مفاهيم

المفهوم الجدّي للديمقراطية أو مهارة التنوّع
إعداد: الدكتور جورج شبلي

كانت الديمقراطية في نقطة انطلاقها اتجاهًا سياسيًا يهدف إلى نقل السلطة سياسيًا وقانونيًا من المَلك إلى الشعب، أي إعطاء الشعب حق ممارسة سلطة التقرير النهائي لمستقبله. وهذا يشمل اختيار النظام الملائم، وتعيين شكل الحكم الذي يجده أهلًا لتصريف شؤونه. من هنا تختلف الديمقراطية كنظام عن الدكتاتورية أو الحكم الفردي حيث السلطة في يد حاكم واحد، وعن الحكم الأرستقراطي والاوليغَرشي حيث السلطة بيد فئة قليلة مهيمنة.
والديمقراطية تعني أنّ الشعب هو مصدر السلطات، فلا تكون الهيئة الحاكمة شرعية إلّا إذا كانت ثمرة الإرادة الحرّة للنُخَب السياسية في المجتمع. من هنا يمكن القول إن السيادة هي للشعب، كل الشعب، وليس لفرد أو لطبقة. وبالتالي كل القرارات يشرّعها الشعب، وتنبع من مصلحته.
تساوي الديمقراطية بين المواطنين في الحقوق والواجبات، بحيث تنسحب هذه المعادلة على الجميع، فتنعدم الفوارق بين الناس بسبب النفوذ أو الثروة أو الموقع الاجتماعي.
وتدعو الديمقراطية إلى الفصل بين السلطات، الاشتراعية والتنفيذية والقضائية، حتى لا تهيمن واحدة على غيرها فيسود الظلم ويعمّ الفساد. كما ترتكز الديمقراطية على آلية واضحة هي مبدأ الانتخاب أي الاختيار الذي يمارسه الشعب بكلّ حرية. ويكون الانتخاب الحرّ ممرًّا إلزاميًا لإنتاج مجلس نيابي يمتلك وحده سلطة سَنّ القوانين باسم الشعب ولمصلحته، مستظلًا الدستور. كما يمارس البرلمان دورًا رقابيًا يمكّنه من محاسبة الحكومة وطرح الثقة بها عندما يجد ذلك مناسبًا.
والديمقراطية هي توأم الحريّة أو هي مَأسَسة لها، بحيث يستحيل وجود الواحدة من دون الأخرى. والحريّة لا تعني أبدًا استباحة حقوق الغير، أي ليست في حال من الأحوال مطلقة بل هي تقف عند حدود حرية الآخرين. وممارسة الحريّة تخضع لضوابط، فعلى الرغم من أن صَون الحريّات، وعلى رأسها حريّة الفكر والتعبير، هو واجب النظام الديمقراطي، غير أن انفلات الحريّة من رابط القانون يؤدي حكمًا إلى الفوضى.

 

ما الذي يمنع تحقيق الديمقراطية؟
إنطلاقًا من هذا التوصيف للديمقراطية، تطرح الإشكالية الآتية: ما الذي يمنع أن يكون في مجتمع ما حريّة وعدالة وسلام واستقرار؟ والمقصود في هذا المجال توسُّل الحالة التغييرية لبلوغ الأرقى والأفضل.
لا شك في أن اللبنانيين يشكّلون، في حيثيّتهم الكيانية، مجموعة ترفض الخنوع والقهر والإخضاع والإجبار، وقد أثبتوا ما هم عليه طوال تاريخهم. وهم ليسوا أيضاً متقوقعين عنصريّين أو أصحاب رؤية قاصرة في ما خصّ حقوقهم، فهم يتميّزون عن أقرانهم في الأوقيانوس المحيط بديناميّة الوعي لمقدراتهم التي يوظّفونها لأهداف وطنيّة نبيلة. لكنهم في الوقت ذاته مسكونون بالفرد أو الفردية بحكم الموروث الطويل، لذلك آمنوا بأن التغيير سوف يقوده الأفراد، هؤلاء الذين ينتمون إلى مشاريع ينقصها الشمول والغيريّة في بناءٍ عناصر المجتمع وترسيخٍ عناصر الدولة. وتاليًا لم تكن هذه المشاريع فعلاً، تشكّل حراكًا يقود إلى ظهور حيثيّة تحمل هموم الوطن وتقوده إلى الأمام، بل كانت تنهج سبيل الدفاع عن الأهداف الخاصة وتشكّل دوائر حماية للمصالح الضيّقة.
المشكلة إذًا ليست في الديمقراطية كنظام، كما يحلو للبعض تبسيطها، بل هي تكمن في «اللعب الجماعي»، أي الاتصال المبني على التفاهم والتناغم بين أفراد المجتمع الواحد. وذلك من خلال تنقية رواسب النزعات الفردية والشخصانيّة، وقطع الطريق على الاتجاهات الفوضوية وحالات الخروج عن مفهوم الدولة. والخوف من أن «اللعب الجماعي» يمكن أن يلغي حال التنوع، أي الحريّة في اتخاذ الموقف، هو خوف مردود. فالديمقراطية هي الرأي والرأي الآخر، أي الحق بالاختلاف بشرط ألّا يؤدّي الاختلاف إلى خلاف، وأن تصبّ المواقف المتنوّعة المختلفة كلها في غائية وحيدة هي مصلحة الوطن. وإن شابت هذه الظاهرة شوائب عندنا، فلنقصٍ في التوجيه والتوعية، وفي التربية. والتنوّع ليس سلسلة من المتاعب بقدر ما هو إبداع في الاجتهاد أو احتمالية التوصّل إلى ابتكار المشترَك المتجانس، ما ينعكس إيجابًا على إنتاج حالة تمنع الصّدوع والتفكك. والتنوع هو مفتاح للتوقّع، أي لوجهات نظر جديدة تسهم في إيجاد حلول ناجعة لما نتخبّط به من مشكلات، ولا سيما السياسية منها.
إن الديمقراطية الحقيقيّة هي ما يقوم على الإرادة والعقل اللذين يقودان إلى الحقيقة. والحقيقة هي أنّ حكم الشعب بالشعب للشعب هو الديمقراطية الوحيدة، وما عدا ذلك تزييف وتضييع لمفهوم الديمقراطية. وبالابتعاد عن هذا المنحى، ترتكب ممارسة الديمقراطية أخطاء مميتة تُجهز عليها، أو تحوّلها إلى ديمقراطية مثقوبة.

 

الخلاف والاختلاف
لا بدّ من تحديد موضوعي للكلمتين اللتين تبدوان في الظاهر متشابهتين (الخلاف والاختلاف)، لكنهما بعيدتان الواحدة عن الثانية، بحيث لا توجد علاقة قرابة بينهما. لكننا في استخدامهما نجعلهما ندّين عن قصد أو عن غير قصد، فيمكن للواحدة أن تحلَّ مكان الأخرى وتنوب عنها، وهنا تكمن المغالطة. إنّ الخلاف معناه الصراع والشجار والخصومة والمنازعة، أما الاختلاف فهو التباين والتنوّع وعدم التطابق.
لقد نشأ مجتمعنا على ثقافة يسود فيها الخلاف الذي ترسّخ في اللّاوعي الجماعي، وذلك بسبب ظروف رافقت هذه النشأة. وبدأت هذه الثقافة داخل الأسرة نفسها حيث يفرض الأب – رأس العائلة - رأيه على الجميع ويتّخذ قراراته وحده، ويجعل الآخرين يتبنّون هذه القرارات من دون مناقشة، خوفًا أو احترامًا. ثم انتشرت العدوى في المجتمع عمومًا، فراح الواحد منا يفرض رأيه على الغير وكأنّه يحاول أن يجعل الناس يبدّلون اشكالهم بشكله، من دون أن يعي أن تَوحُّد الآراء مستحيل وكأن الناس جرى صبُّهم «بروتوتيبيًا» في قالب واحد.
ولأنّ المجتمع كلّ لا يتجزأ، طاولت هذه الثقافة أيضًا الحركة السياسية، على مستويي النظام ورجال السياسة، فاعتبر البعض (وتاليًا النسبة الكبيرة من المواطنين) كلام الزعيم السياسي مقدسًا أو مُنزلًا وحقًا مُطلقًا وحقيقة ناجزة، بمعنى أنه لا يجوز إطلاقًا مناقشته أو إبداء أيّ ملاحظة عليه. وبدلاً من أن تؤثّر الزعامات على سلوك الناس وتنسّق جهودهم لتحقيق أهداف وطنية، ساهمت الزعامات الأحادية، التي كانت تعتبر نفسها قائدة للرأي من دون منازع، في ترسيخ ثقافة الخلاف، فتبنّاها مجتمعنا ورسّخها في ذهنه ورفض بالتالي الاختلاف شكلًا ومضمونًا. وعلى هذا، راح القيّمون على الأنظمة الشمولية والديكتاتورية يستغلّون نقطة مركزيّة هي خضوع الناس لهم كحقّ مُكَرّس، فتعرّضوا لمَن تجرّأ وخالف عليهم رأيهم، فحكموا بإعدامهم أو سجنهم في أحسن الأحوال. وقد تمادى منحى فرض الرأي وتوارثناه جيلًا بعد جيل، فشاع هذا الخلل المرض حتى ألفناه وأصبح جزءًا من فولكلورنا السياسي، أما المشكلة فإننا في ذواتنا نعرف الداء ونرفض العلاج.
إنّ الاختلاف في الناس حالة حتميّة، فهم لم يُخلقوا على نموذج واحد لكنهم متفاوتون، فكل إنسان هو نموذج خاص في فكره. ولمّا كان التعبير عن الرأي حقًا من حقوق الإنسان ومصانًا بالدستور والقوانين والشرعة الدولية، ولمّا كان الاختلاف في الرأي ظاهرة فكريّة متقدّمة، أصبح من الضروري تربية المواطن على ثقافة الاختلاف ليتقَّبل الرأي الآخر. إن ثقافة الاختلاف تعني احترام كل وجهة نظر أو موقف أو رأي مهما كان مخالفًا لآرائنا، أو هي اعتراف بالرأي الآخر وبأنّ الجميع سواسية في حريّة الفكر والمعتقد والقناعات. إن ثقافة الاختلاف تعارض ثقافة الإلغاء والإقصاء التي تمارسها الأنظمة الخائفة هذه التي تعتبر أن كل مَن يخالفها الرأي هو عدو يجب إزالته. وبالتالي فثقافة الإقصاء هذه أنتجت قسرًا نسيجًا منافِقًا ذا شرائح متحجّرة، ومعها ينعدم كل أمل في أي تطور حضاري، ما يجعل المجتمع فاقدًا روح المبادرة والانتاج الفكري.
من بديهيات الديمقراطية، وهي قَدَر محتوم لأي شعب يتوق إلى الليبيرالية والحريّة، أن نحسن الاختلاف وأن نتخلى عن الأفكار المسبقة والمواقف الجامدة، وأن نقتنع بأنّ كل تعارض في الآراء هو غنى، وبأن التنوّع هو أمر إيجابي إذ ينير جوانب عديدة في الفكرة الواحدة. من هنا فإن المطلوب، وبإلحاح، تنشئة الناس على ثقافة الاختلاف والنقاش في بيئة سليمة تعترف بالرأي والرأي الآخر، وتعتبر الاختلاف سنّة وجوديّة ومن طبيعة الكائن البشري. فتغدو ميزة احترام الرأي الآخر واحدة من القيم التي تكوّن متطلبات التطور الفكري والحضاري لأي مجتمع إنساني.
إنّ واقع بعض المجتمعات قد أفرز متعاطين للسياسة سلطويين تلقينيين منخفضي المستوى على صعيد تقبّل الرأي الآخر، يمارسون سياسة الفرض الفوقيّة، وبهذا يفتقرون إلى سلامة التفكير ويتّصفون بالنرجسية المرفوضة. ولأن الناس ينحنون أمام هذا الواقع، فمن الطبيعي أن يصبح المجتمع «متشرنقًا» محجوزًا في قمقم آراء السياسيّين، يستعيدها عن غير وعي، ويدافع عنها وكأنها اللوح المكتوب. لذلك، فإن تعميم ثقافة الاختلاف يشكّل حلًا لا بديل منه يسعى إلى تعرية الخلفيات، وإلى بناء حيثية ديمقراطية عنوانها الرأي الآخر. فاحترام الرأي الآخر هو موقف شجاع وضرورة لتمتين المشاركة، وهو حال نضوج للدور الذي له الأولوية في تحديث المجتمع، فالتقدّم يقوم على التشاركية والتفاعل بين المختلفات.
إن تعدّدية الآراء ظاهرة حضارية إيجابية تعني تجاوز السلطوية إلى الديمقراطية. لذلك، علينا جعل ثقافة الاختلاف مهارة مكتسبة، وتعميم فكرة تقبّل الآخر بالممارسة العملية، وإعطاء الرأي الآخر المساحة نفسها التي لرأينا، فتلاقي الأفكار المتباينة ينتج دائمًا إثراء انسانيًا ووطنيًا.