الممرات المائية وأهميتها: باب المندب نموذجًا

الممرات المائية وأهميتها: باب المندب نموذجًا
إعداد: العميد الركن المتقاعد صلاح جانبين

المقدمة
يعبّر عمومًا عن المضائق المائية بأنها ممرات ضيقة تربط بين بحرين أو محيطين، وتسهّل حركة السفن التجارية بين البحار والمحيطات، مما يقلل من مسافات الرحلات البحرية ويوفر الوقت والوقود. وتكتسب هذه المضائق أهمية كبيرة في العالم بسبب موقعها الاستراتيجي، وما تتيحه من قدرة على السيطرة الكاملة على حركة الملاحة البحرية كما هو الحال مثلًا في مضيق هرمز الذي يربط الخليج العربي ببحر العرب، ويعدّ طريقًا رئيسًا لنقل النفط. كما تتميز المضائق بأهميتها الاقتصادية والتجارية، مثل مضيق ملقة الذي يربط المحيط الهندي ببحر الصين الجنوبي، ويعدّ من أكثر الممرات البحرية ازدحامًا في العالم. من الناحية البيئية، تحتوي المضائق على تنوع بيولوجي كبير وتعدّ موطنًا للعديد من أنواع النباتات والكائنات البحرية. ولها أيضًا أهمية جغرافية وسياحية وسياسية وعسكرية، كما هو الحال في باب المندب، الذي يؤثر بشكل كبير على حركة السفن التجارية والعسكرية، لا سيما في ظل الصراعات والتوترات في منطقة الشرق الأوسط.
يُعدّ باب المندب نقطة جغرافية حيوية تقع في الجزء الجنوبي من البحر الأحمر، ولها تأثير كبير في الشؤون العالمية؛ هي مفتاح السيطرة على جميع عمليات الشحن تقريبًا بين المحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسط عبر قناة السويس. وقد أدّت الأحداث الأخيرة وما رافقها من استهداف وتهديد للسفن التجارية التي تعبر باب المندب، إلى زيادة التوترات في منطقة البحر الأحمر. وبينما تصدّر باب المندب والأحداث المرتبطة به عناوين الأخبار في فترة محدّدة، فقد لعب أيضًا دورًا مهمًا في تاريخ البشرية. تتألف هذه الدراسة من مقدمة وخمسة أقسام وخلاصة. القسم الأول يتحدث عن أهمية الممرات المائية الاستراتيجية والاقتصادية، والثاني عن محطات من الصراعات التاريخية، والثالث عن دور باب المندب وفاعليته، والقسم الرابع عن مستقبل باب المندب وضمان حرية الملاحة البحرية، أما القسم الخامس فيتناول دور الممرات المائية وتأثيرها في الصراعات الإقليمية مع التركيز على مضيق هرمز.
القسم الأول


أهمية الممرات المائية الاستراتيجية والاقتصادية

تلعب الممرات المائية دورًا حاسمًا في تقليل الوقت وكلفة الشحن، بما يؤثر مباشرة في تدفق التجارة العالمية وإمكان الوصول إلى الأسواق. كما أنها تتحكم بالتجارة العالمية، إذ قُدّر خلال العام 2023 مرور بضائع عبرها بحجم 6.5 مليارات طن، وبقيمة تربو على 8 تريليونات دولار من مختلف أنواع البضائع من مواد غذائية وألبسة وأحذية وأدوات كهربائية وإلكترونية وأثاث وقضبان الصلب ونفط وغاز طبيعي1. 

أولاًً: التعريف العام بباب المندب 
هو مضيق يبلغ عرضه نحو 32 كلم وطوله 102 كلم، ويقع بين القرن الإفريقي والطرف الجنوبي لشبه الجزيرة العربية ويشكل المدخل الجنوبي للبحر الأحمر من خليج عدن والمحيط الهندي وراءه. تحدّه دولة إريتريا من الغرب، وتقع اليمن على طرفه الشرقي والصومال وجيبوتي من الجنوب والجنوب الغربي، ما يجعله أحد أضيق الممرات المؤثرة في الأمن البحري العالمي. 
تفصل جزيرة بريم المضيق إلى قناتين، الأولى تعرف باسم دقة المايون (غربية) تابعة لليمن عرضها حوالي 25 كلم (واسعة) وعمقها 310 م للملاحة الدولية وناقلات النفط، والثانية هي القناة الشرقية وتعرف باسم باب إسكندر، عرضها 3 كم (ضيقة) وقليلة العمق، للسفن الصغيرة، وعمقها 30 م. يُعدّ باب المندب من الممرات المائية الهامة، خاصة وأنَّ عرض قناة عبور السفن التي تقع بين جزيرة بريم والبرّ الإفريقي، يسمح لشتى السفن وناقلات النفط بعبور الممر على اتجاهين متعاكسين.

ثانيًا: التسمية 
باب المندب يعني «باب الدموع» أو «بوابة الأحزان»، والمندَب يعني «الرثاء». حصل على اسمه العربي «بوابة الدموع» في الأيام التي حاول فيها البحارة العبور باستخدام النجوم والبواصل والخرائط البسيطة، حيث تمّ تدمير العديد من السفن في القرون والسنين الماضية، وزهقت الأرواح بسبب الصخور أثناء محاولتها الإبحار عبر الفجوة الغادرة والممر المائي الضيق، المليء بالتيارات القوية والرياح غير المتوقعة والشعاب المرجانية والمياه الضحلة، بالإضافة إلى مواجهة السفن الحديثة لمخاطر الألغام البحرية الناجمة عن الصراعات الماضية.
يمثل باب المندب واحد من أهم الممرات المائية في تجارة النفط، إلى جانب ممر قناة السويس2، مضيق هرمز3، مضيق البوسفور4، قناة بنما5، مضيق جبل طارق6، مضيق ملقة7 والمضائق الدانماركية8؛ وهو إلى جانب ذلك، يعتبر العمود الفقري في التجارة العالمية، إذ تمر عبره 7% من هذه التجارة، ونحو 21 ألف قطعة بحرية.
وككل الأسماء القديمة، لا يوجد إجماع حول تسمية هذا الباب الجنوبي للبحر الأحمر بالمندِب. فتتعدد الأساطير حوله لكنّها تتفق في معانيها على البكاء والنّدب، إما لجنوح السفن وفقدانها، أو لفقدان العديد من الأفراد نتيجة للمخاطر التي يواجهونها.
عين هذا المضيق هي جزيرة ميون أو جزيرة بريم المثيرة للفضول لفصلها المضيق إلى ممرين «إسكندر» من جهة الشرق، و«ميون» من جهة الغرب نحو جيبوتي. يقع في طرفها الجنوبي الغربي ميناء طبيعي هو دكة الميون. واشتقاق اسم المكان هذا في اللغة العربية على وزن مِفعال من الفعل ونى أي فتر9 (يقصد بذلك المكان الذي تفتر فيه الرياح). غير أنَّ تسمية الجزيرة بـ «ميون» يظل مجهولاً، سيما ولم يرد ذلك في النقوش اليمنية القديمة، فيما لفظة بريم هي لفظة أجنبية.

 

 

ثالثًا : الأهمية الاستراتيجية لباب المندب
يُعتبر باب المندب موقعًا للالتقاء القاري، حيث يربط بين البحر الأحمر وخليج عدن والمحيط الهندي، ويشكل نقطة تماس بين قارتي آسيا (اليمن) وأفريقيا (جيبوتي وإريتريا). فبالتزامن مع أهميته الاستراتيجية، تبرز نقاط بحث متعددة تتيح فهم دوره المحوري في النظام الدولي، أبرزها:

1- الأهمية الاقتصادية والطاقوية
- يعتبر شريان التجارة العالمية، حيث يعبره ما يقارب 57 سفينة يومياً أي ما يعادل 21 ألف سفينة سنوياً، تمثل 10% من حركة الملاحة العالمية و12% من تجارة النفط المنقول بحراً.
- ينقل 4 إلى 6.2 ملايين برميل نفط يومياً ما يعادل 9% من الإمدادات العالمية، خاصة من الخليج إلى أوروبا وآسيا وأميركا.
- يؤدي إغلاقه إلى تحويل السفن لطريق رأس الرجاء الصالح، مما يزيد المسافة 6,000 ميل بحري ويكلف 15 يوماً إضافيًا.

2- التنافس الجيوسياسي والصراعات الإقليمية
- بسبب الصراع الدائر في منطقة الشرق الأوسط والتحالفات القائمة ما بين الدول وفقًا إلى مصالح كل منها، قد يستخدم المضيق ورقة ضغط، بهدف تعطيل الملاحة وتهديد أمن الطاقة.
- تنتشر قواعد عسكرية دولية في جيبوتي (أميركية، صينية، فرنسية) وإريتريا (إسرائيلية وإماراتية)، كأدوات لمراقبة المضيق.
- في إطار الأحداث الأخيرة التي شهدتها المنطقة خلال العدوان الإسرائيلي على غزة، شهد البحر الأحمر استهداف السفن ما أثّر على حركة الملاحة البحرية والتجارة العالمية عبر المضيق، الأمر الذي أدى إلى تشكيل تحالف سمي بـ«حارس الازدهار» بقيادة أميركية-بريطانية.
- تؤثر التهديدات الأمنية والمخاطر المتمثلة بالقرصنة واختطاف السفن في أمن الملاحة. كما يؤثر عدم الاستقرار في اليمن والصومال في أمن المضيق، بخاصة مع تهريب الأسلحة عبر السواحل، بالإضافة إلى تأثير الصراعات الدائرة في الاقتصاد العالمي لجهة تعطيل حركة المرور عبر المضيق، مما يؤدي إلى ارتفاع فوري في أسعار النفط وتكاليف الشحن البحري.

القسم الثاني
محطات من الصراعات التاريخية

وفقًا للنظرية التي تعرف باسم نظرية «الأصل الإفريقي الحديث»، التي تنص على أنَّ الجنس البشري الحديث تطور في شرق إفريقيا منذ ما يقرب من 150 ألف سنة، ومن هناك، هاجر الإنسان العاقل إلى الشرق الأوسط وآسيا وأوروبا والأميركيتين، ليحل محل أنواع البشر الأخرى التي عاشت في العديد من تلك المناطق بالفعل. وأنَّ الهجرة القديمة من القرن الإفريقي إلى شبه الجزيرة العربية كانت خطوتهم الأولى عبر مضيق باب المندب الذي كان بمثابة جسر بري بين المنطقتين.

أولاًً: بين المماليك والأوروبيين 
أفرط المماليك في احتكار السلع التي يطلبها الأوروبيون ورفعوا من قيمتها، والتي كانت تأتي من جنوب البحر الأحمر أو عبره، وقد كان هذا سبباً في دفع الأوروبيين إلى البحث عن طريق جديد واكتشاف رأس الرجاء الصالح مع نهاية القرن الخامس عشر لينتج عنه حرمان العرب والمماليك من الاستفادة من البحر الأحمر10.
في بداية القرن السادس عشر هاجم البرتغاليون سفن العرب وأغرقوها وأقاموا أساطيلهم عند مدخل البحر الأحمر في باب المندب. أطلق القائد البحري البرتغالي ألفونسو دي ألبوكيرك سنة 1513 على الجزيرة اسم فيرا كروز، والكلمة من أصل لاتيني  وتعني حرفياً «بقايا الصليب الحق». غير أن إقامتهم عليها لم تدم طويلًا لصعوبة الحياة عليها بسبب قسوة المناخ وانعدام الماء ليعود البحر الأحمر بحيرة مملوكية أو عثمانية. في حقيقة الأمر، عمل العثمانيون على إغلاق البحر الأحمر في وجه السفن الأوروبية خشية على الأماكن المقدسة طيلة قرون.
في العام 1799 وضعت شركة الهند الشرقية بالتعاون مع البريطانيين حامية على جزيرة ميون لمنع الفرنسيين من الوصول إلى المحيط الهندي، ورفعت حاميتها لعجز المدافع عن استهداف السفن التي تعبر الضفة الغربية من باب المندب.

ثانيًا: التنافس بين الأوروبيين والإنكليز
اعتبارًا من العام 1839 استولى الإنكليز على عدن والبحر الأحمر، ثم استقروا في قلب جنوب البحر الأحمر في جزيرة قمران، ووضعوا مفرزة على باب المندب في جزيرة ميون عام 1857 وانشأوا فيها فناراً (هو مصباحٌ قويُّ، يُنصَبُ على سارية عالية، أو شبه برج مرتفع لإِرشاد السفن في البحار والمحيطات إِلى طرق السير وتجنّب مواطن الخطر) انتهى العمل عليه عام 1861، واستخدموا الجزيرة محطة لتزويد السفن بالفحم حتى استبدل الفحم بالغازولين11. 
استولى الإيطاليون على ميناء عصب الأثيوبي في العام 1869، أي بعد ثلاثين عامًا، وفي العام نفسه الذي شهد افتتاح قناة السويس. وهكذا أصبح باب المندب ساحة لتنافس القوى الأوروبية، وموقعاً استراتيجياً بالغ الأهمية. 
لكن كل ذلك لم يمنع جزيرة ميون من أن تكون ملاذًا لأعمال القرصنة التي انتشرت في البحر الأحمر حتى مطلع القرن العشرين، إلى أن تعهد الإمام يحيى حميد الدين ملك اليمن12، بمكافحة نشاط القراصنة الزرانيق13، مقابل ضمان مصالح من قبل الإيطاليين الذين كانوا يسيطرون على المنطقة الإفريقية جنوب البحر الأحمر.
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، خرجت بريطانيا وإيطاليا من مواقعهما في جنوب البحر الأحمر، فعاد باب المندب إلى سيادة الدول المطلة عليه، في حين بقيت فرنسا في جيبوتي حتى منتصف السبعينيات.

ثالثًا: في العصر الحديث 
شهد البحر الأحمر ثلاث محطات بارزة أكّدت أهميته الاستراتيجية. أولًا: الحروب العربية – الإسرائيلية، وتفجير القوى الاستقلالية الجيبوتية لمخازن أسلحة فرنسية في منتصف الخمسينات، تأثرًا بتلك الحروب. ثانيًا: إغلاق مصر لباب المندب في حربها مع «إسرائيل» لتتشكل على إثرها استراتيجية أمنية دولية عززتها سياسة الولايات المتحدة الأميركية في محاربة الإرهاب كعامل ثالث، حيث اتخذت الأخيرة من جيبوتي موقعًا لحضورها العسكري، بعد أن سبقتها إليها فرنسا14 بطبيعة الحال.
في الوقت الراهن، تحتضن دولة جيبوتي مجموعة قواعد عسكرية دولية تزيد على الست، منها قواعد للصين ولليابان التي تتخذ لها حضورًا عسكريًا خارج بلادها لأول مرة. تضطرم الأحداث حول جيبوتي المستقرة والتي أصبحت منصة أمنية هامة للملاحة الدولية. ربطت جيبوتي نجاح استقرارها بالحضور العسكري الدولي على أراضيها، لكنها أيضًا استفادت من موقعها لتكون نافذة موانئ القرن الإفريقي وطوّرت بنية تحتية ملائمة سبقت غيرها في هذا الجانب.
في الحقيقة استفادت جيبوتي من انغلاق النظام الإريتري عن بيئته الإقليمية ومن اضطراب الأوضاع في الصومال منذ تسعينيات القرن المنصرم، رغم أن الصومال تمتلك موانئ مفتوحة على المحيط الهندي.
لكن باب المندب لم يغب عن الهاجس الأمني، إذ جعلت أعمال القرصنة في خليج عدن باب المندب وهذا الخليج مكانًا مزدحمًا بالقطع العسكرية الدولية لمكافحة هذه الظاهرة وهذا ضاعف من تدويل هذه المنطقة وعسكرتها على درجة عالية. كما أن الحرب الدائرة في اليمن منذ العام 2014 ضاعفت من مستوى التهديدات الأمنية في البحر الأحمر ومضيق باب المندب تحديدًا.


القسم الثالث
دور باب المندب وفاعليته 

أولاًً: الرابط الحيوي والنقطة المشتعلة بين الممرات
بالرغم من اعتبار باب المندب معبرًا بحريًا محفوفًا بالمخاطر على حافة البحر الأبيض المتوسط لآلاف السنين، وكانت الطرق البرية أكثر أمانًا في كثير من الأحيان، إلّا أنّ هذا الممر كان وراء معظم ثروات الهند والشرق الأقصى التي عبرت من خلاله. وقد اكتسب أهمية عالمية بعد العام 1869، مع افتتاح قناة السويس في مصر، التي ربطت خليج السويس في شمال غرب البحر الأحمر بالبحر الأبيض المتوسط. يشكل كل من باب المندب، والبحر الأحمر، وقناة السويس روابط حيوية على طول طريق الشحن الرئيسي في العالم بين آسيا وأوروبا، حيث تقدّر المنظمة البحرية الدولية أنَّ نحو ربع الشحن العالمي يمر عبر هذه الطريق، أي ما يعادل عدة مليارات من الأطنان من البضائع سنويًا. ويشمل ذلك ما يُقدّر بنحو 4.5 مليون برميل من النفط يوميًا، مصدرها دول الخليج وإيران والدول الآسيوية15.
أصبح باب المندب نقطة اشتعال عالمية في العقود الأخيرة بسبب الكميات الهائلة من التجارة والنفط التي تمر عبره، إذ يحتفظ العديد من القوى العالمية، بما في ذلك الولايات المتحدة الأميركية والصين، بقواعد عسكرية كبيرة على الجانب الجيبوتي من المضيق، بحجة المنع من الوقوع فريسة للأعمال العدائية في المضيق. فالصراع العربي - الإسرائيلي الذي يتعلق بباب المندب بعد حرب يوم الغفران في العام 1973، حين أعلن الأعضاء العرب في منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) فرض حصار على ناقلات النفط المتجهة إلى «إسرائيل» من إيران، التي كان يحكمها آنذاك نظام الشاه. فقد فرضت السفن المصرية الحصار على باب المندب وأجبرت العديد من ناقلات النفط على التراجع، قبل أن يعاد فتحه بعد عدة أشهر. سلطت هذه الأحداث الضوء على الأهمية الاقتصادية والعسكرية والجيوسياسية للمضيق، وعلى تأثيره الحاسم في إمدادات الطاقة العالمية16.

ثانيًا: العدوان الإسرائيلي على غزة
يتعرّض الفلسطينيون منذ العام 1948 لشتّى أنواع الحروب والقتل والتهجير والتدمير والتجويع والحصارات والعنف الممنهج والإبادة الجماعية، إذ ينتهك العدو الإسرائيلي بذلك حقوق الإنسان والأعراف والقانون الدولي الإنساني. إلّا أنَّ أعنفها قتلًا وتدميرًا وأطولها مدةً (أكثر من خمسة عشر شهرًا من العنف المتواصل) كان العدوان الأخير على قطاع غزة، حيث شنَّ العدو الإسرائيلي هجومه الجوي والبري والبحري على القطاع بفرقه العسكرية المختلفة، مخلّفًا بذلك نحو 60 ألف شهيد وأكثر من 150 ألف جريح. وكما ذكرنا سابقًا، كان لهذه الأحداث الأثر الكبير في انطلاق شرارة التوترات في البحر الأحمر وانعكاس ذلك على حركة الملاحة البحرية. 

 

القسم الرابع
مستقبل باب المندب وضمان حرية الملاحة البحرية

يتمثل مستقبل باب المندب بالمشاريع التنموية كالجسر القاري المعلّق بين اليمن وجيبوتي (أُعلن عام 2008)، والذي قد يكون الأطول عالميًا، إذ يربط الاقتصادين الإفريقي والآسيوي؛ كما لجهة التحديث العسكري، من خلال بناء مدرج طائرات على جزيرة بريم (بواسطة الإمارات 2017)، إضافةً إلى تنفيذ مشاريع لتطوير ممرات بديلة (كطريق الشمال الروسي) قد تقلل من أهميته النسبية، فضلًا عن مشاريع إنمائية أخرى.

أولاًً: الصراعات الإقليمية حول باب المندب والقرن الإفريقي
    1-     تغيرت الخريطة الجيوستراتيجية في المنطقة بخاصة بعد أحداث العام 2011 والتغيّرات التي شهدتها بعض الدول العربية. وقد ظهر في الأفق مشاريع مختلفة تتبنّى خيارات الدولة والحفاظ على مؤسساتها الوطنية، حيث انعكس التنافس بين المشاريع على الوضع في البحر الأحمر وباب المندب. فقد دخل القرن الإفريقي فترة تميزت بالتغيير والنشاط الإقليمي المتزايد. وبدافع من المصالح الاقتصادية والاعتبارات الجيوسياسية، أصبحت دول الخليج (السعودية، الإمارات وقطر) وكذلك تركيا ومصر جهات حاضرة بشكل متزايد في القرن الإفريقي والفضاء البحري المحيط بها17.
2- كان السبب الرئيسي في بداية الأمر تصاعد وتيرة القرصنة والجريمة البحرية، وصعود التنظيمات المتطرفة، كما التوترات المتزايدة في المنطقة، والأحداث في اليمن، بالإضافة إلى مصالح الدول الكبرى، كل ذلك أسهم في زيادة أهمية القرن الاستراتيجية. 
3-  إن التنافس بين الدول المحيطة بالمضيق بالإضافة إلى الدول التي لديها مصالح فيه، نتج عنه سلسلة من النزاعات غير المباشرة التي نشبت في منطقة الشرق الأوسط، كما امتدت عبر القرن الإفريقي، حيث يتنافس بعضهم البعض على الموانئ والقواعد العسكرية على البحر الأحمر. وقد استغلت الجهات الفاعلة والمؤثرة في القرن هذا الأمر لتعزيز أهدافها ومصالحها، وقامت بإنشاء القواعد العسكرية بالقرب من المضيق وزادت حجم قواتها البحرية بالقرب منه.
ثانيًا: التهديدات الإقليمية والقرصنة وتأثيرها على المضيق 
مع تفاقم ظاهرة القرصنة التي كانت تستهدف السفن التجارية وناقلات النفط على امتداد السواحل الصومالية عام 2008، بدأ تزايد القوى العسكرية الأجنبية في المنطقة من خلال نشر الدوريات البحرية والقواعد العسكرية عند مدخل مضيق باب المندب، أحد أهم ممرات الملاحة البحرية في العالم. فقد استضافت جيبوتي التي تبلغ مساحتها 23 ألف كلم2 خمس قواعد عسكرية، تتبع للولايات المتحدة الأميركية، وفرنسا، والصين، واليابان وإيطاليا، وتتشاور بشأن إنشاء قاعدة عسكرية سادسة تركية. والسبب الرئيس هو أهمية مضيق باب المندب الذي يصل المحيط الهندي بالبحر الأبيض المتوسط18. 
منذ العام 2011، عقب أحداث ما يُسمى بالربيع العربي، وما أعقبه من تطورات وتغييرات في بعض الدول العربية التي شملتها تلك الأحداث، سيطرت بعض المجموعات على الكثير من المناطق وصولًا إلى سواحل البحر الأحمر ومضيق باب المندب وتهديد المصالح والملاحة المارة بهذه المنطقة البالغة الحيوية، حيث قامت القوات البحرية المصرية مثلًا بتنفيذ أعمال تأمين الملاحة في المضيق لحماية المصالح المصرية والعربية وخطوط الملاحة، والحيلولة دون تفاقم الأوضاع السائدة وخروجها عن السيطرة. غير أنَّ صعوبة المراقبة وحفظ الأمن وحماية حركة الملاحة الدولية في مضيق باب المندب، دفع القوى الدولية إلى فرض نفوذها العسكري على هذه المنطقة، لأن تعطيل وصول النفط إلى أوروبا والولايات المتحدة من خلال البحر الأحمر قد يتسبب بارتفاع أسعاره عالمياً بالإضافة إلى تأثيره في اقتصاديات كبرى كالاقتصاد الصيني، وسيدفع باتجاه أزمة اقتصادية عالمية لا يمكن قبولها. لذلك يرجّح أن يكون البحر الأحمر مسرحاً ثانوياً للمواجهة العسكرية.

ثالثًا: التنافس بين العملاقين الولايات المتحدة والصين 
يخضع باب المندب ومعه البحر الأحمر برمّـته إلى امتحان مفهوم طرق التجارة الجديد الذي يعمل الصينيون عليه من خلال توفير مسارين بحري وبري. فوجود طريق حرير بري يعني منافسة الممر البحري القصير من الشرق الآسيوي إلى أوروبا. وبهذا ستتراجع مكانة هذا الممر في طرق التجارة، فضلًا عن أن البحر الأحمر يفتقر لسياسة أمنية موحدة، إذ ينذر الانسحاب الأميركي الاستراتيجي من الخليج العربي إذا حصل، بترك فراغ استراتيجي وأمني في البحر الأحمر ينتج عنه على الأقل غياب مبادرات ناضجة إقليميًا يمكنها النهوض واستكمال المهمة. كما تظهر مبادرات عديدة دون انسجام ولا تحضير مناسب، بالإضافة إلى أن تهافت القوى الإقليمية والدولية الأخرى على تفعيل استراتيجيات أمنية في البحر الأحمر وخليج عدن لا تصب بالضرورة في مصلحة الدول المطلة عليه19.

رابعًا: الصراع الجيوسياسي يُهدد حركة الشحن
تتأثر طرق الشحن العالمية بشدة من البحر الأحمر إلى خليج عدن بسبب الصراعات الجيوسياسية المستمرة، وفي حال تعطل مضيق هرمز بأي شكل من الأشكال، فقد يكون التأثير على النفط والتجارة العالمية هائلًا.
إنَّ أكثر من 80% من تجارة السلع العالمية تُنقل بحرًا، وبالتالي أي تعطّل في التجارة البحرية قد يُؤثر سلباً في الاقتصاد العالمي. ويُعدّ مضيق هرمز أحدث نقطة اشتعال محتملة، فهو شريان حيوي ينقل حوالي خُمس نفط العالم، وقد كان محور توترات جيوسياسية لسنوات عديدة. قد يُسفر أي تعطيل عن تأثير اقتصادي سلبي آخر في الاقتصاد العالمي، ما يُعيق طرق التجارة الحيوية ويُطيل أوقات العبور، الأمر الذي يؤدي إلى تأخير الإنتاج وزيادة التضخم. لكن المضيق ليس المكان الوحيد الذي يُثير قلقًا أمنيًا عميقًا.

خامسًا: تزايد تسييس التجارة والشحن  
شهد مضيق باب المندب وقناة السويس في الفترة الأخيرة اضطرابًا كبيرًا، نظرًا إلى الهجمات التي شنّها الحوثيون على السفن المتجهة إلى ”إسرائيل“ أو المرتبطة بها، علمًا أنّ هذا الممر يغطّي نحو 15% من التجارة البحرية عالميًا. وقد انخفضت عمليات العبور اليومية بنسبة الثلثين على أساس سنوي، وفقًا لبيانات صندوق النقد الدولي. وعلى الجانب الآخر من العالم، يتحسن الوضع تدريجيًا في قناة بنما، التي تمثّل نحو 5٪ من التجارة البحرية العالمية. فقد ارتفع عدد العبور اليومي من 22 عبورًا في كانون الأول 2023، إلى 24 في كانون الثاني، ثم إلى 27 في آذار من العام 2024. ومع ذلك، لا تزال السعة أقل من المتوسط اليومي الطبيعي الذي يتراوح بين 34 و40 عبورًا، ولا يُتوقع حاليًا العودة إلى هذا المستوى قبل العام 2025. وإلى جانب ذلك، يمكن أن تعود المياه الضحلة في الممرات المائية الداخلية الرئيسة للشحن في العالم بسهولة خلال هذا العام20.

سادسًا: تأثير المخاطر المائية على التجارة العالمية
قد تؤثر المخاطر المتزايدة بسرعة على طرق التجارة العالمية بخاصة عند تعرض البحارة والبضائع للخطر. فبسبب التوتر المتصاعد في الشرق الأوسط، امتدت هذه المياه المحفوفة بالمخاطر من البحر الأحمر إلى خليج عدن، وقد يتأثر مضيق هرمز الحيوي بها أيضًا، بخاصة بعد استيلاء القوات الإيرانية في وقت سابق على سفينة الحاويات MSC Aires، وغيرها من الأحداث المشابهة. فبسبب الاضطرابات في البحر الأحمر تتزايد المخاطر التي تؤثر في طرق التجارة بمجرد تعرض البحارة والبضائع للخطر، وارتفاع أقساط التأمين. وبالتالي، أصبحت التجارة خاضعة للسياسة وتتأثر فيها بشكل متزايد، وقد تصل المخاطر الجيوسياسية إلى مضيق تايوان، وهو البوابة البحرية إلى الموانئ الصينية الكبرى21. 

سابعًا: ضمان حرية الملاحة 
يمكن أن تتحقق حرية الملاحة البحرية بالممر بالمتطلبات التالية:
- ضرورة تجاوز الخلافات ببناء الإطار التعاوني الفاعل والقادر على حماية المصالح المشتركة والمساهمة في استقرار المضيق، كأولوية قصوى للأمن القومي العربي الجماعي.
- الحوكمة الدولية المسؤولة، وذلك بتجنّب تحويل الممرات الحيوية إلى ساحات صراع بين القوى الكبرى، والعمل على إطار دولي يحترم قواعد القانون الدولي ويضمن حق الجميع في الملاحة الآمنة.
- الاستقرار الإقليمي، ويتم بمعالجة جذرية لأسباب الصراعات في اليمن والقرن الإفريقي ومنطقة الشرق الأوسط، باعتبارها المصادر الرئيسية للتهديدات المباشرة لأمن المضيق.
- خطط طوارئ عالمية وذلك بتطوير استراتيجيات بديلة وتنويع مسارات التجارة لتخفيف التبعية على أي ممر واحد، والتخفيف من آثار أي تعطيل محتمل.
إنَّ مصير باب المندب هو نموذج مصغّر لمصير العالم، فبقدر ما هو نقطة قوة تربط بين الأمم وتدفع عجلة الاقتصاد، فهو أيضًا نقطة ضعف كبرى تعكس هشاشة النظام الدولي في ظل غياب التضامن الفاعل وتأثير التنافس الجيوسياسي. إن ضمان مستقبل آمن ومستقر لهذا المضيق الحيوي، ولغيره من الممرات المماثلة، هو اختبار حقيقي لإرادة المجتمع الدولي في الحفاظ على نظام متعدد الأطراف قائم على الحقوق والتعاون وتطبيق القوانين، وليس على التهديد والقوة وتأجيج الصراعات والنزاعات. فوفقًا لنظرية ماهان، فإن من يتحكم في الطرق البحرية يتحكم في مفاصل القوة الاقتصادية والعسكرية؛ وبذلك يُعد باب المندب نقطة ارتكاز في ميزان القوى البحرية.
القسم الخامس
الممرات المائية وتأثيرها في الصراعات الإقليمية 
السؤال الذي يطرح نفسه اليوم وبخاصة في خضم الصراعات والتوترات الدائرة في منطقة الشرق الأوسط، يتمحور حول دور الممرات المائية وتأثيرها في مجريات الأحداث؟
لا يعتبر مضيق هرمز كمجرد ممر مائي فحسب، بل هو ورقة ضغط جيوسياسية تعكس هشاشة النظام العالمي المرتبط بالطاقة. فتداعيات إغلاقه ستكون كارثية على الشرق الأوسط لناحية الاقتصاد المتمثل بالأسواق والنفط والغاز والتضخم، ما يفرض على المجتمع الدولي تكثيف الدبلوماسية وتأمين البدائل لتفادي انهيار متسلسل.
فكما أسلفنا من قبل بأنَّ المضائق المائية تؤدي دورًا محوريًا في إطار الأحداث في المنطقة، بخاصة مضيقي هرمز وباب المندب، حيث يُستخدمان كأداة جيوسياسية واقتصادية تؤثر في استقرار منطقة الشرق الأوسط والأمن الاقتصادي العالمي. فبعد أن تحدثنا عن دور الممرات بشكل عام وعن ممر باب المندب بشكل خاص، سنتناول أيضًا تأثيرات مضيق هرمز الإيجابية والسلبية على مجريات الأحداث القائمة بخاصة بعد التلويح بإغلاقه، مع التركيز على التداعيات الإقليمية والعالمية.

أولاًً: نقطة قوة وأداة ضغط
يُعتبر مضيق هرمز رهانًا إيرانيًا استراتيجيًا، وأداة ضغط مهمة، تهدد إيران بإغلاقه، مستفيدةً من موقعه الجغرافي الذي يمر عبره نحو 20 مليون برميل نفط يوميًا أي حوالي 39% من النفط العالمي المنقول بحراً و80 مليون طن غاز مسال سنويًا.  
فقد تُستخدم أساليب عديدة لإغلاقه كزرع الألغام البحرية، إستخدام القوات البحرية، أو استهداف السفن، كما حدث في حرب الناقلات (1980-1988). لكن نجاح الإغلاق الكامل قد يواجه صعوبات بسبب وجود قوات بحرية أميركية وبريطانية في المنطقة، كما لاعتماد إيران ذاتها على المضيق لتصدير نفطها (1.6–1.8 مليون برميل يومياً، إلى الصين).  

ثانيًا: التأثيرات السلبية على منطقة الشرق الأوسط 
يُعّد مضيق هرمز ممرًا اقتصاديًا مهمًا لدول الخليج العربي بخاصة المملكة العربية السعودية التي تصدّر نحو 6 ملايين برميل يوميًا، وإنَّ أي إغلاق سيُعطل إيراداتها ويُسبب خسائر فادحة. كما أنَّ توقف إمدادات الغاز الإسرائيلي بعد إغلاق حقلَي «ليفياثان» و«كاريش» بسبب التوترات الأخيرة، يؤثر في إنتاج الكهرباء. ناهيك عن تأثر قطاع السياحة والاستثمار في المنطقة (لبنان، سوريا، العراق، الأردن،...) بسبب إغلاق الأجواء وعدم الاستقرار.  

ثالثًا: التأثيرات الإيجابية المحدودة 
بالرغم من قدرة بعض دول الخليج على تعويض وزيادة الإنتاج النفطي لسد النقص في حال الإغلاق، لكن ذلك يرتبط بقرارات سياسية على مستوى الدولة. بالإضافة إلى جهود حثيثة تبذل من قبل القوى الكبرى للتخفيف من حدّة التوترات والسعي لتأمين الممرات، حيث أن أي تهديد لها يُعد اختراقًا لنفوذها الجيوسياسي، حتى مع اكتفائها النفطي، كما التحالفات الإقليمية والتعاون بين القوى البحرية الهندية والبريطانية والأميركية لمراقبة المضيق وتأمين سلامة الملاحة البحرية.  

رابعًا: التداعيات العالمية 
قد تقفز أسعار النفط لتصل إلى 130 دولاراً للبرميل الواحد إذا ما تعطلت إمدادات مضيق هرمز، وفقاً لـ جي بي مورغان تشيس22. كما أنَّ ارتفاع أسعار الطاقة يهدد بزيادة التضخم وتباطؤ النمو في الدول المستوردة كالصين والهند اللتين تستوردان ما بين 60-80% من نفطهما عبر المضيق، وبالتالي اضطراب سلاسل الإمداد وارتفاع تكاليف الشحن والتأمين على الناقلات، بخاصة مع التهديدات الأخيرة للملاحة في باب المندب والبحر الأحمر.  

خامسًا: السيناريوهات المستقبلية 
قد تكون محدودة إذا تجنّبت الأطراف المتصارعة استهداف المضائق، وبالتالي ستبقى الأسعار تحت السيطرة بفضل المخزونات الصينية والإنتاج التعويضي من «أوبك+»، أما إذا أُغلق المضيق وامتد الصراع ليشمل ممرات أخرى كباب المندب أو تصاعدت هجمات المضيق، قد يشهد العالم الأسوأ المتمثل بالركود الاقتصادي والتضخم الحاد.
 
الخلاصة
بعد استعراض الأهمية الجيوستراتيجية الحيوية للممرات المائية الدولية، مع التركيز على مضيق باب المندب كحالة دراسية بارزة، يتجلّى لنا بوضوح الدور المحوري الذي تلعبه هذه الممرات في تشكيل خريطة الاقتصاد والسياسة على المستوى الدولي. 
تؤكد هذه الدراسة أن الممرات المائية الاستراتيجية ليست مجرد ممرات جغرافية، بل هي شرايين حيوية للاقتصاد العالمي وأدوات جوهرية في معادلة القوة الجيوسياسية. وقد برزت أهمية هذه الممرات، وعلى رأسها مضيقا «هرمز» و«باب المندب»، كعُقد حرجة تتحكم في تدفق التجارة العالمية بخاصة الطاقة التي شكلت ساحات رئيسية للتنافس والصراع الإقليمي والدولي.
إنّ باب المندب، بموقعه الفريد عند بوابة البحر الأحمر والمتحكم في طريق أقصر يربط بين آسيا وأوروبا عبر قناة السويس، ليس مجرد ممر مائي جغرافي، بل هو عصب حيوي للتجارة العالمية وملتقى لمصالح القوى الإقليمية والعظمى. لقد سلّط البحث الضوء على جذور التسمية والأهمية التاريخية للمضيق، ليؤكد أن استراتيجيته لم تولد حديثًا، بل هي نتاج ثقل موقعه عبر العصور. كما ركّز على المحطات الاستراتيجية المحيطة به، مشيرًا إلى أن السيطرة على هذه النقاط أو التأثير فيها هي مفتاح الهيمنة على تدفق التجارة والطاقة عبر هذا الشريان البحري الحساس.
أما في ما يخص مستقبل باب المندب وضمان حرية الملاحة، فإن الدراسة تخلص إلى أن ضمان استقراره وأمنه يشكل تحديًا عالميًا وإقليميًا مشتركًا، لا يمكن فصل أمنه عن استقرار الدول المطلة عليه وحل الصراعات في اليمن والقرن الإفريقي. فالدراسة ترسم صورة معقدة يطغى عليها التنافس الاستراتيجي المحتدم بين الولايات المتحدة والصين. 
إنّ تحوّل هذا التنافس إلى صراع للنفوذ حول الممرات المائية، والتجارة والملاحة البحرية وتحويلهما إلى أدوات ضغط، يزيد من حدّة التهديدات التي تواجه حرية الملاحة وأمن حركات التوريد العالمية، لا سيما في ظلِّ الصراعات الإقليمية، حيث تظل عاملًا مزعزعًا للاستقرار الذي يهدد بإغلاق المضيق أو تعطيل حركته، مع ما يحمله ذلك من عواقب اقتصادية مدمرة على المستوى العالمي.
وفي الختام، إنَّ أمن الممرات البحرية واستقرارها وضمان حرية الملاحة والتجارة، ليست شأنًا إقليميًا فحسب، بل هي قضية مصيرية ترتبط بالاقتصاد العالمي والأمن الدولي.
 

 

المصادر والمراجع

باللغة العربية

1. أحمد ماوري، يمن الثورة والديمقراطية والحرب: التحولات السياسية وآمال بناء، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2023

2 جمال كمال محمود، البحر الأحمر في الاستراتيجيا العثمانية (1517-1801). المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسيات، الطبعة الأولى، بيروت، 2019.

3 حسن صالح شهاب، أضواء على تاريخ اليمن البحري، دار العدوة ببيروت الطبعة الثانية، 1981.

4. رمزي محمود، صراع أمريكا... والصين على عرش الاقتصاد العالمي، دار التعليم الجامعي. الاسكندرية. 2022.

5 سليم محمد، محمد أبي عبد الله شمس الدين الرازي، معجم مختار الصحاح، دار الكتب العلمية. بيروت، لبنان، 2015.

6 شاهر الأحمد، هرمز والسويس منها .. أهم 7 ممرات مائية تجارية عالمية، دراسة متوافرة على 2024 تاريخ 30 تشرين الأول https://www.aljazeera.net/ebusiness/ الموقع

7. مصطفى عبد إبراهيم، مضيق باب المندب وتأثيرة على الأمن القومي العربي، دراسة بحثية متخصصة، المركز الديمقراطي العربي، آذار 2025. متوافر على الموقع https://democraticac

8 محمد علي دوات مضيق باب المندية أهميته الاستراتيجية وتأثيرها على الأمن، مكتبة مدبولي الصغير القاهرة 1996.

 

باللغة الأجنبية

1. Glen Bowersock, The Throne of Adulis: Red Sea Wars on the Eve of Islam, Oxford University Press, 2013.

 

  1. عبدالحميد ندا، الأرشيفات الجارية بوحدات نظم المعلومات والتحول الرقمي بالأجهزة الحكومية: دراسة تطبيقية على جامعة أسيوط، المجلة العلمية للمكتبات والوثائق والمعلومات، المجلّد 5، العدد 13.2، 2023، ص ص 227–279.
  2.  تشمل الوثائق الفنية اللوحات والجداريات والنقوش والخرائط والرسوم التوضيحية وغيرها.
  3. Hudson, D, The Handy American History Answer Book, Visible Ink Press, Michigan, 2015, p. 239.
  4.  تسمية "مجلس العشرة" ترمز ببساطة إلى عدد أعضاء المجلس عند تأسيسه. الفترة الزمنية الأساسية لأرشيف هذا المجلس تمتد تقريبًا من 1310 إلى 1797 م.
  5.  حرب كيودجا هي صراع بين جنوى والبندقية دام بين عامي 1378 و 1381، خرجت منه البندقية منتصرة.
  6.  Colavizza G & Ehrmann M & Bortoluzzi F, Index-Driven Digitization and Indexation of Historical Archives, Frontiers in Digital Humanities, Vol 6, 2019, pp 12–18.
  7.  LIDAR : Light Detection and Ranging هي اختصار لـ "الكشف الضوئي وتحديد المدى" .
  8.  Murtha TM & Broadbent EN & Golden C & Scherer A & Schroder W & Wilkinson B, Drone-Mounted Lidar Survey of Maya Settlement and Landscape, Latin American Antiquity, Vol 30, No 3, 2019, pp 630–636.
  9. The Ancient Connection, Megaliths of Guatemala, Internet, 2024, Accessed: 28 May 2025, Site:
  10.    https://www.theancientconnection.com/megaliths/guatemala
  11.  Surrisyad H, A, Fast Military Object Recognition Using Extreme Learning Approach on CNN, International Journal of Advanced Computer Science and Applications, Vol 11, No 12, 2020, pp 210-220.
  12.  Jalbout Z, The First Defensive Systems at Byblos, Byblos: A Legacy Unearthed, Netherlands, 2023, pp 75-80.
  13.  Wang Y & Shi X & Oguchi T, Archaeological Predictive Modeling Using Machine Learning and Statistical Methods for Japan and China, ISPRS International Journal of Geo-Information, Vol 12, 2023, pp 1-27.
  14.  وقعت هذه المعركة عام 1461 م. بالقرب من قرية تاوتون في إنجلترا وكان هدفها السيطرة على العرش الإنجليزي.
  15. Holst M & Sutherland T, Towton Revisited: Analysis of the Human Remains from the Battle of Towton 1461, in Schlachtfeld und Massengrab: Spektren Interdisziplinärer Auswertung von Orten der Gewalt, 2014, pp 97–129.
  16.  Mazzola, S. N, History and Psychology: Napoleon Bonaparte's Complexes, Internet, 2024, Accessed: 28 May 2025, Site:
  17.  https://www.academia.edu/40435838/History_and_Psychology_Napoleon_Bonapartes_Complexes
  18. كانت معركة غيتيسبيرغ نقطة تحول رئيسة في الحرب الأهلية الأمريكية حيث هُزم الجيش الكونفدرالي أمام قوات الاتحاد عام ١٨٦٣.
  19.  Boritt J., The Gettysburg Story, Internet, 2019, Accessed: 25 May 2024, Site: https://gettysburgstory.com/blog/details/8097/new-gettysburg-public-television-documentary-uses-cutting-edge-filmmaking-technology-to-tell-timeless-story
  20.  Frederick, T. and A. Coman, Reception of Great Patriotic War Narratives: A Psychological Approach to Studying Collective Memory in Russia, Researching Memory and Identity in Russia and Eastern Europe, 2022, pp 163-181.
  21.  Yevgeni Khaldei, Raising a Flag Over the Reichstag, Internet, 2022, Accessed: 20 May 2024, Site: https://warfarehistorynetwork.com/article/raising-a-flag-over-the-reichstag-photographer-yevgeni-khaldei/
  22.  Chipatiso E, Application of GIS and Artificial Intelligence in Military Operations: Prospects and Challenges, Space Science Journal, Vol 1, 2024, pp 1-7, p 3.
  23.  Miskimon C, Slaughter at the Battle of Cannae, Warfare History Network, Internet, 2025, Accessed: 2 June 2025, Site: https://warfarehistorynetwork.com/article/slaughter-at-the-battle-of-cannae
  24.  الجلبوط زياد، حصار الإسكندر الأكبر لمدينة صور واحتلالها في العام 332 ق.م.، مجلة الدفاع الوطني اللبناني، العدد 105، ص ص 41-69، ص. 48
  25. يُقصد بالواقع الافتراضي Virtual Reality VR تقنية محاكاة البيئات الرقمية، بينما يشير الواقع المعزز Augmented Reality AR إلى دمج العناصر الرقمية مع العالم الحقيقي.
  26.  Waterloo Memories, Waterloo 1815: The Battle That Changed Europe, Internet, 2018, Accessed: 20 May 2025, Site: https://www.youtube.com/watch?v=Bj1aVW3LuVo
  27.  Carrières de Lumières, Internet, 2020, Accessed : 22 May 2025, Site: https://www.carrieres-lumieres.com/en
  28.  ArcGIS Group, Instant Portfolio App – Cultural Heritage Map, Internet, 2023, Accessed: 22 May 2025, Site: https://www.arcgis.com/apps/instant/portfolio/index.html?appid=d238adf74f874d989e1e9bab5cb60d03
  29.  ArtGlass Group, Pompeii Archaeological Park – Augmented Reality Experience, Internet, 2023, Accessed: 22 May 2025, Site: https://artglassgroup.com/Work/pompeii-archaeological-park/
  30.  Character.AI Group, AI-Powered Character Interaction Platform, Internet, 2024, Accessed: 22 May 2025, Site: https://beta.character.ai/
  31.  Pivada Group, Real Appearances of Roman Emperors with Face Reconstructions, Internet, 2024, Accessed: 27 May 2025, Site: https://www.pivada.com/en/real-appearances-of-roman-emperors-with-face-reconstructions
  32.  Mission US Group, Interactive History Games, Internet, 2024, Accessed: 23 May 2025, Site: https://www.mission-us.org/
  33. Hutchinson D, The Causes of Napoleon Bonaparte's Defeat at Waterloo 1815, Journal of Military History, Vol 89, No 3, 2025, pp 45-72.
  34.  Schuurman P, What-If at Waterloo: Carl von Clausewitz’s Use of Historical Counterfactuals in His History of the Campaign of 1815, Journal of Strategic Studies, Vol 40, 2017, pp 1-23.
  35.  Flash Point History, The Battle of Tours 732: A Turning Point in History (Video), Internet, 2022, Accessed: 22 May 2025, Site: https://www.youtube.com/watch?v=nJOj_qmiv6U

 

Maritime Passages and Their Importance:  The Bab El-­Mandeb as a Model

Brigadier General (Retired) Salah Janbein­


Maritime chokepoints are among the most critical nodes in the contemporary international system, playing a central role in global trade flows and energy security. They serve as strategic gateways connecting continents and states. In this context, the Bab El-Mandeb Strait stands out as a prime example of the geopolitical significance of maritime passages, owing to its pivotal location between the Red Sea and the Gulf of Aden, linking the Indian Ocean to the Mediterranean Sea via the Suez Canal.

This study explores the strategic and economic importance of major maritime corridors, especially Bab El-Mandeb, alongside the Suez Canal and the Strait of Hormuz, as essential arteries of international trade through which a substantial share of global oil exports and essential goods are transported. These straits are arenas where geopolitical interests of major powers converge, and they often emerge as potential flashpoints for armed conflict.

The second section delves into the historical dimension of military and political conflicts surrounding these waterways, including the wars linked to the Suez Canal, recurrent tensions in the Strait of Hormuz, and the security repercussions of conflicts in the Horn of Africa on the Bab El-Mandeb. These events illustrate how maritime corridors can evolve into theaters of conflict driven by geopolitical rivalries.

In the third section, the study analyzes the current role of Bab El-Mandeb as a strategic maritime gateway between East and West, crucial for the transit of oil and goods. It addresses key security challenges such as piracy, growing regional tensions, and their impact on freedom of navigation and regional stability.

The fourth section offers a forward-looking perspective on the future of Bab El-Mandeb in light of shifting geopolitical dynamics. It underscores the need for an international security framework to safeguard the strait, through enhanced regional cooperation, political stabilization of littoral states, increased international naval presence, and the development of rapid crisis-response mechanisms.

The study concludes by examining the reciprocal relationship between maritime chokepoints and regional conflicts, with a case study of the Strait of Hormuz amid escalating tensions between Iran and “Israel”. This case highlights how such passages can be leveraged as strategic pressure tools, with direct implications for global energy markets and regional and international security, particularly with Iran’s repeated threats to close the strait as a form of deterrence.

In sum, the study argues that maritime chokepoints are not merely shipping routes but active elements in the global power equation. Bab El-Mandeb exemplifies the intersection of maritime security, economics, and geopolitics. Ensuring the security of these vital passages demands a comprehensive, multilayered approach encompassing international cooperation, maritime diplomacy, and reinforced security infrastructure across the surrounding regions.

 

 

Les passages maritimes et leur importance :  le détroit de Bab El-Mandeb comme modèle

­Général de Brigade (à la retraite) Salah Janbein


Les détroits maritimes constituent aujourd’hui l’un des points névralgiques les plus importants du système international contemporain. Ils jouent un rôle central dans les flux du commerce mondial et la sécurité énergétique, en servant de passerelles stratégiques reliant continents et États. À cet égard, le détroit de Bab El-Mandeb illustre de manière exemplaire l’importance géopolitique de ces passages, par sa position charnière entre la mer Rouge et le golfe d’Aden, reliant l’océan Indien à la mer Méditerranée via le canal de Suez.
Cette étude examine l’importance stratégique et économique des principaux corridors maritimes, notamment Bab el-Mandeb, le canal de Suez et le détroit d’Ormuz, en tant qu’axes essentiels du commerce international, par lesquels transite une large part des exportations mondiales de pétrole et de marchandises. Ces passages concentrent les intérêts géopolitiques des grandes puissances et peuvent devenir des foyers potentiels de confrontation armée.
La deuxième partie revient sur la dimension historique des conflits militaires et politiques autour de ces détroits, qu’il s’agisse des guerres liées au canal de Suez, des tensions récurrentes dans le détroit d’Ormuz, ou des conséquences sécuritaires des conflits dans la Corne de l’Afrique sur Bab El-Mandeb. Ces événements montrent comment les corridors maritimes peuvent se transformer en théâtres de confrontation géostratégique.
Dans la troisième partie, l’étude analyse le rôle actuel de Bab El-Mandeb comme porte maritime stratégique entre l’Orient et l’Occident, essentielle pour le transport de pétrole et de marchandises. Elle aborde les principaux défis sécuritaires, notamment la piraterie, l’intensification des conflits régionaux et leurs répercussions sur la liberté de navigation et la stabilité de la région.
La quatrième partie présente une vision prospective de l’avenir de Bab El-Mandeb à la lumière des mutations géopolitiques actuelles. Elle insiste sur la nécessité de mettre en place un mécanisme international de sécurisation du détroit, reposant sur le renforcement de la coopération régionale, la stabilisation politique des États riverains, l’intensification de la présence navale internationale, et la mise en œuvre de dispositifs de réponse rapide aux crises.
L’étude se conclut par une analyse de la relation dialectique entre détroits maritimes et conflits régionaux, à travers l’exemple du détroit d’Ormuz dans le contexte des tensions croissantes entre l’Iran et Israël. Ce cas met en lumière l’usage de ces passages comme instruments de pression stratégique, avec des conséquences directes sur les marchés énergétiques et la sécurité régionale et internationale, notamment face aux menaces iraniennes de fermeture du détroit en guise de dissuasion.
En définitive, cette étude affirme que les détroits maritimes ne sont pas de simples voies de navigation, mais des acteurs majeurs dans l’équation du pouvoir mondial. Bab El-Mandeb en est un exemple vivant, à la croisée de la sécurité maritime, de l’économie et de la géopolitique. Garantir la sécurité de ces passages vitaux impose une approche intégrée et multilatérale, alliant coopération internationale, diplomatie navale et renforcement des infrastructures de sécurité dans les zones adjacentes.