رحلة في الإنسان

المقدرة على التكيّف بين الوراثة والبيئة والتدريب الذاتي
إعداد: غريس فرح

التكيّف من الناحية البيولوجية هو المقدرة على معايشة الضغوط والتخفيف من وقعها بأساليب نابعة من الذات. وباعتبار أن المصاعب الحياتية الخارجة عن السيطرة تضر بالصحة النفسية والجسدية، يصبح من الضروري التعمق بمعرفة أسس التكيّف، وخصوصًا في حال الافتقار إليها في بنية الشخصية.
ما هي هذه الأسس، وكيف نسعى إلى اكتسابها من أجل حياة أكثر نجاحًا وسعادة؟

 

التكيّف مفتاح النجاح
حسب ما أكده أحد مؤسسي مركز التدريب على مواجهة الضغوط، فإن المقدرة الذاتية على التكيّف، توصل إلى النجاح بمقدار يفوق جميع الوسائل الأخرى المتاحة، وفي مقدمها الخبرة والتعليم العالي.
وهذا يعني أن مدى تحمّل الشخص المعني للمصاعب، يعتمد على بنيته الخاصة، بالإضافة إلى العوامل الخارجية المؤثرة في نمو شخصيته. والمثال على ذلك أن بعض الأشخاص يرزحون تحت أوزار الفقر أو المرض، بينما يتمكن آخرون من التعايش معهما بصبر وروية، وهذا يعود إلى مدى تفاعل قدراتهم الكامنة مع مستجدات الحياة.
نجد غالبًا في المقالات المنشورة في الصحف حول الضغوط، عددًا من الإرشادات المتعلقة بتجنبها أو التخفيف من حدتها، وهذا يعطي فكرة واضحة عن مساوئ الضغوط وتأثيرها السلبي على الإنسان. لكن يبدو أن الدراسات الحديثة أصبحت اليوم تنظر إليها باعتبارها اختبارًا مفيدًا يدرب على اكتساب القوة والثقة بالنفس، ويجنب التعثر في الحياة، والانهيار أمام أتفه مشكلة.

 

التكيّف والعوامل المؤثرة فيه
تعتبر المقدرة على التكيّف وراثية، والدليل أن بعض الأطفال لا يجدون منذ أعوامهم الأولى مشكلة في التقرب من الغرباء، بخلاف الغالبية منهم الذين ينفرون من ذلك.
ويتم العمل حاليًا على الكشف عن العوامل البيولوجية الكامنة وراء هذه المقدرة، بالإضافة إلى المؤثرات البيئية التي تؤدي دورها في هذا المجال. ولا ينسى الباحثون التدريب الذاتي من أجل تأهيل الشخصية، وتهيئة المعنيين لتقبّل المتغيرات السلبية.
بالنسبة إلى العوامل البيئية، يتم التركيز حاليًا على أهمية الدعم الاجتماعي والعائلي والذي من شأنه تحصين المقدرة على المواجهة في الأوقات الصعبة، كفقدان الوظيفة أو المال، وكذلك الفراق في حال موت أحد أفراد العائلة. فالدعم في مراحل حياتية كهذه، يعزّز الثقة بالنفس، ويعطي الفرصة المناسبة لمواصلة الجهد، بدلًا من الرزوح تحت وطأة الصدمة، حتى لو كان المعني يملك القدرات الذاتية الكافية.

 

استراتيجيات التكيّف
في كتاب التكيّف، ضمّ علم تحمّل التحديات الذي وضعته مجموعة من أساتذة جامعة يال الأميركية «Yale»، تسمية عشر استراتيجيات من شأنها تقوية عملية التكيّف، وهنا إشارة إلى كل منها على حدة.

 

• طريقة التفكير:
تعتبر المقدرة على التحكم بمشاعر الخوف والغضب، مهمة في ما يخص فعالية التكيف مع الضغوط. والمعروف أن احتواء المشاعر السلبية في حال خروجها عن السيطرة، يؤثر بعمق على التفكير الواضح والقرارات العقلانية. ومن هنا أهمية التدرّب على احتوائها بالسبل المناسبة، وهو ما يوصل أصحابها إلى حالة توازن مزاجي، الأمر الذي يتسبب بتغيير جذري في عمل خلايا الدماغ، وصولًا إلى وضوح في الرؤية وتفكير سليم.
ويؤدي إعادة تقييم الذات والمواقف، إلى نظرة أكثر إيجابية للأمور العالقة، ما يسهّل مواجهتها.
إلى ذلك، فإن التركيز الفكري في حال تزامن مع الإستراتيجية السابق ذكرها، يعتبر أحد أهم العوامل المشاركة في السيطرة على المشاعر. وهذا يتأمن من خلال الممارسات الروحانية كالتأمل والصلاة.

 

• النصف الملآن أم النصف الفارغ:
إضافة إلى معالجة المشاعر السلبية، فإن بذل الجهد من أجل تحفيز التفكير الإيجابي، من شأنه أن يعزز المقدرة على تذليل العقبات.
فإحلال التفاؤل مكان التشاؤم أو محاولة رؤية الجانب الملآن من الكأس بدلًا من التركيز على النصف الفارغ منه، يخفّف من التركيز على الذات، ويؤدي مع الوقت، وبمساعدة التدريب الذاتي المتواصل، إلى اكتساب نظرة أكثر اتساعًا وشمولية.

 

• التمارين الرياضية:
يؤكد الباحثون دور التمارين الرياضية في تعزيز المقدرة على التكيّف، فهي تخفف من حدّة القلق والمبالغة في الخوف، كما تغذي الذاكرة وتساعد في اتخاذ القرارات الصائبة بالسرعة المطلوبة، كونها تؤمن وضوح الرؤية. وهذا يتم نتيجة عدة تغيرات تحدثها المثابرة على الرياضة ومنها، تعزيز هرمون الاندوفزين، ورفع مستوى الناقلات العصبية الدماغية كالسيروتونين والدوبامين التي ترفع المعنويات وتخفف من عوارض الاكتئاب، بالإضافة إلى أنها تخفض إفراز هرمون الكورتيزول الذي تغذيه الضغوط ويضر بالصحة.

 

• الدعم العامل الأهم:
كما سبق وأشرنا، فإن تنمية شبكة العلاقات الاجتماعية والصداقات الحميمة تعتبر ضرورية إلى جانب الدعم العائلي، في حال توافره. وقد أجريت دراسة العام 1998 في جامعة بوستون الأميركية (Boston)، ثبت من خلالها أن الصحة الجيدة والمعنويات المرتفعة يقترنان عمومًا باتساع شبكة العلاقات. والسبب أن الثقة العالية بالنفس التي يتحلى بها الاجتماعيون، تعزز إفراز هرمون الإكستوسين الذي يخفف القلق، ويمنح شعورًا بالاستقرار والأمان. لذا، ينصح المفتقرون إلى مقدرة التكيّف، باللجوء إلى المقربين منهم في لحظات الشدة. فالدعم الذي يقدمه هؤلاء، بالتزامن مع الدعم العائلي، يؤمن مقدرة على الاحتمال تفوق التصّور، ويحوّل الصدمات وويلاتها إلى باقات أمل.