مبادرة انسانية

الملازم الأول أحمد اللبابيدي دفع بصره ضريبة تفكيك لغم ومواطن ردّ الجميل فأوهبه النور مجدداً
إعداد: جان درك ابي ياغي

الواجب يقضي بحماية المواطنين رغم المخاطر

مهمة فوج الهندسة مهمة خطرة قد تحمل الموت الى أصحابها, وكذلك قد تحمل النجاح في رفع الموت عن المواطنين. هذه المهمة التي تعتبر في جيوش العالم من أخطر المهمات, تحمل معها المجازفات وكذلك المخاطر. ولكنها في مطلق الأحوال لا تخلو من المغامرات التي قد تضع حداً فاصلاً بين الحياة والموت, كما حصل مع الملازم الأول أحمد اللبابيدي أثناء قيامه بواجبه الوطني وبمهامه الإنسانية. ماذا جرى له؟ الجواب في هذا اللقاء.

 

تاريخ محفور في القلب والذاكرة

تاريخ  8/ 8 /2001 ذكرى محفورة بأحرف نافرة في سجل الملازم الأول أحمد اللبابيدي من عداد فوج الهندسة, وبأحرف من ذهب في سجل البطولات العسكرية.
ففي ذاك التاريخ, وبينما كان الملازم الأول اللبابيدي في منطقة القنطرة ­ قضاء مرجعيون في جنوب لبنان يقوم بنزع ألغام من مخلفات الإحتلال الإسرائيلي, إنفجر على مقربة منه لغم مضاد للأشخاص وأصيب إصابة مباشرة. إلا أنه, وبفضل تمسكه بالحياة, ونظراً للتمرّس العسكري الذي هو عليه, إستطاع أن يخرج من حقل الألغام بعدما أدرك أنه أصيب في يده وفقد نظره, وكل هذه العملية استغرقت دقيقة واحدة. على أثر الحادث نقل الى مستشفى مرجعيون حيث أجريت له الإسعافات الأولية, ومنها الى مستشفى حمود في صيدا حيث خضع لبعض صور الأشعة, قبل أن ينقل بواسطة سيارة إسعاف تابعة للجيش الى مستشفى أوتيل ديو حيث أدخل على الفور غرفة العمليات لإنقاذ يده التي كانت قابلة للقطع من أسفل الكوع, إلا أن مهارة طبيب العظم سامي روكس حالت دون ذلك باستثناء السبابة الذي طار أثناء إنفجار اللغم. أما طبيب العيون بيار مرديللي فلم يكن متفائلاً جداً بعودة النظر الى الملازم الأول اللبابيدي الذي أُخضع لتسع عمليات جراحية مختلفة في محاولة لإنقاذ النظر, اثنتان منهما أجريتا في مستشفى العين والأذن في النقاش. وبقي الملازم الأول مدة شهر يقاوم الألم والأوجاع وكل المحن التي مرّ بها لمتابعة مسيرة الحياة...
ويوم 11 أيلول 2001, الذي يعتبر يوم الشؤم في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية, إلا أنه كان يوم السعد في حياة الملازم الأول أحمد اللبابيدي. ففي ذاك اليوم أجريت له أول عملية زرع قرنية في مستشفى أوتيل ديو, بعد إستحالة العلاج الطبيعي, على يد الطبيب بيار مرديللي كتجربة أولى, إلا أن نجاح العملية بنسبة مئة في المئة فاق كل تصوّر. ولم تمض الثلاثة أشهر حتى عاد النظر الى العين اليمنى من دون أي مضاعفات تذكر, وعاد الملازم الأول يرى الحياة من جديد بعين متفائلة في نجاح العملية الثانية. وتاريخ 9 شباط 2002 كان موعد عملية الزرع الثانية ولكن هذه المرة للعين اليسرى, إلا أن بعض المضاعفات رافقت إجراء العملية ما زال الملازم الأول تحت تأثيرها على أمل أن يُشفى منها قريباً (كما أكد الأطباء) من دون الحاجة الى السفر الى خارج البلاد لضرورات طبية. وبعد مرور سبعة أشهر من التعطيل القسري, عاد الملازم الأول أحمد اللبابيدي الى مزاولة عمله كالمعتاد, إبتداءً من أول آذار 2002, كآمر فصيلة الإشارة في فوج الهندسة.

 

العبرة لمن اعتبر

العبرة من هذه القصة ليست في سرد تفاصيل الحادث الذي ألمّ بالملازم الأول اللبابيدي وما رافقه من معاناة تحمّلها بصبر وصمت, شأنه شأن الأبطال الشجعان الذين لا يرزحون تحت وطأة الألم, ولا مجال لليأس أن يتسرّب الى حياتهم. إنما العبرة من هذه القصة هو “حشرية” الملازم الأول في معرفة هوية الشخصين اللذين تبرّعا بقرنيتيهما له ولم يحرماه من رؤية عائلته وأهله وأصدقائه وزملائه الضباط وكل من أحبّه وأحبّهم, مجدداً. هذا العرفان بالجميل, مع العلم أن العمل الإنساني لا يحتاج الى معرفة هوية صاحبه إذا كان نابعاً من القلب ولا منيّة فيه, أوقع الملازم الأول في حيرة من أمره لمعرفة المتبرّعين بعد رفض المستشفى ولجنة وهب الأعضاء الكشف عن إسميهما, وهذا عُرف متبّع على الجميع التقيّد به. ولم ييأس الملازم الأول من التفتيش فواصل “تحرياته”, “ومن جدّ وجد”. وعندما أمسك بطرف الخيط هان عليه الأمر بعد أن علم أن المتبرّع الأول من منطقة زحلة, فدقّ أبواب بيوت كثيرة حتى وصل الى بيت المرحوم منصور فاخوري.
وعن اللقاء الأول مع أهله يقول الملازم الأول اللبابيدي: كان اللقاء مؤثراً جداً امتزجت فيه دموع الفرح بدموع الحزن. فرح لرؤية من يحمل قرنية إبنهم وحزن على فقيد غاب ولن يروه ثانية إلا من خلالي. الأهل حاولوا مثلي معرفة الشخص الذي وهبت له قرنية المرحوم منصور ولم يفلحوا لحين وقوفي أمامهم وإخبارهم بأني أنا هو. ومنذ تلك اللحظة نشأت بيننا علاقة حميمة, وكلما أزورهم يقولون لإبنهم الأصغر: “جاء أخوك”.
أما بالنسبة الى المتبرّع الثاني المرحوم يعقوب قشير (عمره 54 عاماً), وحتى كتابة هذه الأسطر, فلم يتمكّن الملازم الأول اللبابيدي من التعرّف الى عائلته.

 

مأساة عائلة فقدت ولدها

إذا كان يوم 11 أيلول 2001 هو يوم السعد في حياة الملازم الأول أحمد اللبابيدي إذ فيه أبصر النور من جديد, فهو يوم الفراق الأبدي في عائلة أمين فاخوري التي فقدت ولدها منصور, البالغ من العمر ستة عشر ربيعاً, في حادث سير مروّع أودى بحياته مع رفيق له وإصابة ثالث بجروح بالغة. وعلى الرغم من المصاب الأليم الذي حلّ بعائلة فاخوري, فهذا لم يمنعهم من التفكير بآلام من هم على قيد الحياة ويتعذبون, فقررت العائلة مجتمعة وهب أعضاء منصور علّها تبلسم جراحهم وجراح من سيستفيد منها, كما حصل مع الملازم الأول أحمد اللبابيدي وغيره. وعندما زارت مجلة “الجيش” عائلة الفقيد بمعية الملازم الأول أحمد اللبابيدي, وعلى الرغم من مرور سنة على الحادث, وجدنا أن الجرح العميق الذي حفره منصور في قلب والديه وإخوته لا يندمل إلا عند رؤية الملازم الأول, فلا يعرف الألم والحزن طريقاً الى نفوسهم.
بعد الإستقبال الحار الذي لقيناه من قبل الأهل بادرنا السيد أمين فاخوري بالقول: “ما أصابكم غير ما كتب الله لكم”. هذا الكلام لا يصدر إلا عن أناس مؤمنين ومدركين أن مشيئة الخالق فوق كل إعتبار. وروى لنا الوالد تفاصيل الحادث واللحظات الصعبة التي عاشتها العائلة ولجان الأطباء التي شكلت في مستشفى أوتيل ديو لإنقاذ حياة منصور, إلا أن الضربة كانت قاضية بموت الدماغ واضمحلال الأمل, وكل ذلك لم يستغرق أكثر من ثمان وأربعين ساعة. وتحت تأثير الصدمة, عقد السيد أمين خلوة مع ذاته ومع ربه, وقرر أن يهب أعضاء إبنه فوضع الطبيب المختص في أجواء قراره وجمع العائلة وأطلعهم على ما هو مزمع عمله, فوافق الجميع وطلب من لجنة وهب الأعضاء المباشرة بالإجراءات اللازمة. ولم تعرف العائلة من هم الأشخاص الذين وهبت لهم أعضاء منصور. ويقول والد منصور في هذا الصدد: “في اليوم الذي أظلمت فيه عينا منصور عن هذه الحياة, أبصر الملازم الأول أحمد اللبابيدي النورمن جديد, من دون أن يعلم أحدنا هوية الواهب والموهوب إليه. وشاءت الظروف, نتيجة إصرار الملازم الأول على معرفة الواهب, أن تجمعنا بابننا أحمد وقد سبقنا في التضحية والبذل والعطاء, وكاد يفقد حياته لتأمين جو آمن خال من الألغام لسكّان البلدة”. ودعا السيد فاخوري الى وهب الأعضاء طالما أنها تنقذ حياة كثيرين, وتمنى للملازم الأول دوام الصحة والعافية, وختم بالقول: “منصور غصن من أغصان الشجرة قد هوى, ولكن الحياة مستمرة”.

 

وهب أعضاء منصور تعزية الأم الوحيدة

حال السيدة أمال, والدة منصور, لم يكن أفضل من حال زوجها إذ ما زالت تحت تأثير الصدمة, ومن أدرى بقلب الأم عندما تفقد فلذة كبدها. وعندما سألناها عن وهب الأعضاء قالت: “عندما قررنا وهب أعضاء منصور أراحتني الفكرة ووجدت فيها تعزية لما حلّ بنا. فكلما نظرت الى أحمد أرى فيه إبني, والله يخلّيه بصحتو ويحفظو لعيلتو”. وروت لنا السيدة أمال أن ما جرى معها يوم الحادث قد يفسّر أو ينبئ بحدوث مكروه ما. وقالت: “بينما كنت أقوم بتنظيف الغبار في منزلنا في زحلة, هبّ الهواء وأوقع على الأرض صورة جدّ منصور فانكسر البرواز. فطلبت من منصور إصلاحها قبل وصول والده, فتلكأ بادئ الأمر, وقبل وقوع الحادث بساعتين, أخذ الصورة الى غرفته ووضعها على سريره (من دون أن يصلحها) وأقفل غرفته بالمفتاح وخرج, ولم يعد. وعندما فتحنا غرفته, وجدنا أن الصورة لا زالت على حالها مرمية على سريره”. وطيلة فترة المقابلة, لم يتعب الأهل من التحدّث عن المزايا الحسنة التي كان يتحلى بها منصور, وفي نهاية كل عبارة كانوا يرددون: “هذه مشيئة الله”. وفي سياق الحديث عن وهب الأعضاء, قال السيد فاخوري بأن كلي منصور قد وهبت الى الشاب فرانسوا رحال من بيت مري (35 عاماً), وكان يعاني من عملية غسل الكلى مذذ كان في الخامسة من عمره.
وفي نهاية المقابلة, شكر الملازم الأول أحمد اللبابيدي عائلتي المتبرعين لتعاطيهما مع هذا الموضوع بنبل وإنسانية, وتمنى على الجميع أن يوصوا بوهب أعضائهم بعد مماتهم فيساهموا في إنقاذ الكثيرين. كما وجّه الملازم الأول شكراً خاصاً الى قائد الجيش العماد ميشال سليمان لاهتمامه الدائم به ولمواكبته لحظة بلحظة تفاصيل إصابته وإعطاء التوجيهات اللازمة, ولم ينس أن يشكر قائد وضباط فوج الهندسة لكل مساعدة قدموها.
تجدر الإشارة الى أن قيادة الجيش أوفدت لجنة من الضباط لتقديم الشكر والتقدير باسم القيادة لعائلة المرحومين منصور فاخوري ويعقوب قشير لتبرعهما بقرنيتين للملازم الأول أحمد اللبابيدي. كما زارت عائلة المرحوم منصور فاخوري قائد الجيش في مكتبه في اليرزة حيث قدّم لهم درع الجيش عربون وفاء وتقدير.