- En
- Fr
- عربي
دراسات اقتصادية
لم تعد المكتبات العامة في العصر الحديث مجرّد أماكن تُحفظ فيها الكتب والمراجع، وتُتاح للزوّار فقط، بل تحوّلت بفعل التطوّر التكنولوجي وتدفّق المعلومات، إلى منصات معرفية رقمية تمكّن الجميع من الوصول إلى مصادر معلومات موثوقة، وتدعم التنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في العالم. إلى ذلك، باتت المكتبات تؤدّي دورًا محوريًا كمراكز للتعلّم مدى الحياة، وكمساحات تفاعل ونقاش، تُخصّص لجيل الشباب تحديدًا خدمات رقمية ومواد تحاكي وسائل تعلّمهم، كالكتب والمجلات الرقمية المتخصصّة1، وقواعد البيانات، والمنصّات التعليمية التي تساعدهم في تطوير مهاراتهم.
في إطار سعيها لاستقطاب الشباب، تُركّز المكتبات العامة على تنظيم أنشطة تفاعلية مثل ورش العمل، والدورات التدريبية، وجلسات الحوار حول قضايا معاصرة، إلى جانب المسابقات الثقافية، واللقاءات والندوات، التي تتيح لهم التعبير عن طاقاتهم واستكشاف اهتماماتهم بطرقٍ مبتكرة.
يُذكر في هذا السياق، أنّ البيان المشترك الصادر في العام 2022 عن الاتحاد الدولي لجمعيات ومؤسسات المكتبات الإفلا IFLA – International Federation of Library Associations and Institutions ومنظمة اليونسكو، أعاد التأكيد على أهمّية المكتبات العامة في ضمان الوصول العادل إلى المعرفة والمعلومات للجميع، لافتًا إلى دورها المحوري في تمكين المجتمعات وتعزيز التعلّم مدى الحياة، فضلًا عن تشجيع الإبداع، والمشاركة في الحياة الثقافية والاجتماعية. كما أشار إلى دورها البارز في دعم التعليم المستمرّ وتوفير الموارد اللازمة للتعلّم والتطوير المهني2.
إلى ذلك، شدّد البيان على حق الجمهور في الوصول إلى المعلومات كعنصرٍ أساسي لتحقيق العدالة الاجتماعية وتقليص الفجوة المعرفية.
المصدر: أهمية المكتبات العامة في المجتمع – المكتبات العامة: إثراء المجتمع بموارد تجمّع مشتركة
تقاطع مع أهداف التنمية المستدامة
تُشكّل المكتبات العامة اليوم، دعامة رئيسية في تحقيق التنمية المستدامة وفق الرؤية التي وضعتها أجندة 2030، إذ تسهم في تحقيق العديد من الأهداف التنموية من خلال: تعزيز وصول الجمهور إلى المعلومات، توفير التقنيات، ودعم التعلم مدى الحياة. وهي تركّز بشكلٍ خاص على الأهداف الآتية3:
– الهدف 4: ضمان التعليم الجيد المنصف والشامل للجميع وتعزيز فرص التعلّم مدى الحياة، عبر تمكين جميع الشباب ونسبة كبيرة من البالغين، رجالًا ونساءً، من إتقان مهارات القراءة والكتابة والحساب بحلول العام 2030.
– الهدف 5: تحقيق المساواة بين الجنسين وتمكين النساء والفتيات من خلال تعزيز استخدام التقنيات التمكينية، وبخاصةٍ تقنية المعلومات والاتصالات.
– الهدف 8: دعم العمل اللائق والنمو الاقتصادي، عبر تطوير مهارات الأفراد وتعزيز ثقافة العمل والمعرفة، ما يرفع من قدراتهم ويرسّخ المعرفة التي تساعدهم على تحسين وضعهم الاقتصادي.
– الهدف 10: الحدّ من أوجه عدم المساواة، إذ تتيح المكتبات للجميع، بما في ذلك الفئات الضعيفة والمهمّشة، الوصول الحر للمعلومات ما يسهم في تقليص الفجوات الاجتماعية والاقتصادية.
– الهدف 11: جعْل المدن والمستوطنات البشرية شاملة للجميع، وآمنة وقادرة على الصمود ومستدامة، وذلك من خلال تعزيز الجهود الرامية إلى حماية التراث الثقافي والطبيعي العالمي وصونه، ما يعزز الوعي الجماعي بقيمته.
– الهدف 12: الاستهلاك والإنتاج المسؤولان، فالمكتبات تُعزز أنماط الاستهلاك والإنتاج المستدامة، عبر نشر التوعية وتنظيم الأنشطة والبرامج الترويجية التي تهدف إلى الحفاظ على الموارد وتقليل النفايات.
– الهدف 13: العمل المناخي، تسهم المكتبات في نشر الوعي حول القضايا البيئية والتغير المناخي من خلال تنظيم ورش العمل والندوات والمعارض، وتحفيز المجتمع على اتخاذ خطوات إيجابية تجاه البيئة.
– الهدف 16: السلام والعدل والمؤسسات القوية، إذ تعمل المكتبات على دعم مؤسسات المجتمع المدني من خلال توفير المعلومات، وتعزيز حرية التعبير والوصول إلى مصادر المعرفة، ما يسهم في بناء مجتمعات عادلة وآمنة.
– الهدف 17: تعزيز الشراكة لتحقيق الأهداف، تتيح المكتبات فرصًا للتعاون بين المؤسسات التعليمية والمجتمع المحلي والمنظمات الحكومية وغير الحكومية لتعزيز جهود التنمية المستدامة وتحقيق أهدافها.
المعارف المالية والاقتصادية وثقافة المواطنة
كشفت الأزمات المالية المتعاقبة عن عدم جاهزية الأفراد عالميًا للتعامل مع تعقيدات القطاع المالي والتكنولوجي المتزايدة، ما عزّز الحاجة إلى ترسيخ المعارف المالية كمهارةٍ حياتية أساسية. وفي العام 2008، اتّفقت الحكومات على ضرورة تطوير المعرفة المالية للمواطنين ليصبحوا أكثر وعيًا بالمخاطر والفرص وأكثر قدرة على إدارة شؤونهم المالية بفعالية. تزداد أهمية هذه المهارة في الاقتصادات النامية، حيث يُسهم الإلمام بإدارة المال في فهم الأفراد لتحدّيات الإصلاح الاقتصادي، وتعزيز قدرتهم على المشاركة في السياسات العامة بشفافيةٍ، بالإضافة إلى تشجيع الشباب على الانخراط الفاعل في مجتمعاتهم.
يُسهم التثقيف الاقتصادي والمالي في سن مبكّرة في إكساب المتعلّمين مفاهيم اقتصادية أساسية، مثل: الموازنة، الضرائب، الدين العام، العرض والطلب، والإنتاج والاستهلاك، والادخار، وكيفية تأثير هذه المفاهيم على حياتهم اليومية. كما يساعد في تطوير مهارات مهمّة، مثل التخطيط المالي وإدارة الميزانية الشخصية، بالإضافة إلى تنمية حس المواطنة لديهم وتعزيز قدرتهم على المشاركة الفعّالة في النشاط الاقتصادي وإبداء الرأي في القضايا والمشكلات الاقتصادية، واقتراح الحلول المناسبة.
دور المكتبات في تعزيز الثقافة المالية
في هذا السياق، تؤدي المكتبات العامة المتخصّصة في المواضيع المالية والاقتصادية، مثل مكتبة معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي، دورًا محوريًا في نشر الوعي المالي بين المواطنين. إذ تعتمد استراتيجيات متقدّمة لتعزيز الثقافة المالية، ساعية إلى تمكين الأفراد، ولا سيما جيل الشباب، من اكتساب المعرفة الضرورية لاتخاذ قرارات مالية مستنيرة تضمن لهم الاستقرار المالي.4
من أبرز هذه الاستراتيجيات، تقديم برامج تثقيفية شاملة تغطّي موضوعات أساسية مثل: التخطيط المالي، إعداد الميزانية، استراتيجيات الادّخار، الاستثمار، وإدارة الديون، بهدف إرساء قواعد متينة تساعد الأفراد في تقليل المخاطر المالية الشخصية وتعزيز استقرارهم المالي بشكلٍ مستدام.
إلى جانب البرامج التعليمية، تنظّم المكتبات المتخصّصة ورش عمل وندوات تتناول قضايا مالية واقتصادية ملحّة، يشارك فيها خبراء ومتخصصون لتقديم محتوى تفاعلي غني يتيح للمشاركين تبادل الأفكار ومعالجة التحدّيات المالية من خلال تجارب تطبيقية ونقاشات معمّقة. وتُسهم هذه الأنشطة في تعميق استيعابهم للمفاهيم المالية، مما يعزّز قدرتهم على تطبيقها بفعالية في حياتهم اليومية.
تعتمد المكتبات المتخصّصة أيضًا على شراكات استراتيجية مع جهاتٍ متنوّعة، كالوزارات ومراكز التدريب في القطاع العام، والمؤسسات المصرفية والمنظمات المجتمعية في القطاع الخاص. ويثمر هذا التعاون في مجال تطوير برامج وخدمات تعليمية متكاملة، تعزّز قدرة المكتبات على الوصول إلى شرائح متنوّعة من المجتمع، مما يوسّع انتشار الثقافة المالية.
وفي إطار إغناء الأجيال الشابّة بالمعارف المالية، تعمل المكتبات المتخصّصة على بناء شراكات مع المؤسسات التعليمية مثل المدارس والجامعات، ضمن استراتيجية طموحة تهدف إلى إدراج الثقافة المالية في المناهج التعليمية منذ المراحل المبكّرة. ومن خلال هذه المبادرة، يكتسب الطلاب مهارات الإدارة المالية ما يؤهّلهم لاتخاذ قرارات مالية ذكية، تُسهم في تمكينهم من إدارة مواردهم بوعي ومسؤولية، وتُمهّد الطريق لجيلٍ يتمتع باستقرارٍ مالي ورؤية اقتصادية واعدة للمستقبل.
المعرفة المالية لدى الشباب في العالم
كشف تقرير برنامج تقييم الطلاب العالمي PISA 2022-Programm for International Student Assessment5 في مجال التربية المالية، الصادر عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في حزيران 2024، عن فجوات مقلقة في المعرفة المالية لدى الشباب. فقد أظهرت الدراسة، التي شملت نحو 100 ألف طالب من 20 دولة، أنّ 20% من الطلاب يفتقرون إلى الكفاءة المالية الأساسية، فيما تتصف المهارات المالية لدى 18% من الطلاب في دول المنظمة بالمحدودية، ولم يتجاوز الـ 11% منهم المستوى المتقدّم في هذه المهارات. كما أظهرت الدراسة أنّ الوضع الاقتصادي للطلاب يؤثر بشكلٍ كبير على أدائهم، إذ حقق الطلاب في الأسر الميسورة نتائج أفضل بكثير من نظرائهم في الأسر ذات الدخل المحدود، مع فارق يزيد عن 100 نقطة في بعض البلدان.
نحو جيلٍ متمكّن ماليًا
في ظل التحديات المتزايدة التي يواجهها الشباب في إدراك المفاهيم المالية والاقتصادية المعقّدة، يسعى معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي6 إلى سدّ هذه الفجوة، من خلال مبادرات تعليمية مبتكرة تهدف إلى تمكين الشباب من بناء مستقبل مالي قوي ومستدام. ومن أبرز هذه المبادرات:
– «المكتبة المالية» التي تتجاوز دورها التقليدي كمصدرٍ للمعرفة، لتشكّل فضاءً ديناميكيًا يُعزّز المعرفة المالية ويُمكّن الشباب من الوصول إلى مصادر معلومات متنوّعة ومتجدّدة.
– تنظيم حلقات حوار في الجامعات والمعاهد لمناقشة القضايا الاقتصادية والمالية المعاصرة، مع شرح مبسّط وعميق للمفاهيم الاقتصادية المعقّدة مثل الاقتصاد الكلّي والجزئي، والسياسات المالية والنقدية.
– برنامج «ما لك… وما عليك»، الذي انطلق في العام 2004 بهدف تعريف الشباب بحقوقهم وواجباتهم المالية، وتزويدهم المعرفة الضرورية لإدارة مواردهم الشخصية بكفاءةٍ وفعالية. وقد نجح هذا البرنامج في إرساء أسس جديدة في التعليم المالي، وعزّز الروابط بين المعهد والشباب اللبناني، مُسهمًا في نشر الوعي المالي وتعزيز التفاعل بين الأجيال القادمة والمؤسسات المالية.
من التوعية إلى التطبيق العملي
أظهر تفاعل الشباب مع أنشطة المعهد ضعفًا ملحوظًا في إلمامهم بقضايا إدارة المال العام، وقدرتهم على تقدير المخاطر والتخطيط المالي للمستقبل. وبناءً على هذه الاحتياجات، اتّبع المعهد مقاربة علمية تتماشى مع الواقع اللبناني وتتوافق مع الجهود العالمية، مثل شبكة التربية المالية الدولية التابعة لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD-INFE)، فركّز على تطوير محتوى يستهدف الفئات الشابة، عبر سلسلة من الإصدارات التي تزودهم المعرفة والمهارات الضرورية، من بينها:
– كتيّب «ليش مندفع ضرايب؟»7 الذي قُدّم بأسلوب الحوار المصوّر بين شخصيتي «جنى» و«رابح»، موضحًا علاقة المواطن بإدارة المال العام، ومسلّطًا الضوء على العديد من القضايا غير الواضحة لكثير من الشباب.
– اللعبتان التثقيفيتان «فلوس» – Game of Floos و«بيغ بانك»
Big Bank، وتهدفان إلى تعزيز الوعي المالي بأسلوبٍ تفاعلي.
– سلسلة «أدلة المواطن»، التي تقدم شرحًا واضحًا حول حقوق الشباب وواجباتهم، والإجراءات الضريبية، والنصائح المالية، بأسلوبٍ مبسّط يعزّز الوعي المالي.
– كتيّب «موازنة المواطن والمواطنة»، الذي يستهدف المجتمع بأكمله، ويعتمد على بيانات الموازنة اللبنانية المقرّة في مجلس النواب. يتيح هذا الكتيّب تبسيط التوجّهات المالية للحكومة ويسلّط الضوء على البنود الإصلاحية، ما يمنح المواطنين القدرة على المتابعة والمساءلة استنادًا إلى معلومات موثوقة.8
– أدوات إلكترونية معرفية تهدف إلى استخدام التكنولوجيا لإيصال المعرفة المالية، وتشمل اختبارات مالية واقتصادية نُشرت على موقع المعهد الإلكتروني وبعض وسائل الإعلام.
– منصّة تفاعلية بعنوان، «Lebanon Citizen Budget Dashboard»9 توفّر بيانات الموازنة العامة لمساعدة المهتمين، من مواطنين وأكاديميين ومنظمات، على فهم أبرز المعطيات المالية.
– أفلام تعليمية قصيرة متاحة على قناة YouTube10 الخاصة بالمعهد، بهدف تبسيط المفاهيم المالية والاقتصادية وجعلها جاذبة وسهلة الوصول للشباب.
– حلقات تثقيفية إذاعية أطلقتها المكتبة المالية ضمن برنامج «الجندي» من إعداد مديرية التوجيه في الجيش اللبناني، تناولت عبر أكثر من 110 حلقات، مفاهيم مالية واقتصادية وضريبية، ومواضيع حول الشراء العام والتنمية المستدامة11،متاحة على قناة Youtube الخاصة بالمعهد.
– مقالات متخصصّة تُنشر في مجلة «الجيش»، وتسهم في نشر الوعي المالي والاقتصادي ضمن قطاعات متعدّدة.12
تسعى هذه الجهود مجتمعة إلى تكريس دور المعهد المالي كجسرٍ يربط بين الشباب اللبناني والمعرفة المالية، ما يمكّنهم من اتخاذ قرارات مالية مدروسة وبناء مستقبل مالي مستدام.
نشاطات معهد باسل فليحان المالي المخصّصة للشباب
في إطار سياسته الهادفة للتقريب بين الجيل الشاب والدولة ينظّم المعهد سنويًا سلسلة نشاطات منها:
– استقبال مجموعة من الطلاب في المعهد، في دورات تدريب ميداني تراوح بين الشهر والشهرين.
– تنظيم ورش العمل السنوية تحت عنوان «ما لك… وما عليك» ضمن برنامج تثقيفي مالي واقتصادي بمشاركة 3000 طالبٍ وطالبة من 25 جامعة و6 مدارس من لبنان.
– بمناسبة شهر الفرنكوفونية، ينظّم المعهد سنويًا مسابقة «الإملاء المالية» بالتعاون مع المركز الفرنسي في لبنان وجمعية FIWI للتثقيف المالي. تشكّل هذه المسابقة أداة لتعلّم المفردات المالية والاقتصادية باللغة الفرنسية وتجمع متبارين من المدارس والجامعات.
– المشاركة في معارض فرص العمل (Job Fair Exhibition).
– المشاركة في معارض الكتب، معرض الكتاب العربي، معرض الكتاب الفرنسي، ومعرض انطلياس للكتاب.
تعريف بالتربية المالية والاقتصادية كما ورد في أدبيات منظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD13 والشبكة الدولية للتثقيف المالي INFE14
هي عملية تحسين إدراك المستهلكين والمستثمرين للخدمات والمنتجات المالية المتاحة والمخاطر المرتبطة بها، من خلال تقديم المعلومات والإرشادات المالية أو النصائح المالية الموضوعية. وتهدف هذه العملية إلى تطوير مهاراتهم وزيادة ثقتهم بالخدمات المالية، لتعزيز وعيهم بالفرص والمخاطر المالية وتمكينهم من اتخاذ قرارات مستنيرة. كما توضح لهم الجهة المناسبة للاستشارة عند الحاجة، وتشجّعهم على اتخاذ خطوات فعّالة لتحسين رفاههم المالي. وتشير مبادئ منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أيضًا إلى أنّ التربية المالية يجب أن تبدأ في سن مبكّرة خلال التعليم المدرسي، وذلك من خلال مناهج تربوية تمكّن الأجيال من اكتساب المعارف والمهارات اللّازمة لتطوير سلوك مالي مسؤول في المستقبل.