حوار الحضارات

المكتبة الوطنية الفرنسية
إعداد: هيام كيروز / باريس

خزّان معرفي يفيض بعصارة الفكر الإنساني والإرث العربي المشرقي يشهد لحوار الحضارات

 

تعتبر المكتبة الوطنية الفرنسية من أبرز المعالم الحضارية في العالم. وهذه المكتبة العريقة التي كوّنت على مدى قرون طويلة، تضّم اليوم ملايين المجلدات والكتب ومئات الآلاف من المخطوطات، إلى الوثائق والصور والمقطوعات الموسيقية، والأفلام ونماذج عن العملات والأزياء وسوى ذلك. باختصار هي أشبه بخزان معرفي تتجمع فيه عصارة الفكر والحضارة الإنسانية.


مسيرة قرون
النواة الأساسية للمكتبة تكوّنت خلال عهد الملك لويس الحادي عشر بفضل دمج مكتبات الملوك الخاصة، وأخذت بعد ذلك بالتوسّع. خلال الحرب العالمية الثانية وزّعت محتوياتها في عدة مناطق لحمايتها من الدمار والضياع، وفي عهد الرئيس فرنسوا ميتران تمّ بناء المقر الجديد لـ«المكتبة الفرنسية الوطنية» BNF في باريس (دشنه ميتران في العام 1996، وافتتح خلفه الرئيس جاك شيراك المكتبة في العام نفسه).
صمّم البناء المهندس الفرنسي دومنيك بيّرو وفق رؤية إبداعية تؤمّن استمرارية الذاكرة من الماضي إلى الحاضر فالمستقبل، وتراعي في آن الشروط الصحية والبيئية والجمالية والثقافية. يتألف البناء من أربعة أبراج شاهقة تتخذ شكل أربعة كتب تطلّ على نهر السين، تتّوسطها حديقة واسعة تنسجم ملامحها مع ملامح «عاصمة النور»، وترتقي إلى عراقتها.
في المكتبة الفرنسية الوطنية قسم يعتبر لؤلؤة في هذا التاج الفكري، إنه القسم العربي والمشرقي والسرياني الذي يضم مآثر من فكر الشرق وعلومه. وعلى رأس هذا القسم الدكتور سمير خير الله اللبناني من قرية مراح الزيات. فكيف قادته الظروف إلى هناك؟
يروي لنا الدكتور خير الله أن القصة بدأت عندما سمع من رجل عجوز عن الصحافي خيرالله طنوس خيرالله أحد المناضلين لاستقلال لبنان ولتحرير الشعوب العربية من الاحتلال العثماني. وهو كان صحفيًا في جريدة Le Temps الفرنسية بين 1910 و1930، وقد كان في عداد المشاركين في مؤتمر باريس (1913) إلى جانب عبد الحميد الزهراوي واسكندر عمّون وشارل دبّاس وأيوب تابت وسليم سلام وأحمد مختار بيهم وغيرهم... وقد حكم عليهم جميعًا بالإعدام. ويضيف: استحوذ التعمق بهذه الشخصية على فكري، خصوصًا وأنني كنت قد بدأت دروسي الجامعية في التاريخ، ولم أر كلمة واحدة عن هذا الإسم في كتب تاريخ لبنان.
في العام 1978 سافرت إلى باريس وأعددت رسالة الماجستير في التاريخ معتمدًا على المراجع المتوافرة في المكتبة الوطنية الفرنسية. وبعد ثلاث سنوات عدت مجددًا إلى باريس لإعداد رسالة الدكتوراه حول خيرالله خيرالله, الكاتب والمناضل، الذي عندما حكم عليه جمال باشا بالإعدام، وجّه له رسالة يقول فيها: «لقد حكمتم عليّ بالإعدام وأنا أحكم على دولتكم بالانقراض في القريب العاجل». وهو الذي أنشأ مع يوسف السودا واسكندر عمون وعدد من الصحافيين اللبنانين والعرب، أول نقابة صحافة في العالم العربي والشرق الأوسط (في نهاية العام 1912). وقد أشار إليه الرئيس الراحل بشارة الخوري في مذكّراته عندما كتب، «خيرالله خيرالله هو الذي عبّد أمامنا طريق الاستقلال».
وأضاف قائلًا: عند عودتي إلى فرنسا (1990) تقدمت بطلب للحصول على وظيفة في المكتبة الوطنية الفرنسية وهذا ما حصل، ثمّ تدرجت في الترقية وصولًا إلى المنصب الذي أشغله الآن.

المخزون العربي في المكتبة الوطنية الفرنسية
يقول الدكتور سمير خيرالله: يمثل هذا المخزون المرآة التي تنعكس عليها صورة المعرفة عند العرب، ويجمع ما أعطته الحضارات العربية من المؤلفات منذ القدم حتى اليوم، فنجد إضافة إلى كتب اللغة والأدب، المؤلفات التي صدرت في الدول العربية من فلسفة وتاريخ وجغرافيا وإتنولوجيا، إلى عدد كبير من الصحف والدوريات.
وهناك قسم يضم العديد من المخطوطات العربية والسريانية النادرة، أهمها المخطوطة الأولى التي طبعت في العالم العربي (طبعت في دير مار أنطونيوس قزحيا العام 1610)، وعنوانها «كتاب مزامير داود الملك». وفي القسم العربي من المكتبة أيضًا مخطوطات كثيرة في اللغة السريانية ووثائق حول تشكيل الدول، نشأة الطوائف في الشرق الأوسط وأدوارها، وأخرى من مدينة الموصل، ومن مدينة نمرود التي تعتبر حوضًا حضاريًا عالميًا نادرًا، بالإضافة إلى مخزون هائل حول الحضارتين الآشورية والبابلية.
ولرفد محتوى المكتبة يتم شراء الكتب من جميع دول الجامعة العربية عبر دور نشر لبنانية وعربية، حيث يتوجب على كل ناشر أن يقدم نسختين من كتابه إلى الـBNF قبل صدوره وترويجه. وثمة قسم آخر من هبات مجانية، أو من تركات يخص فيها أصحابها المكتبة الوطنية بعد رحيلهم، أو في إطار عملية تبادل مع المكتبات الوطنية في دول المشرق والجامعات العربية، والمراكز والمنظمات العربية الموجودة في فرنسا، كالمنظمة العربية للثقافة والتربية والعلوم، والمعهد العربي للدراسات. وإلى الكتب الصادرة حديثًا، تشتري المكتبة مؤلفات ومخطوطات تعرضها دور النشر، ونختار منها ما يتمتع بأهمية فكرية وحضارية.
بمخزونها الحضاري التعددي تلقي المكتبة الوطنية الفرنسية أضواء على مختلف الأديان والحضارات وكأنها تقيم حوارًا بينها. ويقول الدكتور خيرالله في هذا السياق: إنني على قناعة عميقة بريادة التعايش المسيحي – الإسلامي وفرادته، وبالقيم العربية التي سادت أيام الخلفاء الأمويين والعباسيين، وهذه القيّم تتجلى في مخزون المكتبة. لقد اكتشفت مثلًا من خلال عملي مَن هو عيسى إبن يحيى أبو سهل الجرجاني المسيحي، الذي كان معلمًا لإبن سينا في مادة الطب، وصاحب الكتاب الموسوعي: «المائة في الصناعة الطبية»، وأن أبا نصر سعيد إبن أبي الخير بن عيسى المسيحي، كان طبيبًا خاصًا للخليفة الناصر لدين الله. واطّلعت على أهمية يوحنا إبن ماسويه الذي عهد إليه هارون الرشيد بترجمة كتب الطب القديمة إلى العربية. وهناك كتب كثيرة تؤكد رقي العلاقة بين الطوائف.
عندما وصل العرب إلى الأندلس، اهتموا بالعمل الثقافي فترجموا المؤلفات اليونانية في الفلسفة والطب، ولم يتعدّوا على أبناء الطوائف الأخرى الذين كانوا يعيشون في هذه البقعة الملهمة من الأرض. وتابع المسؤولون الدينيون ممارسة شعائرهم بكل حرية، وظهر كثير من العلماء والمفكرين في الفلسفة وفي العلوم والسوسيولوجيا والإنتربولوجيا، واشتهر منهم العديدون.


مشروع
في ختام زيارتنا للمكتبة الوطنية الفرنسية، نسأل الدكتور خيرالله عمّا إذا كان لديه مشاريع ثقافية وفكرية لها علاقة بلبنان، فيقول: طموحي إنشاء جمعية تمثّل الكتّاب والمفكرين اللبنانيين الموجودين في فرنسا ومختلف الدول الأوروبية، وإنشاء مكتبة تجمع كل الكتب التي تتناول لبنان، وتأسيس مركز أبحاث ودراسسات يعالج المسائل التي تخصّ لبنان، وإنشاء صحيفة أو مجلة تختصر كل التحركات والنشاطات التي تجري في بلدان الاغتراب، وتوفير المعلومات والمعطيات عن لبنان وتحولاته.


أرقام
المكتبة الوطنية الفرنسية BNF مشروع ضخم بلغت كلفة تأسيسه 7.8 مليار فرنك فرنسي. تضم 18 مليون كتاب ومخطوطة ووثيقة، بينها كتب ومخطوطات نادرة من القرن السادس عشر و 100 ألف كتاب في اللغة العربية، وبضعة آلاف من الكتب في اللغة السريانية. تتوزع هذه الكتب والمخطوطات والوثائق على مساحة 400 ألف متر مربع من الرفوف. يؤمها يوميًا بين 5000 إلى 10000 زائر، ونحو 3000 قارئ وباحث، ويعمل فيها 3000 موظف، ويتم نقل المؤلفات إلى أيدي القرّاء بواسطة مصاعد أوتوماتيكية.
تقدّر زيادة محتويات المكتبة بـ670 ألف وثيقة سنويًا، ويمكن الاطلاع فيها على أكثر من 2.6 مليون وثيقة رقمية بصورة نصوص أو صور أو تسجيلات صوتية.