قضايا اقليمية

المعضلـــة الفلسطينية مـن آلون الى شـارون
إعداد: احسان مرتضى
باحث في الشؤون الاسرائيلية

منذ الإحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967, والقيادات السياسية والعسكرية في كيان العدو تتخبط حول إيجاد الطريقة المثلى التي تخولها الإحتفاظ بأكبر قدر ممكن من الأراضي, في مقابل أقل عدد ممكن من السكان. وكان القادة الإسرائيليون ممن يسمون بجيل عام 1948, من أمثال يغال آلون وآرييل شارون وموشيه ديان وإسحق رابين وشمعون بيريس وسواهم, قد تربوا جميعاً على أسطورة ما يسمى “إنقاذ أرض إسرائيل”. إلا أن هؤلاء ما لبثوا أن أدركوا بسرعة أن الحل البسيط القائم على ضم جميع هذه الأراضي المحتلة, كان من شأنه أن يحوّل السكان الفلسطينيين الى مواطنين إسرائيليين, وبالتالي يخلق مشكلة ديموغرافية ذات أبعاد إجتماعية وثقافية وأمنية وإقتصادية بالغة الخطورة على الأكثرية اليهودية المنغلقة في ذاتها العنصرية والأتنية والدينية.
من أجل ذلك وعلى هذه الخلفية, تبلور في إسرائيل مفهومان أساسيان يمكن أن ننسب أولهما الى الزعيم الصهيوني والمفكر الإستراتيجي يغال آلون, والثاني الى الإرهابي العتيق ورئيس الحكومة الإسرائيلية الحالي آرييل شارون.
لقد تحدث المفهوم الأول (مشروع آلون) عن ضم ما يتراوح بين 35 ­- 40% من الأراضي المحتلة عام 1967 الى الكيان الإسرائيلي, وعن إقامة حكم ذاتي أو إتحاد كونفدرالي مع سائر المناطق التي يقيم فيها معظم السكان الفلسطينيين العرب. وأخذ هذا المفهوم بعين الإعتبار أنه من الصعب جداً, إن لم يكن من المستحيل, العودة لممارسة عمليات الطرد الجماعي والترحيل القسري (ترانسفير), مثلما حصل عبر مجازر عام 1948, سواء لاعتبارات “الضمير” أو لأن العالم المكشوف أكثر فأكثر أمام وسائل الإعلام الإلكترونية المتطورة لن يسمح بمثل ذلك.
أما المفهوم الثاني الذي كان آرييل شارون الناطق الأبرز باسمه منذ مطلع الستينات, فافترض أنه من الممكن إيجاد سبل “ذكية ومقبولة” من منطلق الإنتهازية واستغلال الظروف الإقليمية والدولية المتقلبة والدائمة التغيّر, وفقاً لموازين القوى والمصالح, لفرض حل على نمط ما حصل عام 1948. وفي هذا السياق تدخل تصريحات شارون المتكررة بأن ما يحصل الآن من قمع وحشي ودموي للإنتفاضة الفلسطينية في الأراضي المحتلة, ما هو سوى إستمرار لحرب عام 1948, التي لم تكتمل فصولاً بعد, حتى السيطرة الصهيونية الكاملة على أرض فلسطين التاريخية من البحر الى النهر. وفي هذا السياق أيضاً تدخل تصريحات شارون التي أكد فيها أنه شخصياً لم يتغير وأن الآخرين هم الذين تغيّروا خاصة في حزب العمل, بالإضافة الى مناداته العلنية بأنه لا مجال لإقامة دولة ثالثة بين إسرائيل والأردن وأن الأردن هو فلسطين, مما يعني ترحيل أو نقل أكبر عدد ممكن من فلسطينيي المناطق المحتلة الى الأردن, والآن, الى العراق وليبيا, وربما لبنان أيضاً.
وكانت هذه النظرية الشارونية جزءاً من خطة استراتيجية شاملة تقضي بفرض “تسويات جديدة” في المنطقة, إنطلاقاً من الحرب الضروس والإجرامية على لبنان في عام 1982.
المفاجأة الكبرى غير السعيدة لشارون وأنصاره كانت في إتفاقية أوسلو عام 1993, والتي تمت وراء الكواليس على غفلة من القوى اليمينية والشوفينية والدينية المتطرفة, وفي مقدمتها حزبا ليكود ومفدال, على الرغم من أن هذه الإتفاقية انطوت عملياً على سلب الفلسطينيين أكثر من نصف أراضيهم المصنفة إسرائيلياً بأنها أراضي دولة مشاع, أو أنها مناطق رماية للجيش, أو مناطق أمنية و”إحتياطي أرض للمستوطنات”. ومع ذلك فلقد كان يبدو أن حكومة إسحق رابين في حينه كانت تنوي بهذا القدر من التوسع والسماح بالتالي للسلطة الفلسطينية, بقيادة ياسر عرفات, من أن تدير شؤون المجتمع الفلسطيني في الجيوب أو المعازل أو الكانتونات التي أتيح لها الإحتفاظ بها, تخفيفاً من التشويه الحاصل في سمعة إسرائيل وصورتها في العالم, كمحطمة لعظام الأطفال ومدمرة لبيوت المدنيين فوق رؤوس أصحابها, وجارفة للمحاصيل والأشجار المعمرة, وتخلصاً من المشاكل الأمنية والإقتصادية التي قد يسببها ضم كل الأراضي المحتلة بكل ما فيها من سكان ومقيمين.
إلا أنه بتحريض من شارون نفسه, تم إغتيال اسحق رابين, ومن ثم تمت تصفية أوسلو بصورة تدريجية وصولاً الى القضاء حتى على أجهزة الأمن الفلسطينية التي لم يكن ليسمح بتشكيلها وتسليحها وتدريبها لو لم يكن الهدف من ورائها الحفاظ على أمن المستوطنين والجبهة المدنية الداخلية في إسرائيل.
وهكذا بدا أنه حتى القليل الذي حصل عليه الفلسطينيون كان أكثر من اللازم, ليس في نظر شارون لوحده, وإنما في نظر شخصيات كانت محسوبة على حزب العمل مثل إيهود باراك وموشيه يعلون اللذين رفضا أوسلو كل بأسلوبه الخاص. وإذا كان باراك قد حاول بيع عرفات الأوهام في كامب ديفيد الثانية عام 2000, فإن رئيس الأركان الحالي موشيه يعلون اصطدم مع رئيس الأركان الأسبق أمنون شاحاك الذي كان من مؤيدي أوسلو, وفرض على شعبة الإستخبارات العسكرية (أمان) موقفاً سياسياً معادياً تماماً لأوسلو. وهكذا وجد فيه شارون ضالته واختاره كرئيس حالي لأركان الجيش الإسرائيلي. وخلافاً لموقف الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك) والتقارير المتواترة في الصحافة عن التعاون الأمني بين إسرائيل والسلطة, فإن يعلون كان دائماً يعمل على تشويه صورة السلطة وإلباسها صورة “الإرهاب”, وذلك من منطلق إعتقاده بأنه لا يمكن الحفاظ على التعاون المستمر مع عرفات وأجهزته الأمنية لوقت طويل, لأن لدى هؤلاء مشروعهم السياسي الخاص المتناقض مع المصالح الإستراتيجية العليا لسياسة التوسع الإسرائيلية. وبالتالي فالمخرج الوحيد من هذا الشك والخوف هو العمل على تصفية السلطة وكل مفهوم أوسلو الذي انتجها ودفعها الى الوجود, وذلك وفقاً لرؤية عسكرية سياسية ذات غايات قومية تقوم على شقين: إسرائيلي وفلسطيني.


في الشق الإسرائيلي لهذه الرؤية نلاحظ ما يلي:
1­- ضمان أمن إسرائيل في المطلق, والعمل على توكيد وترسيخ وجودها في المنطقة.
2­- إعادة بناء وتكوين مملكة إسرائيل القديمة بأوضاعها التاريخية, وبثقافتها وحضارتها اليهودية العنصرية, بحيث تكون موئلاً ومقراً لجميع يهود العالم.
3-­ حماية القاعدة الإقتصادية والعلمية والتكنولوجية وإنماؤها لتتمكن من استقطاب المهاجرين اليهود, لترفد بهم آلتها الحربية والعسكرية.
4­- إيجاد مجتمع إسرائيلي مترابط ومتماسك ومغلق يكون موضع جذب وإغراء ليهود العالم من بلدان الرفاه والتقدم الإقتصادي.
5-­ توسيع رقعة الأرض على حساب الدول العربية المجاورة, والعمل على السيطرة على الموارد في مجالات الطاقة والإقتصاد. لأن فلسطين بحدودها الطبيعية, لا تستطيع استيعاب قرابة 14 مليون يهودي موزعين في دول الشتات, إضافة الى التزايد الطبيعي للسكان.
6­- إقامة اكبر ترسانة للأسلحة وأكبر قوة عسكرية في منطقة الشرق الأوسط بأكملها, لتكون في خدمة تحالفات الدول الإمبريالية وفي مقدمتها الولايات المتحدة لتأمين المصالح المشتركة لكل من إسرائيل وهذه الدول معاً.
أما في الشق الفلسطيني لهذه الرؤية فيمكن ملاحظة ما يلي:
1-­ العمل الدقيق والحثيث والمستمر لاغتيال وإبادة العناصر الفلسطينية المقاتلة لأي فئة انتمت.
2-­ إلحاق أكبر قدر من الأذى والخسائر المادية والبشرية بالمدنيين الفلسطينيين, حتى يكفر هؤلاء بكل ما له علاقة بالإنتفاضة أو المقاومة.
3-­ ردع قيادات المقاومة عن تخطيط وتنفيذ عمليات عسكرية ضد إسرائيل تحت ذريعة أن ما سيلحق بالفلسطينيين سيكون أكبر بأضعاف أضعاف ما سيلحق بالإسرائيليين.
4-­ إنتهاك أو التهديد بانتهاك سيادة الدول الداعمة للإنتفاضة أو المقاومة عبر أراضيها, بحجة أن هذا الإنتهاك ما كان ليحصل لولا وجود الدعم.
وفقاً لهذه النقاط والمبادئ يتحرك شارون اليوم في سياسة استنزاف طويلة الأمد, والمحصلة النهائية لهذا الصراع لن تكون قريبة ولكنها في كل الأحوال تقوم أولاً وأخيراً على الإرادة والصبر واليقين بحتمية إنتصار الحق في نهاية النفق المظلم.