موضوع الغلاف

المرأة في الجيش تحلّق عاليًا: طيّارات وفنّيات و«شرطيات جو»...
إعداد: ندين البلعة خيرالله
تصوير: العريف جودي مبارك

هنَّ قادرات ومؤهّلات على تسلّم أي مهمة، ليس فقط إدارية ولوجستية، بل أيضًا حربية وميكانيكية وفنية... إنهنَّ «سيدات» الجيش اللبناني، اللواتي يُثبتنَ يومًا بعد يوم إصرارهنَّ على تفعيل دورهنَّ في المؤسسة وفي مختلف الميادين. وقد ضجّت في مناسبة اليوم العالمي للمرأة في 8 آذار، وسائل الإعلام المحلية والعالمية بمفاجأةٍ على هذا الصعيد: فتاتان برتبة ضابط طيّار في القوات الجوية اللبنانية.

 

توجّهنا إلى مدرسة القوات الجوية للتعرّف إلى الفتاتَين اللتَين شغلتا الرأي العام، وإليكم ما سمعناه وشاهدناه...
حطّت على مدرج قاعدة رياق الجوية، طوّافة الـ«غازيل» التي تقودها الملازم أول المهندس ريتا زاهر (26 سنة) وإلى جانبها الضابط المدرّب، لتتسلّم مكانها الملازم أول المهندس شانتال كلّاس (27 سنة) فتقلع بدورها وتتدرّب على قيادتها. وبينما هي في جولتها، اتّجهنا إلى مكتب قائد مدرسة القوات الجوية الرائد الطيّار محمد لوباني وسألناه:
 

كيـف تـمّ تـطـويـع الـفـتـاتَين لمصلحة القوات الجوية؟
فأجاب: بالنسبة إلى آلية تطويع أولى الطيّارات في الجيش اللبناني، صدر القرار باختيارهنَّ من دورة الضباط الإناث الاختصاصيّين (2017)، وكان الشرط الأساسي بالإضافة إلى الرغبة في دخول مجال القوات الجوية، أن تكون عزباء أو متأهلة وليس لديها أولاد، لأنّ التدريب يتطلّب الوقت والتركيز لفترة ستة أشهر بعد اجتياز الاختبارات الأساسية.
ستّ فتيات مهندسات أبدَين رغبتهنَّ وكنَّ مطابقات للشروط، خضعنَ للاختبارات نفسها التي يخضع لها التلامذة الضباط في المدرسة، من فحص طبي وIQ Test واختبار لغة إنكليزية. اجتزنَ هذه المرحلة، وبعد تجربة طيران لمدّة 5 إلى 6 ساعات، قرّر قسم من الفتيات الانسحاب، وأخريات لم يكن لديهنَّ المهارات الكاملة للطيران. اثنتان فقط اجتازتا الاختبارات كلّها وأثبتتا جدارتهما واستعدادهما التام لتكونا في صفوف القوات الجوية، فباشرتا التدريب للوصول إلى الطيران المنفرد solo flight لتتابعا بعد ذلك دورةً على UH1H وتُصبحا في نهايتها (تمتدّ هذه الدورة لمدّة ستة أشهر)، طيّارات Helicopter Pilot وتنفّذا المهمات بين مدرسة القوات الجوية والأسراب العملانية العاملة في القوات الجوية.
يُثني الرائد لوباني على أداء الفتاتَين في الطيران وكفاءتهما العالية التي لا تقلّ عن كفاءة أي طيّار في القوات الجوية، وذلك بناءً على انطباعات المدرّبين وتقاريرهم.

 

الملازم أول زاهر: لا أرفض تحدّيًا
يستحيل عليها إخفاء حماستها ومدى استمتاعها بهذه التجربة الجديدة التي سنحَت لها، بفضل قائد الجيش الذي أراد تفعيل دور الإناث في المؤسسة في مختلف الوظائف حتى الحربية منها. الملازم أول المهندس ريتا زاهر المتخصّصة في هندسة الاتصالات والمعلوماتية، لم تعتقد يومًا أنّها ستخوض مثل هذه التجربة، ولكنّها بطبعها لا ترفض أي تحدٍّ، وتخبرنا: «قرّرتُ الاستفادة من هذه الفرصة لأكتشف ما إذا كنتُ أحب هذا المجال أم لا، بعد أن كنتُ استقرّيتُ في وظيفتي في مركز التأليل.
لا أنكر القلق والخوف اللذين شعرتُ بهما نظرًا لكون هذه التجربة جديدة وتتطلّب البراعة وتحمّل المسؤولية وعدم الاستخفاف أو التهاون، كما تتطلّب دروسًا في الطيران والملاحة والتواصل مع البرج وتأثير الطوّافة على الجسم، ومهـارات للتحكّــم بالطوّافــة وغيرهــا.
في أول طلعة في الطوّافة لم أستطع الاستمتاع باللحظة، لأنّها كانت لحظة اتّخاذ القرار: إمّا أنسحب وأعود إلى مكتبي، وإمّا أتابع وأستمرّ في القوات الجوية. وبالطبع كان الشعور أقوى من أن أنسحب، فاتّخذت قرار الاستمرار، وعندها بدأتُ أستمتع بكل دقيقة طيران، حتى حين أرجع إلى المنزل أشعر بأنّني أرغب بالعودة إلى الطوّافة مهما كانت أحوال الطقس. الشعور رائع وهذه الحياة مثيرة ومليئة بالمغامرات وغير روتينية، وحماستي لها تدفعني إلى متابعة كل جديد في هذا العالم ومشاهدة الفيديوهات واستكشاف أمور لا أعرفها».
 

كيف يتفاعل محيطك مع الموضوع؟
- الضباط والمدرّبون رائعون يعطوننا من خبراتهم ويحفّزوننا على الاستمرار والنجاح، ولكن هناك البعض ممّن يرفضون هذه الفكرة ولا يشجّعونها، لأنّهم لم يعتادوا على أنّ المرأة تستطيع أداء مهمات غير الجلوس إلى مكتب، وتستطيع القيام بأي وظيفة كالذكور.
في ما خصّ عائلتي، خطيبي كان أول المشجّعين لي، بل في البداية كان الوحيد، نظرًا لقلق أهلي من هذه المهنة ورفضهم وخوفهم، ولكن يومًا بعد يوم حين اكتشفوا كم أنا سعيدة وأحقّق رغبتي فيها، باتوا راضين ومحفّزين لي. لن يتوقّف طموحي طالما القيادة ستفتح الأبواب والآفاق أمامنا، ولكل فتاة عسكرية أقول: لا تقفي في مكانك، سيري بطموحك إلى الأمام ولا تدعي شيئًا يعيق تقدّمك.

 

 الملازم أول كلّاس: عالمي الجو
بالنسبة إلى الملازم أول المهندس شانتال كـلّاس، فقد حقّقت قيادة الجيش بشخص قائدها العماد جوزاف عون حلم طفولتها، وتخبرنا: منذ صغري أحبّ أن يكون عالمي الجو، ولكن أهلي اعترضوا على الموضوع، فباعتبارهم أنني فتاة ولديّ مسؤولية تأسيس عائلة، وبالتالي لن أستطيع التوفيق بين الطيران ومسؤولية منزل، وهذا الأمر كان عائقًا أمامي.
تخصّصت في هندسة الكهرباء في الجامعة اللبنانية - رومية، تخرّجتُ في العام 2014، وتطوّعتُ في المؤسسة العسكرية في العام 2017 بصفة ضابط مهندس برتبة ملازم، وتمّت ترقيتنا إلى رتبة ملازم أول في العام 2018، وعملتُ في مديرية الهندسة.
التحاقي في صفوف المؤسسة كان بسبب حبّي الكبير للجيش، فقد نشأتُ في أحضان هذه المؤسسة وكان أبي فردًا منها.
قرار قيادة الجيش تطويع فتيات لمصلحة القوات الجوية كان خطوة مهمة في حياتي. أصرّيتُ على تخطّي العراقيل ونظرة المجتمع إلينا كنساءٍ ندخل ميادين متخصّصة للرجال، وقرّرتُ خوض هذه التجربة بتشجيعٍ من زوجي ومن المدرّبين والضباط حولنا.
أول مرة جلستُ في الطوّافة كطيّار أمسك المقود وأقود، انتابني شعور لم أعرف مثله من قبل وعرفتُ في لحظتها أنّ هذا هو ما كنتُ أنتظره كل حياتي، هذه هي اللحظة. ولن أتوقّف عند هذا الحدّ، بل طموحي أكبر من ذلك، يصل إلى حدّ رغبتي بأن أطير طيرانًا حربيًا، فنحن قادرات كأي رجل على خوض مهمات قتالية، لذلك نحن هنا!
 

من حلم الطيران إلى أحلام أخرى... الرقيب اسكندر: بالإصرار وصلت
الرقيب منار محمد اسكندر هي الأنثى الأولى في القوات الجوية اللبنانية التي دخلت إلى الأجنحة الفنية، لتعمل بشكلٍ مباشر على صيانة الطائرات. تراها في الباحة تقوم بمهماتها بجرأة وفرح للحفاظ على جهوزية الطوّافات. لا يُحرجها التنقّل بين «الشباب» وطلب العدّة والانحناء على قطع الطوّافة وأجزائها لمساعفتها.
حائزة شهادة هندسة ميكانيك من الجامعة اللبنانية الدولية LIU، تطوّعت في الجيش في 19/4/2018، تابعت دورتها العسكرية لمدة ثلاثة أشهر ثم التحقت بقاعدة حامات الجوية لمصلحة القوات الجوية. أصرّت على العمل في اختصاصها فدخلت الجناح الفني لتعمل على صيانة الطائرات، الأمر الذي يتطلّب الحرص الكامل والدقّة في العمل، فالخطأ هنا ممنوع.
تتحدّث منار بفخرٍ قائلةً: «تمرّستُ في عملي مستفيدةً من علومي الجامعية، وصرتُ قادرةً على القيام بمهمات وأعمال يعجز آخرون عن القيام بها. هذا الأمر يؤكّد أنّ النظرة إلى المرأة اليوم أصبحت أكثر تقبّلًا لوجودها في وظائف غير تقليدية، متخطّيةً تحديات العائلة والمجتمع لتحقيق طموحاتها والتأثير بمن حولها أينما وُجدت».

 

مراقبات جويّات
في برج المراقبة، تقف الجندي ماريا معلوف على الجهاز، تنسّق مع طوّافة تطلب الإحداثيات لتحطّ على المدرج. تنظر إلى جهاز قياس سرعة الهواء والحرارة وتزوّد الطيّار كل التفاصيل التي يحتاجها لضمان سلامة حركة الطيران. إلى جانبها، تحمل الجندي رندا بلعيس المنظار وتراقب الأجواء، للتأكّد من الحركة الصحيحة للطوّافات، والتبليغ عن أي طارئ أو حركة مشبوهة، كما تسجّل الحركة الجوية في سجلّ مخصّص لها.
الجميع دعم الجندي معلوف للتطوّع في الجيش، بعد أن كانت حائزة شهادة تعليم وتتابع دراستها في علم النفس. تقول عن اختصاص المراقب الجوي: لسنا هنا بالصدفة أو عن عبث، بل بكفاءتنا بعد خضوعنا للاختبارات اللازمة، وأهمها اللغة الإنكليزية لمعرفة استخدام التعابير المتخصّصة بالحركة الجوية. ولولا دعم الرؤساء والمدرّبين لنا لما وصلنا إلى تحمّل هذه المسؤولية. فالمراقب الجوي هو شرطي سير الطائرات، ينظّم الحركة الجوية ويحافظ على الأمان ويلتزم القوانين والتعليمات، وعمله يتطلّب التركيز ومعرفة التقنيات وإتقان اللغة الإنكليزية. المهم أن نكون «قدّ المسؤولية» ونقدّر قيمة البزّة التي نرتديها!
أمّا الجندي بلعيس فتحب الجيش منذ صغرها، وتطوّعت بعد سنتَي دراسة في الحقوق. وهي تعتبر أنّ الإناث قادرات على بلوغ المراكز نفسها التي يتولّاها الذكور في الجيش، وربما أكثر.


في الإشارة والهندسة أيضًا
لا تقتصر المهمات التي تسلّمتها الإناث في الجيش على كل ما ذكرناه آنفًا، بل يتابع أيضًا رقباء إناث من الشرطة العسكرية دورة تفتيش واستطلاع في فوج الهندسة. وفي اللواء اللوجستي، تعمل الرقيب نغم أكرم بيطار في مشغل الإشارة في اللواء كمصلّحة أجهزة دايترون PRC2100، وهي حائزة امتيازًا فنيًا في صيانة الأجهزة الطبية وإجازة فنية إلكترونيك صناعي. ولا شك أنّ الأيام ستحمل المزيد من المهمات الصعبة لفتيات أردنَ التحدّي وإثبات قدراتهنَّ وكفاءاتهنَّ...