دراسات وأبحاث

المخابرات فن رصد الخطر والتعامل معه
إعداد: د. أحمد علو
عميد متقاعد

«الشرط الوحيد لانتصار الشر هو عدم فعل الرجال الصالحين شيئًا».
(إدموند بيرك 1729 - 1797)

يرى البعض أن الامن البشري هو غياب هاجسي الخوف والحاجة، والخطر والتهديد من المجهول، أو من المعلوم (الطبيعة والإنسان)، لذلك فالمعرفة المسبقة ضرورية لتلافي هذه الأخطار وتجنّب التهديد. أما الوسيلة، فهي الاستخبار بطرقه المتنوعة، بهدف بناء منظومة افكار تساعد على فهم الأخطار والتهديدات (بناء مؤسسات متخصصة بهذه المهمة)، ومن ثم إيجاد الوسائل المناسبة لمكافحتها أو التصدي لها، وأيضًا من خلال مؤسسات وأجهزة متخصصة.


تعريف كلاسيكي أولي
المخابرات أو الاستخبارات أو المكتب الثاني أو الأمن، أو أي اسم آخر، هي جهاز أو مؤسسة من مؤسسات الدولة تختص مبدئيًا بجمع المعلومات المختلفة داخل الدولة وتقوم بتحليلها، وتقييمها لترفعها إلى السلطة العليا في البلاد، وهي عادة ما تعمل على تنفيذ سياسات الحكومة. كما تعنى المخابرات بجمع المعلومات عن البلدان والمؤسسات الأجنبية وتقييمها، وتقوم بمكافحة التجسس، وكل ما من شأنه إضعاف البلاد، وأمنها القومي، وهذا ما يتمثل في وكالة مكافحة المخابرات أو وكالة مكافحة التجسس. وتشارك بعض وكالات مكافحة المخابرات في عمليات سرية، أي أنها تتولى بشكل سري أنشطة سياسية وأمنية استباقية لمنع أحداث، أو التأثير في مجرى الأحداث في بلدان أجنبية، وهي تحتاج لقدرات فائقة وعالية من الذكاء.
المخابرات إذًا، هي أن تعرف وتدقق، لأن المعرفة قوة، وكلّما عرفت أكثر كانت أقوى، ثم تحلل، وتقيِّم، وبعدها تتوقع وتقدر، ومن ثم تستبق. وتهدف وظيفة المخابرات في الأساس الى تحقيق الأمن والاستقرار للدولة أيًّا يكن تكوينها وتوجّهها السياسي، أو فكرها الايديولوجي.

 

الأمن القومي
يعتبر الأمن القومي شرطًا للحفاظ على بقاء الدولة وذلك من خلال استخدام عناصر قوة الدولة الاقتصادية والعسكرية والسياسية والدبلوماسية. لكن التركيز على القوة العسكرية والأمنية يبقى الوسيلة الأفضل للحفاظ على أمن الدولة القومي، وإذا كان استخدام الدبلوماسية لحشد الحلفاء، وتخفيف التهديدات، وتفعيل القوة الاقتصادية، والحفاظ على قوات مسلحة مناسبة وفعالة، من ضرورات الأمن الوطني، فإنّ استخدام اجهزة الاستخبارات للاستقصاء وجمع المعلومات السرية ومكافحة التجسس وشبكات الإرهاب، والتصدي للأعمال المخلّة بالأمن الوطني واستباقها، بات يعتبر اليوم من أهم دعائم الأمن القومي لحماية المجتمع والدولة.

 

في معنى الاستخبارات
علم الاستخبارات هو البحث عن الشيء الغامض لمعرفته، وسبل المعرفة هذه يجب أن تبنى على أسس سليمة ومتينة، من بينها التنسيق بين الأجهزة بشكل لا يؤدي إلى تضارب مصالح أو صلاحيات بينها، وبالتالي الى فقدان الهدف من وجودها والتأثير سلبًا على أمن المجتمع. فأجهزة المخابرات هي العمود الفقري للدولة، إذا اهتزّ انهارت الدولة. إنّ تعدد أجهزة المخابرات وتشعّبها في الدولة الواحدة، وبغياب رؤية استراتيجية موحدة لأهدافها، وآلية تنسيقية في عملها، وارتباط بعضها بتوجّهات سياسية خاصة، سيؤدي الى تشابك استخباري وسياسي ما، قد يخلق دولًا متعددة داخل الدولة الواحدة.
الاستخبارات، إذًا، سواء أكانت مصلحة، أم وكالة، أم مديرية، أم شعبة وفق تنظيمها وتسميتها من قبل الدول المختلفة، إنما هي مجموع المؤسسات والأجهزة والتشكيلات التي تعنى بجمع المعلومات والأخبار السياسية والعسكرية والاقتصادية المتعلّقة بالعدو بشكل عام، ومن ثمّ تعمد إلى تحليلها ثم تقييمها وتقديرها واقتراح الحلول المناسبة لها. وكذلك تهتم المخابرات بمكافحة نشاط العدو وعملائه وإفشال أو إبطال اعمال التجسس والتخريب التي ينوي القيام بها للتأثير في الأمن الوطني.

 

تاريخ الاستخبار منذ القديم وحتى اليوم
يعتبر بعض المؤرخين أن الاستخبار هو أول عمل قام به الإنسان منذ آلاف السنين، فهو قام بالاستطلاع والاستكشاف بحثًا عن الأرض المناسبة والماء، أو الصيد لاستمرار بقائه. وبعدما أصبح يعيش في مجموعات بشرية، كان يرسل أفرادًا لاستطلاع المعلومات وجمعها عن مجموعات بشرية أخرى تجاوره لمعرفة طريقة حياتها، أو توجهاتها، أو نواياها، لحماية نفسه، أو تمهيدًا للاعتداء عليها، أو للتحالف معها. ولما قامت الممالك والدول، وامتلكت الجيوش والأسلحة، واندلعت الحروب لسبب أو لآخر، اكتشف الإنسان أهمية معرفة أسرار قوة الخصم أو نقاط ضعفه، فكان عمل الجواسيس والعملاء ذا فوائد كبيرة على هذه الدول.
يرى كثير من المؤرخين والباحثين أنّ الفراعنة القدماء، كانوا أول من مارس أعمال المخابرات والتجسس في الحرب، (1550 – 1292 ق.م.)، وبخاصة في عهد الفرعون تحوتمس الثالث وقائد جيشه «توت»، في أثناء حصاره بلدة يافا الساحلية. فقد أدخل مجموعة من جنده إلى ميناء البلدة داخل الأسوار في أكياس القمح، لإشاعة الفوضى والارتباك في صفوف السكان وفتح ما يمكن من أبواب الحصن للجيش المرابط خارجها.
كما ورد في «التوراة» أن النبي موسى عندما خرج من مصر ووصل إلى شمال سيناء، جمع رجاله واختار منهم سبعين رجلًا وطلب منهم التوجه إلى أرض كنعان واستطلاعها والتجسّس عليها، قائلًا لهم: «اصعدوا من هنا إلى الجنوب، واصعدوا إلى الجبل، وانظروا الأرض ما هي والشعب الساكن فيها، أقويّ هو أم ضعيف، قليل أم كثير؟ وكيف هي الأرض، أجيدة؟ أم رديئة؟ وما هي المدن التي هو ساكن فيها، أمخيمات أم حصون؟ والأرض أهي سمينة أم هزيلة؟ أفيها شجر أم لا؟ وتشددوا فخذوا من ثمر الأرض».
وعاد جواسيس موسى ليقولوا: «إن أرض كنعان يتدفق منها اللبن والعسل، وإن سكانها من العمالقة الجبابرة الضخام». وهكذا يبدو أن التعليمات التي أصدرها النبي موسى لجواسيسه تغطي أكثر الأمور الجوهرية في مهمة أي جاسوس.
كما ورد في قصص القرآن أن «هدهد» النبي سليمان ذهب «يستطلع» الجوار، ولما عاد إليه أتاه بنبأ عن مملكة سبأ (سورة النمل – آية 22).

 

الجاسوسية في الشرق
يعتبر «صن تزو» صاحب كتاب «فن الحرب» (عاش في القرن الخامس ق.م. في الصين) أن العمليات السرية هي الأساس في الحرب، وعليها يستند الجيش في تنفيذ أي من تحركاته. والجاسوسية بنظره من أهم أسباب انتصار القائد العسكري، إضافة إلى التخطيط التكتي والاستراتيجي، وقد صنّف الجواسيس أو العملاء السرّيين أنواعًا خمسة هي:
• العملاء المحليون: مواطنون محليون يتقاضون مكافآت على المعلومات.
• عملاء الداخل: خائن في صفوف العدو.
• عملاء مزدوجون: يؤدون دورًا مزدوجًا.
• عملاء يضحى بهم: عميل اعتاد تزويد العدو معلومات كاذبة، يحتمل قتله في ما بعد.
• عملاء أيابون: عميل مدرب يعتمد عليه في العودة من مهمته بأمان.
كذلك يقول «صن تزو»: «إن من يعرف عدوه يعرف نفسه، ويخوض مئة معركة بدون خطر. فالأمير المستنير والعماد المدرك يغلبان العدو في كل مرة يتحركان بها، واذا كانت انجازاتهما تفوق المألوف فهذا بفضل الاستعلام المسبق، والاستعلام المسبق لا نحصل عليه بواسطة الأرواح ولا بالقوى الخارقة للطبيعة ولا بالمقارنة مع الأحداث الغابرة ولا بالحسابات الفلكية، إنما يجب الحصول عليه من الرجال الذين يعرفون وضع العدو».
كذلك وضع شاناكيا (Chanakya) في الهند كتابًا مشهورًا اسمه «أرتاشسترا» (Arthachastra) وذلك في القرن الرابع قبل الميلاد (350 - 283 ق.م.) وفيه شرح فن إدارة الدولة، والاقتصاد والاستراتيجيا العسكرية، وخداع العدو واستخدام العملاء السرّيين والجواسيس في تأمين النصر على العدو. وكان له ولكتابه فضل كبير في إقامة إمبراطورية «موريا» في الهند بقيادة الإمبراطور «شاندرا غوبتا» (Chandra gupta).
في اليابان ظهر في القرن الرابع عشر فرسان «النينجا» (Ninjas) (معنى الكلمة «غير المرئي» أو فن «التخفي» أو «الشبح»)، وكانوا مدرّبين على أصعب الأعمال القتالية والمهارات والسرعة والخفة، ويكلفون بمهمات الاغتيال والتجسّس وغيرها من الأعمال الأمنية غير التقليدية.

 

المخابرات والأمن
يذكر التاريخ، والعسكري منه بشكل خاص، أهمية عمل المخابرات والاستطلاع والتجسس، ودورها في الحروب، ذلك أن هذا العمل يرتبط بمفهوم آخر، ويعتبر مبدأ أساسيًا من مبادئ الحرب وهو الأمن، أي أمن الجيوش وسلامة انتقالها وتمركزها وحركات وحداتها، سواء أكان ذلك في فترة السلم أم في فترة الحرب. فالأمن من أهم عناصر نجاح القائد في تأمين النصر في المعركة أو في الحرب، وهو يتطلب عملًا مستمرًا، لمعرفة العدو. لذلك كان القائد يرسل «العيون» أي الجواسيس لاستطلاع طبيعة الأرض وتضاريسها، الأنهار والجبال والمسالك المحتملة لتقدم العدو، أو لتقدم الصديق وخصوصًا تلك التي لا يمكن توقعها... الخ، وهذا الفن مارسه أكثر القادة العسكريين منذ القدم، مرورًا بالإسكندر وهنيبعل والرومان والمسلمين العرب والمغول والعثمانيين، وحتى نابوليون بونابرت. وقد أكد القائد الإنكليزي الجنرال ولنغتون الذي هزم نابوليون بونابرت في معركة واترلو (1815) أن «كل اعمال الحرب هي أن تعرف ماذا يجري في الجهة االمقابلة من التل».

 

لمخابرات في العصور الحديثة
 أسّس الرئيس الاميركي الأول جورج واشنطن أول جهاز مخابرات (الخدمات السرية Secret Services) خلال حرب الاستقلال، وخصص له ميزانية خاصة ليقوم بأعماله فوق الأرض الأميركية وفي اوروبا ضد الإنكليز.
وأثبتت معظم الاحداث أهمية توافر أجهزة مخابرات أو جواسيس بين الدول. وقد قام بهذه المهمة في فترة ما المبعوثون والقناصل والسفراء وبعض التجار ورجال الأعمال والرحالة، وبخاصة في القرون الوسطى والعصور الحديثة.
وقد كرّست الحربان العالميتان الأولى والثانية أهمية أجهزة المخابرات وأظهرت أن اليد العليا في الحرب هي لمن يملك المعلومات ويستثمرها في رسم مخطط النصر وتغيير مصير الحرب.

 

أجهزة المخابرات العالمية
تعتبر مخابرات الدول الكبرى أقوى أجهزة المخابرات في العالم، وبخاصة الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية وبعض دول الشرق الأقصى. وقد كرّست وجودها الحروب التي اندلعت بين هذه الدول خلال قرون، وازدادت أهميتها بسبب التنافس السياسي والإقتصادي والتكنولوجي والصناعي.
• وكالة المخابرات المركزية (CIA):
شكّل الهجوم الياباني على بيرل هاربر في جزر هاواي الأميركية في 7 كانون الأول 1941، وعدم اكتشاف المخابرات الأميركية له قبل وقوعه، صدمة معنوية وعسكرية لهَيبة الولايات المتحدة، ما دفع الرئيس الأميركي روزفلت لتأسيس «مكتب الخدمات الاستراتيجية» (1942) والذي شكل أساس إنشاء «وكالة المخابرات المركزية  الأميركية» (سي.آي.إي) العام 1947. وتهتم هذه الوكالة بمعرفة كل ما يجري في العالم خارج الولايات المتحدة منذ ذلك الوقت، وهي تعتبر من أقوى أجهزة المخابرات في العالم، وتمتلك امكانات هائلة بشرية ومادية وتقنية.


• المخابرات الروسية (FSB):
عزز الصراع السوفياتي الأميركي ما بعد الحرب العالمية الثانية، وانقسام العالم الى محورين حولهما، إنشاء جهاز مخابرات روسي مركزي (KGB) يهتم بأمن دول الإتحاد السوفياتي ومتابعة أدق التفاصيل السياسية والعسكرية فيها، بمعاونة أجهزة رديفة في كل دولة من دوله. وكذلك متابعة ما يجري في بقية دول العالم وبخاصة في اوروبا والولايات المتحدة. وتركز عمله في مكافحة الجاسوسية الغربية والقيام بالتجسس الصناعي والتكنولوجي والعسكري. وبعد تفكك الاتحاد السوفياتي السابق، انشىء الجهاز الجديد (FSB)على قاعدة الجهاز القديم، وهو من اقوى الأجهزة في العالم على الصعيدين الداخلي والخارجي.
لقد وسم الصراع بين هذين الجهازين وحلفائهما مرحلة ما عرف بالحرب الباردة بين الجبارين، على امتداد مساحة العالم. فبالإضافة الى الصراع المباشر بينهما، تميزت هذه الحقبة بكثرة التدخلات التي كانت تتم علنًا أو من وراء الستار من قبلهما في كثير من الدول التي شهدت عددًا كبيرًا من الإنقلابات وتغيير أنظمة الحكم الموالية لأي منهما، أو الإغتيالات أو الحروب.
بالإضافة الى هذين الجهازين الكبيرين، يمكن تمييز بعض الأجهزة الأوروبية القوية كجهاز وكالة المخابرات الإنكليزية الخارجية (MI6) والفرنسية (DGSE)، والألمانية (BND).
وفي العالم العربي تعتبر المخابرات المصرية من أكثر أجهزة المخابرات نشاطًا وفاعلية، تليها الجزائرية والسعودية، واللبنانية.
كذلك في آسيا يمكن اعتبار أجهزة مخابرات الباكستان والصين واستراليا والهند والعدو الاسرائيلي وإيران وتركيا، من أكثر أجهزة المخابرات الفاعلة على مستوى المنطقة والعالم.

 

أهم عمليات المخابرات
كثيرة هي العمليات التي قامت بها المخابرات والجاسوسية في العالم منذ فجر التاريخ، وكان لها تأثير كبير في تغيير سير الأحداث أو المعارك أو الحروب، وبالتالي ربما غيرت مجرى التاريخ منذ القديم وحتى العصر الحاضر، وبخاصة في التاريخ المعاصر. وقد تميزت هذه العمليات بالمفاجأة كما في حرب العام 1967، أو الخداع الاستراتيجي كما في حرب تشرين الأول العام 1973 بين سوريا ومصر واسرائيل.
وقد غيّرت بعض عمليات المخابرات مصير الحرب، كما حصل عندما اعترضت المخابرات البريطانية خلال الحرب العالمية الأولى برقية ارسلتها المانيا إلى المكسيك تدعوها فيها إلى شن الحرب ضد الولايات المتحدة (برقية زيمرمان العام 1917)، ما دفع بالأخيرة إلى دخول الحرب الى جانب الحلفاء.
كذلك كان للمخابرات تأثير مباشر في قرار بعض القادة العسكريين او الزعماء السياسيين، وبخاصة بين المخابرات الألمانية والمخابرات البريطانية ومخابرات الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية، حيث كان للمخابرات البريطانية دور كبير في كشف وتحليل الجزء الأكبر من الاتصالات السرية الألمانية على المستويين السياسي والعسكري، بعد الحصول على آلة متطورة المانية لتوزيع الاتصالات (إنيغما Enigma)، وذلك بعملية مخابراتية سرية خاصة ومعقدة.
وفي السياق نفسه عمد الحلفاء إلى تضليل الألمان من خلال سلسلة من أعمال التمويه والمخابرات بالوسائل المختلفة حول موعد الانزال الكبير ومكانه في منطقة النورماندي في حزيران العام 1944 (عملية أوفرلورد)، وجعلوهم يعتقدون أن الانزال سيتم في منطقة كاليه في شمال فرنسا.

 

المخابرات في الجيش اللبناني:
من المكتب الثاني إلى المديرية

في مطلع شهر آب من العام 1945، وضعت الأسس لإنشاء المكتب الثاني في الجيش اللبناني بالاستناد إلى بعض المعلومات والمعطيات المتوافرة من المكتب الثاني الفرنسي الذي غادر لبنان. وقد اعتمدت في ذلك المبادئ الآتية:
- تحقيق وجمع المعلومات الضرورية لأمن الجيش والوطن بمختلف الوسائل البشرية والمادية (عملاء، إفشاء أسرار، تقارير أجهزة متخصصة، تنصت، منشورات خاصة، مراقبة، تجسس، معلومات، أحاديث، صحافة، تبادل معلومات، تقارير علمية... الخ).
- جمع وفرز وتقميش المعلومات المجمعة من المصادر المختلفة، وتحليلها، ومقاطعتها، ونقدها، والتأكد من صحتها، وبعد ذلك استنتاج الخلاصة مع إبداء رأي المسؤول، ومن ثم رفعها إلى السلطات العليا العسكرية والمدنية وفق تسلسلها الهرمي.
وباختصار، فإن عمل الجهاز كان يهدف إلى تقديم صورة مجمّعة (أو مركبّة)، تامة قدر الإمكان، وصادقة للقائد، عن نوايا العدو ومخططاته العدوانية في المجالات المختلفة.
كان النقيب إميل بستاني (قائد الجيش في ما بعد) أول رئيس للمكتب الثاني بعد إنشائه، وقد طلب منه اللواء فؤاد شهاب قائد الجيش في ذلك الوقت أن يضع الترتيبات اللازمة ويقترح الإجراءات التي تساعده على النجاح في مهمته، ومنحه مبلغ 17 ألف ليرة لبنانية من موازنة وزارة الدفاع لتأمين النفقات.
تعثرت انطلاقة المكتب الثاني خلال السنوات الاولى من تأليفه لأسباب متعددة، منها ضعف الميزانية وعدم وجود عناصر كافية، وتبدل رئاسته مرات عديدة، وعدم تركيز الاهتمام على عمله في هذه المرحلة، أو ربما بسبب الخلافات السياسية التي بدأت تعصف في البلاد بين مؤيد ومعارض للرئيس بشارة الخوري داخل مؤسسة القيادة، أو بسبب الاتكال على جهاز الأمن العام.
بدأ العمل على تطوير المكتب اعتبارًا من العام 1956، وذلك بسبب ازدياد الحوادث الأمنية في لبنان، وبخاصة بعد العدوان الثلاثي على مصر وموقف لبنان الرسمي منه، وكثرة شبكات المخابرات الأجنبية والتجسس والتهريب والتخريب. ففي تلك الفترة رفعت ميزانية المكتب وتوسّع نشاطه واهتماماته ومدى عمله، ونما دوره وتدخّله في الحياة السياسية اللبنانية، وكذلك داخل المؤسسة، وبخاصة في أحداث العام 1958 التي اندلعت في لبنان. وتعزز دور المكتب الثاني في الحياة السياسية اللبنانية بعد وصول اللواء شهاب إلى رئاسة الجمهورية، وأصبح العمود الفقري للنظام والدولة اللبنانية طيلة الفترة الشهابية وحتى العام 1970.
مع مطلع السبعينيات تحوّل اسم المكتب الثاني فأصبح الشعبة الثانية، وبقي كذلك حتى العام 1979 عندما وضع قانون جديد للدفاع والجيش (79/3) على أثر الحرب الأهلية 1975 - 1976، حين اعتمدت تسمية مديرية المخابرات.
قام جهاز المخابرات اللبناني منذ تأسيسه، وعلى الرغم من تواضع امكاناته، بأعمال مهمة في مصلحة الجيش والوطن والدولة، حيث قبض على شبكات تجسس اسرائيلية، وشبكات تهريب وتخريب في بيروت وبعض مناطق لبنان في الخمسينيات، كما أسهم في احباط عملية انقلاب الحزب السوري القومي الإجتماعي ضد النظام (1961). ولمّا اهتز دوره في مرحلة السبعينيات وبداية الحرب الأهلية، سقط الجيش وانهارت الدولة الواحدة. وفي ما بعد، أدّى الجهاز دورًا مهمًا في التعاون مع بعض أجهزة المخابرات العربية والأجنبية في القضاء على العديد من شبكات الإرهاب المحلية والأجنبية التي تستهدف الوطن أو بعض الدول العربية والمصالح الغربية في المنطقة. وهو ما زال حتى اليوم يقوم بدوره في حماية المجتمع اللبناني ومؤسسات الدولة ضد شبكات الإرهاب المحلي والدولي، التي تسعى إلى التخريب وتفجير السلم الأهلي وتهديد الكيان والمجتمع.

 

خلاصة
على الرغم من اختلاف الوسائل وتغير التقنيات واختراع الآلات والأسلحة الحديثة، من الأنواع المختلفة في الجو والبحر والبر، وثورة الإتصالات والمعلومات والإعلام وتعدّد وسائلها، وتسخيرها لخدمة العمل الاستخباري أو التجسسي، من أقمار اصطناعية وطائرات بدون طيار، وشبكات الانترنت، يبقى الإنسان هو العنصر الأساسي في أي عمل مخابراتي لما يملكه من قدرة على التقييم والتحليل والحل والربط، والتكيّف مع كل حالة، وكذلك لما يملكه من إمكانات عقلية وفكرية تمكّنه من إحداث تغيير في واقع ما في الزمان والمكان، بالإتجاه الذي يخدم فيه مصالح الدولة أو الجهة التي يعمل لأجلها.
لذلك فإن وجود العناصر الكفيّة والمنسجمة في اجهزة المخابرات وابتعادها عن الحسابات السياسية والمصالح الخاصة، يعطي دفعًا لعمل هذه الأجهزة ويوفّر التكامل بين فروعها المختلفة واختصاصاتها المتعددة.
ولكن كلما خفّت المراقبة على عمل هذه الأجهزة، أو تخلى القيمون عليها عن القيم الإنسانية والمثل العليا والأخلاق في فكرهم وعملهم، تحولت إلى آلة وحشية للهدم وللقتل، كما حدث ويحدث في بعض الدول والأنظمة أو المنظمات الإرهابية، وبدلًا من أن تكون وسيلة لضمان أمن الناس وحريتهم وحمايتهم تصبح أداة للقمع والقهر وكبت الحريات.


المراجع:
www.cia.gov/...history/history-of-american-intelligence
pdf - Google Drive:
علم المخابرات والجاسوسية
www.almaany.com/home
www.lebarmy.gov.lb/ar
- الجاسوسية بين انهيار القيم والمصلحة الفردية: د.احمد علو – مجلة الجيش 292.
- تاريخ مديرية المخابرات في الجيش اللبناني – دراسة غير منشورة من إعداد العميد م. د. احمد علو.