جيد هم أدوات التنمية، والمبادرة في مجال الأعمال هي ماكينة التنمية".

ويكتشف المشروع فجأة أن الديمقراطية والحرية ضروريتان لازدهار المبادرة الفردية لكنهما مفقودتان في الشرق الأوسط (دون ذكر لأسباب هذا الفقدان). ولذا فإن مجموعة الثماني مستعدة لدعم الإصلاح الديمقراطي في المنطقة عبر مبادرة الإنتخابات الحرة والزيارات المتبادلة للنواب والتدريب على الصعيد البرلماني وإنشاء معاهد التدريب على القيادة خاصة بالنساء، والمساعدة القانونية للناس العاديين، وبرامج تدريب الصحفيين ودعم وسائل الإعلام المستقلة وتشجيع الجهود المتعلقة بالشفافية ومكافحة الفساد، وتشجيع قيام منظمات المجتمع المدني وزيادة تمويلها.

أما المحور الثاني للإصلاح فهو بناء مجتمع المعرفة. فالمعرفة هي الطريق الى التنمية والانعتاق (كما يقتبس المشروع عن تقرير التنمية البشرية العربية 2002)، «في حين أخفقت منطقة الشرق الأوسط الى حد بعيد في مواكبة العالم الحالي ذي التوجه المعرفي». يشرح المشروع أن الفجوة المعرفية ونزف الأدمغة المتواصل تشكل تحدياً لآفاق التنمية فيها. ولذا يقترح على مجموعة الثماني تقديم مساعدات لمعالجة تحديات التعلم في المنطقة عبر محو الأمية بالتعاون مع برامج الأمم المتحدة وتشكيل فرق محو الأمية وتعويض النقص في الكتب التعليمية وإنشاء مدارس الإكتشاف وإصلاح التعليم والإهتمام بالتعليم عبر الإنترنت وتشجيع تدريس إدارة الأعمال.

ويتضمن المحور الثالث توسيع الفرص الإقتصادية عبر تقليد أسلوب الإصلاح في الدول الشيوعية السابقة لإطلاق قدرات القطاع الخاص في المنطقة، خصوصاً مشاريع الأعمال الصغيرة والمتوسطة، وتشجيع نمو طبقة متمرسة في مجال الأعمال. ويطلق المشروع مبادرة مالية تتضمن إقراض المشاريع الصغيرة والمتوسطة وإنشاء مؤسسة المال للشرق الأوسط وبنك تنمية الشرق الأوسط الكبير، وتأسيس شراكة من أجل نظام مالي أفضل هدفه إطلاق حرية الخدمات المالية وتوسيعها في عموم المنطقة وذلك بالتركيز على:

- تنفيذ خطط الإصلاح التي تخفّض سيطرة الدولة على الخدمات المالية.

- رفع الحواجز عن التعاملات المالية بين الدول.

- تحديث الخدمات المصرفية.

- تقديم وتحسين وتوسيع الوسائل المالية الداعمة لإقتصاد السوق.

- إنشاء الهياكل التنظيمية الداعمة لإطلاق حرية الخدمات المالية.

 

وفي مجال التجارة يعد المشروع بإطلاق مبادرة لتشجيع التجارة في الشرق الأوسط الكبير تتألف من العناصر التالية: الإنضمام الفعلي لمنظمة التجارة العالمية وتسهيل التجارة، إقامة المناطق التجارية ومناطق رعاية رجال الأعمال، وأخيراً تأسيس منبر الفرص الاقتصادية للشرق الأوسط الكبير لتشجيع التعاون الإقليمي، يجمع مسؤولين كباراً لمناقشة القضايا المتعلقة بالإصلاح الاقتصادي، على غرار نموذج رابطة آسيا - المحيط الهادئ للتعاون الإقتصادي.

خلاصة الأمر أن أصحاب المشروع يرون في تحقيق الإصلاحات المقترحة سبيلاً للتنمية في المنطقة وتوسيعاً للديمقراطية وهو ما يشكل بيئة معادية للإرهاب والتطرف.

ومن المفيد، قبل عرض ردود الفعل على المشروع، التوقف عند مسألتين: مسألة تاريخية المشروع ومسألة توقيت إطلاقه. في ما يطال المسألة الأولى يمكن القول أن هذا المشروع جاء محصّلة مركزة لأفكار واقتراحات وتصريحات طاقم إدارة جورج بوش، التي جرى تداولها منذ استلامه السلطة وحتى منذ إدارة والده، حول فرض الديمقراطية على المنطقة كوسيلة من وسائل الحرب على الإرهاب وإعادة رسم خارطة المنطقة.

ففي كانون الأول من عام 2002 تحدث ريتشارد هاس مدير قسم التخطيط السياسي في وزارة الخارجية عن نوايا أميركا لتغيير الأنظمة العربية والإسلامية لفرض الديمقراطية وذلك عبر وضع برنامج سري لتشجيع الديمقراطية في العالم الإسلامي وفرضها بشكل تدريجي، وبالدعم المالي للحكومات كتشجيع النموّ الإقتصادي، وقبول ديمقراطية توصل حزباً إسلامياً للسلطة. وفي 12 كانون الثاني أعلن كولن باول مبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط التي تتوخى تشجيع المشاركة الشعبية في العملية السياسية ومساعدة المؤسسات التعليمية التربوية في سائر أرجاء الشرق الأوسط ومكافحة الأميّة ومؤازرة حقوق المرأة ودعم القطاعين العام والخاص في العالم العربي على تحقيق الإصلاحات الاقتصادية والإستثمار ودفع عملية التفاهم والشراكة بين شعب الولايات المتحدة والشعوب العربية.

وفي 30 نيسان من العام 2003 تبنّى جورج بوش خارطة الطريق لحل النزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي. وفي آب من العام نفسه كتبت كونداليزا رايس مستشارة الأمن القومي عن تغيير الشرق الأوسط. ثم تحدث بوش في 6 تشرين الثاني من 2003 عن استراتيجية تحرير الشرق الأوسط.

وفي نهاية كانون الثاني 2004 شرح ديك تشيني مشروع الإصلاح في الشرق الأوسط الكبير. وبعد ذلك أعلن كولن باول أن هذه العملية تهدف لتحديد شكل العالم الإسلامي. وأخيراً في شباط 2004 جرى تسريب مشروع "الشرق الأوسط الكبير" الى "جريدة الحياة" بصفته مشروعا ستدرسه مجموعة الثماني في حزيران 2004.

أما المسألة الثانية فهي مسألة توقيت الإعلان عن المشروع. فالملفت للنظر هنا أن الإعلان جاء في وقت حرج لإدارة الرئيس الأميركي: فاحتلال العراق خلق مقاومة شرسة ومؤذية للقوات الأميركية من الناحية المادية والبشرية، وحفّز النقاشات في العالم حول شرعية الحرب وتبريراتها التي سقطت واحدة تلو الأخرى، وما تركه ذلك من انعكاسات سلبية على الإدارة الأميركية داخل أميركا؛ ثم أن خارطة الطريق التي اقترحتها أميركا لحل النزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي فشلت فشلاً ذريعاً وبالتالي فقدت الإدارة الأميركية مصداقيتها أمام حلفائها من الأنظمة العربية. الى ذلك أراد بوش من مشروعه التخفيف من الإرتباك الذي عانته حملته الإنتخابية في ضوء الإنتقادات لحربه على العراق. كما أراد من المشروع أن يستبق القمة العربية التي كان ينبغي أن تعقد في تونس ليؤسس لانقسامات بين أطرافها. إن إطلاق المشروع في هذا الوقت توخى صرف اهتمامات العرب والعالم عن مشاكل العراق وفلسطين عبر إطلاق الوعود بإنجازات محتملة تعوّض عن نواقص هذه المشاكل، وتعد يهود أميركا بمواصلة إدارة بوش الإهتمام بإسرائيل، والإيحاء لعرب أميركا أن الإدارة الأميركية لا تتعاطى مع بلدانهم بالحروب فقط بل بالمساعدات والإصلاح أيضاً.

 

 ردود الفعل العربية على المشروع الأميركي

أثار المشروع الأميركي ردود فعل متعددة، كان أولها رد الفعل العربي الرسمي الرافض للمشروع كونه محاولة تدخل من الخارج وفرض أطر غريبة على العرب. وكان أمين جامعة الدول العربية أول من أعرب عن موقف الرفض للمشروع، وتلاه وزير الخارجية السعودي ثم الرئيس المصري فوزير الخارجية اللبناني. وقد دعا عمرو موسى البلدان العربية الى التعامل بشكل جماعي مع التطورات الخطيرة التي تشهدها البلدان العربية لأنها عاجزة عن  مواجهتها بشكل منفرد. أما الرئيس المصري فقد اعتبر أن البلدان العربية تمضي على طريق التنمية والتحديث والإصلاح بما يتفق ومصالح شعوبها وقيمها وتلبية لحاجاتها وخصوصياتها وهويتها العربية وعدم قبولها فرض نمط إصلاحي على الدول العربية والإسلامية من الخارج. أما وزير الخارجية اللبناني فقد شبّه المشروع باللباس الجاهز  المفروض من الخارج. لكن المفارقة تكمن في أن الرفض طال جانباً وحيداً هو جانب الإصلاح السياسي ونشر الديمقراطية. أما الجوانب الاقتصادية والتربوية والتجارية والمالية فإنها لم تلق الاعتراض نفسه باعتبار أن الجزء الأساسي منها قيد التنفيذ منذ زمن بعيد، ولا يتعارض مع مصالح العديد من الحكام.

لكن التشجيع الأوروبي، والفرنسي خاصة، للدول العربية على التعاطي الإيجابي مع هذه الدعوات للإصلاح وجد تعبيره في الوثيقة النهائية للقمة العربية الأخيرة التي أقرّت عمليا بروحية المشاريع الغربية.

وأنتج المشروع ردود فعل عديدة على مستوى القوى السياسية والفكرية، تراوحت بين اعتباره المشروع الإصلاحي الوحيد المتاح للعالم العربي، الى الردود المعارضة والرافضة لهذا السبب أو ذاك. وقد جاءت ندوة مكتبة الإسكندرية لتشكّل نوعاً من الرد المختلط بين الرسمي والخاص، حيث شكّلت نوعاً من الرد المتكامل وعرضت مشروعاً إصلاحياً يطال مختلف الجوانب، وهي عقدت تحت عنوان: «مؤتمر قضايا الإصلاح العربي: الرؤية والتنفيذ». وبمعزل عن تقييم المسار والنتائج التي خلصت اليها الندوة ينبغي الإعتراف أنها حدث هام حتى ولو جرت هندسته تحت الطلب وبالسرعة القصوى للتمشي مع المبادرات الإصلاحية نفسها التي هي قيد الدرس.

في المجال الإقتصادي لا يعثر القارئ على أي جديد لأن الندوة كررت الطرح الليبرالي للموضوع، وهو الطرح ذاته الذي يعبّر عنه المشروع الأميركي: أنه مجمل التفسيرات للواقع الإقتصادي التي قدمتها المؤسسات الدولية وجعلتها أساساً للإقتراحات التي حوّلتها لبرامج فرضتها على البلدان النامية، وبالتحديد برامج التثبيت النقدي والتكيّف الهيكلي وما تفترضه من إلغاء لدور الدولة وتحرير المجالات الإقتصادية وإعتماد السوق آلية تنظيم وحيدة وإنجاز الخصخصة.

أما في المجال الإجتماعي فقد دعت الندوة الى صياغة عقد إجتماعي عربي جديد بين الدولة والمواطن في المجتمع العربي. وتناولت المدخل الثقافي لقضايا الإصلاح العربي منطلقة من نقد الوضع الثقافي والدعوة لإعادة النظر في العديد من المفاهيم وإخضاع المؤسسات الثقافية القائمة لعملية إعادة هيكله ورفع وصاية الدولة عن عمليات الإبداع وإطلاق حرية تأسيس المنظمات الثقافية المدنية من دون قيود أو شروط. ورأت الندوة أن أولويات الإصلاح الثقافي ينبغي أن تركز على سيادة التفكير العقلاني العلمي بتشجيع مؤسسات البحث العلمي وإطلاق حريات المجتمع المدني وتشجيع حركة الإصلاح الديني واسترجاع طابعها الحضاري التنويري. كما دعت الندوة لإشاعة ثقافة الديمقراطية في مناهج التعليم والإعلام ومقاومة نزعات الهيمنة الذكورية، كما ركزت على موضوع الإعتماد المتبادل في الثقافة العربية بالتركيز على ثقافة الشباب في العالم العربي.

واحتل التوجه نحو مجتمع  المعرفة وإصلاح التعليم في العالم العربي حيزاً هاماً في الندوة، فجرى التركيز على مسألة توفير المناخ المساند لمجتمع المعرفة والمتكوّن من اقتصاد منفتح وسوق مستقرة، ومن مستقبل يبنيه الجميع الى ثقافة جودة وانفتاح. وكما هو متوقع فقد حظيت المرأة باهتمام كبير في هذه الندوة.

وكان الإصلاح السياسي في مقدمة المسائل قيد البحث حيث تناول إصلاح المؤسسات والهياكل: السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية. واعتبرت الندوة أنه لا يمكن الحديث عن الإصلاح والديمقراطية من دون توسيع حرية الإعلام والصحافة. وفي جوهر الإصلاح تدخل المشاركة السياسية للمواطنين واعتماد الإنتخابات كعصب للعملية الديمقراطية، وهذا ما يفترض وجود قوانين إنتخابية عادلة ومبسّطة، فضلاً عن التعددية التنافسية ومنع احتكار السلطة وسيادة القانون والشفافية ومحاربة الفساد واللامركزية.

ولا يتّسع المجال لعكس ردود الفعل كافة من القوى المعارضة العربية أحزاباً وتنظيمات وتجمعات، إذ أجمع معظمها على رفض المشروع الاميركي إنطلاقاً من أنه يضمر غير ما يعلن، وأن القوى المعارضة كلها ناضلت من أجل التغيير والاصلاح ولم تفلح في إنجاز ذلك لأسباب عديدة، ليس أقلها الدعم الأميركي المحدود للأنظمة العربية القائمة.

 

ردود الفعل الأوروبية

منذ تسريب المشروع الأميركي لوسائل الإعلام تسارعت المواقف الأوروبية، من تصريحات وزير الخارجية الفرنسي فيلبان الداعي الى مراعاة مصالح العرب وضرورة إطلاعهم على المشروع وتضمينه حلاً للنزاع العربي - الاسرائيلي، إلى مبادرة وزير الخارجية الألماني يوشكا فيشر، إلى اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي، وأخيراً إلى الورقة الألمانية - الفرنسية المشتركة. واكتسبت المبادرة الألمانية أهمية خاصة لأنها أقرّت في قمة ثلاثية ضمّت بالإضافة الى ألمانيا، فرنسا وبريطانيا. وقد اقترحت مشاركة الحلف الأطلسي الى جانب الإتحاد الأوروبي لإرساء الاسّتقرار في الشرق الأوسط على خطوتين:

-جعل المنطقة من المغرب إلى إسرائيل وصولاً إلى فلسطين وسوريا منطقة تجارة حرة.

- وضع إعلان من أجل المستقبل موجه إلى كامل منطقة الشرقين الأدنى والأوسط يشمل، بالإضافة للبلدان العربية، إيران وأفغانستان، وبالاستناد للحوار الدائر بين الأطلسي وحوض المتوسط وعملية برشلونة. ويرتكز العمل المشترك على أربعة عناصر رئيسية هي الأمن (والسياسة)، الإقتصاد، (والقانون)، والثقافة والمجتمع المدني. ويستهدف هذا العمل ضمان الأمن ونزع السلاح وتأسيس الشراكة الاقتصادية وإقامة منطقة تجارة حرة والإصلاح والديمقراطية. بالمقابل تفتح أوروبا وأميركا أسواقهما لتحفيز التعاون داخل المنطقة. أما الإعلان من أجل المستقبل فيتوجه الى الجميع بما في ذلك أفغانستان وإيران للالتزام بدعم الإصلاحات في المنطقة وتشجعيها. ويتطلب هذا الأمر التزام الجميع بمبادئ الإيمان بالأمن ونبذ الفتن وبالديمقراطية والتعاون الاقتصادي، والحدّ من التسلّح ومكافحة الإرهاب والتوتاليتارية والالتزام بحقوق الإنسان ومشاركة المواطنين في وضع القرار السياسي وإقامة المجتمع المدني القوي والمستقل ومساواة المرأة وإتاحة فرص التعليم للجميع بمن فيهم النساء.

وقام خافيير سولانا بدمج الورقتين الفرنسية والألمانية في ورقة واحدة نشرت مسودّتها جريدة الشرق الأوسط([6]) وهي تتضمن ثلاثة أقسام: الأهداف، المبادئ، والمقترحات العملية. وتضمنت إشارات الى القمة العربية في تونس والى مجلس التعاون الخليجي من أجل التعاون الإيجابي في مجال الإصلاح.

وعلى الرغم من نقد المشروع الأميركي لجهة أن تكون كل مبادرة حول الشرق الأوسط مستجيبة لحاجات وتطلعات المنطقة، فإن الورقة الأوروبية رحّبت بالمقترحات الأميركية وبإمكانيةالعمل والتعاون مع الولايات المتحدة عبر شراكة بين الطرفين في الشرق الأوسط. ومع ذلك أصرّت الورقة الأوروبية على ضرورة أن تكون المقاربة الأوروبية مستقلة عن أميركا وعلى ضرورة تسخير كل ما بحوزة الاتحاد الأوروبي من أدوات لتحقيق خطته وأهدافه.

وحددت هذه الورقة مجموعة من المبادئ التي ينبغي اعتمادها في التعاطي مع منطقة الشرق الأوسط:

- ينبغي العمل مع دول المنطقة والاستجابة قدر المستطاع لمتطلباتها وحاجاتها.

- إشراك الدول المعنية بهذا العمل وبشكل مبكر قدر الامكان.

- إتباع أسلوب الحوار والتحضير والتعامل مع الحكومات ومع المجتمع المدني وتفادي أسلوب الإملاء الخارجي.

- تشجيع الدول المعنية للتعبير عن آرائها وآمالها في إطار الجامعة العربية أو في إطار آخر.

- النظر في العلاقة  الأوروبية - الشرق أوسطية في إطار بعيد المدى والانطلاق في الستراتيجية الأمنية الأوروبية التي تمّ إقرارها في كانون الأول من العام الماضي، وهي تضمنت خطوات عملية مباشرة كما يلي:

- تنظيم اجتماع لوزراء الخارجية الأوروبيين، العرب لشرح المبادرة.

- حثّ القمة العربية على إصدار بيان يؤكد فيه القادة العرب التزامهم تنفيذ الإصلاحات والتحديث والديمقراطية.

- دعوة قمة الثماني الى الرد على بيان تونس المفترض ببيان سياسي   يصوغه وزراء خارجية المجموعة بعد أن يكون المدراء السياسيون لوزارات الخارجية الأوروبية قد ناقشوا مسودته. وترى الورقة الأوروبية إمكانية الجمع بين الخطوط الكبرى للورقتين الأميركية والأوروبية مع إشراك الأمم المتحدة في عملية الشراكة والتحديث.

- الدعوة للقاء بين قادة دول الشرق الأوسط وقادة مجموعة الثماني وتشجعيها على السير في العلمية الإصلاحية.

 

الشراكة من أجل مستقبل مشترك

أسفرت أشكال الاعتراض المختلفة على المشروع الأميركي نوعاً من التراجع والتنازلات الأميركية في الصياغة النهائية للمشروع، التي تمت في اجتماع دول مجموعة الثماني الكبرى في سي آيلند، في حزيران 2004 خصوصاً في تسمية المشروع التي باتت تشي بشيء من التكافؤ: «شراكة من أجل المستقبل»، بدل تسمية الشرق الأوسط الكبير التي تتضمن شيئاً من التعسّف في تحديد الوحدة الجيوسياسية الجديدة.

فبدل التوصيف المغرض للأوضاع في المنطقة تبدأ الصيغة الجديدة «بدعم الإصلاحات الديمقراطية والاجتماعية التي تنبثق عن هذه المنطقة». كما تستطرد الوثيقة باستعراض تراث هذه المنطقة الثقافي وإنجازاتها في مختلف المجالات، وترحّب بالمبادرات العربية الداعية للإصلاح. وبسرعة فائقة يلزم أصحاب الوثيقة أنفسهم من اليوم بشراكة من أجل المستقبل والتقدم مع حكومات وشعوب المنطقة بهدف ترسيخ الديمقراطية والحرية والازدهار للجميع. وتحدد الوثيقة المبادئ التي ستقوم عليها الشراكة بما يلي:

- تعزيز إلتزام المجتمع الدولي بالسلام والاستقرار في الشرق الأوسط وشمالي أفريقيا.

- اعتبار حلّ النزاعات الدولية وخصوصاً النزاع الاسرائيلي ـ الفلسطيني عنصراً هاماً للتقدم في المنطقة.

- التوفيق بين الإصلاحات وحل النزاعات.

- إستعادة السلام والإستقرار في العراق.

- رهن نجاح الإصلاحات بأهل المنطقة وعدم فرضها من الخارج.

- إحترام تنّوع البلدان.

- دعم الإصلاحات لتشمل الحكومات ومؤسسات المجتمع المدني.

- إعتبار دعم الإصلاح في المنطقة جهداً طويل الأمد يتطلب تعهد مجموعة الثماني والمنطقة بالتزام متواصل عبر الأجيال.

وترى الوثيقة أن حل النزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي يكون بإقامة دولتين متجاورتين على أساس القرارات الدولية، وضرورة التوصل إلى تسوية شاملة وعادلة للنزاع العربي - الإسرائيلي يشمل سوريا ولبنان. كما أنها تعرب عن دعمها للشعب العراقي ولسيادته، وترحب بدور جدّي للأمم المتحدة بعد نقل السلطة، وتدعو المجتمع الدولي لدعم إعادة إعمار العراق.

وتخطط المجموعة لإنشاء «منتدى من أجل المستقبل» سيكون له دور مركزي في هذه الشراكة، وفتح حوار مفتوح ودائم، على أن يوفر هذا المنتدى إطاراً وزارياً ينظّم اجتماعات لوزراء وأرباب عمل وهيئات المجتمع المدني وسيكون لجهود الشراكة ثلاث دوائر:

- في المجال السياسي: التقدم باتجاه الديمقراطية وحكم القانون واحترام حقوق الانسان.

- في المجال الإجتماعي - الثقافي: تأمين التعليم للجميع بما فيه للنساء، والوصول الى تكنولوجيا المعلومات.

- في المجال الإقتصادي: تشجيع القطاع لخلق فرص العمل، وتشجيع الإستثمارات، ودعم الإصلاحات المالية.

وتضمّنت الوثيقة خطة عمل تلتزم بها دول الثماني لتحقيق هذه الشراكة ودعم الإصلاحات، وتنصّ على:

- منح إطار وزاري للحوار.

- إطلاق مبادرة للاعتمادات الصغيرة لزيادة فرص تمويل المشاريع الصغيرة.

- تقديم مساعدة لأكثر من مليوني رب عمل للخروج من الفقر.

- تعزيز الجهود لتوفير إمكانية تعلّم القراءة لـ 20 مليون شخص.

- السعي لتأهيل 100 ألف معلم حتى العام .2009

 

ما هي استهدافات هذه المشاريع؟

لا شك أن المشاريع والمبادرات الغربية تجاه الشرق الأوسط جعلت موضوع الإصلاح في الواجهة، وحرّكت القوى السياسية لمعالجة هذا الموضوع. غيرأن ذلك لا يعني ان مسألة الإصلاح والتغيير لم تكن مطروحة في البلدان العربية منذ عشرات السنين. فبإسمها جرت الانقلابات العسكرية. وهي مادة أساسية في برامج غالبية الأحزاب السياسية، على الرغم من المضمون والوجهة التي تأخذها هذه البرامج والقوى السياسية التي تحملها. لكن هذه القوى فشلت في تحقيق برامجها، ولا شك أنها مسؤولة الى حدّ كبير عن هذا الفشل. لكن قسطاً كبيراً من الفشل نجم أيضاً عن الدعم اللامحدود من القوى الإمبريالية وأميركا بدرجة خاصة للأنظمة السياسية القائمة. وهذه القوى تقرّ اليوم بكل وضوح أنها كانت تتحالف مع تلك الانظمة، وأن مصالحها لم تكن متوافقة مع «أخلاقها» وأنها لن تواصل سلوكها هذا.

ما الذي تريده هذه القوى؟

- هل تريد فعلاً إشاعة الاستقرار والأمن في المنطقة؟

- هل تريد إشاعة الديمقراطية والحريات؟

- هل تريد تأكيد حقوق الانسان؟

- هل تريد كل ذلك، ولذا تهتم بتنمية المنطقة؟

- واذا كان الأمر كذلك، فما هو مصدر الاعتراض على هذه المشاريع؟

ما يطال المشروع الأميركي: يتضمن المشروع لائحة من الاتهامات للمنطقة العربية على أنها مصدر للإرهاب والمخاطر الناجمة عن سوء الحكم والتعسف والنواقص العديدة. وهناك تأكيد على أن الخيار لدرء هذه المخاطر هو التدخل من الخارج لفرض إصلاحات تخلق واقعاً جديداً. ولن يعدل التراجع التكتيكي الأميركي في قمة الثماني أمام الدول الأوروبية والذي تجسد في وثيقة الشراكة، في سلوك الولايات المتحدة التي تعوّدت على تنفيذ مآربها بمختلف الأساليب، وهي ستكرر ذلك الآن. ولا يستطيع أحد أن ينكر كل النواقص في الواقع العربي والتي ذكرها المشروع الأميركي، ولا أن يتنكر لأهمية الديمقراطية وحقوق الانسان والتنمية وإشاعة الاستقرار واجتثاث جذور الإرهاب.

لكن الولايات المتحدة تفتقر الى المصداقية أمام كل شعوب المنطقة ومعظم شعوب العالم. أولاً، لأنها تتجاهل الأسباب الحقيقية الكامنة في أساس المشاكل التي تعاني منها البلدان العربية. فهي بالدرجة الأولى نتاج حقبة الاستعمار التي قطعت المسار الطبيعي لتطور هذه المنطقة وأدّت الى تشكّل بنية اقتصادية - اجتماعية مشوّهة، ولّدت بنى سياسية أكثر تشوّها. ثانياً، أمّنت الولايات المتحدة ،والغرب عموماً، الدعم الكامل للحفاظ على هذا الواقع لكي لا تتحقق خروقات في التقسيم الدولي للعمل.ولذلك لم تحقق هذه البلدان التصنيع ولا الإصلاح الزراعي بل بقيت بلداناً تابعة تطوّرت بشكل وحيد الجانب، لم يكن ممكناً بنتيجته أن يتأمن تعليم صحيح وكاف ولا فرص العمل وبالتالي لم تتحقق المداخيل الكافية ولا مستوى المعيشة اللائق، فكانت الغربة في الداخل لملايين البشر وما نجم عنها من هجرات شرعية وغير شرعية.وثالثاً، لا يستشفّ من هذا المشروع أيّ نوايا لتغيير دور هذه المنطقة في التقسيم الدولي للعمل، ذلك أن إطلاق عملية التصنيع فيها عبر تكرار التجربة الغربية يهدد الكرة الأرضية بكوارث بيئية. عدا عن أن ذلك يفتح الباب أمام الاستخدام الصناعي للموارد الطبيعية وهو ما لا يريده الغرب.

أما الاقتراحات لإصلاح الوضع الاقتصادي والمالي والتجاري فهي مسائل ليس فيها أي جديد، ولا تتعدى بشيء تلك البرامج التي أعدتها المؤسسات الدولية: البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية، لتقديم المساعدة الى البلدان النامية. إنها سياسات جرى تطبيقها في العديد من بلدان العالم بما فيها في البلدان العربية. تلك هي سياسات المجتمع المفتوح: تحرير النشاطات الاقتصادية والمالية وإبعاد الدولة عن المجال الاقتصادي وترك الأمر للسوق تقرر مصير الشعوب والبلدان والأفراد؛ إنها الخصخصة وتحرير العملات ورفع الفوائد المصرفية والخ. وتعجّ المكتبة العربية بعشرات الكتب والندوات والمؤتمرات حول هذا الجانب، وكل ذلك أثبت عقم هذه السياسات. فما الجديد الذي يستدعي اعتماد هذا الأسلوب في الإصلاح؟ المؤسف أن تناغماً واضحاً مع المشروع الأميركي يسود بعض الإجابات العربية عن هذه التحدّيات.

إلى ذلك يحاول المشروع أن يرشي بعض القوى عبر الترويج لمساعدات لقطاع الأعمال الصغيرة والمتوسطة، في وقت لا تدع المنافسة العولمية مجالاً لاستمرار هذا النوع من الأعمال، كون الاحتكار والتمركز بلغا أبعاداً عالمية في جميع المجالات.

أما الاقتراحات المذكورة لبناء مجتمع المعرفة ولإجراء الإصلاحات السياسية فإنها تصوّر المسألة على أنها مسألة تقنية، إذ يكفي أن يتعلم الناس إجراء الانتخابات والمشاركة فيها وتبادل النواب وتسجيل الناخبين ومحو الأمية وبناء المدارس ونشر الإنترنت لتحقيق القفزة الموعودة في هذه المجتمعات. غير أن هذا الطرح بعيد عن تأمين مستلزمات الديمقراطية والمشاركة ولا يستهدف إلا استبدال النخب.

أما بناء مجتمع المعرفة وردم الهوة المعرفية فهو مستحيل من دون إلغاء الجدار التكنولوجي القائم بين المركز والأطراف، والمتمثل في التقسيم التكنولوجي الدولي للعمل، حيث تسيطر الولايات المتحدة على إنتاج المبادئ التكنولوجية وتحتكر التصرف بها، بينما يتاح للدول الغربية المحدودة تحويل هذه المبادئ إلى تكنولوجيا. ولا يسمح في هذا السياق إلا لعدد قليل من الدول الصناعية الناشئة إستخدام بعض هذه  التكنولوجيا لإنتاج السلع النهائية.

ولذا فإن غالبية الدول النامية تبقى خارج الدائرة التكنولوجية الأساسية. لهذا السبب تغادر الأدمغة البلدان المتأخرة في تطورها الى حيث يمكن أن تجد فرصاً لتحقيق ذاتها. إن المشروع الأميركي هام ويهتم بإدخال تعديلات على أنظمة تعليمية تعتبر مصدراً لإنتاج الكره لأميركا، وبالتالي فإن هذه الاقتراحات تستهدف وضع اقتصاديات المنطقة العربية في منافسة غير متكافئة بما سيؤدي لتدمير ما تبقى.

أما موضوع الاستقرار في الشرق الأوسط، بما يعنيه حل للنزاع العربي الإسرائيلي وإقامة الدولة الفلسطينية الفعلية وليس مجرد كيان تابع لدولة إسرائيل، فانه غير موجود في الجعبة السياسية الأميركية. فالاستقرار أصلاً غير مطلوب وغير مرغوب أميركياً، لكي تبقى هذه المنطقة نابذة للأدمغة والاستثمارات والادخارات، وغير جاذبة حتى لتلك التي هاجرت منذ زمن بعيد إلى الغرب. وإذا ما كان لدى الأوراق الأميركية مشاريع حلول لهذا النزاع، فهي معادية للعرب ومصالحهم، وهو ما تشهد عليه الرسالة التي بعث بها جورج بوش لآريال شارون([7])، والتي تضمنّت وعداً هو أسوأ بكثير من وعد بلفور، إذ يعد إسرائيل بالاحتفاظ بالأراضي الفلسطينية المحتلة ويفتح أمامها أفقاً للتوسع والهيمنة في كل الشرق الأوسط.ناهيك عن إطلاق يدها في تصفية القيادات الفلسطينية ومحاصرة ياسر عرفات.

إلى ذلك فإن احتلال العراق والمخططات الخاصة به، بما في ذلك إقامة القواعد العسكرية الأميركية، وفتح أكبر سفارة أميركية في العالم في بغداد، والقتل المباح الذي تمارسه القوات الأميركية، لا يشير كله إلى أي رغبة حقيقية في إقامة استقرار في هذه المنطقة.

وفي السياق ذاته تصّب التهديدات الأميركية لسوريا والعقوبات التي تنفّذ بحقها والمطالب المتزايدة التي توجه لها، إن بشأن إلغاء وجود حزب الله أو إبعاد القيادات الفلسطينية من سوريا وإيقاف دعمها للشعب الفلسطيني ومقاومته،وكل هذا منحى واضح في التحيّز ضد العرب.

ولا تقلّ مخاطر التدخل الأميركي في السودان عن غيره من بلدان المنطقة. فالنفط السوداني والموارد الطبيعية من ذهب ومعادن أخرى جذبت القوات الأميركية إلي السودان، وحوّلت أجزاء كبيرة من أراضيه إلى مادة صراع دولي خاصة بين أميركا وبعض البلدان الأوروبية.

ومع أن الولايات المتحدة بدأت تعاني من الإرهاب، إلا أن ما تسعى إليه هو ترويض المنظمات الإرهابية وإعادة توظيفها لصالحها، وهي التي تغذت أساساً على الدعم الأميركي.

ولا يعتبر مطلب نزع أسلحة الدمار الشامل مبرراً للتدخل الأميركي في شؤون المنطقة، خصوصاً وأنها تتغاضى عن البلد الوحيد الذي يمتلك هذه الأسلحة في المنطقة أي إسرائيل، وتوجّه أصابع الإتهام إلى بلدان لم يكن بإستطاعتها أصلاً أن تمتلكه، ولا إمكانية تقنية وفعلية لديها لاستخدامه إن هي امتلكته، ودليل العراق شاهد حيّ على هذه الأكذوبة.

إن الغاية الأساسية للمشروع الأميركي هي تغيير النظام السياسي -  الاقتصادي - الأمني في منطقة الشرق الأوسط على المستويات كافة، وإقامة نظام شرق أوسطي كبير يتجاهل حقيقة وجود أمة عربية ويطمسها ويغرقها في هذا الخليط الهشّ من البلدان، نظام يلبّي حاجات الستراتيجية الأميركية في الهيمنة على العالم([8]). إنه مشروع لربط البلدان العربية بقطار العولمة الإمبريالية عبر جملة من الخطط والمشاريع التي تطال بنية هذه البلدان، ليتحكم بأفق تطورها، وينزع ما تبقى لديها من أسلحة حماية ذاتية ليتمكن من إعادة استعمارها وتصحيح الخطأ التاريخي.

 

ماذا حققت أوروبا في سي آيلاند؟

ليس سراً ان الصيغة الأميركية للشرق الأوسط الكبير تهدف إلى ضرب الجهود الأوروبية للتقارب مع منطقة المتوسط عموماً والبلدان العربية خصوصاً([9])، وهي التي استقرت على صيغة الشراكة الأوروبية - المتوسطية التي تطال كافة البلدان العربية المشاطئة للمتوسط ما عدا ليبيا وسوريا (التي هي على وشك توقيع هذه الشراكة). ومعروف أن هذه الشراكة جاءت نتاج ما يسمى بعملية برشلونة التي تهدف لإقامة منطقة تجارة حرة مع البلدان الموقّعة على الاتفاق في غضون 12 سنة. وتحتاج أوروبا إلى هذا النوع من العلاقات الوثيقة من أجل المساهمة في إشاعة استقرار على حدودها الجنوبية بإخماد الحروب المحتملة، وبتنفيذ مشاريع تحدّ من الهجرة، ولا سيما غير الشرعية إليها، وإلى فتح أسواق هذه البلدان، والوصول الى مواردها الطبيعية. وتعتقد أوروبا أن هذا الإطار يمكن أن يحقق لها ما تريد من دون أن تطلق رصاصة واحدة. من جهتها، الولايات المتحدة تعرف هذا الأمر، ولا تريد أن تقوم علاقات مباشرة مسهّلة بين أوروبا وهذه البلدان، وتريد أن تبقي أوروبا في حالة تبعية لها من زاوية تأمين النفط ومشتقات الطاقة الأخرى. ولذا جاء مشروع الشرق الأوسط الكبير، ومن بعده الحروب لتخدم هذا المنحى في الستراتيجية الأميركية. ولأنها تعثّرت في العراق وفي أفغانستان وانكشفت على الصعيد الدولي، قامت بتنازلات شكلية عبر مساومة «شراكة من أجل المستقبل» تبقي لأوروبا حيزاً في رسم معالم المنطقة. لكن كما سبق وذكرت، تبقى تلك تنازلات شكلية ومؤقتة ستتجاوزها أميركا في كل لحظة ترى ذلك ضرورياً.

لقد تمكنت أوروبا من الحدّ من مستوى التعسف الاميركي عبر إقرار الصيغة والمبادئ والخطة المقترحة للشراكة. فهي تريد أن يشارك العرب في تحديد معالم مستقبلهم وأن يقرروا حجم الإصلاحات ووجهتها. وهي تريد فعلاً أن تسير بشكل متواز، عمليات الإصلاح وحل النزاع العربي الاسرائيلي. وقد أثبتت ولو شكلاً، انها أكثر ديمقراطية في علاقتها مع العرب من الولايات المتحدة. لكن أوروبا تدرك جيداً أنه على الرغم من رغبتها في ممارسة علاقات مستقلة مع العرب وممارسة تأثير على أوضاعهم الداخلية، فالأمر لا يتحقق من دون شراكة مع أميركا في هذا الصدد. لذلك اعترضت ورفعت سقف اعتراضها على المشروع الأميركي لتخرج بصيغة ليست مختلفة جذرياً عن استهدافات المشروع الأميركي وعن منطلقاته.

فأوروبا، ايضاً، لا ترى مسؤولية ذاتية عن واقع الأمور في العالم العربي، وهي التي ساهمت في استعماره لعشرات السنين. ثم إنها وبتكرارها لمفهوم الشراكة، تفرّغه من أي مضمون فعلي. وهذا ما تؤكد عليه التجربة خلال السنوات العشرة المنصرمة. إن الشراكة التي أقامتها مع البلدان العربية لم تعط بعد أية نتائج إيجابية. وهذه الشراكة ستكون ذات وجهة واحدة إذا لم تفِ أوروبا بوعودها: أي إذا تحولت الشراكة الى شراكة في استخدام الموارد الطبيعية الموجودة في البلدان العربية وإبقاء احتكار منجزات الحضارة الغربية ـ التكنولوجيا - إحتكاراً غربياً، أي «نتشارك على ما هو ملكيتكم ونحتكر ما هو ملكيتنا». ولا حاجة للتأكيد على أن خلق نوع من تكافؤ الفرص إنما يتجسّد في إفساح المجال أمام العرب لردم الهوة التكنولوجية مع الغرب. إن الشراكة الأوروبية ـ المتوسطية تتضمن العديد من البنود التي يمكن أن تخلق علاقات مميزة حقيقية بين أوروبا والبلدان العربية، وهذا ما ينبغي استغلاله.

 

خاتمة:

منذ أن سرّب المشروع الأميركي إلى وسائل الإعلام وبدأت ردود الفعل عليه تكوّن انطباع مفاده أن الأميركيين، ومعهم مجموعة الثماني، متحمّسون لتنفيذ الإصلاحات في الشرق الأوسط، بينما أصحاب القضية معترضون عليها. تلك هي الرؤية الخادعة والانطباع المعكوس. فهل تتضمن هذه المشاريع إصلاحاً حقيقياً؟ وهل العرب ضد الإصلاح والتغيير لمجرد أن الموضوع طرح من الخارج؟ ما هو الإصلاح الحقيقي المطلوب؟ وهل  الإصلاح يطرح فعلاً للمرة الأولى؟ وما هي الإشكالية الأساسية التي تحملها هذه المشاريع؟ ليس المقصود من هذه الأسئلة عود على بدء في البحث، بل هي تختصر ما يمكن أن تتضمنه من إجابات. فالغرب، والأميركيون خصوصاً يريدون إصلاحاً في الشرق الأوسط لكي لا تبقى هذه المنطقة «بؤرة للإرهاب». ويحددون وجهة للإصلاح عبر ما اقترحوه من آليات وتدابير تخدم مصالحهم، بإفساح المجال أمامهم لاستباحة المنطقة عبر فرض منافسة غير متكافئة بين اتحادات إنتاجية ضخمة ومنتجين صغاراً مفرّقين، وذلك بإنتاج نخب تخدم هذه الوجهة، وبحرمان الفقراء من آليات دعم حقيقية، وتطبيق الدارونية - الاجتماعية عليهم (الاختيار الطبيعي للسوق) كما إن الغرب يريد أن يطمس الهوية العربية عبر تفجير تناقض جدّي بين الأمة العربية وتشكيلة جديدة هي الشرق أوسطية.

ليس صحيحاً أن الإصلاح يطرح للمرة الأولى في هذه المنطقة. فالصراع في البلدان العربية على أوجه، منذ ما يزيد عن نصف قرن، من أجل إجراء إصلاحات في البنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، تحت شعارات الإصلاحات نشأت الأحزاب ونظّمت انقلابات عسكرية، واشتعلت مظاهرات وفعاليات سياسية عديدة.

والديمقراطيون والوطنيون والثوريون في هذه المنطقة يريدون الإصلاح لأن شعوبها تستحق مستوى حياة لائق إقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً وتعليمياً. تريد إصلاحاً تكون محصّلته بناء اقتصاد وطني مستقل ومتكامل يؤمن تطوراً حقيقياً لشعوب المنطقة. وهذا يعني رسم خطة إنمائية واقعية تكون وجهتها تغيير موقع هذه المنطقة في التقسيم الدولي للعمل، بما يجعلها شريكة في إنتاج المستقبل وليس تابعاً في هذا السياق. وهذا يتطلّب إصلاحاً سياسياً يتمثل في بناء دول ديمقراطية، دول قانون تحكم بدساتير عصرية وقوانين انتخاب ديموقراطية وعادلة تسمح بتمثيل حقيقي لشرائح الشعب، وتسمح بتداول السلطة في إطار انتخابات ديموقراطية. وهي تسعى لإصلاح يفصل الدين عن الدولة باتجاه يحافظ على الدور الحقيقي للدّين ويحول دون تنامي أصوليات تحرف الدين عن هذا الدور.

إن الإصلاح في البلدان العربية ينبغي أن يضع في أولوياته التكامل العربي باتجاه بناء وحدة حقيقية لأمة لا يمكن أن تعيش معزولة في عالم يتعولم فيه كل شيء. وهنا يلاحظ التناقض ما بين بناء وحدة عربية وإقامة الشرق الأوسط الكبير. فالدخول في الأخير يفترض تفتيتاً للكيانات العربية بدل أن تدخل في أيّ اطار كوحدة متكاملة (وهو ما لم يحصل في دخول الشراكة مع أوروبا) وهذا لا يعني انغلاقاً عن باقي دول المنطقة، بل ينبغي بناء أطر مشتركة لمواجهة الأطماع الاستعمارية الجديدة.

إن الانفتاح على العالم ينبغي أن يبقى بنداً دائماً على جدول أعمال الدول العربية، لكن في إطار تحديد واضح للمصالح ولأشكال توظيف العلاقات مع الخارج في خدمة تطور منطقتنا وشعوبها. بهذا الشكل يحلّ التناقض المذكور، ليس على حساب بلداننا بل في خدمة تطورها.

وأخيراً ينبغي وضع حدّ لتلك النقاشات القديمة منها والحديثة، بصدد أولوية التحرير والديمقراطية، ونبذ الاحتلال والديكتاتورية. إن تطوراً وطنياً ديمقراطياً لأمتنا ينبغي أن يكون في الوقت ذاته تخلصاً من أنواع الديكتاتورية والقهر كافة، وتصدّياً لكل أنواع الاحتلال. إن تحرير أمتنا بكل ما لكلمة تحرير من معنى لا يمكن أن يكون على يد الأجنبي، وليس صحيحاً أن تضع شعوبنا نفسها إما لجانب الإرهاب والديكتاتورية وإما لجانب الاحتلال، كأسلوب خلاص من هذه الظواهر المدّمرة.

  * لم نسمع قبلاً عن مشاريع إصلاحية لأميركا اللاتينية

 

[1]  النص الكامل لمشروع الشرق الاوسط الكبير في جريدة الحياة 13-2-2004

[2]  راجع: رؤية أميركية للعالم الجديد، كولن باول، السفير 3-1-2004

[3]  حازم صاغية ،يوم بكت نيويورك وواشنطن قال المحافظون الجدد : وجدناها، هذه بيرل هاربر...نا»، الحياة 11-9-2003

          - مايكل ميتشر، الحرب على الإرهاب أكذوبة أميركية للهيمنة على المسلمين.اللواء 11-9-2003

[4]  راجع المقالات التالية:

          -جوزيف ملكون، بوش صمم على غزو العراق قبل 16 شهراً وكتم الخطة عن الأميركيين،  اللواء 21-4-2002

          - وليام هميلتون، مقالة عن كتاب «خطة الهجوم» لمؤلفه بوب وودوارد، الشرق الأوسط18-4-2004

[5]  محمد النابلسي، عرض لدراسة بعنوان الصين...المحطة التالية لـ «عقيدة بوش» عن دراسة لنائب مدير مركز أبحاث القرن الأميركي الجدبد، اللواء 6-8-2004

[6]  للاطلاع على ردود الفعل الأوروبية راجع:

          - فرنسا وألمانيا تقودان الرد الاوروبي على المبادرة الأميركية، الشرق الأوسط،29-2-2004

          - أنطونيو باديني ، سفير ايطاليا في القاهرة، أوروبا والشرق الأوسط الكبير: بين الفرص وسوء التفاهم، الحياة 23-7-2004

          - فولكر بريتس، مبادرة الشرق الأوسط الكبير وأوروبا، الحياة 2-4-2004

          - ديفيد فيمان، نضج المشاورات الأميركية - الأوروبية حول مستقبل الاصلاح في المنطقة العربية، الحياة 12-4-2004

          - تقرير المفوضية الاوروبية بعنوان: شركاء الاتحاد الأوروبي والتفاهم المشترك، المستقبل 31-3-2004

          - نص التقرير المرحلي الذي أقرته القمة الأوروبية المشتركة - الشرق الأوسط 4-4-2004

[7]  راجع رسالة جورج بوش الى آريال شارون، النهار 25-6-2003      ونصير عاروري،:وعد بولفور جديد، الحياة 26-4-2004

[8] أحمد أبو زيد،" الشرق الأوسط الكبير" طموح غربي إلى صوغ العالم مرة ثانية،  الحياة 29-2-2004

[9] أنيس محسن، منطقة التجارة الحرة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط، المستقبل 22-5-2003

The Occidental Initiatives concerning the Middle East
The region of the Middle East, and especially after the events of September 11-2001, became the center of focus of the occidental and especially American circles which classified the region as a source of terrorism in the world. And therefore, the occidental initiatives aiming to deal with situations in the Arab region followed in succession and the most noticeable was the American initiative which was entitled the “Great Middle East”.
The American project proposed a series of political, cultural and educational reforms which could change the situations and eradicate the roots of terrorism.
This initiative evoked European and Arabic reactions. On the Arabic level the initiative faced many objections on the public level because it accuses the Arab governors of being incapable of saving their countries from the underdevelopment in which they are jumbled the thing that constitutes a fertile soil for terrorism and because it also calls for political reforms aiming to spread democracy and setting up the righteous administration.
These circles considered these points as an aggression against their interests and therefore they refused the project under the slogan of rejecting the exterior intervention in their internal affairs.
This article is trying to throw light upon the American initiative and putting it in the framework of the American national security strategy since it defines the American interests and the dangers which face the United States and formulates the executive plans to achieve its objectives.
The article also exposes this project and the reactions concerning it and tries to disprove the American allegations of being concerned about the interests of the Arab people and warns from being carried away with the illusion of reforms in the American way.
The articles stresses that we should not refuse the reforms as such because they constitute an urgent matter but we should reject the American formula which does not include more than old recipes experienced by many people and generated disasters in Latin America, Asia, and Africa.
The article draws the features of necessary reform elements at the moment.

Les initiatives de l’ouest concernant le Moyen – Orient

 Après les événements du 11 septembre, le Moyen orient est devenu le centre d’attention de l’Ouest et surtout des Etats-Unis, qui ont classifié la région comme étant une source du terrorisme dans le monde
C’est pour cela que les initiatives de l’Ouest se sont succédés pour régler la situation dans la région arabe, dont notamment fut l’initiative américaine sous titre le Grand Moyen Orient. Le projet américain a proposé plusieurs réformes politiques , culturelles et pédagogiques qui à leur tour, pourront  métamorphoser la situation et déraciner le terrorisme.
Cette initiative américaine a suscité des réactions arabes et européennes différentes. Au niveau arabe, elle a connu une large opposition au niveau officiel car elle accuse les gouverneurs arabes d’être impuissants à débarrasser leurs pays du sous-développement ce qui a constitué la terre fertile pour le terrorisme ; tout comme elle invite à exécuter des réformes politiques visant à répandre la démocratie et à établir le bon gouvernement.
Ces départements ont considéré ces arrangements comme étant un attentat visant leurs intérêts, ils l’ont alors refusé sous prétexte de refuser l’ingérence extérieure dans les affaires intérieures.
Cet article essaie d’insister sur l ‘initiative américaine en la classifiant dans le cadre de la stratégie de la sécurité nationale américaine. Elle définit les intérêts américains et les dangers menaçant et rédige les plans exécutifs pour réaliser ses buts.
L’article expose les points de ce projet et les réactions qu’il a suscité et essaie de réfuter les prétentions américaines à tenir aux intérêt des peuples arabes et avertit d’aller à la dérive de l’illusion des réformes selon la méthode américaine.
L’article assure que ce qui doit être rejeté n’est pas la réforme car c’est un fait urgent mais c’est la formule  américaine qui ne contient que des prescriptions anciennes expérimentées par beaucoup de peuples, et qui ont causé des désastres en Amérique Latine, en Asie et en Afrique. L’article expose les traits de la réforme nécessaire dans le temps actuel.