متاحف في بلادي

المتحف العسكري في اليرزة تاريخ يشهد للتاريخ
إعداد: جان دارك ابي ياغي

المكان لا يبعد سوى أمتار قليلة عن المدخل الرئيسي لمبنى وزارة الدفاع الوطني في اليرزة. الصورة أقرب الى شبه جزيرة فنية. ساحة مفترشة باللونين الأخضر والبني، يشغل أحد أطرافها برج شاهق بطبقاته الثماني المؤللة أملاً بالسلام، فيما تنبسط الأرض في الجهة المقابلة أمام هيبة شعارات ألوية الجيش الممتدة بشكل نصف دائري محتضنة رمز شهدائها تخليداً لذكراهم.
البرج ليس سوى "نصب أمل السلام" الذي صممه وقدمه الفنان آرمان تجسيداً للسلام الوطني في لبنان، بمناسبة اليوبيل الذهبي لعيد الجيش اللبناني في 2/8/1995. وما يقابله في الجهة الثانية عبارة عن "نصب الخالدين" الذي أزيح الستار عنه في 22/1//1996، تخليداً لشهداء الجيش اللبناني.
... خطوات قليلة وتظهر درجات تنسحب نزولاً بسياج من النباتات الخضراء، لتوصل في نهايتها الى لوحة تعلن فوق باب ضخم "المتحف العسكري ­ اليرزة" الذي أنشئ في 9/10/1998 برعاية قائد الجيش آنذاك العماد إميل لحود.
أضواء على المتحف العسكري ­ ذاكرة لا تنضب ­ في هذا التحقيق.

 

كتابة تاريخ الجيش

بدأت فكرة إقامة متحف عسكري في الجيش اللبناني بُعيد الاستقلال وتسلّم الوحدات العسكرية اللبنانية التي كانت ضمن جيش الانتداب الفرنسي في سوريا ولبنان، من قبل السلطات الوطنية اللبنانية في الأول من شهر آب عام 1945.
وبعد جلاء الجيوش الأجنبية عن لبنان، فكّرت قيادة الجيش اللبناني في ذلك الوقت بانشاء لجنة تعنى بكتابة تاريخ الجيش اللبناني وحفظ تراثه، وذلك منذ العام 1947.
منذ العام 1948 بدأت قيادة الجيش بتجميع بعض المعدات والأسلحة والألبسة العسكرية القديمة وجمعها في مكان واحد.
وفي العام 1949 جرت اتصالات بين قيادة الجيش ومديرية الآثار التابعة لوزارة التربية الوطنية، في ذلك الوقت، وطرحت القيادة فكرة  بناء متحف عسكري لجمع ما تملكه من تراث عسكري قديم، وقد لاقت هذه الفكرة تجاوباً ودعماً من مدير الآثار في ذلك الوقت الأمير موريس شهاب.
وبالفعل فقد تمّت اتصالات بين الجهات المختصة، من مديرية الآثار الى وزارة التربية الوطنية الى وزارة الداخلية وبلدية بيروت لمنحها قطعة أرض تقع جنوبي المتحف الحالي في طرف سباق الخيل الشرقي مساحتها 2600م2 ليصار الى بناء مبنى جديد يلحق بالمتحف الوطني ويختص بالجيش، وعرف باسم "متحف القرون الوسطى والجيش"، بشكل يغطي بمحتوياته الفترة التي تبدأ بالقرون الوسطى حتى الوقت الحاضر.

 

استمرت الاتصالات طيلة فترة الخمسينيات ومطلع الستينيات من القرن المنصرم بين مدٍ وجزر، حتى العام 1963 حين وافق مجلس الوزراء في جلسته المنعقدة بتاريخ 7 آب من العام نفسه في الذوق على إقامة "متحف العصور الوسطى والجيش" وكلِّف مجلس تنفيذ المشاريع الانشائية العمل على تنفيذ مشروع بناء المتحف وذلك بالاتفاق مع وزارة الدفاع الوطني (قيادة الجيش) ووزارة التربية الوطنية (المديرية العامة للآثار).
وبعد دراسات كثيرة وضع حجر الأساس لبناء هذا المتحف في صيف عام 1968 وشيّد هيكله بالمال المخصص له (مليون ليرة لبنانية) وتوقف العمل به بعد سنة لعدم توافر الاعتمادات اللازمة له في وزارة الدفاع الوطني. وقد استكمل في ما بعد خلال فترة السبعينيات، وكان بعهدة المديرية العامة للآثار.
في العام 1977 تمت إعارة المبنى للجامعة اللبنانية بقرار من مجلس الوزراء ليصبح مقراً لرئاسة الجامعة ومكاتبها، وبقي الأمر كذلك حتى العام 1998 حيث حوّل الى مقر رسمي لاجتماعات مجلس الوزراء. في العام نفسه تمّ إنجاز مبنى جديد للمتحف قرب وزارة الدفاع الوطني في اليرزة، وهو مبنى صغير لا يتسع لكافة الموجودات القديمة من معدات عسكرية وألبسة وغيرها فبقي قسم منها في متحف المدرسة الحربية في الفياضية والقسم الآخر في قلعة راشيا في البقاع الغربي، وهذه المراكز تتبع للمتحف العسكري الرئيسي في وزارة الدفاع الوطني.
وبتاريخ 7/1//1998 صدرت برقية منقولة عن قيادة الجيش ألحقت بموجبها المتحف العسكري بمديرية التوجيه واعتبر قسماً من أقسامها، يتولى إدارته والاشراف عليه المقدم جوزف البدوي.

 

تاريخ كتب بدماء الولاء

الطريق نزولاً، رسالة تعلن بدء رحلة العودة الى الجذور... الجذور التي ما زالت تنبض بتاريخ عريق لا يتوقف عند رقم ولا ينتهي أبداً.
المبنى البيضاوي من الداخل يفرض رهبته سريعاً. صالتان صغيرتان تفصل بينهما درجات معدودات.. الصالة السفلى تفضي الى مدخل خاص بالمعوقين، في إشارة الى أن الزيارة ليست بعصية على أي شخص كان. تواضع في التنميق لا يخفي براعة في التنظيم والتنسيق.. التاريخ يفلش وقاره في المكان.. تاريخ يؤكد أن الحياة بدأت مع الشرف وأكملت طريقها مع التضحية والوفاء.. تاريخ كُتب بدماء لم يعرف أصحابها سوى الولاء للوطن.
الرئيس الراحل اللواء فؤاد شهاب أول المرحبين بالزائرين، إذا ما بدأوا رحلتهم يميناً.. صورته الكبيرة بالأسود والأبيض ترمي بظلالها فوق الخزانة الخشبية التي تحتضن بزته العسكرية المليئة بأوسمة الشرف، والى جانبها بندقيته الفرنسية الصنع (عيار 7.5ملم)
 وسيفه، بالإضافة الى باقي الأعتدة العسكرية الخاصة به. أما نظرته البعيدة، فتبدو وكأنها ترى، في أول علم للجيش اللبناني المرتفع على الجدار المقابل، امتداداً طويلاً لمسيرة الحفاظ على أمن الوطن وسلامته.. العلم الأول الذي لم يكن يختلف عن العلم الوطني سوى بإضافة كلمتي "الشرف" و"الوطن" تكلّلان الأرزة، وبسنبلتي السلام ممسكتين بأطراف العلم الأربعة.

 

أسلحة أيام زمان

الأسلحة القديمة تعج في المكان.. تنشّط ذاكرة الشخص الزائر لتعيده الى أزمنة لم يعرف عنها سوى ما قرأه في كتب التاريخ.. السيوف والفؤوس تزيّن الجدران، هي كانت في يومٍ من الأيام سلاحاً يدوياً يختبر بأس الجندي بالدفاع عن وطنه.. أما البنادق فتأخذ حيزاً كبيراً لتحكي عن علم انطلق من "النقش على الحجر". بنادق تعمل بواسطة حجر الصوان، وأخرى يعود تاريخها الى القرن التاسع عشر، استعمل بعضها أيام نابليون الثالث، ونقش على أستون بعضها الآخر كلمة "محمد علي باشا"، فيما زركشت أخرى بزخرفات دمشقية، وجميعها تعمل بواسطة "الكبسول". بنادق شاركت في الحربين العالميتين، وغيرها من تلك التي تطورت لتصبح في ما بعد أوتوماتيكية.
الصور واللوحات لها مكانها أيضاً في الداخل، فها هو الضابط طالب حبيش )أول ضابط لبناني في عهد السلطة العثمانية يظهر بطربوشه ولباسه العسكري من خلال لوحة زيتية، وها هو فوج الخيالة لسنة 1937 يجتمع في صورة مع قائده المقدم غوملان الفرنسي قبل أن تؤخذ الصورة في ما بعد لكتيبة الخيالة لسنة 1950 مع قائدها النقيب جد.


"قانا عرس الشهادة"

البراعة في توصيف المشاهد بالطريقة التعبيرية تكمن في الأيقونة طبق الأصل عن البرونزية الأصلية "قانا عرس الشهادة"، التي ابتدعها الفنان ميشال صقر وقدمها عربون محبة ووفاء وتقدير للمؤسسة العسكرية اللبنانية التي "تحمي الكيان وترعى الفنون وتحافظ على التراث برعاية فخامة رئيس الجمهورية العماد إميل لحود وقيادة العماد ميشال سليمان الذي يتابع نهج سلفه"؛ ومنحها للمسرح العسكري في الجيش اللبناني بعناية رئيسه العميد أسعد مخول.

الأيقونة ابتدعها الفنان صقر بعيد مجزرة قانا تخليداً للشهداء.. كل الشهداء الذين سقطوا تباعاً دفاعاً عن الوطن، وأُزيح عنها الستار في جبيل ­ بيبلوس، ونقلت الى المجلس النيابي، وركزت هناك ومنحت "درع قانا".. قانا الذاكرة التاريخية التي شهدت معجزة التحول والانبعاث بعد ألفي سنة.. إنها عملية عود على بدء، وعلاقة جدلية بين الوطن والإنسان والإله.. مستوحاة من الأصالة اللبنانية المتمثلة بالأرزة رمزاً للحكمة والصمود والوفاء، وقد غاصت جذورها في أجساد حماة الوطن، وفي التراب ترتوي وتتغذّى من دماء الشهداء.. وتحت ظلال الأرزة حماتها جيشاً وشعباً، يحمون ظهور بعضهم البعض مرددين "كلنا للوطن للعلى للعلم"، يحمون ويدافعون بالريشة كما بالسيف، يجمعهم حب الوطن. أسفل هذه الوحدة البشرية المتكاملة والمتلاصقة بالأجساد الحية، تجلس أم الشهيد تغمر ولدها الذي سقط في معركة الدفاع عن الوطن.. تجلس بعظمتها اللبنانية بلا عويل ولا آهات، عينها لا ترى في فقدها ميتاً، بل معجزة في التحوّل والانبعاث.. إنه شقيق البطل الواقف بلباس الجيش.

 

وثائق ونصوص تاريخية

من التاريخ تحكيه تعبيرات الفنانين، الى التاريخ في الوثائق والنصوص تضيء على محطات في مسيرة جيشنا.. فها هي الوثيقة التاريخية التي وقّعها في العام 1941 ضباط لبنانيون (41 ضابطاً) تعهدوا فيها ألا يخدموا إلا في ظلال العلم الوطني.
فخلال الحرب العالمية الثانية هاجمت قوات مشتركة من البريطانيين والفرنسيين الأحرار (الحلفاء) القوات الفرنسية التابعة لحكومة فيشي المتعاونة مع قوى المحور، والمتمركزة في سوريا ولبنان. وبما أن الوحدات العسكرية اللبنانية والسورية كانت بإمرة الفرنسيين فقد تمّ توريطها في المعارك، ما حدا بالضباط اللبنانيين الى رفض التورط في هذا الصراع وإعلان موقفهم الذي كان من المقدمات التي مهّدت لاستقلال لبنان بعد نحو عامين.
ومن النصوص التاريخية نص حول معركة المالكية التي كان للجيش اللبناني وقفة مجلية خلالها. ففي أيار 1948 نجح مجاهدون لبنانيون وسوريون وعراقيون بمشاركة متطوعين يوغسلافيين في طرد الاسرائيليين من المالكية.

وفي المتحف أيضاً هدايا ودروع تذكارية وشهادات تقدير قٌدّمت الى الجيش اللبناني في مناسبات مختلفة.
أما التاريخ العسكري اللبناني الحديث، فله حيّزه أيضاً، من خلال مذكرات الخدمة والإعفاء. لعل أبرزها ثلاث: الأولى عبارة عن المرسوم رقم 3 الصادر في 28/11/1989، والقاضي بإعفاء العماد ميشال عون من مهام وظيفته وتعيين العميد الركن إميل لحود قائداً للجيش. والثانية مذكرة خدمة صادرة في 13/6/1991، تقضي باستيعاب نحو 6000 عنصر من الأحزاب اللبنانية لصالح الجيش وقوى الأمن الداخلي، وافتتاح معسكرات تأهيل لهم. أما الثالثة فتستند الى المرسوم الاشتراعي 102/83 وتعديلاته، والقاضي بإخضاع جميع اللبنانيين لخدمة العلم.

 

دبابات وآليات

تندرج في إطار ممتلكات المتحف العسكري مجموعة من الدبابات والمصفحات والمدافع القديمة المتنوعة والتي يعود بعضها الى مطلع القرن الماضي (الحربين العالميتين الأولى والثانية)، وهي بعهدة اللواء اللوجستي وقد وزعت في كفرشيما والكرنتينا وثكنات أخرى، إضافة الى ما هو معروض في اليرزة.
كما تضم موجودات المتحف مجموعة من الآليات والمدرعات التي غنمها الجيش بعد اندحار العدو الاسرائيلي من الجنوب والبقاع الغربي في أيار من العام 2000.

تصوير:
وجدي عازار