قانون دولي

المسؤولية الدولية: ماهيتها وآثارها وأحكامها
إعداد: المقدم المتقاعد أحمد سيف الدين

تعتبر مفتاحًا لكل نظام قانوني

 

المسؤولية الدولية موضوع حديث في الدراسات القانونية فرضته التطورات السريعة التي عرفها المجتمع الدولي، وهو ما زال يثير نقاشًا واسعًا في الفقه والعمل الدوليين. فلجنة القانون الدولي التابعة للأمم المتحدة والتي شرعت بالعمل منذ العام 1961 لم تصل بعد إلى وضع نص قرار دولي حول المسؤولية الدولية.
وتكمن أهمية المسؤولية الدوليـة فـي القانـون الدولـي العـام باعتبارها جزءًا أساسيًا من كل نظـام قانوني، ففعاليـة هذا النظـام تتوقف على مدى نضج قواعد المسؤولية ونموها باعتبارهـا أداة تطور بما تكفله من ضمانات ضد التعسف، بل إن البعض يعتبر «قواعد المسؤولية مفتاحًا لكــل نظــام قانونــي».
هذا مع الإشارة إلى إن ما يعيق تطور المسؤولية الدولية هو عامل القدرة والقوة في العلاقات الدولية، وخير مثال على ذلك ما نشهده من غزوات وحروب سواء في فلسطين أو في العراق أو أفغانستان.
فـي مــا يلــي نلقــي الضــوء علــى هــذا الموضــوع، مــن خــلال تعريـف المسؤولية الدوليـة وآثارها وأحكامهـا، معتمديــن مسؤوليــة إسرائيـل عــن جرائمهـا في لبنـان نموذجـًا.

 

تعريف المسؤولية الدولية
تعددت التعريفات التي قيل بها حول المسؤولية الدولية، ويجمع بينها قاسم مشترك هو أنها «خرق لالتزام دولي من قبل دولة، ما يوجب مساءلتها من الناحية القانونية تجاه الدولة المعتدى عليها أو المتضررة من العدوان».
وللمسؤولية الدولية معطيات تتمثل بما يلي:
• تقع هذه المسؤولية على عاتق دولة، وهي وحدها ملزمة إصلاح الضرر الذي سببه تصرّفها غير المشروع، ولا يمنع أن تترتب المسؤولية على منظمة دولية.
• المسؤولية الدولية لا تتقرر إلا لمصلحة دولة استنادًا إلى مبدأ مراقبتها لحسن تطبيق القانون الدولي ومواجهة كل تقصير قد يوقعه تطبيق القانون حيالها.
• تقوم الدولة المتضررة من فعل مخالف لهذا القانون بأعمال قواعد المسؤولية الدولية.

 

عناصر المسؤولية الدولية
تندرج عناصر المسؤولية في ثلاثة أقسام على النحو الآتي:

 

• أولاً: الفعل غير المشروع أو الخطأ الصادر عن دولة أخرى:
من الثابت قانونًا وفقهًا أن المسؤولية الدولية لا تقوم من دون عمل غير مشروع يمثل إخلالاً بالتزام دولي مفروض على الدولة، وثابت ونافذ في حقها، وذلك سواء كان مصدره قاعدة عرفية أو اتفاقية أم قاعدة تمثل مبدأً من المبادئ العامة للقانون الدولي العام، والتي أقرتها الأمم المتحدة في ميثاقها، أو كان التزامًا نص عليه قرار من القرارات التي تشكل قواعد عامة صادرة عن المنظمات الدولية وأهمها على الإطلاق قرارات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة.
ويستوي أن يكون الإخلال بالالتزام عملاً غير مشروع، أي إخلالاً إيجابيًا أو مباشراً بالالتزام الدولي المفروض على الدولة (الخطأ) أم سلبيًا كالامتناع عن القيام بعمل يترتب عليه تطبيق التزام دولي.
لكن هذه النقطة بالتحديد أثارت خلافًا فقهيًا حول ما إذا كان مجرد الإخلال بالالتزام الدولي يثير بذاته مسؤولية الطرف الذي اقترف الإخلال. وثمة نظريات ثلاث تحدد أساس الفعل أو العمل غير المشروع، وهي: نظرية الخطأ والنظرية الموضوعية ونظرية المخاطر.

 

• نظرية الخطأ:
تقوم هذه النظرية على أنه لا يكفي لنشوء المسؤولية الدولية وجود إخلال بالتزام دولي، بل لا بد من أن يكون أساس هذا الإخلال الخطأ أو الفعل الخاطئ، ويستوي في ذلك أن يكون الخطأ متعمدًا (أي توافرت فيه إرادة ارتكاب الفعل) أو أن يكون غير متعمد (ناتج عن إهمال أو تقصير).

 

• النظرية الموضوعية:
تجنبت هذه النظرية عناء البحث عن أساس الخطأ الذي أخذت به النظرية السابقة في وضع أساس المسؤولية الدولية.
وتقوم هذه المسؤولية (وفق النظرية الموضوعية) فقط على مجرد توافر مجموعة من العناصر المادية والموضوعية، المتمثلة بقيام الدولة بالفعل أو العمل غير المشروع، الذي يمثل إخلالاً بالتزام دولي من دون البحث عما إذا كان هذا الفعل الخاطئ عمدًا أو غير عمدي (كما لو نتج عن إهمال أو تقصير جسيم).

 

• نظرية المخاطر:
تتمثل هذه النظرية باتجاه حديث نسبيًا وهو موضوع خلاف بين الفقهاء، ومفاده تأسيس المسؤولية الدولية على أساس المخاطر، أي أن كل فعل ضار حتى ولو كان مشروعًا يستتبع قيام المسؤولية الدولية (مثل التجارب النووية، الأبحاث الفضائية وغيرها...)، فالفعل هو العنصر الأساسي لقيام المسؤولية الدولية.

 

• ثانيًا: عنصر الضرر:
يتمثل هذا العنصر بأنه يجب لانعقاد المسؤولية الدولية أن يترتب على العمل غير المشروع، والذي يمثل إخلالاً بالتزام دولي، ضرر لشخص من أشخاص القانون الدولي، بحيث يقال أن حقًا من حقوق الدولة قد تم المس به أو أن مصلحة مشروعة لها تعرضت للانتهاك.

 

• ثالثًا: نسبة الفعل غير المشروع إلى شخص القانون الدولي (رابطة السببية):
يشترط هذا العنصر لقيام المسؤولية الدولية عدم وقوع الفعل غير المشروع المسبب للضرر فحسب بل أن ينسب هذا الفعل إلى دولة ما. ويلاحظ أن هذا العنصر مرتبط بمبدأ سيادة الدولة داخليًا وخارجيًا. ويشار إلى مسؤولية الدولة ضمن حدود معقولة عن الأضرار اللاحقة بالأجانب المقيمين على إقليمها.
وباختصار المسؤولية الدولية هي التزام الدولة مرتكبة الفعل الضار غير المشروع بإصلاح ما ترتب على فعلها من أضرار.

 

آثار المسؤولية الدولية وأنواعها
تنعقد المسؤولية تجاه الشخص الدولي القانوني (دولة أو منظمة) متى ارتكب عملاً غير مشروع ترتب عليه ضرر لشخص دولي قانوني آخر أو لأحد رعاياه، وكانت القوانين والأدلة كلها مجتمعة على نسبة هذا العمل المسبب للضرر لذلك الشخص الدولي القانوني.
فما هي آثار المسؤولية الدولية وما هي أنواعها؟

 

• آثار المسؤولية الدولية:
إذا حملت المسؤولية الدولية لأحد أشخاص القانون الدولي، ينشأ عنها التزام يقع على عاتقه بإصلاح كل ما يترتب على فعله من أضرار.
وقد أكد العرف والفقه والقضاء الدولي وقرارات المحافل الدولية وما نصت عليه اتفاقيات دولية عديدة تتعلق بالمسؤولية الدولية والعرف الدولي، التزام الدولة المسؤولة إصلاح الضرر بطريقة كافية.

 

• مفهوم إصلاح الضرر وطبيعة الالتزام حياله:
 يمكن تعريف إصلاح الضرر بأنه مجموعة التدابير التي تقوم بها الدولة المعتدية (المدعى عليها) بغية إصلاح الضرر.
وعلى العموم فإن إصلاح الضرر هو مجموعة الإجراءات الواجب اتخاذها من قبل الدولة التي اقترفت الخطأ بغية إصلاح جميع ما ترتب على فعلها الخاطئ من أضرار. ومصطلح إصلاح الضرر (Réparation) أفضل من مصطلح التعويض (Compensation) وذلك لشمول الأول كل ما يزال به آثار الفعل غير المشروع، بداية من وقوعه مرورًا بالتعويض وصولاً إلى الاعتذار عنه ومعاقبة مقترفيه وغير ذلك من أشكال الترضية. أما التعويض فإنه يقتصر على تقويم الخسارة بمبلغ من المال يدفعه المعتدي للمتضرر تعويضًا عما ألحقه به.
هذا وقد ثار الخلاف بين الفقهاء حول الطبيعة القانونية لإصلاح الضرر وما إذا كان يحمل طابع العقوبة أم أنه يقتصر على تعويض الضرر، وانقسم الفقهاء إلى فريقين:
الفريق الأول الذي ينكر الصفة العقابية للتعويض ويحصر الآثار المترتبة في الجانب المدني، ومن ثم فإن المسؤولية عن العمل غير المشروع تنحصر فقط في إصلاح الضرر بإعادة الحال إلى ما كان عليه قبل وقوع الفعل الضار، أو بدفع مبلغ من المال يعادل التعويض العيني مع الترضية المناسبة التي تقدمها الدولة مرتكبة العمل غير المشروع إلى الدولة المعتدى عليه. والقائلون بهذا الرأي هم أنصار المدرسة التقليدية الذين يعتبرون أن الدولة ليست شخصًا طبيعيًا بل هي شخص معنوي وليس بإمكان الشخص المعنوي أن يكون مجرمًا، لأن العلم والإرادة محصوران بالأشخاص الطبيعيين، إضافة إلى عدم وجود سلطة عامة تستطيع أن تفرض العقاب على الدولة المعتدية. وقد صدرت عن القضاء الدولي عدة أحكام اعتبرت أن لا صفة عقابية للمسؤولية الدولية، وأن الطبيعة القانونية للتعويض تقتصر على إصلاح الضرر.
وهذا يؤدي إلى نتيجة هامة هي أن الدولة ملزمة في مطالبتها للدولة المعتدية سلوك سبيل الطرق الودية لا الوسائل غير الودية. في المقابل يرى الفريق الثاني في إصلاح الضرر عقوبة للدولة المعتدية، ويستند مؤيدو هذا الرأي إلى منهج الاستخلاص، ويقولون إن جميع أحكام محاكم التحكيم لو حللت لتبين أنها تحمل طابع العقوبة.
ويمكن القول ان الأثر المترتب على انعقاد المسؤولية الدولية عن طريق العمل غير المشروع هو التزام إصلاح الضرر سواء عن طريق إعادة الحال إلى ما كانت عليه قبل وقوع الفعل الضار أو عن طريق التعويض أو الترضية المناسبة.
وهناك التزام جديد فرضته المحاكم الجزائية والقضاء الدولي الجزائي وتميز بمحاكمة الأفراد المرتكبين للفعل الضار، غير أن آراء الفقهاء انقسمت أيضًا حيال هذه النقطة. فثمة فريق يمثل الأكثرية وينادي بمسؤولية الأفراد، وفريق يمثل الأقلية يرى أن المسؤولية الدولية تتحملها الدولة، بينما يرى فريق آخر أن المسؤولية الدولية الجزائية تتحملها الدولة كما يتحملها الأفراد وذلك لأن الدولة تتمتع بالشخصية القانونية شأنها شأن الأفراد الطبيعيين. ويستند هذا الفريق إلى المادة الثالثة من اتفاقية لاهاي الرابعة للعام 1907 والتي نصت على أن الدولة التي تخل بأحكام الاتفاقية تلزم التعويض إذا لزم الأمر وهي تكون مسؤولة عن كل الأفعال التي تقع من أي فرد من أفرادها.

 

• أنواع المسؤولية الدولية:
المسؤولية الدولية نوعان: تعاقدية وتقصيرية. تنشأ المسؤولية التعاقدية عن إخلال الدولة بالتزاماتها التعاقدية مع الدول الأخرى، كأن تخل بالاتفاقات المالية أو التجارية. وعندما يحصل إخلال تلتزم الدولة المخلة التعويض عن الأضرار التي نتجت ولو لم ينص على ذلك في الالتزام الذي أخلت به.
وحول إخلال الدولة بتعهداتها حيال رعايا دولة أجنبية يفرّق الفقه بين حالتين: حالة الدولة كشخص معنوي عادي، وحالة الدولة كسلطة عامة. ففي الحالة الأولى لا تتحمل الدولة مسؤولية مباشرة، ومن أصيب من الرعايا الأجانب بضرر ما، فما عليه إلا أن يراجع القضاء المختص.
وأما في الحالة الثانية فإن الأمور تبدو أكثر تعقيدًا لأن التزامات الدولة تتعلق بحق السيادة وهو حق لا يقبل مراجعة القضاء. والحل أن يلجأ الأجنبي المتضرر إلى حكومة بلاده لتسعى بوسائلها الخاصة إلى تحصيل حقوقه.
كما تتحمل الدولة المسؤولية الدولية عن انضمامها إلى معاهدة تحرّم الحرب، ثم تقوم بحرب عدوانية، أو تخرج على قواعد الحرب، إذ تعتبر هذه الأعمال إخلالاً من قبل الدولة بالتزام تعاقدي يستوجب المسؤولية الدولية.
والنوع الثاني من المسؤولية الدولية هو المسؤولية التقصيرية التي تنشأ عن أفعال أو تصرفات صادرة عن إحدى سلطات الدولة أو هيئاتها العامة، وتشكل إخلالاً بقواعد القانون الدولي، ولو كانت هذه الأفعال لا تتعارض مع أحكام القانون المدني.
وفي حالات أخرى تتحمل الدولة المسؤولية الدولية عن أعمال سلطاتها الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية.

 

مسؤولية إسرائيل عن أضرار حروبها على لبنان
تعني المسؤولية في عرف القانون الدولي قيام الدولة بعمل غير مشروع أو الامتناع عن عمل من شأنه الإضرار بالغير، ويلزم مرتكبه إصلاح ما يترتب عليه من أَضرار بإحدى وسائل الإصلاح.
وللمسؤولية كما سبقت الإشارة عناصر أو أركان أساسية هي: ركن الخطأ والذي يجسده العمل غير المشروع قانوناً، والنتيجة الجرمية، والرابطة السببية.
إن تطبيق ما تقدم على إسرائيل وما اقترفته بحق لبنان من حروب ومجازر ودمار منذ العام 1948، وما زالت تهدد بالمزيد منه، يحمّلها المسؤولية الدولية الكاملة.
وبإيجاز شديد يمكن القول بأن الجرائم الإسرائيلية بحق لبنان لا يمكن أن يرتكب أبشع منها بحق وطن وشعب وبحق الإنسانية في ما يرتكب من إجرام دولي.
وإضافة إلى ذلك لا يوجد عرف أو وثيقة أو ميثاق دولي أو أي قانون دولي لم تخرقه إسرائيل، مما يحتم قيام المسؤولية الدولية بحقها. ولا يمكن في هذه العجالة من البحث، تعداد أنواع الجرائم التي اقترفت بحق لبنان كما أنه لا يمكن شرح الآليات الدولية اللازمة لملاحقة إسرائيل عن جرائمها بدءًا من القضاء الوطني ووصولاً إلى القضاء الدولي الجزائي.

 

المراجع:
- العنوان الإلكتروني: admin@law-dz.com الفقيه الإنكليزي كورني دال في مقال منشور على الشبكة الجزائية بعنوان المسؤولية الدولية.
- ج أ تونكين، القانون الدولي العام، قضايا نظرية، ترجمة أحمد رضا، مراجعة د. عز الدين فودة، الطبعة الأولى، الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة، 1972.
- د. رجب عبد المنعم متولي ومنال مصطفى غانم. ملف التعويضات المصرية من إسرائيل، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولى، 2002-2003.
- Rousseau. Co., Droit international public, Tome V. Paris 1983.             
- Verally M,  le droit international au service de la paix,  de la Justice et développement,  Paris 1991.
-  Brownlie J. State responsibility,  part I,  clarendon press, London,  1983.
- د. محمد حافظ غانم، المسؤولية الدولية، الطبعة الأولى، معهد الدراسات العربية، القاهرة، 1962.
- الالتزام الدولي بإصلاح الضرر: Poulantzas N. legal consequences of state responsibility in the right of hot pursuit in international law 1967.
- د. حامد سلطان، القانون الدولي العام وقت السلم والحرب، دار النهضة العربية، القاهرة، الطبعة الأولى، 1959.
- Ocknil (D.P) international law,  2eme ed. Vol. 2 London stevens 8 sous 1970.
- H. D. de Vabres, les principes modernes du droit pénal international,  paris 1948.