قصة قصيرة

المحبّة المحبّة
إعداد: العميد الركن المتقاعد إميل منذر

مرّت أيّام كثيرة وبي رغبة شديدة في الكتابة، لكن لم يَرُقْني أيٌّ من المواضيع التي قال أبو عثمان الجاحظ إنها مطروحة في الطرقات. لذلك عقلتُ رغبتي وتركتُ قلمي مرتاحًا في متّكئه إلى أن أتاني الموضوع أمسِ على طبق من فضّة؛ فاستنزلتُ الرحمة على طرَفة بن العبد الذي قال:
ستُبدي لكَ الأيّامُ ما كنتَ جاهلًا
ويأتيكَ بالأخبارِ مَنْ لم تُزوِّدِ.
أجل، لقد أتتني الأخبار إلى البيت ممّن لم أُعطهم زادًا ليجمعوها، وكشف لي الزمن حكاية خبّأها عقودًا عني على قيد خطوة مني.


مساء أمس جاءني صديق ليعود أمّي المريضة. وصل وسلّم وجلس مقطِّبًا جبينه عاقدًا حاجبيه، وفي نظرات عينيه تلوح أمارات زعل عميق. قلتُ: «ما بك يا عبّود؟ لمَ هذا الحزن والتقطيب؟».

قال: «لا أعرف، والله، ما حلّ بالناس، لماذا تغيّروا، وكيف انقلبوا. ألا قبّحه الله زمنًا رديئًا». ولمّا ألفاني وأمّي منصتَين بانتباه، تابع يقول: «بعد ظهر أمس كنت عائدًا من متجري في المدينة. ولمّا أصبحتُ على بُعد بضع مئات من الأمتار عن بيتي، تعطّلت سيّارتي وتوقّفت. فتحتُ غطاء المحرّك متفحّصًا، لكنني لم أهتدِ إلى مكمن العطل؛ فلبثتُ منتظرًا على قارعة الطريق وقتًا طويلًا من غير أن تمرّ ذات أربع عجلات من هناك. وأخيرًا تفاءلتُ خيرًا عندما لمحتُ جاري مقبلًا بسيّارته نحوي. أشرتُ إليه بالتوقُّف؛ فتوقّف».


- ما بك يا عبّود؟ سألني.


- لستُ أعرف ما أصاب هذه السيّارة اللعينة حتى حَرَنَتْ في وسط الطريق.


- لمَ لا تستبدلها بأخرى أحدث منها؟!! هذه أكل الدهر عليها وشرب.


في هذه الأثناء أتاني صديق آخر؛ فعرّفتُه بعبّود، وعرّفتُ عبّودًا به. وكي لا يفوت زائري الجديد شيء من الحكاية، أعدتُ على مسمعه ما كان صديقي يتحدّث به. حينئذٍ تابع عبّود يقول: سألتُ جاري «مُنجدًا» أن يقطر سيّارتي إلى البيت فأكون ممتنًّا له إلى الأبد.


- ليس بحوزتي حبل قطر، أجاب.


- لديّ واحد، قلت.


- أُقسم إني على عجَلة من أمري. ثمّة مَن ينتظرني في المدينة لأمر هامّ.


- صادق من غير قسَم يا جار. هلاّ أعرتَني، إذًا، هاتفك النقّال لأتّصل بالميكانيكيّ «موفّق» ليُوافيني إلى هنا، لو سمحت. لقد نسيتُ هاتفي في البيت.


- ركيمة هاتفي فارغة تمامًا. ولكن لا تقلق. سأمرّ بالرجُل في الحال، وأُبلغه بحاجتك إليه.


- شكرًا لك يا جار. شكرًا لك.


- وما حدث بعد ذلك؟ سألتُ عبّودًا.


- أتى موفّق، وأصلح سيّارتي؛ فعدتُ بها إلى البيت.


- عظيم، قال صديقي الآخر. جارك خدمك؛ فعلامَ العتب؟!


- لقد سمعتُم نصف الحكاية، ولم تسمعوا نصفها الثاني بعد.


- هاته، قالت أمّي.


- صباح هذا اليوم، تابع عبّود، سمعتُ، وأنا في متجري، صياحًا مصدره كاراج موفّق؛ فأرسلتُ ابني يستطلع الخبر. ولمّا عاد حدّثني بما سمع ورأى. قال: سمعتُ جارنا منجدًا يصيح بوجه الميكانيكيّ قائلًا: أعطِني حصّتي. هاتِ حقّي.


- على أيّ حصّة وحقّ تتكلّم؟!! قال موفّق.


- لقد أبلغتُك بحاجة عبّود إليك. تدبّرتُ لك عملًا لا بدّ أنه درّ عليك مبلغًا كبيرًا. أتُنكر فضلي وتجحدني؟!!


- تدبّرتَ لي عملًا!! أتراني كنتُ جالسًا مكتوف اليدين بلا عمل!! إذا كنتَ تريد أجرًا، فخُذه من عبّود لا مني.


- كيف أطلب منه وهو جاري؟!!


- ونِعْمَ الجار أنت!


- أتسخر مني؟!! قال منجد وأمسك موفّقًا بقميصه، وكاد يطرحه أرضًا لولا أن تجمهرَ الناس، وفصلوا بينهما.


هكذا ختم عبّود حكايته، وقطّب جبينه، وأشاح بنظره والدمعة في عينه. أمّا نحن فطأطأنا جميعًا، واعتصمنا بحبل الصمت حتى قطعه زائري بقوله: ما أشبه حكايتك بحكايتي يا سيّد عبّود!!
- وهل لك حكاية مثلها؟ سأل.


- اسمعوها... كان لي صديق أعرفه ويعرفني منذ خمسة عشر عامًا. يزورني في بيتي وأزوره من غير ميعاد. وحدث أن احتجتُ يومًا إلى مئة دولار؛ فسألتُه أن يُقرضني إيّاها، على أن أعيدها إليه عندما أقبض مرتّبي في آخر الشهر. فوافق، وأعطانيها وقال: «أريدها، حتى مساء الحادي والثلاثين من هذا الشهر، مئة وعشرة». في بادئ الأمر ظننتُه يمزح؛ فضحكت. لكن سرعان ما اكتشفتُ أنه جادّ عندما طلب مني التوقيع على تعهّد خطّيّ بإعادة المال في الوقت المحدّد مضافًا إليه القيمة المتّفق عليها، وقال: لا تؤاخذني أيها الصديق؛ فالدنيا فيها حياة وموت، كما تعلم.


عندئذٍ خرجت أمّي عن صمتها بعدما ملأت المرارة قلبها وشحن الحزن نفسها، وقالت بحرقة: «ألا رحم الله زماننا ما كان أجمله! زمانكم رديء، نضبت فيه المحبّة وامّحت الإنسانية وتحجّرت القلوب. في أيّامنا كان الجار يغيث جاره من غير منّة، والصديق يهبّ لنجدة صديقه قبل أن يسأله. وإذا أقرض أحدٌ مالًا أحدًا، اكتفى بشعرة من شاربه. واحسرتاه على تلك الأيّام كيف مضت!». إذ ذاك ضحك عبّود وقال: اليوم يعطي المَدينُ دائنَه شاربَيه كليهما إذا رضيَ الأخير بهما، ولا يفكّر باسترجاع شعرة واحدة منهما حتى.


- سمعتُ أنهم هنا، في المدن والضواحي، يبيعون التراب. فهل الخبر صحيح؟ سألت أمّي.


- لقد وصلت العدوى إلى بعض القرى أيضًا يا أمّي.


- هذه، والله، نهاية الأزمنة.


والأغرب من حكايتي هذه، تابع زائري يقول، أنني سألتُ جارًا لي مرّة أن يعيرني فأسه لقطع غصن يابس في إحدى أشجار حديقتي؛ فأجاب بأنّ عصاها مكسورة. لكن بعد ظهر ذلك اليوم رأيته يقطع بها الحطب.


- ألا يُعقَل أنه ذهب إلى السوق وابتاع عصًا جديدة؟ سألت.


- لا. لأنّ ذلك اليوم كان يوم أحد، ولا متجر في السوق فاتحًا أبوابه.


في هذه الأثناء ضحكتُ وقلت: «لقد تذكّرتُ حكاية على صِلة بهذا الموضوع»؛ فطلب صديقاي أن أقصّها عليهما. قلت: تعارك يومًا رجلان؛ فضرب أحدهما الآخر بالمطرقة ضربة كسرت يده، ما دفعَ المجنيَّ عليه إلى مخاصمة غريمه لدى القاضي؛ فعُقدت جلسة محاكمة. وإذ كان صديق الجاني حاضرًا إلى جانب مَن حضروا، وقف وشتم صديقه بأقذع الشتائم، فما كان من القاضي إلا أن أمره بالجلوس والتزام الصمت، وإلا طرده خارجًا. ولمّا جلس، سأله القاضي عن سبب شتمه الرجُل، قال: سيّدي القاضي. هذا جاري. وكنتُ كلّما سألتُه إعارتي مطرقته، قال: لا مطرقة عندي.


عندئذٍ ضحك صديقاي بصوت عالٍ، كما ضحكت أمّي متسبّبةً لنفسها بنوبة سعال حادّ. ولمّا هدأ كلّ هذا، سألَنا عبّود: أسمعتم قصّة الرجُل الذي كان يسكن الطبقة الرابعة من المبنى وأراد أن يستعير المكواة من جارته في الطابق السفليّ؟


- لا. أجبنا معًا.


- اسمعوها إذًا... أراد صاحبنا هذا أن يستعير مكواة جارته. نزل الدرج، وتوقّف في الطبقة الثالثة وقال في نفسه: «عليّ أن أعود؛ فربّما قالت لي المرأة إنها بحاجة إلى مكواتها فلا تستطيع إعارتي إيّاها. ولكن لأنزلْ وأرَ». وصل إلى الطبقة الثانية وتوقّف لأنه قال في نفسه: «قد تقول إنّ جارتها استعارتها منها ولم تُعِدها إليها بعد. ولكن لأنزلْ، فلن أخسر شيئًا». هبط إلى الطبقة الأولى وتوقّف: «ماذا لو قالت إنّ بها عطلًا ولم أصلحها بعد؟ ولكن ما الضير في أن أنزل وأسألها؟!». بلغ باب بيتها في الطابق السفليّ وطرقه. ولمّا فتحت له، قال: «تبًّا لكِ ولمكواتك. لم أعُد أريدها».


هذه المرّة ضحكنا كلّنا بصوت أعلى. ولمّا هدأنا، قالت أمّي: ما هذه المُلَح والنوادر المضحكة إلا تعبير عن واقع مبكٍ اليوم. آداب الشعب هي دائمًا مرآة حالهم... اسمعوا حكايتي أنا فتعرفوا أيّ منقلَب قد انقلب الزمن، وإلى أيّ حدّ تغيّر الناس.


- هاتي حكايتك يا خالتي، قال عبّود.


- كنتُ في العاشرة من عمري عندما أُصبتُ بذات الرئة؛ فلزمتُ الفراش أيّامًا أُسقى ماء البابونج المرّ، وأتنشّق بخار أوراق الكينا المغليّة. إلا أنّ شيئًا من هذا لم يُجدِني نفعًا. ولمّا ازدادت حالي سوءًا وصرت أسعل بغير انقطاع وأتصبّب عرقًا جرّاء حمّى لا تبارحني ليل نهار، خافت أمّي عليّ؛ فذهبت لاستشارة «هيلانة» في الحارة الغربية علّها تصف لي ما يخفّف عني. وكانت هيلانة أعرَفَ أهل الضيعة بفوائد الأعشاب البرّية وفنون الطبّ العربيّ. فكان الناس ينادونها بـــ«الحكيمة» تحبُّبًا.


وصلتْ أمّي تلهث بعد مسير نصف ساعة بخطىً حثيثة؛ فرأت الحكيمة تخبز على الصاج، وابنتها توقد النار تحته. قالت لها: بحياتك يا أختي. أريدكِ أن تذهبي إلى البيت معي فتعايني ابنتي. إنها مريضة جدًّا.


- لماذا تبكين؟! ستكون بخير ان شاء الله.


- ليسمعِ الله منكِ يا أختي، ولْيقدّرْني على ردّ جميلك.


- لا بدّ من أن تردّي جميلي. أسمعتِ؟ إيّاكِ أن تنسي، قالت وهي تبتسم وتنهض. وإذ عرفت أمّي أنّ الحكيمة تمازحها، ابتسمت ومسحت الدموع عن شفتيها. أمّا المرأة فنفضت بقايا الطحين عن مئزرها، ثم فكّته عن خصرها وألقت به جانبًا، وأوصت ابنتها أن تطفئ النار، وتحرس الخبز والعجين من سطو الهررة حتى تعود.


وأردفت أمّي تقول: عندما وصلْنا، هالَ هيلانةَ ما رأته من سوء حالي. وضعت راحتها على جبيني، ثم طلبت من أمّي إحضار خرقة مبلّلة بالماء البارد على الفور، ثم سمعتُها تقول لها: «عليكم نقل البنت إلى الطبيب الآن». في هذه الأثناء لمحتُ الدموع تفور من عينَي أمّي وهي تسأل نفسها: «كيف نأخذها إلى الطبيب؟!!». ثم نادت أبي وطلبت منه أن يتدبّر وسيلة نقل في الحال؛ فخرج خافًّا خطاه إلى بيت فارس؛ فرأى الرجُل قد شدَّ على ظهر الفرس كيسَي قمح يريد حملهما إلى المطحنة؛ فسأله استعارة فرسه لنقلي إلى الطبيب في دير القمر.


- أقول إنه وافق ولكن بعد عودته من المطحنة، قلتُ.


- لا، قالت أمّي.


- ألم يوافق؟!!!


- لم يوافق؟!!! لا أحد في ضيعتنا كان يردّ سائلًا حاجة، أو يتأخّر عن عمل خير يقدر عليه. الناس كانت تحبّ بعضها... لقد أنزل فارس الحِمْلَ، ونادى ولده ذا الاثنَي عشر ربيعًا: «اذهبْ مع عمّك أبي أسعد، وساعده إن احتاج إلى شيء».


أتى أبي بالفرس، وثبّت عن جانبَي الجُلّ صندوقَين. واحدًا عن كلّ جانب. ثم وضعني في أحدهما. وفي الآخَر وضع حجرًا بمثل وزني. وفيما قاد الصبيُّ ابنُ فارس الفرسَ برسنها، مشى أبي بجانبها ممسكًا بيدي كي لا أخاف أو أقع.


في عيادته في دير القمر عاينني طبيب من آل البستاني لم أعُد أذكر اسمه الأوّل، ووصف لي الدواء. ولمّا همّ أبي بدفع أجره، قال الطبيب له: أعِدْ محفظتك إلى جيبك. أنا ممّن لا ينسون الجميل يا أبا أسعد.


- على أيّ جميل تتكلّم يا دكتور؟!!


- ألا تذكر يوم عرّجتُ وزوجتي وابنتي على بيتك في الصيف الماضي؟!!


- بلى. ولكن ما الجميل الذي صنعته لكم يومذاك؟!! لقد اشتريتم زيتًا وتينًا ودفعتم الثمن وأزود.


- والديك الملوّن الذي أعجب ابنتي فأمسكتَ به وربطته ووضعتَه في صندوق سيّارتي، هل قبلتَ يومذاك أن تأخذ ثمنه؟!!


- لم يكن ثمنه بذي بال يا دكتور.


- الشيء ليس بثمنه ولكن بموقعه. والعمل الحسن ليس بقيمته بقدر ما هو بطاقة صاحبه عليه.... والآن هيّا اذهبْ، أردف الطبيب ضاحكًا وهو يدفع أبي برفق نحو الباب: «صحن البرغل ينادي معدتي الفارغة». كان- رحمه الله- صاحب روح مرحة، وذا خبرة تفوق التي كانت لغيره في زمانه.


وتابعت أمّي: مضينا من هناك، وعدنا إلى قريتنا. وكانت الحكيمة تجيء إلينا كلّ يوم لتطمئنّ عليّ حتى أبْلَلْتُ من سقمي وتعافيت.


هكذا ختمت أمّي حكايتها؛ فساد صمت طويل قبل أن يرفع عبّود عن المنضدة كتابًا كنتُ أطالعه ويسألني عن موضوعه؛ فأخذته من يده وفتحته: «اسمعوا ما قرأت اليوم فيه: ... وضرب الملك على المدينة حصارًا طويلًا. وإذ بقيت منيعة عليه، أرسل جاسوسًا يتحرّى الجزء الأقلّ تحصينًا في السور ليدخل الجنود عبره. وعاد الجاسوس بعد أيّام وقال للملك إنّ المدينة حصينة جدًّا، ولا يمكن اقتحامها من أيّ جهة. وبعد سنة أوفد الملك الجاسـوس إيّاه مرّة ثانية؛ فاستطلع وتحرّى وعـاد ليخبر الملك أنه آنَ الأوان لأخذ المدينة لأنها لم تعُد حصينة كما كانت. فسـأله الملك عمّـا تغيّر فيها، قـال: عندما دخلتُهـا أوّل مرّة، جـلتُ في أسواقهـا طويلًا. وكـنت كلّما سألتُ أحدَهم عن حاجة ليست عنده، دلّني أين أجدها. أما هذه المرّة فكانت الأجوبة دائمًا: «لستُ أعرف أين. عليك أن تبحث». وهذا معناه أن الناس ما عادوا يحبّون بعضهم كما كانوا من قبل. حصانة المدينة ليست في مناعة سورها بقدر ما هي بتضامن أبنائها. عندئذٍ أمر الملك جيشه باقتحام المدينة؛ فسقطت من دون مقاومة».


عندما رحل صديقاي وأغمضت أمّي عينيها في فراشها تستذكر الماضي الجميل، تناولتُ قلمي الذي جفتْه المبراة طويلًا، وجلستُ أكتب.