قضايا إقليمية

المدّ والجزر في الردع الاسرائيلي
إعداد: إحسان مرتضى
باحث في الشؤون الإسرائيلية

عاشت إسرائيل معظم سنوات وجودها في ظل إشكالية الأمن، أي في ظل التناقض ما بين فائض قوّتها العسكرية من جهة، وبين محدودية قدرتها على توفير أمن حقيقي وحاسم لمستوطنيها من خلال الردع، من جهة اخرى. وقد أدّى التطرف اليميني العنصري وغياب الجهد السياسي والدبلوماسي، كوسيلة بديلة لتحقيق الأمن وضمانه، إلى تعاظم إشكالية الأمن. والواقع أنّ التهديد بالقوة يولّد عملية ردع مهمتها منع الخصم من تغيير وضع، غير مريح له، بوسائل عسكرية.

 

جذور الإشكالية
لا تكمن جذور إشكالية الأمن هذه في كون إسرائيل ليست قوية كفاية، وإنما في القناعة التي يؤمن بها تقريبًا جميع مهندسي سياسة الأمن الإسرائيلية، ومؤداها أن الأمن لا يتحقّق إلاّ بواسطة المزيد من التفوق العسكري. وهذا التفوق من المفترض أن يؤدي وظيفته بواسطة واحدة من طريقتين: ردع العرب عن المبادرة بأعمال عدائية، أو - في حال غامَرَ هؤلاء بإعلان الحرب رغم أن ضعفهم - تحقيق نصر كاسح يؤدي، من جملة أشياء، إلى إعادة شحن «بطاريات الردع» الفارغة.
لم تكن حسابات الردع الإسرائيلي، عبر تاريخ وجود الكيان، محصورة فقط في منع مقاومة الاحتلال من القيام بحرب شاملة أو محدودة، أو بحرب استنزاف أو حرب عصابات غير متناظرة ضده، بل كانت دائمًا تستغل هذا الردع من أجل التوسع والهيمنة وفرض الشروط المجحفة على الجميع. ويبيّن التاريخ أن قدرة العدو الاسرائيلي على ردع أعدائه (المعتدى عليهم دائمًا من قبله)، عن التفكير في التصدي لأطماعه، تنحسر وتتلاشى بشكل خاص، عندما يحاول ترجمة فائض قوته إلى مكاسب سياسية أو اقليمية. وبذلك تكون النتيجة في كل مرة، اندلاع نزاعات مسلّحة عنيفة، واسعة أو محدودة، ذات كلفة عالية، توقع به خسائر بشرية واقتصادية باهظة، وتؤدي إلى فتح تحقيقات ووضع تقارير قاسية تفضح عيوبه ونقاط ضعفه، وتؤدي إلى تآكل ردعه وأمنه القومي.
هكذا أدرك العدو أنّ قدرة الردع لديه لا تنحصر في البعد العسكري لوحده، بل هي كائنة في ناتج القوة الاستراتيجية الشاملة المتوافرة لديه، وتتضمّن: قوّته العسكرية البحتة، ومكانته السياسية والدولية، وقوته الاقتصادية، وتماسكه الاجتماعي الداخلي إلخ...

 

عناصر أساسية
لكن هناك ثلاثة عناصر عسكرية أساسية ودائمة تؤثر في تماسك الردع الإسرائيلي الآن وفي المستقبل، وهي:
- مشكلة الردع في ظروف سباق التسلح النوعي المفتوح أمام الجميع.
- تأثير التكنولوجيا والأسلحة الجديدة الكاسرة للتوازن على طبيعة الردع.
- تسلّح دول المنطقة بأسلحة غير تقليدية - نووية.
بطبيعة الحال، لا شكّ بأنّ ثمّة ارتباطًا وثيقًا بين التفوّق العسكري وقوة الردع وصلابته، وعلى هذا الصعيد سادت الفكر العسكري الإسرائيلي قناعة مزمنة بأنّ هذا التفوق هو الذي سيؤمّن الردع حتمًا. إلّا أنّ اسرائيل أدركت عمليًا، أنّها غير قادرة على ترجيح كفة ميزان القوة العسكرية دائمًا لمصلحتها، ولهذا السبب وقعت في حالة من الشك ومن المدّ والجزر في قوّة ردعها. فعلى الرغم من أنّ جيشها عمل طوال السنوات الماضية، بمساعدة الكثير من الأصدقاء الأقربين والأبعدين، للحفاظ على تفوّق قدرته العسكرية الأحادية الجانب، ظلّ الأمر من دون جدوى. وعليه فالسؤال المصيري المطروح أمام العدوّ الآن هو: ما هي الخيارات البديلة؟ لا سيّما وأنّ مسألة وجود أو عدم وجود أسلحة نوعية وغير تقليدية لدى أعدائها، تحوّلت إلى مسألة مقلقة، وهذا ما يتكرّر بشكل دائم عبر وسائل إعلامها وعلى ألسنة خبرائها ومحلّليها.

 

إعادة تفكير
في أعقاب نشر تقرير مراقب الدولة حول عملية «الجرف الصامد» في قطاع غزة (2014) والتقصير الحاصل فيها، كتب المحلل السياسي الإسرائيلي شمعون حيفتس في صحيفة «هآرتس»: «إنّ الخلل العملاني الذي وقع في العملية يتطلّب منّا إعادة التفكير في قدرة الردع الإسرائيلية». وأضاف: «علينا الحفاظ على عدم ضعف هذه القدرة، ومنع الحرب المقبلة، والتأكد من أنّنا قمنا بفعل كل شيء، قبل إرسال جنودنا إلى ميدان المعركة». وبحسب تقديرات اللواء عاموس يادلين رئيس شعبة الاسـتـخبــارات الـعسكريــة (أمان) فإنّ اسرائيل لا تعتقد أنّ حماس وحزب الله معنيان بمواجهة جديدة في الوقت الراهن، ورئيس الأركان الجنرال آيزنكوت أسقط من حساباته الاستراتيجية عامل الردع، وقام بإعداد سلسلة تصورات عملانية لبناء القوة إزاء التهديدات من الجنوب (غزة) والشمال (لبنان). وبناءً على تقديره، فإنّه «لا يوجد لدينا وقت للردع...».
خلاصة هذا الكلام أنّ تحقيق جميع أنواع الردع والحصول على نتائجها الإيجابية، قد بات أمرًا صعبًا ومعقدًا، فليس للعدوّ أي سيطرة على سباق التسلّح في المنطقة، أو على التطوّرات التكنولوجية الحاصلة في صناعة الأسلحة.
من ناحية أخرى، يستبعد المحلّل العسكري في صحيفة «هآرتس»، عاموس هرئيل أن يكون نتنياهو في صدد البحث عن ذرائع لشنّ حرب من أجل صرف الأنظار عن التحقيقات الجنائية التي تجريها الشرطة الإسرائيلية ضدّه، أو من أجل تحسين مكانته قبيل انتخابات عامة مبكرة. ويضيف: ينبغي أن يحدث أمر غير عادي لكي يبادر نتنياهو إلى حرب، «وحتى عندها، على الأرجح أن يحدث هذا في غزة، نظرًا إلى كون القدرة على إلحاق أضرار بإسرائيل تبقى أقل ممّا هي عليه في الشمال، حيث حجم الدمار المتوقع أمسى واضحًا لكلا الجانبين».