قضايا اقليمية

المقاومة الفلسطينية وتداعياتها العسكرية على إسرائيل
إعداد: احسان مرتضى
باحث في الشؤون الإسرائيلية

• الأحداث التي شهدها قطاع غزة من حصار وحرب وقتل وتدمير إنما تصب في عقلية الإحتلال والتوسّع الراسخة في أذهان القيادات الصهيونية، ضمن ما بات يعرف بنظرية «كي الوعي» والمقصود بها صرف العرب عموماً والفلسطينيين خصوصاً عن التفكير بالتحرر والسيادة واستعادة الأرض المسلوبة

• سبق للعرب أن طرحوا مبادرتهم للتسوية والصلح مع كيان العدو ولكن هذا الأخير ردّ بالرفض والإجتياحات المتكررة لفرض الأمر الواقع من الإحتلال والتوسّع الإستيطاني، وبقي الحديث عن المفاوضات مجرد وسيلة للتطبيع الإحتيالي مع الدول العربية وتكريس مشكلتي الإحتلال واللاجئين الفلسطنيين.

 • أدى الإحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة العام 1967، الى وضع إسرائيل في حالات توتر  دائم وتعقيدات دائمة على جميع المستويات السياسية والإجتماعية والإقتصادية والأمنية والعسكرية، خصوصاً في ظل تعطيل أية تسوية سياسية جدية لمشكلة هذا الإحتلال.

 

في ظل أجواء الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني الدامي على مدى السنوات الطوال الممتدة منذ العام 1967 وحتى الآن، وبصورة خاصة منذ العام 1987 تاريخ إندلاع الإنتفاضة الفلسطينية الأولى، ومن ثم الإنتفاضة الثانية العام 2000، تحوّل هذا الصراع الى الموضوع المركزي الذي يشغل بال الساحة السياسية الإسرائيلية برمّتها  الى حد إقصاء مواضيع حيوية أخرى تحتل في دول العالم المتقدم بؤرة النقاش العام مثل موضوعات السياسة الإجتماعية والإقتصادية، الى الهامش.

وفي الوقت الذي تعتبر مثل هذه المواضيع (الإجتماعية والإقتصادية) هي المواضيع التي تميّز في الدول المتطورة والمستقرة ما بين المعسكرات السياسية الرئيسة (اليسار واليمين)، فإن الموضوع الأساسي والفاصل في إسرائيل هو موضوع السياسة الواجب اتباعها تجاه الموضوع الفلسطيني الشائك أرضاً وشعباً ومن ثم مقاومة، مع ما يرتّبه هذا الموضوع من إفرازات وتداعيات ومضاعفات محلية وإقليمية ودولية. والجدير بالملاحظة هنا هو أن هذا الصراع قد أنتج أول حادث إغتيال سياسي على مستوى رفيع في إسرائيل إذ تمّت تصفية رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق إسحق رابين العام 1995 بسبب توقيعه على إتفاق أوسلو العام 1993 مع منظمة التحرير الفلسطينية.

لقد أدى الإحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة العام 1967، الى وضع إسرائيل في حالات توتر دائم وتعقيدات دائمة على جميع المستويات السياسية والإجتماعية والإقتصادية والأمنية والعسكرية، خصوصاً في ظل تعطيل أية تسوية سياسية جدية لمشكلة هذا الإحتلال. وفي المجال العسكري بالذات تمّ تشكيل لجنة خاصة مهمتها مراجعة تداعيات الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني على الميزانية العسكرية ترأسها الدكتور داڤيد برودت. وقد أصدرت اللجنة توصياتها في هذا الخصوص في شهر أيار من العام 2007 ومما جاء فيها: «... الجبهة الفلسطينية تحتاج الى موارد كبيرة... ويبدو أن المستويين السياسي والعسكري على حد سواء لم يستوعبا التكاليف البديلة المرتفعة الناجمة عن التحويل الدائم للموارد لصالح هذه الجبهة... والرؤية الأمنية المستقبلية تشهد على أن هذه الجبهة ستبقى مركزية وذات وزن أكبر في المستقبل».

ويضيف الدكتور برودت ايضاً: «سيستمر الجيش الإسرائيلي في توظيف موارد كبيرة في هذه الساحة في السنوات المقبلة ايضاً... ويبدو أن ثمة عملية تضخّم فوضوية لهذه التكاليف نظراً الى أنّ عناصر المقاومة مصممون على الإستمرار في ما يشبه سباق التسلح أو ميزان الرعب... الأمر الذي استدعى إقامة جدار أمني بلغت تكاليفه أكثر من 13 مليار شيكل. وهذا الجدار أثبت فاعليته في الضفة الغربية ولكنه فشل في قطاع غزة مع استمرار إطلاق القذائف الصاروخية واستخدام الأنفاق، الأمر الذي فرض على المؤسسة الأمنية الإسرائيلية العمل على تطوير ردود إزاء هذه التهديدات، ولكن تكلفة الوسائل الدفاعية والهجومية مرتفعة جداً... وخصوصاً من ناحية ضرورة تحويل موارد عسكرية بصورة مستمرة ومن دون وجود فرصة ملموسة في الأفق. وهذا التطور المهم لم يتم استيعابه كما يجب، وأحد أسباب ذلك أن جزءاً كبيراً من التكاليف لم ينعكس بشكل كامل وصريح في الميزانية الأمنية ذاتها».

يتبين من هذه الإستنتاجات العلمية أن معادلة الإحتلال والمقاومة قد شكّلت مصاعب جمّة أمام ميزانية الدولة عموماً وليس فقط بسبب حجم الإنفاق الأمني. ففي فترة الإنتفاضة الثانية (إنتفاضة الأقصى) عانى الإقتصاد الإسرائيلي ركوداً شديداً فتراجعت النشاطات الإقتصادية وانخفضت بالتالي إيرادات الدولة من الضرائب. وفي ضوء كل ذلك إضطرت الحكومة الى تقليص ميزانية الدولة باستثناء ميزانية الأمن، الأمر الذي أضرّ بكل ميزانيات الخدمات الإجتماعية مثل الصحة والرفاه والتعليم والسكن والضمان الإجتماعي وما الى ذلك. وكان وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق موشيه ديان يقول: إن إسرائيل لا تستطيع أن ترفع رايتين في الوقت نفسه، راية الأمن والراية الإجتماعية، والمجتمع الإسرائيلي يشاهد كل ذلك، لكنه لا يجد أو ربما لا يريد القوى السياسية الداخلية القادرة على تغيير الوضع. فالأجواء المهيمنة على إسرائيل اليوم هي أجواء التصعيد والتطرف والمزايدة خصوصاً على خلفية الفترة الإنتقالية الراهنة ما قبل إجراء الإنتخابات التشريعية العامة في العاشر من شباط من هذا العام.

فحزب «كاديما» المصنّف نظرياً بأنه من أحزاب الوسط، إلا أنه في الواقع حزب يزايد في تطرّفه على حزب الليكود، خصوصاً وأنه وُلد على أيدي رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق آرييل شارون المعروف بتاريخه الإرهابي والدموي والذي إنشق عن حزبه الأم حزب الليكود. الأحداث التي يشهدها قطاع غزة من حصار وحرب وقتل وتدمير إنما تصب في النهاية في عقلية الإحتلال والتوسّع الراسخة في أذهان القيادات الصهيونية برمتها السياسية والعسكرية على حد سواء، ضمن ما بات يعرف بنظرية «كي الوعي» التي ابتكرها رئيس الأركان الأسبق الجنرال موشيه يعالون، والمقصود بها هو صرف العرب عموماً والفلسطينيين خصوصاً عن مجرد التفكير بالتحرر والسيادة واستعادة الأرض المسلوبة. ونحن لا ننسى بأن الحرب الإجرامية على لبنان العام 1982 إنما كانت تحت شعار القضاء المبرم على منظمة التحرير الفلسطينية بشخصيتها السياسية والعسكرية من أجل تأبيد السيطرة على الضفة الغربية بكاملها بما فيها مدينة القدس بشقيها الشرقي والغربي. والحرب التي شنّها الثلاثي أولمرت وليفني وباراك على قطاع غزة إنما ترمي الى الهدف الإستراتيجي البعيد المدى وهو وضع حدّ نهائي لحلم الفلسطينيين بقيام دولة قابلة للحياة في أراضي الضفة والقطاع التي إحتلت العام 1967، وترك المجال فقط أمام كانتونات معزولة ومحاصرة هي بمثابة سجون كبيرة لا كرامة لإنسان فيها ولا حياة.

وهذه الحقائق تجعل من عمليات التفاوض جنباً لجنب مع عمليات التدمير والإبادة الجماعية في قطاع غزة بنوع خاص، مجرد عمليات تضليل وذرّ الرماد في العيون، وكأن إسرائيل تريد «السلام» في حين أن المقاومة الفلسطينية هي التي تخرّب فرص هذا السلام الموهوم والمزعوم!! ونحن نرى أن القيادات الإسرائيلية التي فشلت في سياستها هذه في لبنان بفضل تضافر جهود الدولة والجيش والمقاومة والشعب وأدّت الى انتصاري عامي 2000 و2006، إنما تكرّر التجربة نفسها في الأراضي الفلسطينية وهي حتماً واصلة الى النتيجة نفسها ولو بأثمان باهظة في الضحايا والتضحيات الإنسانية والمادية. لقد سبق للعرب أن طرحوا مبادرتهم للتسوية والصلح مع كيان العدو ولكن هذا الأخير ردّ بالرفض والإجتياحات المتكررة لفرض الأمر الواقع من الإحتلال والتوسّع الإستيطاني، في حين بقي الحديث عن المفاوضات مجرد وسيلة للتطبيع الإحتيالي مع الدول العربية وتكريس مشكلتي الإحتلال واللاجئين الفلسطنيين على ما هي عليه وحيث ما هي عليه.