محميات

المدى الحيوي بات محميًا
إعداد: جان دارك أبي ياغي

جبل موسى: كنوز الطبيعة تحتضن التنوُّع

 

العام 2009 أعلنت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (الأونيسكو) موقع جبل موسى محمية من محميات المدى الحيوي في العالم. وفي أواخر تشرين الأول 2010 جرى افتتاح المحمية رسميًا بعد أن كانت جمعية حماية جبل موسى قد باشرت نشاطها الهادف إلى حماية التنوُّع البيولوجي في الموقع في إطار مشروع موَّله مكتب التعاون والتنمية في سفارة إيطاليا.
«الجيش» إلتقت مديرة المشروع السيدة سميرة مناسا التي تحدَّثت عن الموقع وأهمية الحفاظ على ثرواته وتراثه، موضحة المفهوم الذي على أساسه تقام محميات المدى الحيوي.            


محميات المدى الحيوي في العالم وفي لبنان
بدأت حكاية الجبل – المحمية مع اعتماد اللجنة الاستشارية الدولية لمشروع «الإنسان والمحيط الحيوي»، التابعة لمنظمة الأونيسكو، «جبل موسى» اللبناني و16 موقعًا مماثلاً في بلدان أخرى كمحميات جديدة للمحيط الحيوي في العالم. وباعتماد المحميَّات الجديدة ارتفع عدد محميات المحيط الحيوي في العالم إلى 547 محمية تنتشر في 107دول من بينها 24 في العالم العربي، ثلاث منها في لبنان (مع أرز الشوف وجبل الريحان) الأمر الذي يجعله الثالث بين 12 دولة عربية في مجال محميات المحيط الحيوي. أما الإسم فيُحكى أنه يعود إلى أحد المشايخ اللبنانيين من آل الدحداح واسمه موسى الذي يُروى عنه أنه انتقم لمقتل نجل أمير المنطقة في ذلك الزمن، فما كان من الأمير إلا أن وهبه الجبل الذي حمل اسمه.

 

كل الطرقات تؤدي
تقع محمية جبل موسى في قضاء كسروان على مسافة 45 كيلومترًا شمال العاصمة بيروت، وتبلغ مساحتها 6500 هكتار، ويراوح ارتفاعها عن سطح البحر بين 350 مترًا غربًا و1700 متر شرقًا. يمكن الوصول إليها من كسروان عبر طريق جعيتا – عشقوت - وطى الجوز، أو من قهمز في اتجاه «نهر الدهب»، أو من منطقة الفتوح عبر طريق غزير – القطين. وما تزال آثار الطريق الرومانية في اتجاه الجبل انطلاقًا من بلدة المعاملتين الساحلية ظاهرة للعيان، وهي شبيهة بآثار البيوت الخمسة القائمة في رأس الجبل والتي كانت تضم «كرخانة» للحرير لم يبق منها سوى هياكل وبعض الحجارة وأشجار التوت المعمِّرة المحيطة بها.

 

كنوز وثروات
تحتوي محمية النطاق الحيوي في جبل موسى على ثروة غنيَّة ومتنوِّعة من النباتات والحيوانات. فهناك أكثر من 350 نوعًا من النباتات، و 20 نوعًا من الأشجار على الأقل، ونحو 30 نوعًا من النباتات الفريدة في لبنان. وما إن تدخل مساحة المحميَّة حتى تخال نفسك داخل إحدى البقع الأمازونية، أو أمام رقعة من الأدغال الإفريقية، فالأشجار البريَّة المتنوِّعة تنسج غطاءً أخضر داكنًا بديع التكوين.
يضم جبل موسى غابة بريَّة تجمع في طياتها أشجار السنديان والعفص والصنوبر البري واللزاب والبلوط الشعري والعرعر والزعرور والغار إضافة إلى مجموعة من الأشجار المثمرة البرية كالتفاح وخوخ الدب والإجاص البري واللوز والكرز والقيقب، الذي تتخذه كندا شعارًا لعلمها إذ إن ورقته تشبه الورقة التي تتوسَّط العلم الكندي. وهناك مجموعة كبيرة ومتنوعة من النباتات العطرية والطبيَّة كالسحلبية البرية وبخور مريم وشقائق النعمان، إضافة إلى نوع من الصعتر النادر الذي يميل لون ورقه إلى الأحمر.
وأظهرت دراسة أولية أعدَّها اختصاصي في جمعية «المبادلات المتوسطية» الفرنسية أن هناك مجموعة كبيرة من الطيور الكاسرة كالنسر والشوحة، وتشكيلة أخرى من العصافير التي تتميَّز بها المنطقة منها دجاج الأرض والحجل، وكانت سابقًا محط أنظار الصيادين وضحية بنادقهم. وقد يفاجأ زوار المحميَّة بوجود الثعلب والضبع والخنزير البري، لكنه، حتمًا، لن يغيِّر مساره قبل أن يمعن النظر فيها خصوصًا إذا كانت المرة الأولى التي يشاهد فيها حيوانات مماثلة بعدما قرأ أو سمع عنها الكثير.

 

الإرث الثقافي والأثري للجبل
أهداف جمعية حماية جبل موسى بحسب مديرة السياحة البيئية للجبل السيدة سميرة مناسا تتمثَّل في حماية التنوع الحيوي الغني في الجبل، والحفاظ على الإرث الثقافي والأثري فيه، وتشجيع التنمية الاجتماعية والاقتصادية المستدامة. وتوضح مناسا أن الخطوات التي نُفِّذَت في هذا الإطار هي تأهيل المسارات في المحمية، ونشر لافتات إرشادية خشبية، وتأهيل موقع البيوت الأثرية داخل المحمية، وبناء القدرات البشرية. وأشارت إلى أن أسرة المحميَّة باتت تضم أربعة حراس وأربعة مرشدين، ولفتت إلى أن الجمعية تحرص على التعريف بالجبل وتسويق السياحة البيئية فيه وذلك من خلال مجموعة من الأدوات التواصلية بينها الموقع الإلكتروني info @jabalmoussa.org، وكتيِّب «جبل موسى بين الأسطورة والواقع»، وكراس «جبل موسى سيرًا» (دليل السياحة البيئية والتنوع البيولوجي في المحمية). وأشارت إلى أن مشتلاً لأنواع الأشجار الموجودة في الجبل أقيم في قهمز. وثمة توجُّه لإقامة مشتلين آخرين في مشاتي ويحشوش للحفاظ على التنوع الحيوي في الجبل.

 

المدى الحيوي
تهدف محميَّات المدى الحيوي إلى تشجيع العلاقة المتوازنة بين الإنسان والطبيعة، فهي أكثر من مجرد مناطق محمية. وكانت الأونيسكو قد صنَّفت خلال السنوات الخمس الأخيرة ثلاثة مواقع في لبنان كمحميات للمدى الحيوي أولها أرز الشوف العام 2005، ثم جبل الريحان العام 2007، فجبل موسى العام 2009. وإذا عدنا إلى أصل الحكاية نقرأ أن فكرة إنشاء المحميات الطبيعية في لبنان انطلقت من الضرورة الحيوية للإبقاء على التوازن في الطبيعة، وحماية الحياة الفطرية، وإعادة تأهيلها وتحريج أرضها، الأمر الذي يتطلّب التزامًا وأبحاثًا علمية، وتضافر الجهود كافة لتشكيل قوة مثقَّفة ضاغطة ومؤثِّرة. والمحميات الطبيعية لا تعني بالضرورة أمكنة مغلقة أو ممنوعة على العامة، بل ترمي إلى منع أذى الإنسان عن الطبيعة، والعبث بها، فضلاً عن القضاء على بعض الممارسات التقليدية الخاطئة، من هنا يتطلَّع البيئيون في لبنان اليوم وباهتمام بالغ إلى حماية بحيرة «عميق» في سهل البقاع لكونها مستنقعًا فريدًا من نوعه في منطقة الشرق الأوسط ولها نظامها البيئي الخاص، ما يجعلها موئلاً طبيعيًا لمئات الأنواع من النباتات المائية والحيوانات، فضلاً عن أنها موئل نادر لا بديل منه لمئات من أنواع الطيور المقيمة والمهاجرة.


ترميم القرية التراثية
من المشاريع التي أعلنت جمعية حماية جبل موسى بدء العمل بها ترميم القرية التراثية التقليدية الموجودة في الجبل، والتي يعود عمرها إلى نحو 200 سنة، وتشكِّل هذه المبادرة جزءًا من مشروع تشجيع السياحة البيئية في هذه المنطقة في فتوح كسروان المدعوم من مكتب التعاون في السفـارة الإيطالــية لدى لبنان.
وكانت مروحية تابعة للقـوات الجوية في الجيش اللبناني بإمرة العقيد عبدو صقر قد تولّت نقل 13 طنًا من معدات البناء من بلدة ميروبا إلى داخل جبل موسى تمهيدًا لإطلاق عملية ترميم ما يعرف بـ «موقع البيوت» في هذا الجبل.
وشكرت الجمعية الجيش اللبناني على استجابته طلبها نقل هذه المعدات والمواد بالمروحية ما أتاح «تفادي استخدام أي وسيلة نقل أخرى غير صديقة للبيئة يمكن أن تلحق الضرر بطبيعة الجبل».
وثمَّنت الجمعية «الجهود التي بذلها وزير الداخلية زياد بارود لتأمين نقل المعدات بهذه الطريقة» مشيرة إلى أن «بارود هو الذي كان وراء الفكرة»، وأشادت أيضًا بدعم عدد آخر من الشركاء لعملها ومشاريعها.
ويشمل الترميم ثلاثة بيوت تراثية نموذجية مبنية بالحجارة القديمة مع نظام مائي يقوم على خزان تحت الأرض يستخدم لتخزين المياه وللري.

 

افتتاح المحمية
الافتتاح الرسمي للمحمية جرى في 23/10/2010 بحضور وزير السياحة فادي عبود وسفراء وشخصيات، وقد نظِّمت للمناسبة جولتا مشي في المحمية انطلقتا من قهمز - بيدر الشوك وصولاً إلى مشاتي. مجموعة من المشاركين سلكت مسارًا قصيرًا لمدة ساعة ونصف ساعة، في حين قاد بطل التسلُّق اللبناني مكسيم شعيا المجموعة الثانية التي سلكت مسارًا طويلاً استغرق نحو أربع ساعات.
شارك في الجولتين وزير السياحة فادي عبود والسفيرة البريطانية فرانسيس ماري غاي والسفير البلجيكي يوهان فيركامن والنائب السابق صلاح حنين ورئيس مكتب التعاون الإيطالي للبنان وسوريا فابيو ميلوني.
وقد شدد عبود على أهمية أن يتعرف زوار لبنان على هذا الجانب المهم من السياحة فيه. أما شعيا فرأى أن من الضروري أن يتعرف الشعب اللبناني على ما في بلده من كنوز طبيعية وأن يحافظ عليها ليس لنا فحسب ولكن لأجيال المستقبل.
كما كانت كلمة لرئيس جمعية حماية جبل موسى بيار ضومط شكر فيها السفير الإيطالي السابق غبريال كيكيا واصفًا إياه بأنه صديق كبير للبنان ولجبل موسى وشكر فريق السفارة ومكتب التعاون الإيطالي وقال: «كلما تعرف الناس بطريقة غير مدمِّرة وغير مؤذية إلى جمال هذا الجبل سيكونون حريصين عليه، وكلما استفاد منه سكان المنطقة سيتمسكون به، وهكذا يتم الحفاظ على التنوع الحيوي بطريقة أفضل لأن الناس سيكونون معنيين به، وستتراجع تاليًا الأنشطة المدمرة والمؤذية للبيئة».

 

جمعية حماية جبل موسى
يجدر بالإشارة أن جمعية حماية جبل موسى منظمة غير حكومية مقرها جونية، وهي منذ تأسيسها العام 2007، تعمل على حماية الموارد الطبيعية لجبل موسى وصون تراثه الثقافي. ويضم أعضاء الجمعية صوتهم إلى المناضلين لأجل ما تبقى من مساحات خضراء في لبنان، وتوعية المجتمع على أهمية هذه الثروات، وانعكاسها على حياة الإنسان، والدفاع عن المحميات.
وتأمل في المستقبل في إنشاء مراكز استراحة وبيوت ضيافة في جوار المحمية، وإطلاق مشروع «مونة جبل موسى» في لفتة لتشجيع المجتمع المحلي على الاستثمار في السياحة البيئية.

 

المحميات في لبنان
بعد 12 عامًا على إنشاء أول محمية في لبنان وصل العدد إلى 7 هي: جزر النخل، وشاطىء صور، وحرج إهدن، وأرز الشوف، وبنتاعل، واليمونة، وأرز تنورين، وهي تشكل نسبة 4.5 في المئة من مساحة لبنان إضافة إلى المحميات التي أنشئت بمبادرة خاصة كمستنقع عميق وحرج بعبدا وحرج حريصا ووادي قنوبين، وتلك التي صدرت قرارات وزارية لحمايتها كمحمية كرم شباط وجبل الريحان والقموعة. لكن إلى أي مدى وصل مفهوم المحميات إلى عقول الناس بمختلف فئاتهم؟ وإلى أي حد نجحت المحميات في بلوغ أهدافها؟
الخطوة الأولى التي لامستها المحميات تمثَّلت في وقف التعديات على المحميات من قبل عشاق قتل الطيور، وإبادة الثروة النباتية، ومحترفي التحطيب ومنتجي الفحم. والثابت أن هذه الخطوة تمَّت نتيجة تفاهم بين مديري المحميات، والمجتمعات المحلية المحيطة التي طاولتها التوعية البيئية بطريقة أو بأخرى، أو بين مرشدي المحميات وطلاب المدارس الذين طاولتهم التربية البيئية الحديثة. وأظهرت الدراسات التي أعدتها كلية العلوم في الجامعة اللبنانية لمصلحة وزارة البيئة ارتفاعًا في أعداد الحيوانات والطيور والزواحف والبرمائيات وغيرها من الكائنات الحيَّة المفيدة في المحميات الطبيعية، كنتيجة طبيعية لمنع الاستخدام غير الرشيد لموارد هذه المحميات، وكنتيجة لأعمال حماية الأنواع والمحافظة على موائلها ومساكنها الطبيعية. واقترنت الدراسة بوقائع أظهرت ان عدد الأنواع المفرخة للطيور في محمية أرز الشوف ارتفع من 28 نوعًا العام 1998 إلى نحو 60 نوعًا العام 2004، وازداد عددها من 26 نوعًا في محمية حرج إهدن العام 1999 إلى ما يفوق 50 نوعًا العام 2003. ولفتت الدراسة إلى أن عدد مؤيدي المحميات الطبيعية ارتفع بدوره بعدما كانت تواجه فكرة إنشائها بمعارضة شديدة. ويأتي التقويم ليبيِّن أن المحميات كان لها الدور غير المباشر في إعادة تأهيل أراضٍ وإصلاح ما دمَّره الإنسان. كما سهَّلت عمل الباحثين العمليين لإجراء الدراسات في محيط علمي معروف.