مواسم وخيرات

المعالجة تقتضي استنفارًا وطنيًا
إعداد: الدكتور حسين حمود
استاذ محاضر في كلية الزراعة - الجامعة اللبنانية

التغيرات المناخية تعزز نمو الحشرات الضارة بالمزروعات

تكاثر الحشرات هو من أهم مؤشرات الإحتباس الحراري وتداعياته السلبيّة التي تفاقمت خلال السنوات العشر الأخيرة لتؤدي إلى إستفحال نمو حشرة السيفالسيا التي قضت على أكثر من 70% من مساحة غابات الأرز (في تنّورين وحدث الجبّة وبشرّي). وتفشّي دودة الصندل العام الماضي أدى إلى تدمير عشرات الآلاف من أشجار الصنوبر في مختلف المناطق اللبنانيّة. كذلك يتعرّض الزيتون كل عام لغزو أشدّ من القاطوع والنيرون، ويسجّل إنتاج العنب خسائر ماديّة كبرى تصل إلى 70% نتيجة الإصابة بدودة الثمار. أمّا القمح، الزراعة الإستراتيجيّة الوحيدة التي ما زلنا نفخر بها، فتتعرّض كل عام لمحنة متزايدة نتيجة تطفّل حشرة السونة عليها. ما هي التدابير والإجراءات التي يتوجّب إتّخاذها للحؤول دون تكرار ما حصل من كوارث؟


الإحتباس الحراري والتغيرات المناخية
إن إنبعاث الغازات الضارّة بالبيئة وخصوصًا ثاني أوكسيد الكربون الناجم عن إحتراق الغاز الطبيعي والفحم والنفط، أي ما يسمّى بالوقود الأحفوري، هو السبب الرئيس لارتفاع درجة حرارة الأرض وما ينجم عن ذلك من كوارث طبيعيّة كالجفاف والحرائق والفيضانات والإنهيارات الأرضيّة وإندثار الغابات وإرتفاع مستوى مياه البحار. أمّا منطقة حوض المتوسّط التي نعيش فيها فحصّتها من التغيّرات المناخيّة تتمثّل في حدوث موجات حراريّة عالية ستساهم، كما تشير التقارير، في تحويل مناخ هذه المنطقة إلى صحراوي جاف مع حلول العام 2025. تظهر مؤشّرات ذلك من خلال الإحصائيّات الرسميّة التي تبيّن أنّ لبنان يشهد منذ العام 1993 تدنّيًا في معدّل المتساقطات المائيّة (إجمالي المتساقطات المائيّة لهذا العام 696 ملم مقارنة بالعام الماضي 766 ملم) وإرتفاعًا في درجات الحرارة وجفافًا. كذلك تشير تقارير منظّمة الفاو إلى أنّ مستوى المياه الجوفيّة في لبنان قد انخفض وجفّت الينابيع والمساحات الرطبة، وأنّ الأنهار وأهمّها الليطاني قد دخلت مرحلة الجفاف. ويخلص التقرير إلى أنّ الزراعة هي الأكثر تضرّرًا من التغيّرات المناخيّة ما سيؤدّي إلى إختفاء معظم الزراعات الموسميّة التي تحتاج إلى كمّية عالية من مياه الري، كالشمندر والذرة، وإلى اختفاء بعض أصناف الأشجار المثمرة ذات الإحتياجات العالية من ساعات البرودة. إلاّ أنّ التبعات الأكثر خطورة لظاهرة الإحتباس الحراري وإرتفاع معدّل درجات الحرارة، تتمثّل في ازدياد عدد أجيال الحشرات خلال العام الواحد، مع ازدياد عدد حشرات كل جيل وتوافر الظروف الإيكولوجية الملائمة لنموّها وتكاثرها، إلى درجة تصبح مكافحتها أمرًا مستعصيًا، وهذا ما يعرف بالحالة الوبائيّة.

 

تأثير التغيّرات المناخيّة على تكاثر الحشرات في لبنان
هناك ما يسمّى بالمصطلح العلمي، الحدود الحيويّة للحشرة، أي درجات الحرارة التي يستطيع أن يتحمّلها كل نوع من الحشرات بحديها الأقصى والأدنى. فإذا بقي التباين في درجات الحرارة ضمن الحدود الحيويّة فإن ذلك سيؤثّر إيجابًا على تكاثر الحشرات وتوسّع إنتشارها أفقيًّا. إنّ إرتفاع معدّل حرارة الكرة الأرضيّة بنحو 0.8 درجة مئويّة وتواصل هذا الإرتفاع على الصعيد العالمي، وما يترتّب عنه على صعيد لبنان، من تكرار موجات الجفاف منذ العام 1995، وانحباس الأمطار خلال فترة تقارب التسعة أشهر من السنة، وحرارة عالية خلال الربيع والصيف والخريف، وشتاء معتدل الحرارة وانخفاض في معدّل المتساقطات المائيّة والثلجيّة، وغياب موجات الصقيع التي كان يعهدها لبنان في الشتاء وبداية الربيع، كل ذلك ساهم في تكاثر عدد كبير من الحشرات ونموها، بل وفي انتشارها وانتقالها إلى مناطق أعلى ارتفاعًا عن سطح البحر، لم تكن معهودة فيها من قبل.

 

هل تهدد السيفالسيا غابات الأرز من جديد؟
معروف أنّ حشرة براعم الأرز المنشاريّة (Cephalcia tannourinensis) كانت خلال الفترة الزمنيّة الممتدّة من 1996 حتّى 2003 قد غزت أكثر من 70% من مساحة غابات أرز تنّورين وحدث الجبّة وبشرّي، بسبب إرتفاع معدّل الحرارة العام وعدم حدوث الصقيع، الأمر الذي أدّى إلى عدم دخول هذه الحشرة في سبات (يتمّ في ظروف الحرارة المنخفضة) خلال مرحلة تحوّل اليرقة إلى عذراء أو خلال مرحلة التشرنق. وكانت النتيجة أن تكيّفت هذه الحشرة مع الظروف المناخيّة الجديدة الملائمة، فاختزلت دورتها الحياتيّة من عدّة سنوات إلى سنة واحدة، الأمر الذي أدّى إلى تكاثرها بأعداد هائلة والقضاء على مساحات شاسعة من غابات أرز الشمال اللبناني.
وعلى الرغم من النجاح الذي كلّل الجهود الجبّارة لوزارة الزراعة وقيادة الجيش اللبناني وفريق الخبراء الفرنسي في عمليّة مكافحة حشرة السيفالسيا، لا يزال المشرفون على غابات الأرز في لبنان يتخوّفون من تكرار ما حدث، خصوصًا وأن ارتفاع درجات الحرارة ، كما يؤكّد الدكتور نبيل نمر (المنسّق العلمي لمحميّة أشجار الأرز في تنّورين)، يؤدّي إلى ولادة جيلين من الحشرة بدلًا من الجيل الواحد، ما يهدّد الأشجار بآثار أكثر خطورة بكثير من تلك التي حصلت سابقًا.
من جهة أخرى يربط بعض الخبراء إرتفاع درجات الحرارة بتفشّي حشرة الزنبور التي تتغذّى على أخشاب أشجار الغابات، مؤكّدين أنّ إستفحال هذه الحشرة هو أيضًا نتيجة لتكييف دورتها الحياتيّة مع الظروف المناخيّة الجديدة الملائمة.

 

دودة الصندل قضت على عشرات الآلاف من أشجار الصنوبر
دليل آخر على تأثّر الحشرات ودورتها الحياتيّة بالتغيّرات المناخيّة يتمثّل في دودة الصندل التي قضت العام الماضي على عشرات الآلاف من أشجار الصنوبر في جميع المناطق اللبنانيّة، واتّسع إنتشارها إلى أماكن لم تكن معهودة فيها من قبل على ارتفاع يراوح بين 1000 و1500 متر عن سطح البحر.
إن دودة الصندل أو جادوب الصنوبر هي الطور اليرقي لفراشة معروفة بإسم (Thaumetopoea wilkinsoni) والتي تتميّز بعدم دخولها في سبات في فصل الشتاء. لقد حدث أنّ شتاء 2009-2010 لم يكن باردًا، ما أدّى إلى إنتشار هذه الحشرة في دائرة جغرافيّة واسعة. لقد دلّت التحاليل أنّ الحرارة المعتدلة خلال شتاء العام الماضي كانت السبب الرئيس في الإرتفاع الكبير لأعداد دودة الصندل، حيث تمكّنت جميع اليرقات من استكمال نموّها والتحوّل إلى فراشة. لكن هناك وجهة نظر أخرى تقول بأن زيادة كميّة ثاني أوكسيد الكربون في الغلاف الجوّي تؤدّي بالنتيجة إلى زيادة كميّة الكربون في الأنسجة النباتيّة، ما يؤثّر على تدنّي نوعيّة غذاء الحشرة، الأمر الذي تعوّضه بإستهلاك كميّة أكبر، مسبّبة بذلك مزيدًا من الأضرار.
كذلك يربط بعض الخبراء هذه النظريّة بظاهرة تنوّع العائل النباتي، حيث أصابت دودة الصندل أشجار الصنوبر البرّي والصنوبر المثمر، وفي المناطق المرتفعة من الشوف امتد ضررها إلى أشجار الأرز أيضًا.

 

إنتاج الزيتون يهدّده تفشّي الحشرات
تفشّت خلال السنوات الأخيرة الحشرات التي تتغذّى على الزيتون وتقضي على نسبة كبيرة من إنتاجه، كعثّة الزيتون (القاطوع) ونمشة الزيتون السوداء ونيرون الزيتون وقارضة الأوراق والبسيلا وذبابة ثمار الزيتون. وتتركّز الإصابة بشكل هام في المناطق التقليديّة لإنتاج الزيتون، الكورة وحاصبيّا.
ويجمع الخبراء على أنّ ظاهرة التغيّر المناخي وارتفاع معدّلات الحرارة الجويّة ساهمت بشكل مباشر في تفشّي آفات الزيتون المزروع على مساحة 57 ألف هكتار، أي 20% من مجمل الأراضي المزروعة في لبنان.

 

دودة ثمار العنب تكيّفت مع ظروف الإحتباس الحراري
إنّ ما ورد حول حشرات الأرز والصنوبر والزيتون يطبّق أيضًا على دودة ثمار العنب، وهي يرقة فراشة العنب المعروفة بإسم (Lobesia botrana). هذه اليرقة حلّت ضيفًا دائمًا على كروم العنب في لبنان تفتك بها وتقضي على نسبة عالية من الإنتاج تصل في بعض الحالات إلى 70%، وذلك بفضل تكيّفها مع الظروف المناخية الجديدة الملائمة والمتمثّلة باختصار دورتها الحياتيّة نتيجة ارتفاع درجات الحرارة في الشتاء، الأمر الذي ساعد على نمو ثلاثة أجيال في السنة بدل جيلين كما هي عليه الحال في أوروبا.

 

إنتشار وبائي لسونة القمح
حشرة السونة أو القرحف أصبحت خلال السنوات العشر الأخيرة هاجسًا دائمًا لمزارعي القمح في لبنان. فقد استفحل انتشار هذه الحشرة بفعل إرتفاع درجات الحرارة خصوصًا في فصل الشتاء، فتكاثرت بأعداد هائلة بحيث لم يبق أي قطعة أرض مزروعة بالقمح إلاّ وأصبحت موبوءة بها. وصرخة الإستغاثة تعلو من سنة إلى أخرى خصوصًا في سهل البقاع، إذ يبدو أن مكافحة هذه الحشرة أصبحت مستعصية على الصعيد الفردي، وباتت القاعدة العامة أنّ المكافحة الفعّالة تستوجب بالضرورة تدخّل الجيش اللبناني، الذي يلعب كل عام الدور الأبرز من خلال تحريك طائراته والتصدّي لهذه الحشرة بالمبيدات الكيميائيّة.

 

كثيرة هي الحشرات التي تهدّد الإنتاج الزراعي في لبنان
أكّد الخبراء في مجال علم الحشرات في كليّة الزراعة - الجامعة اللبنانيّة وفي مصلحة الأبحاث العلميّة الزراعيّة التابعة لوزارة الزراعة، أنّ عددًا كبيرًا من الحشرات التي تصيب المزروعات على اختلاف أنواعها قد ازدادت إنتشارًا خلال السنوات العشر الأخيرة وازدادت أضرارها بشكل مطرد. ويجمع الخبراء على أنّ دائرة العائل النباتي الذي تتغذّى عليه هذه الحشرات تتّسع أفقيًّا، بحيث تتطفّل الحشرة الواحدة على عدّة أنواع من أشجار الفاكهة، فدودة ثمار التفّاح (Carpocapsa pomonella) نصادفها أيضًا على الإجاص والجوز والمشمش، ودودة ثمار الأشجار (Hoplocampa flava) تصيب التفّاح والكرز والإجاص والخوخ، وذبابة البحر المتوسّط (Ceratitis capitata) تصيب ثمار الحمضيّات والدرّاق والمشمش والخوخ والإجاص، وحفّار ساق التفّاح (Zeuzera pyrina) يصيب بدوره عددًا كبيرًا من الأشجار المثمرة كالتفّاح والإجاص والكرز والخوخ والسفرجل والرمّان والزيتون وغيرها. كل ذلك يعزّز نظريّة التأثير السلبي للاحتباس الحراري على نوعيّة الغذاء النباتي، ما يدفع الحشرات إلى التعويض بالتهام كميّات أكبر من الغذاء النباتي نفسه والتطفّل على أنواع أخرى.

 

كيف نواجه إستفحال الحشرات الضارّة بالمزروعات؟
لمواجهة انتشار الحشرات الضارة بالمزروعات لا بد من تشكيل لجان علميّة في مناطق إنتشار المحميّات الطبيعيّة والغابات والأراضي الزراعية، تقوم بمسح واسع وشامل للحشرات المنتشرة فيها لمعرفة أنواعها وتحديد كثافتها، مع التركيز بشكل خاص على تلك الأنواع التي سبق واستفحلت كالسيفالسيا على الأرز والصندل على الصنوبر. كما يجب وضع خطط وبرامج علميّة لدراسة مؤشّرات الإحتباس الحراري وتأثير عوامله على تكاثر هذه الحشرات ونموها وتطورها، من خلال إحصاء عدد أجيالها وأفرادها في كل جيل، ودراسة تأثير التغيّرات المناخيّة على الدورة الحياتيّة للحشرة في مختلف مراحلها ومقوّماتها. ولا بد أيضًا من متابعة تحرّكات الحشرات ومراقبتها لمعرفة توقيت خروجها في الربيع وحركة طيرانها وتكاثرها وتوزّعها الجغرافي وانتشارها، في ضوء عامل الإرتفاع عن سطح البحر والعوائل النباتية التي تتطفّل عليها وتقويم حجم الأضرار التي تسبّبها على النبات، ومقارنة المعطيات الجديدة في ضوء عوامل التغيّر المناخي مع المعطيات المتوافرة قبل بدء تأثير الإحتباس الحراري.
هذه المهمّة لكي تنجح من الضروري أن تكون وطنيّة عامة، وهذا يعني إستنفار جميع العاملين في مجال البحث العلمي الزراعي من باحثين ومهندسين وفنّيين بالتعاون مع منظّمات المجتمع المدني وبشكل خاص الجمعيّات الأهلية التي تعنى بالحفاظ على البيئة، ومؤازرة الجيش الوطني الذي كان دائمًا أوّل من يهبّ لتقديم المساعدة مهما كلّف الثمن وبلغت التضحيات.