قضايا اقليمية

المجتمع الاسرائيلي بين منطق الحـرب وضـــرورات السلام
إعداد: احسان مرتضى
باحث في الشؤون الإسرائيلية

القيادات الإسرائيلية ما تزال تستعين بجدارها الحديدي
لفرض سلام المقابر على العرب
وهي تستعين بأساليب الخداع والاغواء والتفكيك أو ما يسمى الفوضى البناءة لتحقيق ذلك


لا شك بأن لدى بعض شرائح المجتمع الاسرائيلي رغبة معينة في انهاء الصراع العربي - الاسرائيلي والوصول الى تسوية سلمية تكون كحل وسط للمشاكل والقضايا المتنازع عليها. وحتى ان باني الدولة الاسرائيلية دافيد بن غوريون كانت له في بعض الاحيان حالات من التأمل والتفكير في خصوصيات هذا الصراع الذي يكاد يكون ابدياً ومن دون اية فرص حقيقية لحسمه. فالعام 1938 وفي سياق ثورة القسام، قال بكل وضوح وصراحة إزاء المقاومة الفلسطينية المتصاعدة ما يلي: «نحن هنا لا نجابه ارهاباً وانما نجابه حرباً قومية اعلنها العرب علينا. وما الارهاب سوى احدى وسائل الحرب ضد ما يعتبرونه اغتصاباً لوطنهم من قبل اليهود، ولذا يحاربون، ومن وراء الارهابيين حركة قد تكون بدائية ولكنها ليست خالية من المثالية والتضحية بالذات. يجب ألا نبني الآمال على ان العصابات الارهابية سوف ينال منها التعب، فإذا ما نال التعب من احدهم فسوف يحل آخرون محله. فالشعب الذي يحارب ضد اغتصاب ارضه لن ينال منه التعب سريعاً.. وحينما نقول ان العرب هم البادئون بالعدوان ونحن ندافع عن انفسنا فإننا نذكر نصف الحقيقة فقط. ومن الناحية السياسية نحن البادئون بالعدوان وهم المدافعون عن انفسهم. لأن الأرض أرضهم قاطنون فيها بينما نحن نريد ان نأتي ونستوطن، ونأخذها منهم، حسب تصورهم».
يتبين من خلال هذه الاعترافات انه كان منذ البداية ثمة ادراك واضح المعالم لدى الصهاينة لطبيعة الغزوة الصهيونية الاستيطانية الاحتلالية وطبيعة المقاومة العربية. ولكن السلوك الناتج عن هذا الادراك كان متبايناً. فكان هناك نمط من الصهاينة ادرك طبيعة الجرم الكامن في عملية الاغتصاب وتغييب العرب المحتلة ارضهم بصورة تلفيقية تعسفية، فتنكّر لرؤية الحركة الصهيونية وتخلى عنها وعاد ادراجه من حيث اتى الى أوروبا او الاتحاد السوفياتي سابقاً. إلا أن هؤلاء كانوا ويبقون قلة نادرة ويتم تهميشهم واسقاطهم من التواريخ الصهيونية والادراك الصهيوني. ولذلك لا نرى لهم اثراً في البرامج السياسية او العسكرية الصهيونية ضد العرب، وبالتالي فإنهم بقوا مثل علامة فارقة في محاولات التعبير لدى بعض اليهود عن الضمير المعذب والشعور بارتكاب الجناية. ولعل يهودا ماغنيس المتوفى العام 1948 كان من ابرز الشخصيات المأسوية في تاريخ الصراع العربي - الصهيوني، وكان رئيساً سابقاً للجامعة العبرية، وقد ادرك في حينه الخلل العميق والغبن الفاضح الكامن في وعد بلفور منذ البداية لأنه انكر على العرب حقوقهم القومية والسياسية. وقد امضى كل حياته في محاولة للوصول الى صيغة صهيونية تستنير بلحظة ادراك الحقيقة النادرة ولكن من دون جدوى. كما وان المفكر الصيهوني المعروف باسم آحاد هاعام كان يولول على الدماء العربية النازفة ويستمطر اللعنات على شعبه لما اقترفه من آثام، الا انه ما لبث ان اصبح في ما بعد مستشاراً لحاييم وايزمان اول رئيس لدولة اسرائيل، خلال الفترة التي سبقت وعد بلفور، ثم انتهى به المطاف بالاستقرار على الارض الفلسطينية بكل ما  يحمله ذلك من معاني الاغتصاب والقهر.
وفي المقابل كان هناك ايضاً نموذج من اليهود والمستوطنين الذين لم يشاؤوا الاختباء وراء السحابة الكثيفة من «الاعتذاريات» الصهيونية عن الحقوق اليهودية التاريخية الازلية المزعومة، ولم يختبئ وراء الحجج الليبرالية بشأن شراء فلسطين، او الحجج الاشتراكية المتذرعة برجعية القومية العربية وخلافه من الاستراتيجيات الادراكية والتبريرية. وابرز من يمثل هذا النموذج زعيم الحركة الصهيونية التصحيحية فلاديمير جابوتنسكي واتباعه من امثال بيغن ونتنياهو وليبرمان الذين يؤكدون بأن الحركة الصهيونية هي جزء لا يتجزأ من التشكيل الاستعماري الغربي الذي لم يكن بوسعه ان يحقق انتشاره الا بحد السيف ولذلك كان يقول: ان العرب لن يقبلوا الصهيونية بأطماعها واعتداءاتها الا اذا وجدوا انفسهم في مواجهة حائط حديدي.
وقد اجمع الصهاينة في ما بعد على عدم الحاجة الى عقد اتفاقيات صلح مع العرب، ومن هذا الباب كان منهم من رفض الاتفاقيات مع مصر والاردن ومن ثم مع الفلسطينيين ايضاً. فالصلح مع العرب بحسب قول بن غوريون: ما هو الا وسيلة فقط، اما الغاية فهي الاقامة الكاملة للصهيونية ولهذا  فقط نريد الوصول الى اتفاق مع العرب. واضاف: ان الشعب اليهودي لن يوافق، بل لن يجسر على ان يوافق على اية اتفاقية لا تخدم هذا الغرض (ومن هنا كان قتل رابين والغاء اوسلو وتعطيل خارطة الطريق...)، ثم يتابع: ولذا فالاتفاق الشامل (اي السلام الشامل والعادل الذي يطالب به العرب) امر غير مطروح، والعرب لن يستسلموا في ارض اسرائيل الا بعد ان يستولي عليهم اليأس الكامل، يأس لا ينجم عن فشل الاضطرابات (الانتفاضات) التي يثيرونها او التمرد الذي يقومون به وحسب وانما ينجم عن نمونا نحن اصحاب الحقوق اليهودية المطلقة في هذا البلد. ثم يختم قوله بالإقرار بأنه: «ليس في التاريخ مثل واحد لأمة فتحت بوابات وطنها للآخرين. ان تشخيصي للموضوع انه سيتم التوصل الى اتفاق مع العرب لأنني أؤمن بالقوة، قوتنا الخاصة التي ستنمو، وهي إن حققت هذا النمو فإن الاتفاق سيتم ابرامه». وفي هذا الكلام، كما نلاحظ، عودة وتأكيد على نظرية الجدار الحديدي التي تبناها جابوتنسكي كما سبق ذكره. وكان حاييم وايزمان بدوره يقول ان اي سلام مبني على العدل مع العرب  (اي يؤدي الى إعطاء الفلسطينيين حقوقهم السياسية والدينية والمدنية كافة)، عواقبه وخيمة، إذ سوف يؤدي الى سيطرة العرب على الاموال فلو تم تأسيس حكومة في اطار هذا السلام العادل، فإن العرب سوف يمثلون فيها، وهي حكومة ستتحكم بالهجرة والارض والتشريع.
وعلى الرغم من هذا الفكر الصهيوني المتحفظ والمغلق على الأنا اليهودية العليا المحتكرة للبطولة والحق والرافضة للآخر، رفضاً مَرَضياً مهووساً فإنه مع ذلك هناك بعض الاعتبارات الموضوعية والواقعية التي تجعل الاسرائيليين مرغمين على التنازل عن بعض كبريائهم وانانيتهم والتفكير بالتالي باحتمالات السلام ومنها:
- لم تأت الانتصارات العسكرية ولا امتلاك القوة العسكرية الساحقة بالسلام والامن الاسرائيليين. وهذا ما فشل فيه كل القادة الصهاينة منذ بن غوريون وحتى اولمرت، بحيث باتت امنيتهم الكبرى هي الوصول الى حالة من «الحرب الراقدة».
- منطق جيش الشعب (النظامي والاحتياطي) لم يعد ممكناً بالنسبة الى الجيش الاسرائيلي بالسهولة التي كان عليها من ذي قبل، وذلك بسبب مقتضيات الاقتصاد الاسرائيلي في ظل العولمة وبسبب ان المستوطنين الاسرائيليين لم يعودوا قادرين في اجيالهم المتجددة على تحمل الحرب الدائمة والاستنفار المتواصل، لأن الحرب الخاطفة والساحقة، التي لا تتطلب تكلفة بشرية واقتصادية عالية، لم تعد ممكنة.
- ان تزايد تكلفة الحرب يعني تلقائياً تزايد اعتماد اسرائيل على الولايات المتحدة ودول غربية اخرى، في ظل اجواء ومؤشرات تثير القلق مثل تصاعد المزاج الانعزالي لدى الشعب الاميركي مما قد يتحول في اية لحظة، وتحت ضغوطات القوى الشعبوية، الى تحرك سياسي يرفض استمرارية التورط في مغامرات خارجية (افغانستان والعراق وربما ايران) ويطالب بخفض المعونات المالية للحلفاء او العملاء الخارجيين وفي مقدمهم اسرائيل.
- تزايد ظهور علامات التذمر والارهاق في صفوف المستوطنين الجدد بنوع خاص، الامر الذي تجلى في ازمة الفرار من الخدمة العسكرية والتكالب على الاستهلاك.
- تراجع مؤشرات الهجرة اليهودية الوافدة وتزايد احجام النزوح ونسبها عن اسرائيل او ما يسمى الهجرة المضادة.
- لقد تمكن العرب، في لبنان وفلسطين، بنوع خاص، من تطوير اساليب ذكية للهجوم والدفاع ضمن اساليب حرب العصابات التي اثبتت جدواها وفاعليتها على الرغم من كلفتها العالية.
وهي ادت، في ما ادت اليه، الى اندحار الجيش الصهيوني عن لبنان في مشهد فريد من نوعه من الاذلال، والى الانسحاب القسري عن قطاع غزة وبعض اجزاء من الضفة الغربية في فلسطين.
وعلى الرغم من كل هذه المؤشرات والاعتبارات فإن القيادات الاسرائيلية ما تزال تركب رأسها المتحجر وتستعين بجدارها الحديدي لفرض سلام المقابر على العرب، وهي تستعين في تحقيق ذلك بما يسمى النظام العالمي الجديد المبني على اساليب الخداع والاغواء والتفكيك او ما يسمى الفوضى البناءة.