قضايا اقليمية

المستوطنات الإسرائيلــــية وخديعة الإخلاءات

يتحدث المسؤولون الإسرائيليون بين حين وآخر عن عزمهم على القيام بإخلاء بعض المستوطنات هنا أو هناك في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة، في مقابل سعيهم الدؤوب والمستمر لضم عشرات المستوطنات الأخرى كتعويض أو كثمن لعملية الخداع هذه.
ومعلوم ان مناحيم بيغن، رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، كان قد سعى من خلال اتفاق كامب ديفيد عام 1978، ومن ثم اتفاق الصلح المنفرد مع مصر عام 1979، الى تغطية مخططه الهادف الى ابتلاع أكبر قدر من أراضي الضفة الغربية، المتميزة بمواقعها الإستراتيجية وأراضيها الخصبة وغناها بالمياه الجوفية. وعندما لم يكن كل ذلك كافياً، بادر الى اجتياح لبنان عام 1982 لأهداف عديدة من أبرزها القضاء نهائياً على الصوت السياسي الرسمي الفلسطيني الذي تمثله منظمة التحرير، وتصفية القضية الفلسطينية أرضاً وشعباً بالقوة العسكرية.
وعندما فشل في مسعاه هذا تسلم زمام المهمة من بعده جميع رؤساء الحكومات اللاحقين من شامير وحتى شارون، ومن دون أي فرق يذكر بين التيارات الحزبية والسياسية المسيطرة.
وفي ضوء التجارب المتكررة والمريرة في هذا المجال منذ العام 1967 وحتى الآن، يتضح أنه من المستحيل على الكيان الصهيوني أن يتحول من «دولة مشروع» الى «دولة عادية» في المنطقة؛ وبالتالي فهذا الكيان بحد ذاته، ككيان ديني عنصري، وصاحب دور إقليمي تخريبي توسعي، إنما يمثل العائق الأول والأساسي في وجه أية تسوية مهما كانت مجحفة بحق العرب والفلسطينيين، ومهما حاول أن يظهر تكيفه مع المتغيرات الدولية والإقليمية، مثل قيام شارون بتسويق عبارات فارغة هدفها ذر الرماد في العيون كاستخدامه مصطلح مستوطنات مرخصة وأخرى غير مرخصة، مع العلم بأن كل المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي العربية المحتلة يصنفها القانون الدولي على أنها غير قانونية وغير شرعية. وقد وصلت الوقاحة بشارون الى حد القول إن القانون الدولي الذي لا يعترف بالمستوطنات هو الذي يجب تغييره!!
وهذا يعني أن إسرائيل سوف تضم عملياً ورسمياً ونهائياً وفي أقل تقدير، الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية التي أقيمت عليها 140 مستوطنة يسكنها حالياً نحو 367 ألف مستوطن من مختلف أصقاع الدنيا، وهي تنتشر في شكل كتل متراصة، أهمها وأخطرها موجود في منطقة القدس وضواحيها.

 

ويواجه مشروع إخلاء بعض المستوطنات الهامشية «غير المرخصة» بحسب تعبير شارون، الكثير من التعنت والعناد من قبل مئات الحاخامات من أصحاب فتاوى التكفير والتحريم، والكثير من المستوطنين المستفيدين من التسهيلات والتقديمات البالغة الأهمية التي تقدمها لهم الدولة. ويدخل في مجال المعوقات الأخرى التي تجعل من مشروع إخلاء بعض المستوطنات أمراً في غاية التعقيد والصعوبة الاعتبارات التالية:
1 - إن المستوطنات تدخل في صلب التناقضات والخلافات السياسية والدينية والأيديولوجية والإجتماعية في المجتمع الإسرائيلي.
2 - هناك مستوطنات انشأتها حكومات حزب العمل المعتبرة على أنها حكومات متساهلة الى حد التفريط، وبالتالي يستحيل على حزب الليكود وأحزاب  اليمين الأخرى عامة النزول تحت سقفها والعمل على إزالتها.
3 - إن معظم المستوطنات أقيمت بقرارات حكومية ووزارية رسمية، ومن أجل ذلك يملك المستوطنون خيار رفع دعوى قضائية أمام محكمة العدل العليا في إسرائيل لإبطال أي قرار يقضي بإخلائها أو تفكيكها.

 

ومعلوم أن حكومة شارون كانت قبل بضعة أشهر قد حشدت أكثر من 900 جندي وضابط إسرائيلي لإخلاء موقع استيطاني صغير اسمه ميغرون لا يتضمن أكثر من عدد ضئيل من «الكرافانات» المتنقلة.
إن حماية المستوطنات وبقاءها في الأراضي العربية المحتلة في كل من فلسطين والجولان، إنما تمثل في نظر شارون، انتصاراً للمشروع الصهيوني المتجدد على يديه، والذي ينطلق في الوقت الراهن من منطلقات استراتيجية عدوانية تتغذى من منطلقات الإستراتيجية الأميركية العالمية القائمة على الضربات الاستباقية والروح الانتقامية المتفجرة منذ أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر عام 2001. وفي حيثيات هذه الإستراتيجية أنها تدعو الى التخلي تماماً عن سياسة التفاوض مع الفلسطينيين، منذ شعار باراك بعد فشل مؤتمر كامب ديفيد عام 2000 القائل إنه لا يوجد شريك فلسطيني يمكن التفاوض معه، والى المبادرة الفعّالة والديناميكية لصياغة «المحيط الإستراتيجي» الملائم والمريح عن طريق تهديد الفلسطينيين أولاً في وجودهم وآمالهم الوطنية، ومن ثم تهديد وتأديب سائر دول وشعوب المحيط القريب مثل سوريا ولبنان والعراق وصولاً الى مصر وايران، وهم يستغلون في ذلك الخلل الكبير الحاصل في موازين القوى في المنطقة لصالحهم، من أجل ترسيخ نتائج العدوان وفي مقدمها الإستيطان وإهدار حق العودة الخاص باللاجئين الفلسطينيين والإعتراف بإسرائيل الكبرى كدولة يهودية عنصرية بفضل الانتصار الساحق والنهائي للصهيونية على القومية العربية والتاريخ العربي برمته في المنطقة.
وعلى الرغم من كل هذه العنجهية والغرور الصهيونيين في مرحلة من مراحل الإنكماش والتخلف العربي، فإن إسرائيل لم تخل من أصوات ناقدة لهذا التوجه الأمبراطوري الهستيري اللاسلمي. فقد كتب النائب الإسرائيلي في الكنيست ابراهام بورغ، ابن النائب الراحل الحاخام يوسف بورغ زعيم حزب المفدال الأسبق، في صحيفة يديعوت أحرونوت يقول: «يتبين أنه بعد ألفي عام من نضال اليهود والصمود، تحولت دولتهم الى دولة مستوطنات تديرها زمرة لا أخلاقية من منتهكي القانون الفاسدين، الذين صمّوا آذانهم عن سماع مواطنيهم وأعدائهم على السواء. والدولة التي تفتـقر الى العدالة لا تدوم». وأضاف: «من المريح جداً أن تكون صهيـونياً في مستوطنـات الضفة الغربية مثل بيت ايل وعوفرة... لكن من الصعب فهم التجربة المذلة التي يعيشها العربي المحتقر الذي يرى نفسه مرغماً لأن يزحف لساعات على طول الطرقات المخصصة له والمليئة بالحفر والعوائق. طريـق للمحتل وآخر للخاضع للاحتلال». ويخـتم بورغ مقاله بالقول: «لا يمكن أن ينـجح هذا حتى لو طأطأ العرب رؤوسهم وكظموا غيظهم، لن ينجح هذا. فالبناء المشيّد على القسوة البشرية سوف ينهار حتماً. ويجب الا تفاجأ إسرائيل التي لم تعد تبالي بأطفال الفلسطينيين عندما يأتي هؤلاء مفعمين بالحقد ويفجرون أنفسهم في قلب المراكز التي تشهد على التهرب الإسرائيلي من رؤية الواقع».