في كل بيت

المراهقة
إعداد: ناديا متى فخري

المراهقة... فترة تتميّز بانفعالاتها ومشاكلها ما حدا بفرويد الى وصفها بأنها فترة عاصفة مرهقة خصوصاً من الناحية النفسية والوجدانية.
إن دور المراهقة في حياة الفرد أشبه ما يكون بفصل الربيع من فصول العام، قد يقصر أو يطول، وقد يستقر أو يتقلّب، غير أنه مع ذلك يظل فصلاً له من وضوح الصفات ما يفرقه عن غيره من الفصول. وفترة المراهقة تؤثّر بعمق على صحة المراهق النفسية وتكيّفه الشخصي والإجتماعي، ونلاحظ بوضوح في هذه المرحلة الحرجة، حدّة المشكلات التي تواجه المراهق ومشكلات التكيّف الإنفعالي في المواقف المختلفة التي ترتبط بالحياة اليومية.
إن فهماً حقيقياً لمرحلة المراهقة وما يصحبها من انفعالات ومن تغيّرات فيزيولوجية من شأنه أن يؤدي الى تغيير جوهري - إيجابي يرقى بشخصية المراهق، ويساعده على تخطّي هذه المرحلة بسلام.

 

مرحلة البحث عن الهوية الشخصية
عبورها بسلام يتطلب تفهم الأهل وحكمتهم

 

مشاكل المراهقة
الحديث عن مشاكل المراهقة، كالحديث عن مشاكل الطفولة، وسواها من أدوار الحياة المختلفة، هو حديث نسبي في الكثير من الحالات، ذلك أن ما يكون مشكلة في نطاق عائلي أو إجتماعي ما، قد لا يكون كذلك في نطاق آخر. ثم إن ما يعانيه مراهق كمشكلة هامة في حياته، قد لا يبدو كذلك بالنسبة الى مراهق آخر حتى ولو تساوت ظروفهما العائلية والإجتماعية. وهكذا فإن التجارب الحياتية قد تكون متشابهة الى حد بعيد، إلا أن تفاعل المراهق معها وردود فعل المجتمع على هذا التفاعل، قد تختلف بين مجتمع وآخر، وبين مراهق وآخر، وبالتالي فإن مراهقاً ما قد يشبه غيره من المراهقين، وقد لا يشبه أحداً غير نفسه.
إن مشاكل المراهقة لا تنحصر في ما تثيره هذه المرحلة من انفعالات وسلوكيات غير مقبولة إجتماعياً، فهذا جانب واحد فقط. أما المشكلة المثيرة للقلق فهي في ما يعانيه المراهق نفسه من وطأة هذه المرحلة، فقد تكون هذه المعاناة أشد عسراً على المراهق وتأثيراً على مستقبل حياته، من تأثيرها على المجتمع؛ ومع أنه يصعب اجتياز مرحلة المراهقة من دون معاناة وضغوط وتوترات وقلق، إلا أنه لو أمكن للمراهقين عبور هذه المرحلة بسلام لأقبلوا على الحياة بثقة أكبر ومعنويات عالية، ما يساعدهم في تحقيق تكيّف أفضل من الناحيتين النفسية والإجتماعية، ومزيد من النجاح في الحياة.
أما العوامل المؤثرة في هذه المرحلة الحياتية فمردّها الى دوافع أساسية لها أن تساهم بدرجات متفاوتة في خلق مشاكل المراهقة، نذكر منها:
- تكوين الهوية الشخصية وضرورة إيجاد المكان الملائم في المجتمع والحياة.
- بناء العلاقات الإجتماعية حيث يتجه المراهق الى تأكيد صلاته بشخص أو أكثر من خارج نطاق العائلة.
- البحث عن المكانة في المجتمع والحياة... والإحتياجات العاطفية... وغير ذلك من دوافع تواكب مرحلة المراهقة التي تتصف بالتحوّلات المفاجئة والسريعة في النمو الجسمي والنفسي والخلقي.

 

مشاكل الهوية الشخصية
تكوين الهوية الشخصية أمر طبيعي وضروري وحتمي بالنسبة الى الفرد، ومن عملية تكوين هذه الهوية يصل كل فرد الى تلك المرحلة التي يقول فيها «أنا»... ومع أن القليلين يستطيعون قول الكلمة بوثوق عقلاني، إلا أن معظمهم ينطقون بوثوق عاطفي بهذه الهوية.
ويصاحب هذا الشعور عند المراهق السعي الى الإبتعاد عن الإرتباط العائلي والإتجاه بدلاً من ذلك الى إقامة الصلات مع صديق أو جماعة من أقرانه. ومثل هذا التحوّل قد يصوّر للمراهق بأن مكانه الحقيقي هو خارج البيت، وبأن عائلته قد أصبحت تمثّل عائقاً أمام تحرّره والوصول الى تكامل ذاته، وأكثر ما يحدث هذا التحوّل عند أولئك المراهقين الذين اتسمت طفولتهم بالشدة والتقييد والقسوة والحرمان، أو الذين سادت في طفولتهم وحداثتهم أو ما زالت تسود مظاهر الصراعات العائلية أو عدم التوافق بين الوالدين. وبذلك يكون سلوك المراهق في هذه الفترة تعبيراً عن تمرّده على واقعه ومحاولة للإبتعاد عنه، ولعل أهم الوسائل المشرعة أمام المراهق هي الهرب من مثل هذا الواقع.
بالنسبة الى كثير من المراهقين قد تكون أهم المشاكل التي يعانونها متعلقة بموقفهم من والديهم، والذي يحدث في حياة معظم المراهقين هو انطلاقهم من فرضية أن والديهم لا يستطيعون فهمهم، وبأن الزمان تغيّر وبأنهم يجب أن يعامَلوا تبعاً لهذا التغيير. وحصيلة هذا الفهم بالنسبة للمراهق هو حقه في التصرّف بحرية وبدون قيد أو توجيه، وهو يطالب بتمرّد وعنف أحياناً، بالتمتع بهذا الحق في الوقت الذي يستمر فيه بالتواكل المادي على والديه، وهو يفسر هذا التواكل بأنه حق طبيعي له ايضاً، وقد أصبح هذا التخلخل في علاقة المراهق بعائلته ظاهرة بارزة في حياتنا تجلب الكثير من المعاناة للعائلة والمراهق على حد سواء، ويتوقع لهذه الظاهرة أن تتزايد وأن يتعاظم خطرها مع استمرار تضاؤل مسؤولية العائلة في التربية والتوجيه.

 

في المراهقة...
مثالية وخصوصية سلوكية

الى جانب المشاكل التي كثيراً ما تحدث في نطاق العلاقات العائلية، هنالك مشاكل أخرى تنجم عن المثالية الخاصة للمراهق، وعن واجبه في السعي الى تطبيقها، أو في التمرّد على كل ما لا يتوافق وينسجم معها. ومع أن هذه المثالية طاقة فعّالة وهامة ليس في عملية تكوين الشخصية فحسب، وإنما في تكوين المجتمع وتطويره، إلا أنها من الممكن أن تصبح أحياناً مصدر معاناة للمراهق الذي تصطدم مثاليته الخاصة بواقع الحياة، وقد يكون لتفشيل المراهق في تأكيد أو تحقيق مثاليته أثر بالغ في حياته النفسية في المستقبل؛ خصوصاً إذا ما كان المراهق يتسم بشخصية انفعالية وخيالية، وقد تنعكس آثار ذلك على علاقاته الشخصية والإجتماعية وعلى سعيه الحياتي... ومن الإحتمالات التي يمكن أن تحدث للمراهق في مثل هذه الحالة، انزلاقه الى ما يخالف مثاليته من سلوك، وكأنه بذلك يحاول أن يثأر لنفسه من المجتمع ومن نفسه في آن واحد، وهذا الإحتمال يفسّر الكثير من مظاهر الإضطرابات السلوكية التي يتّسم بها بعض المراهقين في حياتهم... وبالتالي، يبرز سعي المراهق الى إيجاد مكانته التي ترضي تطلعاته في المجتمع والحياة، وهذا السعي لا بد أن يصطدم بواقع الحياة وأن تتقرر نتائجه على ضوء النهج السلوكي الذي يتمتع به.
في العلاقات مع الغير، تتبلور معالم الخصوصية السلوكية للمراهق حيث يتجه الى تأكيد صلاته بشخص أو أكثر من خارج نطاق العائلة، وقد تأتي هذه الصلات أكثر وثوقاً من العلاقات البيتية، وفي هذا الدور ايضاً تتوضح الصفات السلوكية التي تدلل على تكامل الشعور بالهوية الذاتية ومحاولة المراهق تأكيدها في تعامله الحياتي على مختلف المستويات، كما يُلاحظ في هذه الفترة بأن المراهق يميل الى الإستقلال والخصوصية في الشعور. ولعل من أهم ما يظهر في هذه الفترة من مظاهر الشخصية، وما يبرّر تصنيفها كفترة خاصة، هو ما يبديه المراهق فيها من اعتناق لما يراه مثالياً في شؤون الحياة. وهو ينفذ ذلك بحماس والتزام، قد يدفعه احياناً الى الغضب والإنفعال والتعدي على الغير وحتى الى القسوة على نفسه، ومع أن بعض ملامح المثالية عند المراهق تبدو خاصة وملائمة للنمط الحضاري الذي يعيش فيه والى المثل السائدة في محيطه، إلا أن الإمعان يبيّن بأن مثالية المراهق تلقائية في دوافعها، وبأنها خاصة به وتدل على سمات شخصيته، ونحن نجد في هذا الدور من المراهقة وما يفيض به من مثالية، مصدراً لقوة هائلة تهدف دائماً الى ما هو أفضل وأجمل في حياة الإنسان والمجتمع، غير أن هذا لا يمنع من استغلال مثل هذه الطاقة بشكل يخالف هذه الأهداف وهو الأمر الذي له أن يولّد في المراهق شعور الفشل والغضب والإحباط.
من الطبيعي أن فشل المراهق أو تعثره يخلق في نفسه الشعور بالنقص وفقدان الثقة والطمأنينة والضياع، ولهذه المشاعر كلها أن تؤخر أو تعيق أو تعطل بشكل دائم إمكان وصوله الى حالة من التخلص من صراعات وأزمات المراهقة والإندماج المسؤول في المجتمع.

 

مخاوف المراهق...
يتعرّض المراهق وقد خلّف وراءه مراحل الطفولة والإعتماد على سواه الى مواجهة معارضة آرائه مع آراء سائر أفراد أسرته، ويتعرّض الى ضغط من البيئة لكي يخضع سلوكه وتصرفاته الى المعايير الإجتماعية التي يخالها لا تتآلف وما يطمح اليه وهذا يؤدي الى نشوء الخوف لديه من المجتمع... عموماً يمر المراهق عادة بخبرات يتمثل فيها الإخفاق وسبب ذلك هو أنه يبني آمالاً لا أساس لها سوى الخيال، وهذه سرعان ما تفصح عن عدم واقعيتها فتسبب له النكسة النفسية التي لا يحتمل وقع وطأتها لقلة خبرته بالحياة؛ وعادة يحدد المراهق عالمه الذي يحياه وفقاً لرغباته الخاصة، وهذه الأخيرة لا حدود لها، فيجد نفسه إزاء فراغ واسع يفصل بين دنيا الواقع وبين عالم الرغبات التي كوّنها، فينشأ على المخاوف من المحيط من حوله وعلى الإعتقاد بأن الحياة مليئة بالمتاعب المهيأة له وحده، وأن المجتمع له بالمرصاد لتقصي رغباته والحيلولة دون إشباعها، ويأخذه اعتقاد أن كل من حوله ضده ويعارض رغباته.
من الناحية الإنفعالية، إن عدم الإستقرار النفسي مرده الى المخاوف غير الطبيعية وعوامل القلق التي تصرفه عن الأعمال والسلوكيات البنّاءة والمجدية وتجعله ضيّق الأفق يفكر في نفسه فحسب.
لكل ما تقدم، ولأننا ندرك أن المراهق حساس الى حد الإفراط، وحساسيته هذه ناشئة عن تركيز تفكيره في ذاته ورغباته وما عسى أن يظن به الآخرون وكيف ينظرون اليه، وهذا بالنسبة اليه كابوس يقضّ عليه مضجعه ويفسد عليه سبل التفكير السليم ويصرفه عن أن يكون على صلة بواقعه، وأن يكون متعاوناً وملتزماً ومدركاً معنى القيم التي تستند اليها العلاقات الإجتماعية، وعلى ذلك كان لا بد من توجيه المراهق لكي يكون متفائلاً، واثقاً بذاته ومستعداً للتواؤم مع القيم والإتجاهات الإجتماعية؛ وأن نسعى كأهل لإشباع احتياجاته النفسية والوجدانية لضمان سلامة عبوره نحو مستقبل آمن بشخصية إيجابية ومتماسكة. كما ينبغي الإلتفات الى سلوك المراهقين على نحو يتّسم بالإيجابية لكسب ثقتهم، لأن مخاوف المراهق مردها الى الضغط الإنفعالي الذي ينجم عما يواجهه من تحديات مجتمعية يظن أنها تعترض سبيل تكيّفه النفسي وفلسفته في الحياة، فينتابه التوتر والخوف من التعثر في منعطفات حياة تمنعه من تحقيق غاياته وتفرض عليه اتجاهات لا يتقبلها؛ وفي هذا إشارة الى كون مرحلة المراهقة تعتبر مرحلة اختبار لا للمراهق فحسب وإنما هي كذلك فترة إحراج وقلق للأبوين.
وحدها «الحكمة» في التعامل مع المراهقين من ألزم الضرورات التي يجدر بالأهل والمدرّسين التحلي بها، إذ لا يخفى بأن فترة المراهقة تنطوي على كثير من خصائص ورواسب المراحل التي سبقتها، وشخصية المراهق في الواقع إنما هي انعكاس لما تلقاه من تربية صائبة أو مخطئة في طفولته. وهنا يقتضي الأمر أن يستجيب الراشدون الى انفعالات المراهق استجابة تنطوي على الحكمة لا الغضب، وأن يعمدوا الى التوجيه الهادف والهادئ.