متاحف في بلادي

المعصرة الأثرية تستفيق متحفاً
إعداد: جان دارك أبي ياغي

عنب رأس بعلبك يحنّ الى الخوابي العتيقة

 

بادرت المؤسسة الوطنية للتراث بدعم من مجلس الإنماء والإعمار وبالتعاون مع البنك الدولي، الى إنشاء متحف البقاع البيئي - معصرة الدبس التراثية - في منطقة رأس بعلبك.
الهدف تسليط الضوء على الطقوس والتقاليد المرتبطة بصنع الدبس عبر معصرة تراثية عمرها أكثر من مئتي عام، هي آخر المعاصر القديمة في المنطقة، ولم تتوقف عن العمل الى أن توفي مالكها سعدالله منصور العام 1996.
العام 2007 اتفقت المؤسسة الوطنية للتراث مع ابنته سعدى منصور (الوريثة الشرعية) على نفض غبار الزمن عن المعصرة وتحويلها الى متحف بيئي بقاعي، فأعيد تأهيل المبنى، وتمّ تنظيف أدوات المعصرة التي ما تزال تحافظ على وضعها الجيد والسليم (التيفار، البئر، المدْرَس، الموقد والخلقينة).
«الجيش» جالت بين حنايا الماضي مستذكرةً أيام زمان، صوت المعصرة، وعجقة المواسم، والدبس الطيب.

 

كان يا ما كان
كانت المعصرة «تحيا» وسط عادات جميلة وسهرات تمتد حتى ساعات الصباح الأولى على ضوء القمر أو على لهيب النار، مترافقة مع غناء النسوة، وأهازيج الرجال.
يبدأ موسم عصير الدبس مع انتهاء قطاف العنب واقتراب فصل الخريف، حيث يجتمع الناس لعصر مواسمهم. وكثيراً ما كانت تقام حلقات الدبكة مترافقة مع العزف على الربابة أو المجوز، وعندما يحل التعب بالجميع تبدأ طقوس تناول الدبس الممزوج بالطحينة مع خبز التنور المشروح.


خدمات وأدوار
استفاقت معصرة سعدالله منصور (ورثها عن أبيه)، المحافظة الى جانب شكلها وأدواتها على سقفها المرفوع بالخشب والقصب، من سبات عميق بعد توقف قسري، لتكون شاهدة على تراث رجل قدّم الكثير الى أهالي بلدته والجوار.
فالرجل سهر على صيانة المعصرة وتحضيرها وصَنَع الآلات اليدوية من النحاس والفخار بإتقان لافت، وكانت له عدة أدوار، حيث جمع بين الطب الشعبي والمعصرة في فترة لم يكن فيها العلم متطوراً، فكان طبيب أسنان بالفطرة يداوي الأهالي بدون مقابل، وأدواته البدائية معروضة في جناح خاص داخل المعصرة، خصوصاً الكرسي اليدوي والأدوات التي كانت تستعمل لتصنيع طقم الأسنان. والقسم الأكبر من أغراضه الشخصية محفوظ في خزانة زجاجية في منزل ابنته مريم المجاور للمتحف.
عندما تدخل المعصرة، تستقبلك شجرة زيتون معمّرة، هي الشاهدة على الإلفة والمحبة والعيش المشترك بين أبناء البلدة المسيحيين وأهالي البلدات المجاورة المسلمين، وفي وسط المعصرة يتدلى ميزان بدائي مثبت بخشبة عريضة لوزن العنب والدبس.
في فصل الصيف كانت المعصرة تستقبل مزارعي القمح حاملين محاصيلهم لتُسْلَق في الموقد ثم تجفّف على مصطبة معدّة لذلك، ليُنقل بعدها الى الطاحونة فيتحوّل طحيناً وقمحاً مجروشاً (برغل).

 

من خوابي الزمن العتيق
في أثناء تجوالنا في حنايا المعصرة التراثية أطلعتنا السيدة مريم منصور (إبنة صاحب المعصرة المرحوم سعدالله منصور) على أدوات المعصرة وكيفية صنع الدبس. فالمعصرة كانت في خدمة مالكي حقول العنب في رأس بعلبك والقرى المجاورة الذين يرغبون في تحويل إنتاجهم من العنب الجاف الى الدبس.
أما مراحل تصنيع الدبس فتبدأ بوضع الزبون إنتاجه (الحصة أو الشقرا) من العنب الجاف في حوض مخصص بعد سلسلة من الإجراءات: فصاحب المعصرة يزن الكمية ويسجل إسم (أو لقب) صاحبها مع إسم القرية أحياناً، والمبلغ المتوجب دفعه، ثم يجرش العنب المجفف قبل نقله الى حجر الطاحون (حجر الرحى أو الزغل).
تبدأ المرحلة الثانية بوضع العنب المجفف على «المصطبة» أو «المدرَس» ويبلل بالماء بصورة منتظمة في أثناء الجرش لمنعه من الالتصاق. وتتم عملية هرس العنب اليابس بدوران حجر الرحى الذي يعمل بواسطة حيوان المحور (حمار، حصان أو بغل) الذي يدور باتجاه دوران الساعة مع الإبقاء على عيني الحيوان مغطاة حتى لا يصاب بالدوار، الى أن يسحق الخليط ويتحول الى عجين.
في المرحلة الثالثة يُرصف العجين يدوياً على شكل كرة ويدعى «ألّوع»، ويقاس حجمه بكمية العنب اليابس التي يحملها الزبون فيسجل اسمه عليه بواسطة آلة دقيقة الطرف.
وتأتي المرحلة الرابعة حيث توضع كرات العنب المهروس المنقولة بـ«القفف» على صف واحد فوق بعضها لكي تجف وتصبح قاسية، ثم يُقدِم الزبون بعد أسابيع على تفتيت «الألّوع» بعد أن اشتدت قساوته، فيقطّع على شكل شرحات ثم ينقل بـ«القفف» نحو «التيفار»، لينتقل الى المرحلتين الخامسة والسادسة، هناك ثمة «تيفارين» فوق بعضهما ينتظران: الأعلى للنقع بالماء والأسفل للتصفية واستخلاص عصير الجلاب عبر ثقب (مخرج للمياه). يُغلق الثقب الموجود في القسم الخارجي من «التيفار» بواسطة عود من خشب يعرف بإسم «البيور» (عودة الفلينة)، بينما يغطى القسم الداخلي بغصن من الشيح يؤدي دور المصفاة.
يوضع العجين المقطّع في «التيفار» الأعلى ويغطى باللبن ثم تُصب عليه المياه العذبة المأخوذة من البئر في وسط المعصرة ويترك لمدة ثلاثة أيام فتذوب المادة السكرية بعد أن تمتزج بالمياه.
بعد ثلاثة أيام ينزع «البيور» من الوعاء الأعلى فيخرج العصير باتجاه وعاء البزل ويؤخذ بواسطة الكيلة (صحن مجوّف من الخشب) ويعاد العمل بالطريقة ذاتها لتستخرج كل المادة السكرية من العجين (الهريس) بعد تصفيتها، ويطلق على العصير المستخرج أولاً لقب «البكرية» والثاني «ثانوية» والثالث «مرية».
يأتي دور غلي العصير، الأهالي يأتون بالحطب من الحرج لإشعال الموقدة (طوّرها سعدالله منصور لتعمل ايضاً على مادة المازوت)، بعدها يؤخذ العصير المستخرج من وعاء «البزل» ويسكب في «الخلقينة» (وعاء كبير مجوّف يُصنع عادة من مادة النحاس) ويغلى على النار وهنا يعود قرار وقف عملية الطبخ لسيد المعصرة، فوقف العملية باكراً أو متأخراً يُفسد الدبس، لذا يأخذ كمية من «غشاوة» الدبس المغلي ويضعها في وعاء ثم يغمس إصبعه فيها، وإذا بقي الدبس متماسكاً على إصبعه عند رفعه فذلك يعني أن العمل قد نجح، أما إذا سال فيجب متابعة عملية الطبخ.

 

إضرب الدبس بقضيب تين
المرحلة الأخيرة البالغة الأهمية هي تبريد الدبس و«ضربه». عندما يصبح العصير دبساً جاهزاً يسحب بواسطة «مغرف» ويسكب في وعاء كبير حيث يترك ليضرب بواسطة قضيب قاس من شجر التين ويفضّل أن ينتهي بثلاثة أصابع. تبدأ عملية الضرب باليد بضربات دائرية وعمودية سريعة داخل الوعاء لزيادة كثافة الدبس ومنع تكوّن حبيبات داخله. قد يُنفّذ عملية ضرب الدبس صاحب المعصرة أو الزبون إذا كان من سكان القرية، وقد تدوم هذه العملية عشرين يوماً وبطريقة متقطعة. يترك بعدها المخزون على حاله في البيت حتى يتم استهلاكه، ويجري تناول الدبس كما هو أو مع اللبن أو مع «الطحينة»، وكان العديد من سكان القرية يتناولون الدبس مع الثلج في فصل الشتاء...
زوار المعصرة - المتحف يتسنّى لهم الاستمتاع بشيء من رحيق الماضي ومشاهدة فرن التنور التقليدي لتحضير الخبز في الحديقة. وقبل المغادرة يمكنهم التعريج على الدكان الذي تعرض فيه بطاقات بريدية وأشغال يدوية وحرفية وكثير من أطايب المونة التي صنعتها أيادي أهل البلدة.
 


عنب رأس بعلبك

من المعروف أن منطقة رأس بعلبك غنية بعنبها المميّز، والكرمة فيها من أقدم مزروعاتها لملاءمتها طبيعة الأرض والمناخ. وما بقي منها ينتشر على التلال وفي المنحدرات التي تحظى بالتربة الكلسية الغنية بالألومينيوم.

 

العنقود وخيراته
- عنب يؤكل طازجاً.
- عصير عنب.
- أوراق عنب تؤكل أو تحفظ في أوعية (قطرميز) لاستخدامها في المحشي.
- حامض الحصرم، حامض مستخرج من العنب الأخضر ويستعمل في فصل الشتاء كبديل عن الحامض.
- النبيذ بأنواعه الأبيض، الوردي والأحمر. والنبيذ الأحمر يفاد منه في القداس في أثناء المناولة.
- العرق.
- الخل.
- دبس العنب مستخرجاً من عصير العنب.
- دبس زبيب مستخرجاً من العنب المجفف.
- عنب مجفّف يؤكل في فصل الشتاء.
- الوقود غذاء للمواشي.

تصوير:جو فرنسيس