المشهد الاستراتيجي الدولي بعد 11 ايلول 2001 (اميركا وروسيا والصين)

المشهد الاستراتيجي الدولي بعد 11 ايلول 2001 (اميركا وروسيا والصين)
إعداد: د. غسان العزّي
استاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية

في 11 ايلول 2001 الماضي دخلت العلاقات الدولية برمتها في مرحلة جديدة تختلف جذريا عن كل المراحل التي سبقتها منذ عقود بل ربما منذ قرون عديدة. وعلى الرغم من ان الذين نفذوا الهجوم المروع يومها ارادوا ضرب الولايات المتحدة نفسها وليس اية قوة عظمى اخرى، بل تعمدوا تفجير رموز عظمتها الاقتصادية (برجي التجارة العالمية في نيويورك) والعسكرية (مبنى البنتاغون في واشنطن) فان تداعيات الحدث لن تنحصر في زمان ومكان معينين بل قد تطاول النظام العالمي بمجمله فتعيد تشكيله على غرار ما حدث في اعقاب الحربين العالميتين او انهيار جدار برلين في تشرين الثاني 1989. ويمكن القول انه مع انهيار برجي التجارة العالمية في نيويورك انهارت مسلمات ومفاهيم عديدة في مجال العلوم السياسية يصعب حصرها قبل ان تنتهي “الحرب العالمية” التي شنتها الولايات المتحدة على الارهاب، وهي حرب “طويلة وصعبة ومعقدة” تخاض على جبهات متنوعة اعلامية ومالية واقتصادية وعسكرية ودبلوماسية، كما اعلن البيت الابيض. انها حرب “من نمط جديد” كما قال الرئيس بوش رغم انه باشر بخوضها على النمط القديم نفسه: غواصات وبوارج حربية وصواريخ وطائرات مقاتلة تقصف بلدا لا يملك بنى تحتية او جيشا منظما او حتى حكومة سياسية بالمعنى العصري للكلمة. بل ربما ان الجديد فيها هو انها حشدت كل الجيوش وآلات الفتك والدمار والاقمار الاصطناعية وكل ما حققته التكنولوجيا من تقدم وتطور في المجال العسكري والمعلوماتي، وذلك خلف... رجل يختبىء في مغارة؛ هو اسامة بن لادن الذي اعلن الاميركيون عن مسؤوليته عن تفجيرات 11 ايلول بعد 14 ساعة من وقوعها.

سال حبر كثير في تحليل خلفيات هذا الحدث وتداعياته وغيرها وسوف يكرسّ له كتاب العالم وصحافيوه ومراقبوه ومحللوه ملايين الصفحات، بل لا مبالغة في القول انه سوف يكون شغلهم الشاغل لسنوات مقبلة عديدة. وكما كانت الحال طيلة حقبة الحرب الباردة عندما كان المحللون ينظرون الى الاحداث الدولية من زاوية القطبية-الثنائية وموقف القوتين العظيمتين منها، فان كل الحوادث الدولية المقبلة سوف ينظر اليها من زاوية تداعيات الزلزال الاميركي الكبير. العالم قبل 11 ايلول 2001 هو غيره العالم بعد هذا التاريخ؛ هذا على الاقل ما اجمع عليه المراقبون حتى الآن وان كان من المبكر الحكم على الامور قبل ان تستتب الاوضاع الدولية بعد انتهاء الحرب الاميركية على افغانستان على الاقل والتأكد مما اذا كانت صواريخ الكروز والتوماهاوك الاميركية سوف تتجه صوب بلاد اخري يتهمها الاميركيون بدعم الارهابيين او ايوائهم، ويربو عددها على الستين او السبعين بحسب صقور الادارة الجمهورية.

ويمكن القول انه في 11 ايلول 2001 انتهت الفترة الانتقالية في النظام الدولي بين الحرب الباردة و”النظام العالمي الجديد” الذي اعلنه جورج بوش الاب في غمرة انتصاره على العراق في آذار 1991. لكننا ربما دخلنا في فترة انتقالية جديدة، قد تطول أو تقصر، بحسب تطورات الحرب المفتوحة التي تتميّز، هذه المرة، بالغموض الشامل الذي يحيط بنوايا الدولة العظمى التي تشنها وبالاهداف التي حددتها، هذا اذا كان ثمة من اهداف واضحة محددة موضوعة مسبقا. ذلك ان الولايات المتحدة هذه المرة تجد نفسها في موقف المحارب الذي اثخنته الجراح ففقد اعصابه وراح ينهال ضربا وقصفا على بلد يأوي المتهم الاول بجرائم 11 ايلول وفي موقف المذعور الذي يخشى في كل لحظة من ان يتكرر مشهد “الثلاثاء الاسود” في احدى مدنه الكبرى، ربما باسلحة دمار شامل هذه المرة، والذي يتوجس من ان تكون موجة الرسائل الملوثة بالانتراكس (جرثومة الجمرة الخبيثة) تمرينا حيا بسيطا لحرب جرثومية قد تشن عليه.

وللمرة الاولى في تاريخها تجد الولايات المتحدة نفسها مضطرة لخوض الحرب على جبهات خارجية وداخلية في الوقت نفسه بعد ان افقدها “صباح الطائرات” الهيبة التي بنتها لنفسها لطيلة عقود طويلة، والضرورية لردع من يفكر في خوض مواجهة عسكرية معها.

في المقابل يمكن القول ان الولايات المتحدة، ربما للمرة الاولى في تاريخها العسكري تتلقى دعما دوليا او على الاقل، تعاطفا عالميا يفتح امامها سبلا اساسية لخوض الحرب التي اعلنتها على “الارهاب الدولي”. وبالتالي فان عقبات قانونية وسياسية ولوجستية وغيرها، زالت من امامها منذ اللحظة التي اعلنت فيها قيادتها لهذا الصراع الجديد. وقد تشكل حولها، وبسرعة فائقة، تحالف دولي كبير يضم قوى ودول من مشارب وتلاوين متنوعة مختلفة، وهذا تغير مفصلي اساسي في المشهد الجيوستراتيجي الدولي لم يكن متوفراً قبل 11 ايلول. وبذلك فما عدا التغييرات المفاهيمية ([1]) التي طرأت على ادوات تحليل الواقع الدولي بعد هذا التاريخ يمكن القول ان تغيرا جذريا طرأ ايضا على العلاقات السياسية بين الدول التي تحكم بحركتها تطور النظام الدولي، وهي اساسا القوى العظمى وتحديدا اميركا والصين وروسيا. ذلك انه وان كان الاتحاد الاوروبي ايضا - وعلى الاقل عدد من دوله الرئيسية - قوة عظمى يحسب لها حساب في التنافس العالمي، الا ان انضمامه الى الحلف الاميركي يبقى امرا متوقعا، اقله قبل نجاحه في تشكيل دفاع مستقل او سياسة خارجية مشتركة وهو امر سيطول انتظاره بعض الشيء.

كيف كانت الولايات المتحدة وبالتحديد الادارة الجمهورية الحالية تنظر الى المنافسين الاستراتيجيين، روسيا والصين قبل 11 ايلول؟ وفي اي اتجاه تطورت العلاقة معهما بعد هذا التاريخ؟ هل يمكن انتهاز اللحظة الافغانية لبناء نظام دولي جديد راسخ الاركان ام ان التقاء المصالح سيكون ظرفيا تعود بعدها عقارب الساعة الدولية الى اشكال جديدة من التنافس خلف رهانات متجددة وعلى خرائط مستحدثة؟

 

1) العالم كما رأته ادارة بوش قبل 11 ايلول 2001: حرب باردة جديدة

لقد عمل اعضاء ادارة بوش الابن، كلهم تقريبا، لدى الرؤساء الجمهوريين في الربع الاخير من القرن العشرين (فورد وريغان وبوش الاب) فخاضوا غمار الحرب الباردة، ومنهم من شارك في تصفيتها انطلاقا من سقوط جدار برلين في تشرين الثاني 1989 الى تفكك الاتحاد السوفياتي في صيف 1991.

من هنا صعوبة تأقلم هؤلاء “المحاربين القدامى” مع اوضاع ما بعد الحرب الباردة وتعاطيهم مع الاتفاقات والمعاهدات الموقعة في فترة الحرب الباردة على انها باطلة او عفا عنها الزمن. حتى التوازن الاستراتيجي العالمي القائم على الردع النووي او ما يسمى بتوازنه الرعب صار، في نظرهم، من مخلفات مرحلة قد انقضت.

طبعا هذا لا يعني ان اعضاء الادارة الجديدة النافذين يملكون رؤية واحدة موحدة للسياسة الدولية. يكفي التذكير بأن وزير الخارجية كولن باول كان قد عارض عملية “درع الصحراء” عندما كان رئيسا لاركان حرب الخليج في عهد بوش الاب، الامر الذي تسبب بخلافات حادة مع وزير الدفاع آنذاك ديك تشيني الذي صار اليوم نائبا للرئيس بوش الابن. ولم يكن الخلاف مجرد اختلاف عابر في وجهات النظر حول مسألة معينة في لحظة معينة ولكنه اختلاف في النهج ورؤية الامور، وهو ما يترك بصماته في افعال الادارة الحالية الدولية دون شك.

وزير الدفاع دونالد رامسفيلد مقرب من تشيني وقد عيّن نائبا له من المتشددين هو بول وولفوفيتز الذي سبق ونشر عام 194 تقريرا عرف باسمه يعتبر ان روسيا، رغم كل ما تعانيه من ضعف وتفكك ما تزال تشكك تهديدا محتملا للولايات المتحدة، لذلك يجب العمل على محاصرتها بدول تنتمي الى حلف الاطلسي وصولا الى فرط عقد “مجموعة الدول المستقلة” والفدرالية الروسية كي تصبح روسيا مجرد دولة صغيرة عادية. والتقرير نفسه يدعو الى الاستمرار في محاصرة وضرب العراق وصولا الى قلب نظامه واستبداله بنظام حليف.

لستشارة الامن القومي كوندوليزا رايس استاذة في جامعة ستانفورد وتملك سيرة ذاتية لامعة علميا وثقافيا ما يعوض خواء الرئيس بوش من هذه الناحية، كما تقول الصحافية الاميركية كاتي كيلي ([2]). رايس  المتخصصة بشؤون اوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي في عهد بوش الاب تؤيد انتهاج “سياسة اكثر واقعية” حيال الصين وروسيا، بمعنى الواقعية السياسية التي تعطي الاولوية للمصالح الحيوية الاميركية وهيمنة واشنطن على النظام الدولي.

هؤلاء “المحاربين القدامى” او “فرسان الحرب الباردة الجديدة” ([3]) يقدمون انفسهم على انهم ابطال الزمن الجديد مع بداية هذا القرن الجديد وفي نظرهم لم يعد الاستقرار الدولي والامن العالمي قائمان بالضرورة على توازن معين موروث من فترة الحرب الباردة ولكنه يجب ان يقوم على تفوق الولايات المتحدة المطلق والدائم.

من هنا مشروع الدروع المضادة للصواريخ البالستية الذي سارعت ادارة بوش الى تسويقه تمهيدا لوضعه موضع التنفيذ، وهو مشروع من شأنه اذا نجح، ان يقلب كل التوازن الاستراتيجي الدولي القائم منذ عقود طويلة. ويواجه هذا المشروع معارضة روسيا والصين وحتى معظم الدول الاوروبية، وقد حاول وزير الدفاع رامسفيلد تسويقه بمفردات “اخلاقية” قائلا بأن “الهشاشة ليست استراتيجية جيدة، لقد عمل الردع جيدا خلال الحرب الباردة ولكن في الوضع الجديد حيث يأتي التهديد من اسلحة دمار شامل قد تملكها دول مارقة ومشاغبة فان هذا الردع يصبح عديم الفائدة. الضعف نفسه يشكل دافعا لانتشار اسلحة الدمار الشامل”. واكد رامسفيلد بأن بناء شبكة الدروع المضادة للصواريخ ليست مسألة تقنية بل دستورية، لا يستطيع اي رئيس اميركي تجاهل امكانية حماية مواطنيه من كل تهديد اذا كانت هذه الامكانية موجودة. الحل البديل هو الضربات الوقائية ضد الدول التي تشكل تهديدا. انها اذن مسألة اخلاقية: الردع يمسك بحياة ملايين البشر كرهائن، اما شبكة الدروع المضادة للضواريخ فتحميهم” ([4])

المشكلة ان لا احد تقريبا، من خصوم الولايات المتحدة او حلفائها، مقتنع برأيها هذا، حتى كوفي انان امين عام الامم المتحدة، الذي ينظر اليه مراقبون عديدون على انه... موظف عند الاميركيين، طالب بالحفاظ على معاهدة ABM))( ([5]وحذا الاوروبيون حذوه، بل انهم اتهمو الاميركيين علنا بالعمل على احداث قطيعة مع التوازنات الاستراتيجية الدولية بحسب تعبير الرئيس شيراك. وفي قمة برشلونه الاوروبية عام 2000 ردّ الاوروبيون بصوت واحد على مشروع كلينتون هذا برفضه ورفض “الحماية” الاميركية لهم ([6]). طبعا روسيا رفضت المشروع والصين ردت عليه بالقول انه يطلق العنان لسباق تسلخ خطير في آسيا والعالم، وهو سباق سيقوم على حساب الطبقات التي تسحقها عجلات العولمة والليبرالية المفرطة في العالم ([7]).

والملفت ان كل رجال الادارة الجمهورية الحالية يؤيدون هذا المشروع، وان اول فعل سياسي دولي قامت به هذه الادارة في ايامها، بل ساعاتها الاولى هي العمل على اطلاقه واجراء التجارب عليه ومحاولة تسويقه دوليا عبر وفود رسمية ارسلتها الى روسيا والصين واوروبا وعدد من الدول الحليفة والمناوئة.

 

أ- الموقف من روسيا: تهديد مضمر

بعد محاولات الرئيس كلينتون محاصرة روسيا عبر توسيع حلف الاطلسي الى اوروبا الشرقية واحتوائها عبر المساعدات المالية وصولا الى التقارب معها على سبيل التوصل الى شراكة استراتيجية (بين القوي والضعيف وبين الثري والمفلس...) اتت تصريحات رامسفيلد ورايس عن “التهديد الروسي” ([8]) لتعيد اجواء الحرب الباردة الى سابق عهدها. وهي تصريحات تستعيد ما ورد في تقرير وولفوفيتز الشهير، والذي صار نائبا لوزير الدفاع رامسفيلد. تقول رايس “صدقا اعتقد بأن روسيا تشكل تهديدا للغرب عامة ولحلفائنا الاوروبيين خصوصا”، ويضيف رامسفيلد “روسيا ناشرة ناشطة (لاسلحة الدمار الشامل في العالم) وهي جزء من المشكلة”، اما وزير الخرجية باول فيعلن: “لا ينبغي ان تكون المقاربة حيال روسيا مغايرة كثيرا للمقاربة الواقعية جدا التي كنا نعتمدها حيال الاتحاد السوفياتي القديم في اواخر الثمانينات” ([9]).

ولكن ما هي الذرائع التي تقدمت بها واشنطن لتبرير اتخاذ مواقف متشددة حيال روسيا؟

روسيا تتقارب مع ايران، فقد زارها الرئيس خاتمي في نهاية العام 2000 ليوقع معها شراكة استراتيجية تتضمن مبيعات اسلحة ومواد واجهزة تستخدم في محطات الطاقة الذرية، ويتذمر الاميركيون من تقديم روسيا المساعدات في مجال بناء المحطات الكهروذرية في بوشهر وبيع اسلحة تقليدية متطورة لطهران.

هذا رغم ان المحطة المذكورة تبنى تحت رقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، اما الاسلحة فتقدم ضمن الحدود التي لا تمنعها القواعد الدولية، والتعاون الروسي-الايراني في مختلف المجالات، يساعد على استقرار الوضع في طاجكستان، ويشكل عقبة في طريق النشاط التوسعي لحركة طالبان الافغانية([10]).

في عهد كلينتون تمكن وزير الخارجية الروسي يفغيني بريماكوف - الذي صار رئيسا للوزراء - من اقناع مادلين اولبرايت بأن سياسة تحويل ايران الى بلاد منبوذة هي سياسة غبر بناءة، واخذت واشنطن ترسل اشارات ايجابية الى الاصلاحيين بزعامة الرئيس خاتمي. لكن يبدو ان عدم ارتياح الادارة الاميركية الجديدة من سياسة روسيا يدل على انها قد تتراجع عن الخط الذي رسمته تلك الاشارات ([11]).

- طبقا للتصريحات الاميركية فان دافع الولايات المتحدة لعدم ابداء الارتياح من روسيا يكمن في ان الاخيرة تتبع نهج تطوير العلاقات مع الاتحاد الاوروبي والصين والهند وبلدان اخرى. انهم في واشنطن يعتبرون ذلك “دسائس معادية لاميركا” ومما يثير عصبيتهم على الاخص ان روسيا تعيد علاقاتها مع فيتنام وكوبا وكوريا الشمالية وهي مستعدة لتطويرها ([12]).

- تعارض موسكو، وبدعم من دول كثيرة، خطط واشنطن لاقامة نظام الدروع المضادة للصواريخ، وهي تحظى بتأييد عدد كبير من الدول في موقفها الداعي الى ضرورة التخلي عن سياسة فرض العقوبات الاقتصادية على الدول التي “لا تروق” انظمتها لواشنطن. كذلك فان الموقف الروسي من العراق يثير حفيظة واشنطن ([13]).

على خلفية هذه الاعتبارات وغيرها وعلى اساس استراتيجي قامت نظرة الادارة الجمهورية الاميركية على روسيا. ومن الملفت انه بعد توليها السلطة باسابيع معدودة تنشب ازمة دبلوماسية كبرى بين البلدين تشبه الازمات التي ذاع صيتها خلال الحرب الباردة. وتفصيل ذلك ان المخابرات الاميركية اكتشفت ان رجل المكتب الفدرالي الاميركي روبرت هانشس يتجسس لصالح روسيا. ردا على ذلك قرر الرئيس  بوس بنفسه ابعاد خمسين  دبلوماسيا روسيا، وهو قرار ما لبثت ان ردت عليه موسكو بالمثل تماما. لقد جاء القرار الاميركي مفرطا الى حد كبير اذ كان يكفي مكالمة هاتفية على الخط الاحمر بين العاصمتين او استدعاء السفير الروسي في واشنطن للاحتجاج امامه. ولكن يبدو ان “الشكل اهم من المضمون بالنسبة لادارة لا تخشى من عودة الحرب الباردة، بل ربما تسعى اليها”([14]).

 

ب- العلاقة مع الصين: مصالح وهواجس

تنقسم الطبقة السياسية الحاكمة في واشنطن بين موقفين حيال الصين: الاول يرى في هذه الامة العظيمة ذات الجذور الحضارية الراسخة صديقا يفيد الولايات المتحدة اذا احسنت التعامل معها، فدولة المليار و250 مليون مستهلك سوق واعد في كل القطاعات، والكونفوشيوسية فلسفة ترى ان كل شيء يجري هنا في الارض وليس في عوالم الصين ما يقربها كثيرا من الماركنتيلية الاميركية الرأسمالية، ثم ان اكبر حي سكني صيني “CHINA TOWN” في العالم يقع في فرانسيسكو، ويبلغ عدد الاميركيين من اصل صيني عشرات الملايين. لهذه الاسباب، وغيرها الكثير ايضا، ينبغي على الاقل عدم مناصبة الصين العداء، ذلك “اننا يمكن ان نعزل انفسها عن الصين ولكننا لا نقدر على عزل الصين عن العالم” ([15]) كما قال هنري كيسنجر ذات مرة.

التيار الثاني يرى في الصين تهديدا على المدى المتوسط للولايات المتحدة من جميع النواحي الاستراتيجية العسكرية وحتى الاقتصادية. والفائض التجاري الصيني حيال الولايات المتحدة يربو على عشرات مليارات الدولار سنويا (حوالي ستين مليارا في العام 2000) وهو الثاني في العالم بعد الفائض الياباني، ما يسبب امتعاض الاميركيين. والصين هي البلد الوحيد في العالم، بعد روسيا، الذي يملك صواريخ بالستية قادرة على اصابة الاراضي الاميركية. وهي دولة يحكمها حزب شيوعي يناصب الليبيرالية السياسية الاميركية العداء ولا يعترف بما تؤمن به من حريات وحقوق انسان. ثم الم يتوقع صموئيل هانتينغتون ان يقوم تحالف بين الحضارتين الكونفوشيوسية والاسلامية ضد الحضارة الغربية في المستقبل؟

هذا الانقسام لا علاقة له بالانقسام  الحزبي القائم في اميركا بين جمهوريين وديموقراطيين. فالرئيس بوش الابن ينتمي على ما يبدو الى التيار الثاني الذي ينظر الى الصين كتهديد محتمل في وقت ينتمي فيه جمهوريون كثيرون الى التيار الاول، ابرزهم هنري كيسنجر الذي اليه يعود الفضل في كسر جليد القطيعة التي قامت بين الصين الشعبية، غداة ولادتها عام 1949، والغرب عموما. ديبلوماسية كيسنجر السرية قادت الى زيارة نيكسون الشهيرة الى الصين وعودة العلاقات الغربية-الصينية الى طبيعتها في السبعينات، وهي عودة غيرت المشهد الجيو-استراتيجي الدولي برمته. ومنذ ذلك الوقت درجت العادة على ان يقوم كل رئيس اميركي بزيارة الى الصين خلال ولايته الاولى. فقط كلينتون شذّ عن هذه القاعدة احتجاجا على مجزرة ساحة يتانان-مان الشهيرة عام 1989، لكنه سرعان ما عاد للتقرب من الصين والعمل على حلّ معظم المسائل الشائكة وصولا الى “شراكة استراتيجية” او “التزام بناّء” اصطدم بانتقادات الجمهوريين الحادة.

الجمهوريون المعارضون لكلينتون في الكونغرس راحوا ينددون بعدم احترام القيادة الصينية لحقوق الانسان والحريات الفردية وخرقها لاتفاقات الملكية الفكرية وتشجيعها للتجسس العلمي والصناعي (تقرير السناتور الجمهوري كوكس) على الولايات المتحدة وتهديدها لتايوان... الخ مطالبين الرئيس كلينتون بالتشدد حيالها، هذه الاتهامات عادت للبروز مجددا في الاسابيع الاولى لوصول جورج بوش الابن الى البيت الابيض، الامر الذي بدا وكأنه اعادة نظر كاملة وجذرية بكل الانجازات التي حققتها ادارة كلينتون في علاقاتها مع الصين. اكثر من ذلك اتخذت الادارة الجديدة قرارا استفزازيا يقضي ببيع تايوان اسلحة متطورة، الامر الذي ردت عليه الخارجية الصينية بالقول انه قرار يدس السم في العلاقات بين البلدين، ثم جاء قرار واشنطن القائل باستقبال الرئيس التايواني في البيت الابيض في ايار 2001 ليزيد الامور تعقيدا.

اخطر من هذا كله حادث اصطدام طائرة التجسس الاميركية من نوع EP-3 بطائرة صينية تحطمت وقتل طيارها في نيسان 2001 فوق المياه الاقليمية الصينية. لقد اسرت الصين طاقم الطائرة الاميركية واحتجزتها مطالبة باعتذار رسمي اميركي عن الحادث ووعد بالتوقف عن الطلعات الجوية فوق المياه الاقليمية الصينية. لم تعتذر ادارة بوش بل ابدت “اسفها” فاطلق سراح الطيارين وبقيت الطائرة محتجزة. الحادث غير مقصود على الارجح ولكن سلوك ادارة بوش حياله وبعده حمل الكثير من الدلالات. في نيسان 1999 خلال حرب كوسوفو الاطلسية اصيبت السفارة الصينية في بلغراد بصواريخ الطائرات الاميركية المغيرة بطريق الخطأ. لكن ادارة كلينتون اعتذرت رسميا عن الحادث وراحت تعمل ما بوسعها لتهدئة خواطر الصينيين، اما ادارة بوش فاتخذت مواقف متصلبة رغم الخطأ الفادح، وبدل ان تعمل على امتصاص التوتر راحب تستفز الصين عن طريق تايوان وعودة الكلام عن حقوق الانسان المهدورة في بيجنغ. وبدت الامور وكأن ادارة بوش تريد ان تقطع مع السياسة التي اتبعتها الادارة الديموقراطية السابقة لصالح نهج جديد يسعى لتوكيد الهيمنة الاميركية على النظام الدولي ولانتزاع اعتراف وقبول الدول الكبرى والصغرى على السواء بهذه الهيمنة والتعامل معها كأمر واقع يستحيل تغييره.

 

2) بعد 11 ايلول: النهاية “المؤقتة” للحرب الباردة الجديدة

ما كادت اخبار تفجيرات الحادي والعشرين من ايلول 2001 تنتشر في العالم حتى راحت تنهال البرقيات والاتصالات من كل حدب وصوب باتجاه واشنطن معزية بالحادث الجلل ومبدية كل الاسف والمؤاساة ([16]). وما كاد الرئيس بوش  يعلن عن عزمه على شن “حرب من نمط جديد” على الارهاب العالمي انطلاقا من افغانستان حيث يقطن تنظيم القاعدة وزعيمه الشيخ ابن لادن، حتى راحت تتسابق العواصم العالمية على اعلان التأييد والتضامن، وانقسمت بين داعم دون قيد وشرط للحملة الاميركية بكل اشكالها العسكرية والمالية والدبلوماسية وغيرها ومؤيد مع بعض التحفظات والشروط ([17]).

بعد مشاورات كثيفة اعلن حلف الاطلسي بأنه ملتزم بتطبيق المادة الخامسة من معاهدة واشنطن التي تقول بأن اي هجوم على احد اعضاء الحلف يعتبر بمثابة هجوم على كامل اعضائه ([18]). وتباينت مواقف الاتحاد الاوروبي - الداعم بشكل عام لواشنطن - بين دول مثل بريطانيا اعتبرها بوش الحليف الاول له وعمل رئيس وزرائها بلير وكأنه “مبعوث خاص” للاميركيين في العالم ودول مثل فرنسا تحبذ تحديدا ادق لاهداف الحملة الاميركية ومساحتها المكانية والزمانية.

وكان بوش حاسما عندما اعلن عن انقسام العالم الى “من معنا ومن مع الارهاب” وكأنه يعلن منذ اللحظة ان بلاده تقف على رأس نظام عالمي جديد ينبغي على الآخرين اما الانخراط فيه او البقاء في هامشه مع ما يتطلب هذا الموقف من مجازفة بمصالحهم المستقبلية. وكان على القوتين العظيمتين، الصين وروسيا، تحديد موقفهما اي اما الالتحاق بصفوف الاعداء المعزولين اللذين سوف يتم ضرب مصالحهم عاجلا ام آجلا واما الانضمام الى ركب السادة حتى لو كان ذلك في المؤخرة. وقد فضلت موسكو وبيجيغ الخيار الثاني الذي يضمن لهما مكاسب لا يستهان بها. وهكذا لم يكن من قبيل المصادفة ان يذكر بوتين في اول كلمة القاها فور وقوع التفجيرات ضد نيويورك وواشنطن تعبير “العالم المتحضر” وان موسكو تنضم في تعازيها للولايات المتحدة الى هذا العالم المتحضر ([19]). وبذلك فكأنه يسّلم بسلطة السادة الجدد وبموقع روسيا في الظل. كذا كان رد فعل الصين التي نددت، على لسان وزير خارجيتها تانغ جيانكسوان، في لقائه مع كولن باول، بالعمل الارهابي معلنة انه “في الحرب ضد الارهاب يقف الشعب الصيني الى جانب الشعب الاميركي” ([20]).

لكن يلاحظ ان اوروبا عموما قد اعلنت الحداد وتنكيس الاعلام وثلاث دقائق صمت وتوقف عن العمل، وروسيا قامت بحملة تبرع بالدم واعلنت دقيقة صمت حداد على ضحايا الحادي عشر من ايلول وقامت الصحافة بمقارنة ما جرى في هذا اليوم في اميركا مع ما جرى من تفجيرات قام بها الشيشان في خريف العام 1999 في موسكو. لكن الصين اكتفت باعلان التضامن والتنديد من دون اي افراط فتميز موقفها عن الآخرين، من الحلفاء والخصوم، بابتعاده عن المبالغة والتسرع.

ويمكن التأكيد بأن حوادث 11 ايلول فتحت صفحة جديدة في العلاقات بين واشنطن من جهة وباقي القوى العظمى وخصوصا موسكو وبيجنغ من الجهة المقابلة، فابتعد بذلك شبح الحرب الباردة الذي عاد ليخيم على العالم منذ وصول بوش الاب الى البيت الابيض، لكن حتى هذه العلاقة الجديدة لم تكن بمنأى عن حسابات المصالح الاستراتيجية والاقتصادية والتي قد تعود الى التضارب بعد ان ينقشع الغبار الذي يغطي مانهاتن والوضع العالمي برمته خلال الحملة الاميركية على “الارهاب العالمي” انطلاقا وبدءا من افغانستان.

 

أ- روسيا وحساب الخسائر والمكاسب

لقد وضعت تفجيرات نيويورك وواشنطن اصحاب القرار في الكرملين امام مستجدات دولية وحقائق خطيرة ينبغي التعامل معها بدقة متناهية. فعلى مقربة من الحدود الروسية توجد اضخم قاعدة اميركية اطلسية عرفها التاريخ (في البلقان تحديدا) وفي منطقة الخليج العربي ترابط قوات اميركية واطلسية ضخمة، بالاضافة الى القاعدة الجديدة التي من المحتمل ان تنتهي بها حرب افغانستان على حدود اسيا الوسطى، المنطقة التي اعتبرتها روسيا عبر التاريخ حدودا متقدمة لها وترتبط مع جمهورياتها بمعاهدة للامن الجماعي ولديها فيها قواعد عسكرية ومواقع استراتيجية مثل فرقة الحدود الروسية (201) في طاجكستان والمطار الفضائي في بايكونور في كازاخستان والممر الجوي الحيوي في اوزبكستان الذي يربط بين روسيا وقواتها في طاجكستان وغيرها.

وقد اعتقدت المؤسسة العسكرية الروسية، في قسم من تحليلاتها، بأن محاولة تفجير البيت الابيض الاميركي في 11 ايلول، قد تنطوي على احتمال استعداد واشنطن لشن حرب واسعة النطاق في العالم قد تصل الى حد اندلاع حرب عالمية ثالثة. وذكر عدد من الجنرالات الروس ان الحرب العالمية تبدأ دائما بهكذا سيناريوهات مثل حريق الرايخ الالماني. وهناك ميول لا يستهان بها في موسكو تشير الى ان ابن لادن لا يمكنه النهوض بتنظيم هذه العمليات تخطيطا وتنفيذا او على الاقل لا يمكنه وحده دون مساعدة من داخل اميركا بل وبدون عدة جهات دولية. ويتبنى مثل هذه الرؤية الخبير العسكري الجنرال نيكولاي ليونوف وكثيرون غيره ([21]). لقد وضع الكرملين اذن معادلة “حرب واسعة او عالمية ثالثة” في حساباته وهو ما لا قبل له على خوضها او مواجهتها. ويقول الجنرال ليونوف ان اميركا بصدد القيام بانقلاب حقيقي ان لم نقل بحرب واسعة او عالمية، فهي تستعد لتغيير دستورها وتعديل قوانينها واعادة النظر في قضايا الحريات والديموقراطيات داخل ولاياتها ([22]).

وقد اصدر الرئيس بوش تحذيرا واضحا للعالم كله تحت عنوان: “من ليس معنا فهو مع الارهاب” وقد كان ذلك بمثابة تحذير لكل الدول الكبرى، مثل روسيا والصين واوروبا الغربية، بحتمية التسليم بشروط اميركا والانضمام للمسيرة التي تقودها ضد الارهاب. والاكثر من ذلك فقد فهم من تصريحات اطلقها مسؤولون اميركيون بعد التفجيرات بأن ابن لادن اختفى في الشيشان بأنها تهديد اميركي صريح لروسيا ([23]).

لقد اقتنع قادة الكرملين بأن واشنطن عازمة على المضي في حربها سواء رفضوا ام وافقوا وبقي امامهم خيار الالتحاق او البقاء على الحياد، لأن مواجهة اميركا قد تجرهم الى ما لا تحمد عقباه. وساد الرأي القائل بوجوب التنديد بالارهاب والتعاطف مع ضحايا تفجيرات 11 ايلول الابرياء لكن من دون تأييد الحملة الاميركية. لكن الرئيس بوتين، الذي اجرى حسابا دقيقا للخسائر والارباح المتوقعة فاجأ الجميع عندما قام بصياغة موقف بلاده النهائي في حديث على شاشة التلفزيون الروسي يبدي فيه استعداده للتعاون مع واشنطن في مجال الاستخبارات حول الارهاب، ومنح المجال الجوي الروسي لتحليق طائرات المساعدة الانسانية (والجنود والمعدات الحربية كما يعتقد المحللون) والتنسيق مع حلفاء روسيا في آسيا الوسطى لتسخير مطاراتهم لهذا الهدف، والمساهمة الروسية في عمليات الانقاذ اذا طال الامر (وهي عمليات عسكرية في شكل من الاشكال) وتعميق التعاون مع حليف روسيا الرئيس الافغاني المخلوع برهان الدين رباني في اطار الامدادات بالاسلحة والتقنيات الحربية. كذلك اعلن بوتين استعداد روسيا لتقديم اشكال اخرى من التعاون اكثر عمقا في عملية مكافحة الارهاب، ويتوقف طابع وعمق هذا التعاون على مستوى ونوعية علاقاتها مع الدول المعنية وعلى التفاهم المشترك في مجال مكافحة الارهاب. وقد اعتبر المراقبون ان بوتين يفتح بذلك الباب امام امكانيات مساهمة موسكو الحربية في عملية افغانستان ولكن بشرط احتفاظ الكرملين بعلاقات جيدة مع القيادات السياسية التي ستحكم افغانستان بعد الاطاحة بطالبان. ولذلك فقد حدد برهان الدين رباني كاحدى الشخصيات المرشحة من قبل موسكو لشغل هذا المنصب ([24]).

من هنا لم يكن من قبيل المصادفة ان يحصل تباين بين موسكو وواشنطن في العلاقة مع تحالف الشمال الافغاني الذي ابدى امتعاضه من احجام الاميركيين عن تقديم المساعدات العسكرية الكافية له للهجوم على طالبان. لقد كانت واشنطن التي بدأت حربها على افغانستان في السابع من تشرين الاول تود الاستمرار في قصفها الجوي ريثما تسوي المعارضة خلافاتها السياسية وتتوصل الى اتفاق على شكل الحكم المقبل في كابول بعد سقوط طالبان. وكانت تود بالطبع ان يأتي هذا الشكل ملائما تماما لتطلعاتها الخاصة. وفي العاشر من تشرين الثاني وبعد سقوط مدينة مزار الشريف في ايدي تحالف الشمال اعلن الرئيس بوش ان هذا التحالف لن يدخل كابول. لكن ما حصل وكان مفاجئا للاميركيين ولغيرهم هو ان التحالف هاجم كابول واحتلها بعد اقل من 24 ساعة على اعلان بوش هذا. وبعد ذلك بيومين فقط دخل الرئيس رباني الى كابول قبل ان تبدأ المباحثات حول الحكومة الجديدة معلنا بأنه الرئيس الشرعي للبلاد. وبذلك تكون موسكو قد كسبت النقطة الاولى في الحرب الاميركية على افغانستان وفرضت نفسها طرفا لا يمكن الاستغناء عنه في عملية رسم الجيوبولتيك المقبل للمنطقة برمتها.

وكانت موسكو اول من توقع سقوط طالبان السريع رغم كل الانباء التي كانت تبالغ في قوة هذه الحركة وقدرتها على الصمود. وقال الروس ان مقاتلي طالبان لا يزيدون على الخمسين الف رجل، يتمركز عشرون الفا منهم في مواجهة تحالف الشمال وعشرون الفا على الحدود مع باكستان ويتوزع الباقون في كل اراضي افغانستان، وعدا عن معرفتها العميقة بالبلد برهنت بأن تحالفاتها الاقليمية، وخصوصا مع ايران والهند دون  تجاهل جمهوريات آسيا الوسطى، تجعل منها القوة التي لا يمكن الاستعاضة عنها في الازمة الافغانية. فقد ايدت ايران تحالف الشمال من خلال اشتراط المشاركة الايرانية بالتنسيق مع روسيا، واعلنت طهران صراحة انها على استعداد للتعاون مع موسكو في مكافحة الارهاب بينما نهر الرئيس خاتمي واشنطن عندما طالبته بتأييد عملية مكافحة الارهاب مصرحا بأن مطلب العون من ايران لضرب الافغان هو مطلب وقح. وقد اشار وزير الخارجية الروسي ايفانوف بصراحة الى مستوى العلاقات الروسية-الايرانية والروسية-الهندية الرفيع في ما يشبه التأكيد لواشنطن على امكانيات الكرملين السياسية في تلك المنطقة. وقد ارتأى الجنرالات الروس بأن فتح كل الجبهات ضد طالبان سوف ينسف الجهود الاميركية ويكون كفيلا بسحق طالبان في زمن قصير جدا، وهذا ما حصل. والاهم من ذلك ان واشنطن، في هذه الحالة، لن يبقى لها ما تفعله في افغانستان ([25]).

منذ البداية وازن بوتين حسابات الربح والخسارة فقرر الانضمام الى الحملة الاميركية آملا ان ينتزع العديد من المكاسب. فهو يريد ان يصفي حسابات روسيا الخاصة مع حركة طالبان التي تدعم بعض الحركات الاصولية المناوئة للحكم في الجمهوريات السوفياتية السابقة، وفي الوقت نفسه يمكن له الانتهاء من الكابوس الشيشاني، فقد وصل بوتين الى السلطة، كما هو معروف، بفضل حرب الشيشان التي انخرط فيها  رئيسا للوزراء بكلتيه وبأبشع الوسائل والاساليب. ورغم انتصاره العسكري على المقاتلين الشيشان الا ان تحول هؤلاء الى حرب العصابات يقض مضاجع جنرالات موسكو الذين يتهمون الدول الغربية بدعم الحركة الانفصالية بغية اضعاف روسيا. لقد وفّرت تفجيرات 11 ايلول لبوتين فرصة الدخول في بازار غير رسمي مع واشنطن: التضامن الروسي الكامل في مقابل اغماض العين على حربه ضد الشيشان، خصوصا بعد شيوع الانباء بأن هؤلاء يتلقون دعم ابن لادن. وهكذا اعلن دخول بلاده في معسكر “الدول المتحضرة” التي تواجه “ارهاب البرابرة” وكان له ما اراد، فقد اعلن بوش في 24 ايلول ردا على مواقف بوتين الايجابية: “بلدانا يتعرضان لهجومات الارهاب” ما يعني الموافقة على مقولة موسكو بانها تحارب الارهاب الدولي في الشيشان وليس حركة تحرر وطني. وقد تلقف بوتين الفرصة فورا عندما وجّه انذارا للمقاتلين الشيشان بأن يرموا سلاحهم في غضون ثلاثة ايام تبدأ في 25 ايلول رافضا عرض الوساطة الذي تقدم به الرئيس الجيورجي ادوارد شيفاردنازده بين موسكو والشيشانيين ([26]).

على صعيد آخر فان اعلان بوتين الموافقة على تعاون الجمهوريات السوفياتية السابقة في آسيا الوسطى ومنها ثلاثة محاذية لافغانستان (اوزبكستان، وطاجكستان وتركمانستان) إنما يؤكد نفوذ بلاده على منطقة تعتبرها “الغريب القريب”. ويبدو ان زعيم الكرملين اجرى الحساب التالي: جمهوريات آسيا الوسطى المنقسمة في ما بينها، مع اوزبكستان التي تود الخروج من الوصاية الروسية وطاجكستان الخاضعة رغما عنها، يمكن ان تجيب بشكل غير منسقّ على طلبات واشنطن للتعاون ومن دون ان تنتظر رأي موسكو. لذلك ارسل بوتين فورا الى هذه المطقة فلاديمير روشايلو رئيس مجلس الامن المركزي والجنرال اناتولي كفاشينين رئيس اركان الجيش ليطلب من زعماء دولها تنسيق نشاطاتها والا فان قصر الكرتون الذي هو مجموعة الدول المستقلة قد ينهار كما يقول كونستانتان زاتولين مدير معهد بلدان “مجموعة الدول المستقلة” في موسكو ([27]). والحقيقة ان معظم هذه الدول تخشى من الهزة التي قد تتسبب بها امواج اللاجئين الافغان او “ردكلة” اسلامييها، وحتى ردود فعل طالبان عليها فيما لو طالت الحرب واتسع نطاقها. طاجكستان التي يحميها عشرون الف مظلي وحرس حدود روسي تحارب تسلل الاسلاميين الافغان اليها على حدود يبلغ طولها 1200 كلم وقد رفضت استقبال اي لاجيء. تركمانستان (744 كلم من الحدود مع افغانستان) بقيت على الحياد واوزبكستان (134كلم) تخلت عن اتفاق الامن الجماعي مع موسكو لمصلحة التقارب مع واشنطن، لهذا سارعت روسيا الى الامساك بزمام الامور قبل ان تفلت منها، ووافقت واشنطن على ذلك. فقبل توجه وزير الدفاع الاميركي دونالد رامسفيلد الى طاجكستان لمناقشة اتفاق يسمح باستخدام القوات الاميركية لثلاثة قواعد جوية في هذا البلد في العمليات ضد افغانستان، ذهب الى موسكو في زيارة رمزية (ثماني ساعات) تعني ان واشنطن تحترم مصالح روسيا في آسيا الوسطى وخصوصا في طاجكستان. وصرح بعد ذلك من الهند قائلا بأن “للروس تجربة مهمة في هذا الجزء من العالم (000) ولهم التزامات حيال بعض دول محيط افغانستان” ([28]).

حسابات بوتين بالنسبة لطالبان والشيشان وآسيا الوسطى تحققت الى  حد كبير لكنه يسعى ايضا الى تحقيق مغانم اخرى: اعادة جدولة ديون روسيا وربما اسقاط جزء منها للمؤسسات المالية الدولية بدعم من واشنطن والاتحاد الاوروبي؛ الانضمام الى “المنظمة العالمية للتجارة” والتي انضمت اليها الصين بعد مفاوضات طويلة وشائكة مع واشنطن، فبعد ان اعترف بوش بأن روسيا هي ايضا في مواجهة، “الارهاب العالمي” (الشيشان) فمن المرجح ان تقفز مفاوضات دخول روسيا في “المنظمة العالمية للتجارة” قفزات سريعة بعد ان تمنت واشنطن بأن “تدخل موسكو في هذه المنظمة باسرع وقت ممكن” ([29])؛ تأجيل البت في قرار انضمام عدد من دول الكومنولث خصوصاً بلدان البلطيق واوكرانيا لحلف الاطلسي؛ تفعيل دور المنظمات الدولية وفي مقدمتها الامم المتحدة في عمليات مكافحة الارهاب، وهو مطلب قديم للكرملين يهدف لانتزاع مساحة للحركة الروسية الدولية بحماية الشرعية الدولية ولتقليص نفوذ اميركا العالمي ([30])؛ دون نسيان الخلاف الروسي-الاميركي الاستراتيجي حول مشروع واشنطن المتعلق بالدروع الواقعية من الصواريخ.

في هذا الملف الاخير برهن الروس عن المزيد من الانفتاح على النقاش. فقد وافق وزير الدفاع الروسي سيرغي ايفانوف، للمرة الاولى، على وجهة النظر الاميركية قائلا بأن “معاهدة (ANTI-BALLISTIC MISSILE) ABM  ([31])هي في جزء منها من مخلفات الحرب الباردة”، مضيفاً بأن “كل المعاهدات الكبرى هي في جزء منها على الاقل من مخلفات الحرب الباردة” ([32]) وهي طريقة للقول بأنه يمكن مناقشة كل شيء ولكنها ايضا طريقة لتهديد الولايات المتحدة بأنها اذا ارادت نقض معاهدة ABM فأن الروس قد يتخلون بدورهم عن معاهدات اخرى تنظم الرقابة على التسلح مثل ستارت 1 الموقعة عام 1991 التي تفرض القيام باعمال تفتيش وصيانة مكلفة كثيرا لموسكو التي يمكنها الاستغناء عنها.

في مقابل هذا الانفتاح النسبي الروسي اعلن رامسفيلد في 25 تشرين الاول بأن بلاده ستؤخّر اجراء بعض التجارب على مشروع الدروع المضادة للصواريخ بغية عدم خرق معاهدة ABM طالما انها ما تزال سارية المفعول. وفي الحقيقة فان هذا “التنازل” (لاسباب تقنية ومادية بعد الخسائر الهائلة التي منيت بها اميركا نتيجة تفجيرات 11 ايلول) رمزي اكثر منه حقيقي ويهدف الى اظهار عرفان الاميركيين بالتضامن الذي ابدته روسيا حيالهم ([33]).

هذا الخطاب الذي يقطع مع ذلك الذي كان سائدا قبل 11 ايلول لا يخفي استمرار الاختلاف في وجهات النظر حول هذه المسألة بين موسكو وواشنطن، ولم تنجح قمة الرئيسين بوتين وبوش في البيت الابيض وتكساس في 12 و14 تشرين الثاني 2001 في تبديده. كل ما توصلا اليه هو اعلانهما المشترك بانهما سوف يتابعان النقاش حول مستقبل معاهدة ( ABM)( ([34].  لكن يمكن القول بأن الموقف الروسي من الحرب الاميركية نجح في تحقيق مكاسب عديدة لموسكو في البازار المفتوح مع واشنطن. هذه الاخيرة التي كانت تبدي امتعاضها من الشكاوى الروسية سوف تسمع هذه الشكاوى بأذن اكثر تفهما - على الاقل مرحليا - فروسيا حليف لا يمكن الاستغناء عنه في هذه المنطقة التي وجدت نفسها في الخط الاول في الحرب الاميركية العالمية على الارهاب ([35].

نقول مرحليا لأن تداعيات الحرب الاميركية يصعب توقعها على المدى الطويل كما ان اهداف اميركا النهائية تبقى غامضة، والامر نفسه ينطبق على الرئيس بوتين الذي يبدو في الظاهر وكأنه يكتفي ببعض المكتسبات في حين يتوجس مراقبون اميركيون عديدون من عزمه على اعادة امجاد القوة الروسية العظمى. ويقول عنه هنري كيسنجر بأنه “خرج من عالم الشرطة السرية (000) وهو يقود سياسة خارجية يمكن مقارنتها بالسياسة التي انتهجها القياصرة، تجني التأييد الشعبي لرسالة روسية وتسعى الى الهيمنة على دول الجوار حيث لا يمكن اخضاعها. وهي تنطوي بالنسبة الى القوى الاخرى على توليفه من الضغوط والاغراءات، والتناسب بين ما يمكن تحقيقه بالصبر والحرص، والتلاعبات الحذرة بميزان القوى ([36]).

ففي 31 كانون الاول 1999 اي قبل يوم من وصوله الى كرسي الرئاسة، كتب بوتين رئيس الوزراء وقتها: “لن يحصل ذلك ابدا، تحول روسيا الى طبعة ثانية للولايات المتحدة او بريطانيا العظمى... بالنسبة الى الروس، الدولة القوية لا تمثل شذوذا ينبغي التخلص منه، بل العكس تماما، انهم يرون فيها ضامنا للنظام وقوة محركة اساسية لاي تغيير” ([37])، واعاد بوتين التأكيد بصراحة على التقليد الامبريالي لروسيا في خطاب التنصيب في ايار 2000 “يتعين علينا معرفة تاريخنا، معرفته كما هو فعلا، واستخلاص الدروس منه وتذكر اولئك الذين اسسوا الدولة الروسية، الذين دافعوا عن كرامتها وجعلوها دولة عظيمة قوية وجبارة” ([38]). وتدل كل ممارسات بوتين السياسية منذ توليه السلطة على عزمه الاكيد على احداث قطيعة مع سياسة سلفه الرئيس يلتسين التي اضعفت روسيا كثيرا في الساحتين الاقليمية والدولية ([39]).

 

الصين: امبراطورية الوسط بالفعل

منذ اللحظات الاولى كان رد الفعل الصيني على تفجيرات الحادي عشر من ايلول وسطا بين اللامبالاة والمبالغة في ابداء التنديد بالعمل الاجرامي والدعم للحملة الاميركية الهوجاء. كان كلام القادة الصينيين موزونا تماما مع ابداء الاسف والمؤاساة ووقوف الشعب الصيني الى جانب الشعب الاميركي في محنته على ما قال وزير الخارجية تانغ جيانكسوان لنظيره الاميركي باول ([40]). لم يعرض الصينيون اي شكل من اشكال المشاركة المباشرة في الحملة الاميركية او الدعم المادي لهذه الاخيرة ولكنهم صوتوا الى جانب قرار مجلس الامن الرقم 1373 رغم غموضه والتباساته. كذلك لم يحاولوا ابداء الشماتة مثلا عبر تذكير القيادة الاميركية بسياستها الصينية الجديدة التي تنظر الى الصين على انها “امبراطورية الشر الجديدة” او على الاقل “الخصم الاستراتيجي” والتي راحت تمارس التحارش بها ابتداء من ازمة طائرة التجسس الاميركية وصولا الى قرار تسليح تايوان واستقبال رئيسها في البيت الابيض.

رد الفعل الصيني على احداث 11 ايلول فاجأ بسرعته وعمقه الاميركيين، ولم يتراجع تنديد الصينيين بالارهاب وتضامنهم مع اميركا حتى خلال عمليات القصف الاميركي على افغانستان. وقد اعترف الاميركيون بأنهم تلقوا مساعدات من بيجنغ في مجال المعلومات الاستخباراتية رغم نظرة جزء كبير من الرأي العام الصيني المعادية لاميركا منذ عقود طويلة ([41]).

على غرار الروس قام الصينيون بعملية حساب دقيقة للخسائر والارباح المحتملة ازاء المعطى العالمي الجديد قبل ان يقرروا الوقوف الى جانب الولايات المتحدة وتأجيل ابداء التحفظات والشروط. فعلى المستوى الداخلي - على غرار بوتين في الشيشان - املوا في الحصول على شرعية دولية لسياساتهم القمعية ضد القوميين الاويغور في مقاطعة كسنجيانغ الغربية، وقد سارعوا الى شن حملة شعواء على هؤلاء عشية انعقاد قمة الأبك (منتدى التعاون الاقتصادي لدول اسيا-الباسفيك) بحجة تهيئة الاجواء المناسبة لانعقاد هذه القمة في شنغهاي. فقد حكمت بيجنغ بالاعدام على خمسة قوميين اويغور لارتكابهم “جريمة الدعوة للانفصال عن الدولة”. ان مثل هذا الحكم كان ليتسبب بحملة تنديد اميركي وعالمي واسعة الارجاء، لكن شيئا من هذا لم يحصل. كذلك تم توقيف ثلاثة وعشرين الف “مشبوه” من الاسلاميين والقوميين في اقل من شهر بعد 11 ايلول دون ان يثير ذلك اعتراض احد من الدول التي تحمل لواء الدفاع عن الحريات والديموقراطية ([42]).

وكان الرئيسان زيمين وبوتين قد اسسا في حزيران الماضي، مع رؤساء كازاخستان واوزبكستان وقيرغزستان وطاجكستان، “منظمة شنغهاي للتعاون” OSC بهدف مكافحة “الارهاب والتطرف والانفصالية” والتخطيط لبناء تعاون عسكري وانشاء مركز اقليمي ضد الارهاب في بيشك عاصمة قيرغزستان. والنتيجة الاولى لذلك كانت اغلاق كازاخستان لابوابها امام الانفصاليين الاويغور بعد ان كانت تؤمن لهم العمق الاستراتيجي، وتهدف الصين الى اقامة منطقة عازلة حول مقاطعة كسنجيانغ، هذه المقاطعة الاستراتيجية على حدود “الامبراطورية الصينية” (اسمها يعني الحدود الجديدة) غنية بالنفط والغاز الطبيعي.

اجواء ما بعد 11 ايلول الماضي كانت فرصة نادرة في نظر الصين لوضع سياستها في كسنجيانغ ضمن “الحملة الصليبية” العالمية على الارهاب. فقد اعلن وزير الخارجية الصيني تانغ جياكسوانغ بأن “ارهابيي الشيشان يتسببون بالالم لروسيا. الصين ايضا ضحية الارهابيين الانفصاليين في كسنجيانغ” ([43]).

على المستوى الدولي كان العام 2001 حسن الطالع بالنسبة للصين رغم تدهور العلاقات مع الولايات المتحدة بسبب عودة “فرسان الحرب الباردة” الى البيت الابيض. ففي هذا العام تمت الموافقة على قيام الالعاب الاولمبية للعام 2008 في بيجنغ، وفيه انتهت المفاوضات المتعلقة بدخول الصين في “المنظمة العالمة للتجارة” وجرى هذا الدخول رسميا في حفل شارك فيه ممثلون 144 دولة في الدوحة في بداية تشرين الثاني الماضي، وفيه ايضا كانت شنغهاي تستعد لاستقبال اكبر قمة دولية في تاريخها وهي قمة الابك التي حضرها عشرون زعيم دولة من اسيا-الباسفيك، قبل هذا العام لم يكن ينظر الى الصين على انها اكثر من لاعب هامشي، ولو واعد، في العلاقات الدولية. وخلال حربي الخليج الثانية 1990-1990 وكوسوفو 1999 قدم لها الاميركيون بعض المكافآت البسيطة لعدم استخدامها حق النقض الفيتو في مجلس الامن ولكن للمرة الاولى بعد احداث 11 ايلول 2001 صارت الصين لاعباً دولياً فاعلاً يحسب له حساب ليس فقط لحجمها الاقتصادي والعسكري ولكن ايضا لعلاقاتها السياسية المؤثرة مع دول اساسية في الازمة مثل باكستان وايران وروسيا وغيرها.

وهكذا كانت التطورات الدولية جاهزة لتظهير مشهد كان مستحيلا لو عدنا بالتاريخ الى ما قبل 11 ايلول 2001: الرئيس الاميركي يشكر الصين الشيوعية لتعاونها في مجال الاستخبارات، ورئيس صيني يؤيد عملا عسكريا تقوم به “الامبريالية الاميركية” على تخوم الصين. هذا ما حدث في قمة الابك في شنغهاي في 20 و21 تشرين الاول الماضي.

وجود القوات العسكرية الاميركية في آسيا الوسطى، منطقة النفوذ الروسي ثم الصيني الى حد كبير، رمى بثقله على الحركة الدبلوماسية الروسية والصينية في قمة منتدى التعاون الاقتصادي لاسيا-الباسفيك (APEC) لذلك وصل وزير الخارجية الصيني تانغ جياكسوان والروسي ايغور ايفانوف قبل نظيرهما الاميركي كولن باول الى شنغهاي ليعلنا معا ان “حكومة كابول المقبلة يجب ان تتمتع بدعم شعبي واسع وان تكون قادرة على تمثيل مصالح كل الجماعات الاثنية الافغانية وان تكون مقبولة من كل الاطراف وقادرة على التعاون مع كل البلدان المجاورة بطريقة ودية ([44]). بهذه المعادلة ارادت الصين ان تذكر بأنها ستبقى الى جانب حليفها الباكستاني الذي يريد ان يبقى الباشتون في السلطة في كابول بعد سقوط طالبان. واتفق الروس والصينيون على عرض موجه الى الامم المتحدة ارادوا ان تتبناه الولايات المتحدة.

الرئيس بوش الذي حضر الى شنغهاي في 18 تشرين الاول في سفره الاول خارج بلاده بعد تفجيرات 11 ايلول اراد انتهاز الفرصة للقاء عشرين زعيم دولة من بينهم بوتين وزيمين قد يساعده على الخروج بحل سياسي لافغانستان يستخدم الامم المتحدة لفرض اجماع وبرنامج سلام مع قوة تدخل في افغانستان. وكان كولن باول قد قال في الطائرة التي اقلته من باكستان في 17 تشرين الاول بأن واشنطن سوف “تعمل على تشكيل ائتلاف كبير من الافراد والزعماء المرتبطين بهدف مشترك عبر استخدام الملك ربما كنقطة تجميع وعبر استخدام الامم المتحدة، كما حصل في كمبوديا او تيمور الشرقية، رغم خصوصية الوضع الافغاني” ([45]). والملك ظاهر شاه الذي يؤيده الاميركيون لا يحظى بتأييد روسيا التي تفضل الرئيس المخلوع رباني.

في شنغهاي قرر الزعماء الثلاثة بوش وبوتين وزيمين تخليص آسيا الوسطى من الارهابيين، عبر التعاون في مجال تبادل المعلومات السرية والحساسة جدا. هذا الامر كان غير ممكن قبل 11 ايلول. وتمنى الروس والصينيون قيادة هذا الكفاح ضد الارهاب في قلب “منظمة شنغهاي للتعاون” OCS وذلك بالتعاون مع كازاخستان وقيرغزستان وطاجكستان واوزبكستان، التي يجمع في ما بينها هم التخلص من الاسلاميين المتطرفيين.

وقد اقترح وزيرا خارجية الصين وروسيا ان تتمتع اميركا بمقعد مراقب في هذه المنظمة، وهذه طريقة لعدم تركها تستأثر وحدها بمسائل الامن في المنطقة ([46]).

براغماتياً تمنت اميركما فتح فرع للاف بي اي في بيجينغ ويبدو ان الصينيون قبلوا بتشديد الرقابة على عدد من الحسابات المصرفية المشبوهة، وهم يتطلعون الى المزيد من الانجازات الاقتصادية من وراء تعاونهم هذا عبر الحصول على المزيد من الاستثمارات الاجنبية والاميركية الضرورية للمحافظة على النمو الاقتصادي الصيني ([47]).

انتهت قمة الابك باعلان وقعته عشرون دولة يلزمها “باتخاذ الاجراءات المناسبة لمنع تمويل الارهابيين” لكنه، اخذا بعين الاعتبار لوضعية بعض الدول ذات الغالبية الاسلامية مثل ماليزيا واندونيسيا، لم يعلن تأييده للعمليات العسكرية الاميركية في افغانستان. لكن للمرة الاولى منذ ولادته عام 1989 يتبنى هذا المنتدى الاقتصادي اعلانا سياسيا يتعلق بالسياسة الدولية (ضد الارهاب) وهو انجاز مهم لواشنطن يخفف من وقع عدم حصولها على دعم حملتها العسكرية. فبالنسبة لبوش غادر شنغهاي مع اعلان ضد الارهاب الدولي وقعته عشرون دولة يضم بعضها غالبية اسلامية ومنها خصوم سابقون مثل روسيا والصين ([48]).

وهناك ضحيتان لهذا “التحالف الجديد”: تايوان عضو الابك والتي قررت مقاطعة قمة شنغهاي. فقد رفضت الصين دعوة الممثل الذي اختارته تايبيه، نائب الرئيس السابق لي يوان زو ، لانها اعتبرت ان الممثل التايواني يجب ان يكون اقتصاديا وليس سياسيا، لذلك رفضته بازدراء، ولم يتدخل الاميركيون لتسوية الامر فارضوا الصين على حساب حليفهم التايواني. الضحية الاخرى: المنشقون الصينيون الذين تم توقيفهم “وقائيا” قبل انعقاد القمة والذين لا شك انهم يلعنون هذا التحول الدولي الكبير.

رغم كل ذلك تبقى خلافات اميركا والصين كثيرة منذ ان وصف الرئيس بوش الابن الصين “بالخصم الاستراتيجي”: مستقبل تايوان ومبيعات السلاح الاميركي الى هذه “الجزيرة العاصية”، احترام قانون الانسان في الصين، مشروع الدروع الواقية من الصواريخ الذي تصرّ واشنطن على المضي فيه رغم كل شيء الخ... لكن تفجيرات 11 ايلول الماضي ازالت فكرة الحرب الباردة بين الدولتين الكبيرتين، فالدبلوماسية الصينية، بعد ان شاهدت هذا الحشد الدولي الواسع خلف الاميركيين التحقت بالركب فاوقفت النقاش الدائر في اميركا حول “التهديد الصيني”. لقد دخل القادة الصينيون للمرة الاولى بعد التفجيرات، في حلبة الرقص الدولية فدعموا العملية العسكرية الاميركية-البريطانية في افغانستان وووافقوا، ظاهريا ومؤقتا، على وقوف حليفهم الباكستاني خلف الولايات المتحدة، ومن المؤكد ان الدبلوماسية الصينية، المعروفة بصبرها وطول اناتها وخلفيتها الثقافية الكونفوشيوسية العميقة، تعتقد بأن هذا النزاع المفتوح منذ الحادي عشر من ايلول لا بد ان يضعف الولايات المتحدة على المدى الطويل.

 

خاتمة

يقول هنري كيسنجر بأن القومية وليس الشيوعية هي التي ستؤدي الى مواجهة بين الصين والولايات المتحدة، واذا ما حصل ذلك، فلن يكون حول مسألة الهيمنة العالمية ولكن حول تايوان ([49])، ففي العقدين الاولين من حكمه استندت شرعية الحزب الشيوعي الصيني على توحيده للبلاد وطرده المستعمرين (اليابانيين والغربيين) وطوال عقدين بعد كارثة الثورة الثقافية، استندت شرعية الحزب على قدرته على تحقيق تقدم اقتصادي مذهل. الآن تم تأسيس ما يسمى باقتصاد السوق الاشتراكية وهي آخذة في النمو. وقد تنساق المجموعة الحاكمة نحو اسناد ادعائها باحتكار السلطة على القومية. هذه الدعوة آخذة في التطور وقد تشعل مسألة مستقبل تايوان، لكن ليس من الضروري ان تترجم  الى سعي الى السيطرة على اسيا ([50]). السياسة الخارجية للصين صبورة وذات نفس طويل. وفي نظر بكين، التحدي الجيوسياسي لا يتمثل في اخضاع الدول المجاورة ولكن في منعها من التحالف ضدها، واخر ما قد يحظر على بال قادة الصين اثارة الولايات المتحدة، البلد الابعد عنها، والذي لم يهدد على مر التاريخ وحدة وسلامة الصين. لا شك في ان التصريحات العلنية الصينية، غالبا ما تنتقد التحالفات العسكرية الاميركية في آسيا مزكية الرأي بأن هدف الصين بعيد المدى هو اضعاف الرد والوجود الاميركي في المنطقة، ومع ذلك فان القادة الصينيين لن يستخفوا بمخاطرة المواجهة مع اكبر قوة عسكرية في العالم في هذه المرحلة من تطور الصين. اضف الى ذلك ان للصين رهانا قويا على النظام الاقتصادي الدولي مما يولد حوافز قوية لعدم تحدي الوضع الراهن في آسيا ([51]) وربما في العالم.

موسكو ايضا تريد الدخول في المنطقة العالمية للتجارية والانخراط في المساحة الاوروبية وربما الاطلسية من باب التصالح مع النظام الدولي القائم طالما انها عاجزة عن تغييره وريثما تنضج الظروف لمثل هذا التغيير. من هنا استغلالها لتفجيرات 11 ايلول سعيا وراء مغانم على المدى القصير وكحلقة في سلسلة تود في نهايتها العودة الى ماضيها الامبراطوري، وهي عودة وعد بها بوتين وسوف يسعى دون كلل لتحقيقها في المستقبل ولو البعيد.

وهكذا فان صورة المشهد الجيوستراتيجي الدولي من زاوية العلاقات بين الدول الكبرى المؤثرة في صياغة هذا المشهد تبدو اليوم وكأن “تحالفا” غريبا يجمع بين خصومها الكبار الاساسيين. فكل السياسات الروسية والصينية الخارجية قامت على مقاومة “الهيمنة الاميركية” وكل سياسة بوش الخارجية في اشهرها الثماني الاولى قامت على منع صعود الصين وعودة روسيا القوية. التحالف الجديد ليس سوى طبعة جديدة عن ممارسة قديمة قدم التاريخ: الواقعية السياسية REALPOLITIK، وهو لا يخدم سوى اهدافٍ على المدى القصير. اميركا تريد حياد الصين روسيا ولكنها تعرف انها لن تحصل عليه دون مقابل، زيمين تقدم بالفاتورة وقبض سلفا الدفعة الاولى منها: سكوت واشنطن ازاء قضاياه الداخلية مثل قمع الشعوب الباحثة عن الحكم الذاتي او الاستقلال في التيبت وكسينجيانغ، وما يزال ينتظر دفعات اخرى تتعلق بتايوان ومشروع الدروع الواقية من الصواريخ والاعتراف بنفوذ صيني واسع في اسيا. كذلك فعل بوتين وقبض سلفا في ما يتعلق بحربه الشيشانية ونفوذه في اسيا الوسطى وافغانستان نفسها وما يزال ينتظر الدفعات الباقية على الحساب.

في هذه اللحظة بالذات يمكن لهذه القوى العظمى ان تنتهر الفرصة لاحداث قطيعة نهائية مع الحرب الباردة وصولا الى تقارب قد يقود الى توزيع متفق عليه للحصص ومربعات النفوذ يوسس لمشهد جيوسيتراتيجي دولي جديد. لكن الاحتمال الارجح هو استغلال الولايات المتحدة لتفوقها الحاسم من اجل زيادة رصيدها من المناطق التي تسيطر عليها في العالم. وفي هذا الصدد فان منطقة اسيا الوسطى المتاخمة لبحر قزوين ([52]) هي منطقة واعدة من الناحيتين الجيوبوليتيكية والاقتصادية، فهي غنية بالمواد الاولية وبالنفط والغاز رغم تضارب الارقام والتوقعات، وهي واقعة على نقطة تقاطع نفوذ دول كبرى ومهمة مثل روسيا والصين والهند وايران وباكستان، وكلها تقريبا تملك السلاح النووي وتستعد لصياغة احلاف جديدة مثلثة او مربعة الاطراف تشكل تهديدا، على المدى المتوسط، للنفوذ الاميركي الساعي للانتشار في العالم كله. وجود القوات الاميركية في هذه المنطقة تحت غطاء اطلسي او اممي، يعيق قيام مثل هذه التحالفات ويزيد من فرض قيام تحالفات في اتجاه معاكس ويفتح السبل امام دخول الشركات الاميركية العملاقة حاملة مشاعل العولمة وثقافة التجارة والاستهلاك.

اذا كرر الاميركيون سيناريو ما بعد حرب الخليج الثانية وابقوا قواتهم في هذه المنطقة، بذريعة، او اخرى، فان الصين وروسيا، ومعهما الدول الدائرة في نفوذهما، سيكون امامهما احد خيارين: اما الاعتماد على سياسة النفس الطويل والقبول مرحليا بواقع الهيمنة الاميركية الذي لا يرد طالما انه يترك لهما بعض المكاسب، واما ان يعملا على زرع الالغام في طريق المساعي الاميركي فتعود الحرب الباردة مجددا وانطلاقا من افغانستان هذه المرة. وتعود “اللعبة الكبرى” التي انخرطت فيها روسيا وبريطانيا في افغانستان طيلة القرن التاسع عشر مع لاعبين جدد هذه المرة فيهم دول كبرى ومنظمات دولية (الامم المتحدة) واحلاف (الاطلسي) واسلحة دمار شامل ورهانات اقتصادية واستراتيجية فائقة الحيوية.

 


[1]  انظر مقالتنا في شؤون الاوسط العدد 105 شتاء 2002

[2]  KATHY KIELY, COURRIER INTERNATIONAL, N: 521, 26 OCT. 2000

[3]  DANIEL VERNET, LE MONDE, 1 MARS 2001

[4]  LE MONDE, 1 MARS 2001

[5]  ANTI BALLISTIC MISSILE  الموقعة في موسكو عام 1972 بين الرئيسين بريجنيف ونيسكون والتي عليها قام الاستقرار الاستراتيجي الدولي.

[6]  انظر غسان العزي: “نحو سباق تسلح عالمي جديد” المستقبل 20 ايار 2000

[7]  المصدر نفسه

[8]  DANIEL VERNET, LE MONDE, 1 MARS 2001

[9]  الكفاح العربي 2001/3/29 نقلا عن مقالة ايفو دالدر وفيونا هيل في انترناشيونال هيرالد تريبيون

[10]  يفغيني بريماكوف، “الولايات المتحدة وروسيا: ماذا بعد التوتر؟” الشرق الاوسط 2001/3/30

[11]  المصدر نفسه

[12]  المصدر نفسه

[13]  المصدر نفسه

[14]  السفير الروسي المتقاعد غينادي غيراسيموف “ظل ريغان يخيم على البيت الابيض” الشرق 2001/4/3

[15]  السفير 1998/7/1 ص 22

[16]  انطر صحف 12 و13 ايلول 2001

[17]  انظر "PAYS MUSULMANS: LA NOUVELLE DONNE:", LE POINT No. 1514 SPECIAL ATTENTAS USA

[18]  THE INTERNATIONAL HERALD TRIBUNE AND LE MONDE 2000/10/4

[19]  LIBERATION 2001/9/3

[20]  IBID

[21]  الدكتورة منى الخميس، “مغانم روسيا من الازمة الاميركية-الافغانية” 2001/10/7 موقع قناة الجزيرة على الانترنيت WWW.ALJAZEERA.NET

[22]  المصدر نفسه

[23]  المصدر نفسه

[24]  المصدر نفسه

[25]  المصدر نفسه

[26]  LE MONDE 2001/11/4

[27]  LIBERATION 2001/10/14

[28]  LE MONDE 2001/11/6

[29]  الدكتورة منى الخميس مصدر سابق.

[30]  MARC SEMO زLES PAYS QUI CONPTENT TIRER BENEFICE DU CONFLIT" LIBERATION 2001/10/22

[31]  الموقعة عام 1972 بين الرئيسين نيكسون وبريجنيف في موسكو والتي تمنع على البلدين اقامة نظام دفاعي ضد الصواريخ البالستية وذلك بهدف الحفاظ على التوازن الاستراتيجي الدولي ومنع الخوض في سباق تسلح طويل ومكلف.

[32]  PASCAL RICHE "POUTINE TRAITE A LA TEXANE" LIBERATION 2001/11/14

[33]  LE MONDE 2001/11/6

[34]  LE MONDE 2001/11/13

[35]  VERONIQUE SOULE "LA RUSSIE SE LANCE DANS LA COALITION" LIBERATION 2001/9/6

[36]   هنري كيسنجر: “هل تحتاج اميركا الى سياسة خارجية” ترجمة عمر الايوبي، دار الكتاب العربي، بيروت 2002، ص 69

[37]  المصدر نفسه

[38]  الرئيس فلاديمير بوتين، خطاب تولي الرئاسة، موسكو 7 ايار 2000. المصدر نفسه.

[39]  انظر د. غسان العزي، “روسيا ما بعد الحرب الباردة: من اليلتسينية الى البوتينية”. مجلة الدفاع الوطني، العدد الثالث والثلاثون، حزيران 2000

[40]  LIBERATION 2001/9/13

[41]  LE MONDE 2001/11/15

[42]  LE MONDE 2001/10/20

[43]  IBID

[44]  LE MONDE 2001/10/22

[45]  THE WASHINGTON POST, OCT. 10, 2001

[46]  LIBERATION 2001/10/23

[47]  IBID

[48]  THE INTERNATIONAL HERALD TRIBUNE, OCTOBER 24,2001

[49]  هنري كيسنجر: “هل تحتاج اميركا الى سياسة خارجية” مصدر سابق ص 144

[50]  المصدر نفسه

[51]  المصدر نفسه ص 145

[52]  JAN H. KALICHI "CASPIAN ENERGY AT THE CROSSROADS", FOREIGN AFFAIRS, VOLUME 80, N: 5, SEPTEMBER-OCTOBER 2001