في كل بيت

المراهقة عمر البحث عن الهوية وتأكيد الذات
إعداد: ناديا متى فخري

مرحلة حساسة تتطلب التواصل الإيجابي والحوار الهادئ

متى تهيأت للمراهق حياة يسودها الاستقرار وتثبت فيها الحوافز الرافدة للتواصل الإيجابي وتتماشى مع روح العصر من دون المسّ بالجوهر الثابت في محور التربية الذي يرسّخ لديه الإستقامة، فلا بدّ من أن يسجّل تواصلاً إيجابياً مع تطورات هذه المرحلة من العمر ويندمج مع الواقع بعقلية مرنة ونفسية رحبة ويرتب حياته ترتيباً صافياً يشمل جميع النواحي.

 

سنوات البحث عن الهوية والتفكير بالمستقبل
سنوات المراهقة هي سنوات بحث وتفكير، البحث عن الهوية والتفكير بالمستقبل. وللمراهق أولويات ومطالب ليس من السهل أن يتخلّى عنها باعتبار أنها ترضي قناعاته وعلى قياس طموحاته، وهذا يضاعف من مسؤولية الأهل، ففي هذه الفترة لا بد من متابعة المراهق متابعة رصينة وحذرة، وبذل جهد لدخول عالمه واكتشاف ميوله، على أن يكون هذا التدخل إيجابياً يستمد منه المراهق الإنطلاقة البنّاءة والعبر المفيدة، وأن لا يُثبط عزيمته أو يتسبب في إحباطه معنوياً... ومن ثوابت الدور الأسري أن يتدرّج المراهق على سلّم الفضائل والقيم ويتآلف معها ولا يستخفّ بها، وأن يكون مستعداً للتواصل برضى مع الظروف والمواقف الشخصية والإجتماعية ويوثّق إيمانه بالمستقبل ويبتعد عن الشك فيه.
نحن نعرف أن الحياة ليست كلها سهلة وهذا ما يجب أن يعرفه كل مراهق، كي لا يستخفّ بالحياة ويسلّم بأن الأمور سوف تجري كما يشتهي فيكون تعاطيه مع الواقع سطحياً، هامشياً وكأن لا وجود لأي عائق يمنعه من تحقيق ما يصبو إليه. وكذلك، المفروض أن يستوعب المراهق أن في الحياة قيماً صالحة وخيرة وفيها أيضاً ما هو عرضي وكله شر، ومن الضروري أن يكون ملماً بمطالب الحياة العصرية ويعرف كيف يماشي الزمن والأحوال وكيف يتصدى لأمواج النزوات التي تتقاذفه من كل جهة، وأن يكون مستعداً للتنازل عن رغبات مؤقتة في سبيل تحقيق كسب طويل الأمد... كما عليه أن يعي أن كل مشكلة تواجهنا في أي مرحلة من مراحل العمر تستحق منا أن نكافح لنتجاوزها بسلام.
المراهق معرض لتحديات عصره، لكن السلوك المستقيم ضمانة للمضي قدماً بخطوات ثابتة، وهذا ما يجب أن نعمل عليه في سياق دورنا التوجيهي في عمر المراهقة... فالتوجيه يمثّل صمام الأمان لعدم وقوع أولادنا في الخطأ والإنحراف، إنه الشريان الأساسي الذي يُحيي فيهم المروءة والعزيمة والإرادة والإستعداد النفسي لتقبل إحتياجات هذه المرحلة والمراحل اللاحقة بمزيد من الإطمئنان والتفاؤل وراحة البال.

من التوجيه يكتسب المراهق الخصال الحميدة التي تكسبه شخصية وثّابة نحو الخير والصلاح... والتوجيه الأسري من الثوابت التي لا بدّ من مراعاتها في تربية أولادنا وتأهيلهم لمواكبة عجلة الحياة بنجاح وبناء شخصيتهم المستقبلية، وبدون هذه الثوابت قد يضلّون الطريق، فلا توازن أو التزام أو مشاركة مثمرة.

 

روافد لا بد منها
مرحلة المراهقة يجب أن ترفدها مقومات السلوك الرصين والجدي، والنضج الوجداني والعاطفي، وإرادة قوية تكبح جماح التهوّر والجبن والطيش وتدعو إلى التصرف بمسؤولية مع أي أزمة أو موقف طارئ... فالنضج السلوكي مطلوب في جميع مرافق الحياة وبوحيه يتعزز نمو المسؤولية الإجتماعية وتُبنى الشخصية المحترمة الموثوق بها... وأي طارئ عارض على حياة المراهقين قد يفرز اضطراباً لديهم ويصيبهم بنكسة نفسية في العمق تولّد السلبية وعدم الإكتراث... وهنا للأهل دور مهم في وقاية أولادهم من تراكم الإنفعالات التي تدفع بهم إلى التخاذل والهروب من المسؤولية.
يحتاج المراهق إلى الإرادة والمعنويات العالية كمصدر طاقة، ويجب تشجيعه على النظر إلى الأمور بموضوعية وأن يسعى لخير نفسه ومستقبله ويكون مسؤولاً عن أفعاله، فلا يهمل ولا يتسرّع، ويبتعد عن صغر النفس ويتجنّب الفوضى ولا يسقط في هفوة، ويتأنّى متروياً في كل فعل، ولا يبتّ في أمر ما لم يحكّم العقل والضمير، فالإنسان يُحمد بحسب تعقّله.
تنتاب المراهق الحيرة والشك والملل من الروتين والملاحظات وتنشط دوافع النزوات والمتطلبات التي تجعله إزاء موقف نفسي مليء بالتناقض الوجداني، فالمراهق في هذه السن، (سن التردّد والتفكير الخيالي والإنفعالات العاطفية والبحث عن الهوية والإستقلالية الذاتية)، يكون مندفعاً متطلباً مفرط الحساسية.

 

مرحلة انتقالية
في الواقع، المراهقة مرحلة انتقالية حرجة تكثر فيها الإضطرابات خصوصاً في ظل عدم وجود توازن نفسي عميق، الأمر الذي يجعل بناء الهوية أكثر صعوبة، فمن ناحية للمراهق أحلامه ونظرته الخاصة به وبالحياة من حوله، ومن ناحية ثانية تكثر العقد النفسية في غياب الأجواء المشوّقة التي تشحنه بالتفاؤل والحماسة ليمضي في سلام معنوي ومزاج هادئ. وتشهد هذه المرحلة تغيّراً في السلوك فيتعلّم المراهق أنماطاً سلوكية جديدة، إذ يصبح أكثر وعياً لكل ما يُسوّق إليه من معرفة وقيم ومعايير إجتماعية من أبويه أو من مربيه ومن المقرّبين من الرفاق، كما يُلاحظ تأثيره بالثقافة العامة التي يكتسبها في مجتمعه بالإحتكاك مع الآخرين، والتمرس على مفاهيم ثقافية يستوردها من خارج مجتمعه فيتشرّبها وتثبت في ذهنه وتشكل جميعها غذاء لذوقه وفكره.
ولما كانت الثقافة المرجع الذي يشحن الفكر بالمعرفة من الطبيعي أن تثير فضول المراهق، فهو يريد أن يفهم ويكتشف ويستثمر خبراته لخدمة أهدافه، ونشير هنا إلى أن للثقافة آفاقاً واسعة فهي تهذّب الصفات الإنسانية والإجتماعية والطبيعية حتى تخلق من الفرد شخصية نامية وناجحة في ميدان الفكر والعمل، وهي امتداد لحياة منتجة ومسؤولة؛ المهم أن لا تلمع الثقافة بومضات مضرة تجعله أسير أفكار ومعتقدات وسلوكيات مرفوضة إنسانياً وإجتماعياً.

 

محور المشكلة
كل مراهق معرض للوقوع في الخطأ، والبعض يكون الجهل سبب انحرافه، وهذا يجعلنا أمام مشكلة صعبة وشائكة، خصوصاً ان المراهق يعيش سن الطيش ومن السهل أن يبدّل من عاداته وسلوكه ويتخلّق بأخلاق الآخرين ويسير سَيْرهم، وفي هذا الضوء يتبلور محور مشكلتنا مع أولادنا.
فالمراهقة فصل حياتي رحيب يحتضن متغيرات كثيرة في ظلها يندمج المراهق في علاقات معقدة ويخوض تجارب فيها المفيد وفيها المثير وفيها ما يناديه نحو الجنوح، فكل يوم قد يأتيه ببعض ضبابه ليعكّر على النفس صفاءها.
إن الأنماط السلوكية التي يتعلمها المراهق قد يكون في صالحه أن يتعلمها وقد يكون التشبّه بها تهوراً وانحرافاً يوصله إلى الهلاك... وغالباً لا يكون سلوكه بفعل إرادي عاقل وحرّ ولكن نتيجة حماسة ورغبة في تقليد تصرفات الغير وهذا يسيء اليه في العمق، فإذا نمت الشخصية في قالب فائق الإعوجاج قد يصعب تقويمها في ما بعد تقويماً مُرضياً.
لذلك يجب أن نوثّق علاقتنا بأولادنا وأن نتواصل معهم بالحوار الهادئ المقرون بالحكمة والمرونة كي لا يشعروا بالعزلة والوحدة ويأخذهم اعتقاد بأن لا عون لهم ولا سند ولا اعتبار لهم عند الغير، حتى ولو اعترضوا على التفافنا حولهم، فهذه المرحلة تحتاج إلى الصبر والإرادة الطيبة ويقظة الأهل لتقريب المسافة بينهم وبين أولادهم؛ المفروض، أن نرسم لهم الخط القويم الذي لا يحرّف خطاهم.
وفي فترة المراهقة، نلاحظ شيوع: عدم الرضا، تقلب في المزاج، عدم ارتياح نفسي وتتشكل فيها عدوانية التصرّف التي إذا اشتدت تقود المراهق إلى مساحات مظلمة، يكلّفه الخروج منها ثمناً باهظاً من كرامته وشخصيته.
حين يعاني المراهق عدم توازن في مجال ما، ويشعر بالتعاسة، وبأن المجال المتاح له في الحياة ضيّق وخانق، يتصرف بعدوانية ويطلق العنان لغرائزه وإنفعالاته، وهذا شيء خطير... فالعدوانية سمة النفوس الضعيفة المشحونة بالتأزم وتخلق لصاحبها مشاكل كثيرة خصوصاً المراهق ذي الطباع الحادّة... وهذا يقتضي تربية روحية وجدانية، سلوكية نقية يستوحي منها المراهق الفضائل والقيم الأخلاقية التي تورثه شخصية محصنة ضد الانحراف والتخلّف وعدائية التصرف، وتقيه شرّ نفسه وأفعاله...

 

الحقوق والواجبات والرغبة في الاستقلالية
يقف المراهق حائراً، متسائلاً عن حقوقه وواجباته، فهو يفكّر في قرارة نفسه أنه أصبح راشداً ومسؤولاً عن نفسه وأن لا سلطة لأحد عليه، والتدخل في شؤونه مسألة مرفوضة، فهو يعتقد أنه أكثر دراية بمصلحته واختياراته وعلى هذا الأساس يبني مفردات سلوكه... ويبدأ بإعادة النظر بكل ما تعلّمه من أبويه ويتساءل عن مدى صحة المفاهيم التي إكتسبها منهما... ومن أبرز مظاهر الحياة النفسية عند المراهقين: الرغبة في الإستقلالية والتحرر من سلطة الوالدين ورقابتهما، وميل المراهق إلى برمجة حياة خاصة به، فهو يجد أنه لم يعد قاصراً وباستطاعته أن يختار ويقرّر ولا ضرورة للإصغاء إلى نصائح الكبار والأخذ بها كنهج مُلزم، لأنها تمثّل بالنسبة إليه حواجز وقيوداً تحدّ من إندفاعه ونشاطه.

 

نبرة خاصة ومؤشرات مقلقة
طريقة المراهقين في الكلام تدهشنا وتثير أعصابنا أحياناً، فقد يتكلم المراهق بنبرة صوت متعجرفة أو يستخدم أسلوباً سيئاً في الكلام، ويحب بعضهم المغالاة والإفراط في تمويه الحقائق، ويطلق خبراً كاذباً حتى أنه يصدّق ما يوهم أهله أو رفاقه به، وهذا شيء مقلق لأن الكذب تليه ارتكابات أخرى، مثل الغش... السرقة... الخ، فما العمل؟
أن ننير درب المراهق ونوجّهه نحو الصلاح مهم جداً ولكن الأهم أن يتحلى الآباء بالصبر والهدوء والحكمة في تعاطيهم مع أولادهم المراهقين، والتواصل معهم بأكبر قدر ممكن من التفهّم والحساسية لنقرّب بيننا وبينهم المسافة ونساعدهم على أن يجدوا في نفوسهم الموارد الخيرة واللياقة السلوكية؛ كما ينبغي أن نبقى متيقظين ونصوّب الأخطاء ونرفضها في حوار بنّاء مع أولادنا ومن دون أن نجرح مشاعرهم مع الإهتمام بإنماء العامل الأخلاقي المثالي لديهم.

 

الحرية
يردّد المراهق باستمرار: أريد أن أكون حراً، مستقلاً، وطبيعي أن تكون الحرية مركز اهتمامه، إنما يجب أن تكون تحت إرشاد العقل والضمير.
الحرية كالمحبة غريزة إنسانية طبيعية، والسعي وراءها هو سعي الى التجدّد وإثبات الذات، وهذا حق وجودي لا يمكن تجاهله، شرط أن يعي المراهق تماماً ما هو مفهوم الحرية الحقيقي.
توحي الحرية بالثقة والطمأنينة وبفرح داخلي، فهي من الحوافز الداعمة معنوياً... ويبقى الأهم، وهو أن يعرف المراهق أن تقرير مصيره بالفعل الإرادي الحرّ لا بد من أن يرتكز على حوافز تبرّره تختلف تماماً عن عفوية الغرائز، فالإستسلام العفوي للأهواء لا يمكن أن يعد اختياراً موفقاً، بل تنازلاً وأسراً أشد ظلماً وتحكماً من حتميات ضابطة مفروضة عليه على مستوى العيش الواقعي اليومي.
لا جدل أن الحرية هدف سام وعزيز، ولكن المفروض أن نشرح لأولادنا ما معنى أن نكون أحراراً... فالحرية أيضاً مسؤولية... وعلى المراهق أن يبني حريته على ركائز ثابتة ومتينة، وأن يربط بين مبدأ التمتع بحريته ومبدأ المسؤولية التي تفرضها هذه الحرية.
في المراهقة تتوضح السمات الشخصية بوجوه مختلفة المظاهر، فإما أن نجدها نامية ومثمرة، أو فاسدة مريضة تورث الضياع والفوضى والظلال. فهناك من نراه جدياً، صادقاً، سريع البديهة، واثقاً من نفسه، متفائلاً وطموحاته هادفة، ويؤمن بإنتصار الخير على الشر، معنوياته عالية وسلوكه موسوماً بطابع إنساني واخلاقه حميدة.وهناك من نراه يميل إلى العزلة والإنطوائية، واللامبالاة، ومن سماته أيضاً الخجل والعدوانية والتكبر والأنانية وأكثر تصرفاته مزعجة ومغيظة، لا يحترم الآخر، متقلب المزاج، إلى غير ذلك من سمات تفتقر إلى الرصانة والإيجابية.
والسبب، أن المراهق كالشجرة في بداية نموها، فإن هي زُرعت في أرض مهملة، صخرية ليس فيها تربة صالحة تتعمق فيها الجذور، تبقى شجرة غير نامية وغير مثمرة... كذلك المراهق فإذا كان تكوينه الأول قد تلوّث منذ الطفولة بجراثيم فاسدة أو أصابه مرض ما في بدء نموّه ولم تعالج حالته، يظل طوال الحياة مريضاً تنقصه الصحة والعافية الجسمية والنفسية والسلام المعنوي، فلا يتقدّم ولا يتكامل، فالأصل حين يكون مريضاً وفاسداً لا تُزهر براعم نموه بالعافية.
ودور الأهل هنا، كدور الفلاح الذي يعمل في أرض بور لتصبح أرضاً جيدة، عليهم أن يكثّفوا الجهد والعناية والرعاية فنحن نريد شباباً متزّناً ذا شخصية متكاملة متناسقة من دون أن تطغى فيه قوة على قوة... نريد أن يأخذ حياته بقبضته وأن يعرف حدوده، ويقرر مصيره على أفضل وجه... يقبل ويرفض، يشجب وينمّي، ويعي مسؤولياته تجاه نفسه والعائلة والوطن.