رحلة في الانسان

المعلّق الساخر كيف نتفهّمه ونضع حداً لتماديه؟
إعداد: غريس فرح

كثيرون هم الذين يعتمدون المزاح في المجتمع بمناسبة أو بدون مناسبة، وعلى الرغم من أنهم يبدون وكأنهم يرطّبون الأجواء، إلاّ أن التحاليل التي تناولت شخصياتهم، أكّدت على أنهم قد تبنّوا هذا النمط، إما لأنهم إعتادوا عليه لأسباب لاواعية، أو لأنهم عملوا على تقمّص شخصياتهم لغايات مبطّنة، أفرزتها الظروف، وحوّلتها الى سلاح لحماية الذات، على حساب مشاعر الغير.
فمن هو المعلّق الساخر، وهل يجدر به إعادة النظر بطبيعة سلوكه؟

 

هل تعتبر السخرية عدائية مبطّنة؟
حسب الدراسات النفسية التي تناولت خصائص الشخصية غير الجدّية، توجد بينات على أن المتحلّين بها يتسلّحون عموماً بالمزاح وخصوصاً في أثناء المواقف الحاسمة، لأهداف معلنة وغير معلنة. فهم يبدون ظاهرياً وكأنهم يريدون إضفاء المرح واجتذاب البسمة، لكنهم في اللاوعي يقدمون على ذلك لإخفاء أشكال من المعاناة المدفونة في أعماقهم.
وحسب المحللين النفسيين، فإن الميل الى المزاح أو السخرية من بعض الأقوال والأحاديث والمواقف، يكون في الكثير من الأحيان أداة إجتماعية غير بريئة، يقصد من ورائها البروز، وكذلك النيل من الأشخاص الأكثر أهمية وتفوّقاً. وإذا ما استثنينا المزاح العابر والبريء، وأخذنا بالاعتبار الأشخاص المتّسمين بهذا النمط السلوكي اللافت، نجد أن ميل هؤلاء الدائم الى السخرية والتهكم وتجريح الغير، ينبع عموماً من غيرة غير معلنة يرافقها شعور بالخجل والنقص. وهو شعور يضفي على المُعاني منه قلقاً يرغب في إخفائه بالاختباء وراء الشخصية المرحة. لذا، فعندما يلجأ هذا النوع من الأشخاص الى التهكم والمزاح، وإلقاء التعليقات الساخرة، يكون بذلك مضطراً الى تضليل الغير عن طريق التغطية على اضطراب أحاسيسه، وخصوصاً في وجود من هم أكثر إدراكاً وفطنة. وإذا ما أخذنا بالاعتبار أن معظم الأشخاص المعنيين بهذا التحليل، يعترفون ضمناً بمعاناتهم، يصبح بالإمكان الإقرار بأن هؤلاء يخفون الكثير من العدائية تجاه المجتمع.

الدراسات التي تناولت هذا الشأن أظهرت بوضوح أن معظم الميالين الى المرح والسخرية، يعترفون ضمناً بهشاشة تفكيرهم بالمقارنة مع سواهم. ومن هنا حرصهم الدائم على إظهار الجزء السطحي من شخصياتهم، والمتمثل عموماً بالمزاح. أما سبب ذلك، فيعود الى خوفهم من المجاهرة بأفكارهم تجنباً لانكشاف عدم صوابيتها ومواجهتهم للانتقاد. وعلى هذا الأساس، يتقمّصون مع الوقت شخصية سطحية مرحة تحميهم من التهميش، وتؤمن إندماجهم في المجتمع.

 

الخلفية البيولوجية ومستوى الذكاء
حسب إعتقاد أحد المعالجين النفسيين في جامعة أونتاريو الكندية، والذي أجرى عدة دراسات على مجموعات من المتّسمين ببراعة التعليقات الساخرة، فإن وراء هذا الإتجاه السلوكي، خلفية بيولوجية، تتمثل بالاستعداء الوظيفي الدماغي للشخصية العدائية.

إضافة الى ذلك، فقد ثبت بالاختبارات التي أجريت على أدمغة الكثيرين، أن الذين يتجاوبون عموماً مع السلوك الساخر، ويتمكنون من تجاوز التجريح ببراعة وذكاء، هم أيضاً من العدائيين المقنعين، والذين يتفهمون دوافع من يواجهونهم، وخصوصاً في حال تجاوز المعلّق الساخر التعابير اللفظية الى المعاني المبطّنة.
والبراعة في إطلاق التعليق الساخر لا تتطلب ذكاءً، كما يعتقد كثيرون، بل إحساساً فطرياً يؤمن التعرّف الى تعابير الوجوه، وبالتالي الأجواء الإجتماعية المؤاتية. أما المفارقة في الموضوع، حسب رأي الباحثين، فتتعلق بمستوى ذكاء المتعاملين مع السخرية بالأساليب المناسبة.

 

المزاح يهدّم العلاقات العاطفية
صحيح أن الأكثرية الساحقة من الجنسين تتمنى الارتباط بشريك سريع البديهة، ومتحلّ بروح المرح في المناسبات، ومع ذلك، أثبتت معظم الدراسات النفسية - الإجتماعية، أن الميل الى المزاح هو أحد الأسباب الرئيسة لنشوء الخلافات بين الأزواج والمتحابين.

واللافت أن أكثرية المتّسمين بالشخصيات الساخرة أو المرحة، وخصوصاً الميّالين الى المزاح والدعابة، لا يشعرون بفداحة الأذى النفسي الذي يسببونه لشركائهم. والسبب أن معظم الساعين  الى توطيد العلاقة العاطفية، وخصوصاً النساء، يضعون في أولوياتهم الجدية والمرونة في تبادل الآراء والأحاسيس والإهتمامات، إضافة الى التجاوب الوجداني الذي يتيح لكل من الشريكين سبر أعماق الآخر. لذا، فإن المبالغة في المزاح من قبل أحدهم، وخصوصاً في الظروف الجدية، كفيل بتمزيق روابط العلاقة. وهي نتيجة حتمية تنجم عن شعور الشريك المعني بالمزاح، بالنقص والمهانة، الأمر الذي يتسبّب ببرودة عواطفه، وابتعاده. وقد يحوّله الى شريك عدائي مدافع عن كرامته.

 

كيف نتغلب على هذا السلوك؟
إذا ما أخذنا بالاعتبار أن السخرية لا تخلو من العدائية، نجد أن نسبة كبيرة من محبي المزاح يتخطون حدود اللياقة الإجتماعية، بهدف التشفّي والتجريح، والحطّ من قدر سواهم، وذلك تحت ستار «إحياء أجواء المرح». وهنا يصبح من  الضروري إستخدام أسلوب القسوة معهم، لإجبارهم على مواجهة الواقع والعودة الى الطريق السوي. وفي هذا السياق، يشير الإختصاصيون النفسيون الى أن أسلوب التشفّي الساخر الذي يعتمده البعض لا يرفع من شأنهم، بل يزيد من معاناتهم. فهو وإن تمكن من إعلاء معنوياتهم لبعض الوقت، إلاّ أنه سرعان ما يعيدهم الى حقيقة ذواتهم ويشعرهم بالذنب والنقص وعدم الرضى.

من هذا المنطلق، وباعتبار أن المبالغة في المزاح غير المسؤول هو آفة إجتماعية، ودليل ضعف واضطراب في الشخصية، يسدي الإختصاصيون الى المعنيين بهذه الآفة النصائح التالية:

• قبل التمادي في المزاح، من الضروري التذكّر أن المزاح عادة إجتماعية غير مرغوب فيها وخصوصاً من قبل من لا يتمكنون من التفريق بين الفكاهة والإهانة. لذا ينصح المعنيون بوضع حد فاصل بين المواقف التي تحتمل مزاحاً وبين التي تقتضي جديّة واحتراماً للذات وللغير.

• على محبي المزاح التقيُّد بالإحساس الداخلي الذي يجعلهم يفرّقون بين الأشخاص وينتقون الذين يتجاوبون معهم. ويكفي في هذا السياق إتقان قراءة تعابير الوجوه، وردات الفعل المباشرة وغير المباشرة.

• مهما بلغت درجة العلاقة التي تربط المعلّق الساخر بالصديق أو الزميل أو الشريك في العلاقة العاطفية، يُنصح بالمحافظة على الحدود التي تؤمن إستقلالية كل منهم واحترام أفكاره ومعتقداته.

• من الأفضل التأني ومراجعة الذات قبل إطلاق تعليق يؤذي الغير، وخصوصاً إذا كان المقصود به مواجهة الشعور بالفراغ، أو إستعادة الثقة بالنفس.

• في حال الشعور بعدم إمتلاك الأرضية الصلبة، أو المعطيات الضرورية لخوض نقاش جدي، من الأفضل إلتزام الصمت، وعدم التماس تعليقات تافهة لإخفاء الشعور بالنقص أو الإحباط.

• من الأفضل الإقتناع أن الشخص المحطّم يميل في لاوعيه الى تحطيم سواه. كذلك من الضروري أن نعلم أن المزاح سلاح ذو حدين، أحدهما واحة ترطّب الأجواء وتبعد الهموم، والثاني سمّ إجتماعي قاتل، وخصوصاً عندما يستخدم لتفريغ الأحقاد.