دراسات وأبحاث

المحيط الهندي ين أمواج التعاون وشواطئ النزاع
إعداد: الدكتور احمد علّو
(العميد المتقاعد)

يعتبر المحيط الهندي من أقدم المحيطات التي أبحر الإنسان فيها واستخدمها، منذ حوالى 5000 سنة تقريباً. وهو ثالث أكبر المحيطات على سطح الكرة الأرضية، بعد المحيط الهادئ، والمحيط الأطلسي، ويغطي حوالى 20٪ من مساحة الماء على سطح الأرض. وتبلغ مساحته مع البحار التابعة (البحر الأحمر والخليج العربي وبحر العرب) حوالى 74 مليون كلم2، (تحديداً 73.556 مليون كلم2).
وقد قيل إن أقدار كثير من الدول التي تبعد أكثر من 2000 كلم عن شواطئ المحيط الهندي ترتبط به.
فلهذا المحيط الذي استخدمه الإنسان منذ القدم، أهمية خاصة في حسابات الدول المشاطئة له والبعيدة عنه. ومن أسباب ذلك أن مياهه تحتضن 70٪ من حركة نقل الطاقة عبر البحار.

 

الموقع وأهميته الجغرافية
يقع المحيط الهندي ما بين قارة آسيا من الشمال والشرق، والمحيط الأطلسي، وقارة أفريقيا من الغرب، وقارة أوقيانيا (أستراليا)، والمحيط الهادئ من الشرق، ويحدّه من الجنوب المحيط المتجمد الجنوبي بعد أن تمّ إقتطاع مساحات منه لصالح هذا المحيط اعتباراً من العام 2000 من قبل «المنظمة الدولية الهيدروغرافية».
تكمن أهمية موقع المحيط الهندي الجغرافية في كونه معبراً للتبادل التجاري ما بين أفريقيا وآسيا، وهذا ما جعله مسرحاً للنزاعات، ولم تنجح أي دولة في السيطرة عليه كاملاً طوال فترة تاريخه الطويل وحتى القرن التاسع عشر، عندما احتلت بريطانيا معظم البلدان المطلة عليه خصوصاً الهند، وأستراليا وسواحل شبه الجزيرة العربية والشواطئ الأفريقية.
ويضم المحيط الهندي عدداً مهماً من الجزر الصغيرة والكبيرة والتي تلعب دوراً مهماً في جيوستراتيجيته أهمها: جزيرة مدغشقر، جزر القمر، جزر سيشل، المالديف، موريسيوس، سريلانكا ودييغو غارسيا، وسوقطرة، كما أن جزر أندوسيا تلعب دوراً مماً في رسم حدوده الشرقية مع المحيط الهادئ وبحر الصين، كذلك مع الشواطئ الاسترالية.
كما أن هذا المحيط يضم ثلاثاً من أهم المعابر المائية، أو ما يسمى «نقاط الإختناق» (Choke points) في التجارة الدولية، والأهمية الإستراتيجية وهي مضيق باب المندب نحو البحر الأحمر وقناة السويس، مضيق هرمز نحو الخليج العربي ومضيق مالاقا ما بين أندونيسيا وماليزيا، وباتجاه بحر الصين الجنوبي والمحيط الهادئ.
أما تسمية هذا المحيط بـ«الهندي» فتعود الى كون شبه القارة الهندية تشرف على القسم الأكبر من قسمه الشمالي، وتدخل فيه بشكل شبه جزيرة ضخمة، والهند من أقدم الحضارات التي استخدمت هذا المحيط في علاقاتها مع جيرانها الصينيين من الشرق، وبلاد ما بين النهرين ومصر والفينيقيين من جهة الغرب.
أما إسمه في اللغة السنسكريتية القديمة فهو Ratnakara ومعناه: «إله الجواهر« أو «خالق وصانع الجواهر»

 

أهمية المحيط الجيوستراتيجية
تتشكّل أهمية المحيط الهندي الجيو - استراتيجية من خلال أهمية الدول المطلة عليه جيوبوليتيكياً، فمن الشمال: يشاطئ المحيط كل من الدول الآسيوية الآتية: دول شبه الجزيرة العربية (اليمن والسعودية ومسقط) وإيران والباكستان والهند وبنغلادش وتايلاند وماليزيا وأندونيسيا. ومن الشرق، أوستراليا وبعض الجزر الأندونيسية، أما من الغرب فتطل عليه دول أفريقيا الشرقية مثل الصومال وكينيا وموزامبيق وتانزانيا، ومدغشقر وجنوب أفريقيا، ويتصل بالمحيط الأطلسي.
كما أنه يضم عدداً من الجزر الإستراتيجية والمضائق والمعابر التي تعتبر نقاطاً جيوستراتيجية مهمة لموقعها الفعّال في التأثير على حركة التجارة والنقل البحري وحركة السفن التي تنقل الطاقة من بترول وغاز من الشرق الأوسط نحو الغرب، أو منه نحو الشرق الأقصى، الصين واليابان خصوصاً، وتشكّل حوالى 70٪ من حركة نقل الطاقة عبر البحار. كما أن المحيط يشكّل اليوم مسرحاً لحركة الأساطيل البحرية لمختلف دول العالم خصوصاً الدول الكبرى التي تعمل على حماية أساطيلها التجارية أو تلك التي تنقل الطاقة، لذلك فإن المحيط الهندي تحوّل اليوم الى ساحة عالمية دولية لحماية الأمن القومي لعدد كبير من دول الغرب وفي مقدمها أميركا وأوروبا وحتى أفريقيا وآسيا الشرقية وخصوصاً الصين والهند واليابان، كما أنه وبحكم التنافس الدولي على منابع الطاقة وتأمين وصولها الى الغرب فرض وجود أساطيل ضخمة لهذه الدول وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية وبعض الدول الأوروبية وروسيا، بالإضافة الى أساطيل الصين والهند.
كما أن أمن المحيط الهندي اليوم وأهميته لا ترتبط فحسب بالدول المشاطئة أو صاحبة الحاجة الى المواد الأولية المنقولة عبره، بل حتى الى تلك الدول البعيدة عن الشاطئ والتي يتم نقل الطاقة منها عبر خطوط الأنابيب التي تصب على شواطئه والبعيدة عنها آلاف الكيومترات كدول آسيا الوسطى مثلاً أو السودان، ومصر وبعض دول أفريقيا وآسيا الشرقية. وهذا ما دفع بعض المحللين الإستراتيجيين الى القول «إن أقدار العديد من الدول والتي تبعد أكثر من 2000 كلم عن شواطئ المحيط، ترتبط به». كما اعتبروا أن مرافئ المحيط الآسيوية تعتبر «نقاط إخلاء» طوارئ (Evacuation Points) لنفط بحر قزوين، أو القوقاز.
والمحيط الهندي الكبير، كما يرى بعض المحللين السياسيين، يتطابق جغرافياً مع ما يعرف بـ«القوس الإسلامي» الممتد من الصحراء الكبرى في أفريقيا وحتى جزر أندونيسيا، كما أن العرب الذين يقيمون ضمن هذا القوس كانوا، ومنذ القرون الوسطى بحّارة مهرة، وقد جابوا هذا المحيط واستخدموه في نقل بضائعهم، ونقلوا عقيدتهم (الإسلام) ونشروها في معظم الدول المشاطئة من إيران الى باكستان والهند وبنغلادش وماليزيا وحتى أندونيسيا والصين.
كتب المؤرخ «فيليب فرناندز - أرمستو»: «كان حاكم مالاقا في أندونيسيا، كائناً من كان، يمسك بيديه بعنق مدينة البندقية في إيطاليا، خلال القرن الخامس عشر»: دلالة على اتساع تجارة المدن الإيطالية، مع آسيا؛ كما قيل ايضاً: «إذا كان العالم بيضة فمضيق هرمز هو بمثابة «المح»، أي صفار البيضة، لهذا العالم. وخلال التاريخ، ظهر أن الطرق البحرية تمتاز بأهمية أكبر من الطرق البرية خصوصاً في ما يتعلق بالتجارة، ذلك أن السفن تنقل بضاعة أكثر، بكلفة أقل، وحتى اليوم، وعلى الـرغم من التطور التقني الهائل، وعمليات الشحـن والنقل الجـوي، والعـولمـة فإن النقل البـحري، والتجارة عبر شحن البضائع المختلفة في مستوعبات كبيرة في السفن الضخمة، تبقى هي الأكثر شيوعاً وتوفيراً في التجارة العالمية، وتشكّل حوالى 90٪ منها، كما أن حوالى 65٪ مـن تجارة البترول تتم عبر البحر.

 

المحيط في الجيوبولتيك
ينظر البعض الى المحيط الهندي، ليس كمظهر جغرافي فحسب، بل «كفكرة»، (Idea)، فهو يوحّد ما بين مركزية «عالم الإسلام» وسياسات الطاقة الكونية، وصعود الهند والصين لإرساء نظام عالمي متعدد الأقطاب. فالمحيط الهندي اليوم يسيطر عليه «خليجان واسعان» هما: «بحر العرب»، و«خليج البنغال»، حيث يقع في رأس كل منهما دولة غير مستقرة، الأولى هي باكستان، والثانية هي ميانمار أو (بورما). وأي إنيهار للدولتين سيؤثر مباشرة في دول الجوار، الأولى مع إيران والهند، من خلال مجموعتين إتنيتين هما «البلوش» و«السنديين»، أما إنهيار النظام أو الدولة في ميانمار فسيؤثر في الصراع الصيني - الهندي والتنافس على منابع الطاقة بينهما. فالصين تسيطر بشكل معين على سياسات هذه الدولة وترغب في شق قناة، أو مدّ خط أنابيب لنقل الطاقة عبر البرزخ البورمي لتجنّب المرور في مضيق مالاقا توفيراً للوقت والمال، ومن هنا كان الإندفاع الصيني والهندي في بناء أساطيلهما البحرية وتعزيزها لحماية أمنهما القومي، وتأمين وصول الموارد الى أراضيهما، عبر المحيط وليس عبر الطرق البرية.

 

الصين وتحديات نقل الطاقة
إن حاجة الصين الى الطاقة تضاعفت ما بين 1995 و2005، وسوف تتضاعف خلال الـ15 سنة القادمة، كما يرى الخبراء، وحتى العام 2020، ومن المتوقع أن تستورد 7.3 مليون برميل يومياً، أي نصف إنتاج المملكة العربية السعودية المتوقع، وحوالى 85٪ من النفط ومشتقاته الذاهبة الى الصين ستمر عبر المحيط الهندي ومضيق مالاقا، ولذلك فقد اعتمدت الصين استراتيجية «عقد اللؤلؤ» (String of Pearls) في المحيط الهندي، والتي تعتمد على إقامة سلسلة من القواعد البحرية على طول الساحل الشمالي للمحيط، وضمن حدود الدول الصديقة لها، مثل غوادار في باكستان، ومنه يمكنها مراقبة حركة المرور في مضيق هرمز. كذلك أنشأت محطة لتزود الوقود على الساحل الجنوبي لسريلانكا، كما أنها أقامت قاعدة بحرية تجارية في شيتاكونغ في بنغلادش، ومحطات مراقبة في بعض جزر خليج البنغال.
كذلك فإن الصين تدعم الحكومة الحالية في ميانمار وتقدّم المساعدات العسكرية لها بمئات ملايين الدولارات، وتؤهل القواعد البحرية وتشق الطرق، وتمد أنابيب المياه، وهي تعمل على إنشاء شبكة من الأنابيب لنقل النفط من خليج البنغال، عبر أراضي ميانمار لتصب مباشرة في أراضي الصين الجنوبية الغربية في إقليم يونان.
هذه التحديات دفعت الصين لامتلاك أسطول بحري حربي يتزايد عديده يوماً بعد يوم، سواء أكان من الغواصات أو حاملات الطائرات والطرادات وأجهزة المراقبة والصواريخ العابرة البالستية، مما يجعل الصين اليوم تحتل المركز الثالث في العالم بقوة أسطولها البحري، وإن كانت الولايات المتحدة لا تعتبر الصين خصماً أو عدواً مباشراً فإنها بدأت تقلق من تنامي قوة التنين الصيني، ولكن هناك من يخشى فعلاً من القوة الصينية الصاعدة ويعتبر منافساً لدوداً لها، وينتمي الى المسرح الجيوستراتيجي نفسه على البر، أو فوق أمواج المحيط الهندي، أقصد بذلك: الهند.

 

الهند وتحديات الجيوبولتيك
تكاد الهند أن تصبح رابع أكبر دولة مستهلكة للطاقة في العالم، بعد الولايات المتحدة، الصين واليابان، فهي تعتمد على النفط بنسبة 33٪ من حاجتها الى الطاقة، وتستورد حوالى 65٪ من الخارج، و90٪ من هذا النفط يأتي من منطقة الخليج العربي الفارسي، كذلك فالهند ملزمة تأمين موارد الطاقة هذه لشعب سيتجاوز العام 2030، بعدده شعب أي دولة أخرى حتى الصين نفسها، وهي تعتمد كذلك في نقله على مياه المحيط الهندي من الشواطئ الأفريقية وحتى شواطئ الهند - الصينية، مروراً بشواطئ الشرق الأوسط ودوله النفطية، وتقيم الهند من أجل ذلك شبكة من العلاقات مع دول هذه المنطقة، وقد أصبحت لاعباً جيوستراتيجياً مؤثراً من شواطئ أفريقيا والهضبة الإيرانية وحتى تايلاند، وهذا ما دفعها الى بناء قوة عسكرية كبرى تعتبر اليوم بين الثالثة والرابعة في العالم، كما أنها بدأت في تكوين ترسانة بحرية ضخمة، من الغواصات النووية الى حاملات الطائرات الى الصواريخ البالستية، وذلك لحماية أمنها وخطوط إمدادات الطاقة لتأمين إستمرار نموها الإقتصادي، وعينها دائماً على الصين، كمنافس وخصم مستقبلي سواء أكان ذلك على البر الآسيوي أم فوق مياه المحيط الهندي الذي بدأ يمتلئ بأساطيل الدول الكبرى الحربية لحماية حركة النقل والتجارة الأكثر كثافة في بحار العالم، كذلك للبقاء على إستعداد للتدخل العسكري في أي بقعة أو دولة قد تهدّد مصالح الدول الكبرى الإقتصادية أو الأمنية والإستراتيجية، وكما قال المنظِّر العسكري الأميركي يوماً ألفرد ماهان في كتابه، «تأثير القوة البحرية في التاريخ»: «إن استخدام القوة لحماية الأساطيل التجارية كان العامل الحاسم في تاريخ العالم».
ويبدو أن كلاً من الصين والهند قد استوعبتا جيداً دروس ماهان، وكذلك تفعل بقية الدول ذات المصالح الكبرى في أوروبا وأميركا وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، التي لم تغب أساطيلها الحربية عن مياه المحيط ما بعد الحرب العالمية الثانية، وخلال الحرب الباردة، والتي تعززت بعد سقوط الإتحاد السوفياتي، وحرب الخليج الثانية، ثم أفغانستان واحتلال العراق، ثم بعد إحتدام الأزمة مع إيران وحتى اليوم، وهي تمتلك قواعد عسكرية ضخمة سواء في المحيط كقاعدة دييغو غارسيا أم في بعض دول الخليج أو باكستان وغيرها، وهي تسعى لإقامة تحالف قوى من الدول صاحبة المصلحة في أمن المحيط من خلال إنشاء «ناتو هندي» (INDIAN NATO) وذلك بتكوين قوة بحرية ضاربة للتدخل ضد الإرهاب والتهريب وتجارة المخدرات وأعمال القرصنة المزدهرة في منطقة مضيق مالاقا، وشواطئ الصومال والتي تؤثر على حركة التجارة العالمية.
كذلك تسعى الولايات المتحدة الى أن تكون هذه القوة جاهزة للتدخل في حال حدوث الكوارث الطبيعية للقيام بالإنقاذ والإسعاف الإنساني، كما حدث بعد تسونامي 2004 والذي تسبّب بمقتل أكثر من 200 ألف شخص ما بين سواحل أندونيسيا وآسيا الجنوبية وحتى سواحل أفريقيا الشرقية.
كما تهدف الولايات المتحدة من خلال وجودها القوي في المحيط الى البقاء على مقربة من منابع النفط وتأمين خطوط النقل والإمداد، وحماية البيئة الجيوبوليتيكية المناسبة لاستمرار تدفقه، وكذلك لردع أو منع قيام أي تهديد إستراتيجي لأمنها قد ينطلق من هذه الشواطئ

 

ما بين رياح الهواجس الإقليمية
وأساطيل المصالح الدولية

يبدو مما تقدّم أن المحيط الهندي يتحوّل مع مطلع القرن الجديد الى ساحة تزدحم فيها سفن الشحن التجارية وسفن نقل الطاقة العملاقة، كما تزداد فيها المنافسة التجارية ما بين الصين والهند من جهة، والحاجة الى استيراد النفط والغاز من الشرق الأوسط من جهة ثانية، ويلحق بهذا الأساطيل الحربية لأكثر دول العالم، التي ترغب في حماية تجارتها ومصالحها فوق أمواج المحيط، ويقابل ذلك صراعات ونزاعات لا تهدأ على بعض شواطئ هذا المحيط، من أفريقيا مروراً بجنوب آسيا وحتى أندونيسيا. وبين الرغبة في إقامة تعاون دولي تقوده الولايات المتحدة لحماية حركة النقل هذه، وواقع الصراع على المصالح والموارد فوق الأرض وظهور حركات التحرر والتطرف، والتهريب والقرصنة، يبدو أن المحيط الهندي سيكون مسرحاً للتنافس والصراع خلال مطلع القرن الحالي، وربما يستمر ليعايش عصر النفط بكامله.
وهكذا فما بين رياح الهواجس الإقليمية، وسفن المصالح الدولية وأساطيلها، تزداد شهوة الدول المشاطئة للمحيط الهندي الى الحرية.


المراجع:

1- البحر والتاريخ: إ. إ رايس إصدار عالم المعرفة - الكويت.
2- البحر في الإستراتيجية الحديثة: تأليف ل. دبليو مارتن - ترجمة العقيد البحري المتقاعد عبد الكريم عناد - المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت.
3- Indian Ocean - Wikipedia -  Encyclopedia.
4- Great power and Geopolitical change, by Jakub Grygiel www.Géopolitics.
5- Foreign Affairs: Center stage for the twenty first Century by Robert Kaplan - March - April 2009.