المنظمات الدولية والإقليمية تحت وطأة العولمة

المنظمات الدولية والإقليمية تحت وطأة العولمة
إعداد: د. عدنان السيّد حسين
أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية.

صار مصطلح العولمة متداولاً مع انتهاء الحرب الباردة وسقوط الإتحاد السوفياتي, وقبل هذه المرحلة لم يكن مطروحاً لا في وثائق الأمم المتحدة ولا في وثائق سائر المنظمات الدولية والإقليمية. ومن اللافت أن تتضارب محدّدات العولمة في إطارها الزمني, ومجالها المكاني, ومضامينها الوظيفية. حتى أنّ بعض الكتّاب يرجعها إلى الوراء, إلى بداية النهضة الأوروبية بعد عصر التنوير!
ثمّة خلط بين مفهوم العولمة, ومفهوم العالمية. وهناك اختلاف في تحديد مضمون المصطلح وفي أبعاده, خصوصاً إذا كان الأمــر يتعلــق بالمنظمات الدوليـــة والإقليمية.
إلى ذلك, يشهد التنظيم الدولي ظاهرتين مهمتين هما: تبلور مجتمع مدني عالمي من خارج الأطر الحكومية أو الرسمية. وصعود الإقليمية في ظل العولمة بصورة لم يشهدها العالم من قبل, حتى بتنا أمام إشكالية مركّبة هي: كيف تبرز العولمة وتتوسّع بالتزامن مع صعود الإقليمية؟
ثم, كيف تضغط العولمة على المنظمات الإقليمية والدولية في هذا العصر الذي يشهد متغيّرات دولية جارفة تتسم بالسرعة والدينامية المفرطة؟
بين العالمية والعولمة

يجدر التمييز بين العولمة Globalization والعالمية Universality, على صعيد المصطلح ومضمونه. فالعولمة تفترض إخضاع العالم لنمط محدّد من العلاقات الدولية والعالمية وفق تصوّر منضبط. بينما تنطوي العالمية على التفاعل بين الدول والشعوب في سياق تكاملي وتفاعلي حرّ. العولمة تقوم على الفرض والإملاء, أما العالمية فإنها تعاون على كافة المستويات وفي مختلف المجالات التي تهم العالم.
لو لم تحصل الثورة المعلوماتية وما يرافقها من ثورة الإتصالات, هل كانت العولمة لتقوم وتتوسّع في مدة زمنية قصيرة نسبياً؟
ولو لم تنتهِ الحرب الباردة مع سقوط الاتحاد السوفياتي, وتتقدّم الولايات المتحدة نحو قيادة النظام العالمي بعد متغيرات دولية صاخبة, هل كان العالم مشغولاً إلى هذا الحد بظاهرة العولمة؟
ثمّة اضطرابات في التعامل مع مصطلح العولمة, وفي تحديد مضامينه. هناك من يركّز على العامل التقاني (التكنولوجي) , أو عولمة الإنتاج الاقتصادي ([1]). أو ان العولمة هي حرية حركة رؤوس الأموال والسلع عبر الحدود بدون عقبات تقليدية. أما برنامج الأمم المتحدة الإنمائي .U.N.D.P قإنه يجد العولمة في أكثر من تدفّق المال والسلع, مع انكماش المكان, وانكماش الزمان, واختفاء الحدود ([2]), بحيث أنّ فرص العولمة أو فوائدها لم يجرِ تقاسمها تقاسماً عادلاً بين الأفراد والشعوب.
قد تنطوي العولمة هذه على محفّز للدول والشعوب كي تنهض من تخلفها بإصرار إنساني على بلوغ التقدم, ومنافسة القوى الدولية المتقدمة. وقد تبرز إيجابيات للعولمة من خلال الأمم المتحدة وسائر المنظمات الدولية والاقليمية, إذا سعت هذه المنظمات لاعتماد قواعد دولية واحدة ومطبّقة من أجل حماية البيئة الطبيعية من التلوّث, وصون التراث الثقافي العالمي المشترك, وتطوير منظمة الصحة العالمية لمكافحة الأمراض والأوبئة, والقضاء على الأميّة, ومواجهة المجاعات المتنقلة... بيد أن العولمة تقوم أساساً على الفرض والإملاء والإخضاع على قاعدة القوة, وكيف إذا كانت هذه القوة متمثلة بقوى السوق التي تؤثّر في أداء الدول وكذلك المنظمات الدولية والإقليمية؟
 

الإطار العام للتنظيم الدولي
منذ القرن التاسع عشر والمجهودات الدولية مستمرة لتنظيم العلاقات الدولية, توخياً لتحقيق التعاون الدولي والانفراج الأمني والسياسي. فمن مؤتمر فيينا سنة 1815 الذي أرسى قواعد العلاقات الأوروبية في إطار توازن القوى بعد حروب نابليون, إلى مؤتمر باريس سنة 1856, ثم مؤتمري برلين 1868 و1872 لرعاية المصالح الأوروبية على المستويين القاري والعالمي.
ثم تطوّرت فكرة التعاون الدولي باتجاه فكرة التنظيم الدولي مع قيام عدّة اتحادات دولية لتنظيم التعاون في مرافق محدّدة, مثل اتحاد التلغراف الدولي في العام 6581, واتحاد البريد العالمي في العام 1874, والمكتب الدولي للموازين والمقاييس في العام 1883... على أنّ مجمل هذه المؤتمرات والاتحادات تمّّ بمبادرات أوروبية, في وقت كان فيه النظام الدولي ­ بالمعنى الواقعي ­ يكاد يُختصر بالنظام القاري الأوروبي طالما أنّ القوى الدولية الأوروبية هي التي تتحكّم بموازين الحرب والسلم.
في مطلع القرن العشرين دعا قيصر روسيا نيقولا الثاني إلى عقد مؤتمرات دولية, ولقاءات دبلوماسية للنظر في مشكلات العالم, فانعقدت مؤتمرات لاهاي في عامي 1899 و1907, بمشاركة دول أوروبية وغير أوروبية, لدراسة سُبل تجنّب وقوع الحرب, وطرق تسوية النزاعات الدولية بالوسائل السلمية, بما في ذلك تشكيل لجان التحقيق الدولية وإنشاء محكمة التحكيم الدولية...
بيد أنّ التنظيم الدولي بمعناه الشامل, والأكثر تحديداً, كان بعد الحرب العالمية الأولى مع إنشاء عصبة الأمم في العام 1919, لتكون بمثابة أول منظمة دولية مفتوحة العضوية لكافة الدول, ومنفتحة على دراسة مشاكل العالم في تفاصيلها كافة.
اكتسبت عصبة الأمم صفة العالمية من خلال العضوية المفتوحة, مع الإشارة إلى أنّ الدول المؤسّسة هي تلك التي انتصرت في الحرب الأولى ومن تحالف معها من الدول الأخرى ([3]). وقد وصل عدد الدول المنضوية إلى 58 دولة في العام 1937 ثم هبط إلى عشر دول فقط في العام 1943 تحت وطأة الحرب العالمية الثانية, حيث لم تتمكن هذه المنظمة الدولية من تحقيق أهدافها في: تطبيق مبدأ الأمن الجماعي لصون السلم والأمن الدوليين, وتسوية النزاعات بالطرق السلمية, ونزع السلاح من خلال مطالبة الدول الأعضاء بتخفيض التسلّح. وعندما طغت الدول الأوروبية على أعمالها, وترددت في اتخاذ مواقف حازمة تجاه عدد من القضايا الدولية الساخنة, سقطت عصبة الأمم مع اتساع دائرة الحرب العالمية الثانية, لتفتح الطريق أمام منظمة دولية جديدة هي الأمم المتحدة.
تجدر الإشارة إلى أنّ منظمة الأمم المتحدة هي المنظمة الأم لكافة المنظمات الدولية, من حيث سمو ميثاقها الأممي في القانون الدولي العام, ومن حيث عضويتها المفتوحة لكافة الدول المستقلة, ومن حيث اضطلاعها بثلاثة أهداف كبرى تهم الأسرة الدولية مجتمعة, إنها:
1- ­ حفظ السلم والأمن الدوليين.
2- ­ تحقيق التعاون الدولي في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية كافة.
3- ­ الدفاع عن حقوق الانسان وحقوق الشعوب بلا تمييز بين البشر ([4]).


ارتفع عدد الدول الأعضاء في الأمم المتحدة من 51 دولة مؤسسة شاركت في مؤتمر سان فرانسيسكو سنة 1945, إلى 189 دولة في نهاية القرن العشرين. وهذا ما يعكس الاتساع الجغرافي لنطاق العضوية بعد ارتفاع عدد الدول المستقلة حتى صارت الجمعية العامة للأمم المتحدة بمثابة البرلمان العالمي ­ لا نقول البرلمان المعولم ­ الذي تتساوى فيه الدول من ناحية العضوية.
أشار ميثاق الأمم المتحدة في المادة 57 إلى إمكانية إنشاء وكالات متخصصة بمقتضى اتفاق بين الدول. إنها منظمات دولية متخصصة تعمل تحت إشراف المجلس الاقتصادي والاجتماعي الذي يُعتبر فرعاً رئيسياً من فروع الأمم المتحدة. وهي تحقق التعاون الدولي في مجالات اقتصادية وثقافية واجتماعية فنية وإنسانية.
نشير إلى أن هذه المنظمات الدولية المتخصة كانت بدأت بالظهور منذ أواسط القرن التاسع عشر, مثل: إتحاد التلغراف الدولي (1856), واتحاد البريد العالمي (1874), والاتحاد الدولي للتعريفات الجمركية (1890)...
ثم نشأت منظمات جديدة في القرن العشرين قبل تاريخ قيام الأمم المتحدة وبعده. نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: المعهد الدولي للزراعة (190), والمكتب الدولي  للصحة  العامة

(1907), ومنظمة العمل الدولية (1919), ومنظمة الصحة لعالمية (1947), ومنظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية (1966)...
بعض المنظمات الدولية المتخصصة تتبع في أعمالها الجمعية العامة للأمم المتحدة, وبعضها الآخر يتبع المجلس الاقتصادي والاجتماعي (كما يشير الرسمان البيانيان) ([5]). وهي تتمتع بالصفة الدولية لأن عضويتها مفتوحة أمام كافة الدول, وتتخطى في نشاطاتها الأقاليم الجغرافية المحدّدة.
إلى جانب المنظمات الدولية المتخصصة, برزت المنظمات الدولية غير الحكومية, أو المنظمات الدولية ذات الطابع الأهلي, أو المنظمات الدولية التي تعمل في إطار المجتمع المدني العالمي الذي يتجاوز حدود الدول ليطاول جغرافية العالم. إنها منظمات لا تنشأ بموجب اتفاق بين الحكومات, وإنما تنشأ باتفاق بين جماعات وأفراد وهيئات من دول عدّة, بهدف زيادة التعاون الدولي والدفاع عن قيم ومباديء إنسانية. نذكر على سبيل المثال: الصليب الأحمر الدولي, الاتحاد البرلماني الدولي, الغرفة الدولية للتجارة, الاتحاد الدولي لنقابات العمال... إنها منظمات لا ترتبط بجنسية واحدة, أو إقليم واحد, لذلك تكتسب صفة العالمية ([6]).
على ذلك, لم تعد فكرة التنظيم الدولي مجسّدة بمنظمة الأمم المتحدة وحدها على رغم مركزيتها وصدارتها في هذا التنظيم. وإنما توسّعت الفكرة وصارت تشمل المنظمات الدولية المتخصصة والمنظمات الدولية غير الحكومية, هذا بالإضافة إلى المنظمات الاقليمية التي تتكامل في أعمالها على المستوى العالمي.

صعود الإقليمية
تحدّث ميثاق الأمم المتحدة في الفصل الثامن عن المنظمات الاقليمية ودورها في مساعدة الأمم المتحدة على تحقيق أهدافها ([7]). وسمح بقيام التنظيم الاقليمي شرط ألاّ يتعارض في أهدافه وأنشطته مع المنظمة الدولية الأم. وقد اضطلع هذا التنظيم في القرن العشرين بالمهمات الآتية:
1-­ المساهمة بتسوية النزاعات داخل الدولة, أو الإقليم, بالطرق السلمية وذلك قبل أن تُعرض هذه النزاعات على مجلس الأمن الدولي.
2-­ لا يستطيع التنظيم الإقليمي أن يتدخّل بالقوة لفرض حل معيّن دون إذن مسبق من مجلس الأمن.


3-­ هناك تكاملية بين التنظيم الدولي والتنظيم الإقليمي في كافة ميادين التعاون الدولي وعلى مختلف الأصعدة.


من أبرز التنظيمات الإقليمية الناشئة بعد الحرب العالمية الثانية: منظمة الدول الأميركية, إتحاد دول البحر الكريبي, منظمة الوحدة الافريقية, الاتحاد الأوروبي, رابطة الدول المستقلة المكوّنة من روسيا و11 جمهورية مستقلة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي, منظمة المؤتمر الإسلامي, جامعة الدول العربية, مجموعة آسيان في جنوب شرق آسيا... وقد تطوّر دور هذه المنظمات بعد الحرب الباردة نتيجة عاملين أساسيين هما:
1- ­ تفشّي النزاعات العرقية والقومية والحدودية ­ الإقليمية في غير منطقة من العالم, وبروز الحاجة الدولية لمعالجتها وتسويتها بالطرق السلمية من خلال الأدوار الممكنة التي تقوم بها المنظمات الإقليمية.
2- ­ مع ثورة المعلوماتية, وازدياد التنافس الاقتصادي, راحت الدول تتكتّل إقليمياً بغية مواجهة التحديات الجديدة حفاظاً على معدّلات التنمية, وتوخياً لمزيد من النمو الاقتصادي والاجتماعي.
بتعبير آخر, ثمّة عودة إلى الإقليمية أو التكاملية في إطار جغرافي محدّد, بصرف النظر عن مدى قوة هذ التنظيم الاقليمي أو ذاك. وفي الوقت الذي تندفع فيه اتجاهات العولمة في مطلع القرن الواحد والعشرين, وتفرض معادلاتها الجديد في الاقتصاد والتِقانة والسياسة, تقف الإقليمية لتدافع عن الخصوصية الوطنية والقومية في إطار المصالح الإقليمية لتدافع عن الخصوصية الوطنية والقومية في إطار المصالح والأهداف المحدّدة. هل هذا يعني أن الإقليمية تقف على طرف نقيض مع العولمة؟
ليس من الضروري أن تتصدّى الاقليمية دائماً للعولمة, فقد تلتقي مع العولمة كما حصل في اتفاقيات غات GATT التي فتحت الطريق أمام قيام منظمة التجارة العالمية W.T.O , من حيث أن الكتل الاقليمية راحت تتأقلم مع متطلبات السوق الحرة والخصخصة في ميدان الاقتصاد, وتمهّد لعولمة اقتصادية على رغم معارضة عدد كبير من الدول النامية لاتجاهات العولمة ([8]) . بيد أن هذا التأقلم في الاقتصاد لم يتحقق في السياسة دائماً وبصورة متوازية.

ثمّة تأرجح بين الخصوصية والعولمة, ينسحب على التنظيم الاقليمي الدولي. فالنظام العالمي يمرّ في مرحلة انتقالية حيث يشهد تجاذبات متعاكسة أو متقابلة. تجاذب باتجاه فريد من العولمة, أو تجاذب نحو التمسك بالخصوصية الاقليمية. وما بين هذين الحدّين تختلط المواقف السياسية للدول, وتنعكس تالياً على مدى أنشطة المنظمات الدولية والاقليمية.
هناك أحياناً تراجع لسيادة الدولة تحت ضغط المتغيرات العالمية, وبروز لخصوصيات إقليمية انفصالية داخل الدولة الواحدة, كما حصل في أندونيسيا (تيمور الشرقية), أو صربيا (ألبان كوسوفو), أو روسيا (الشيشان)...
فكيف ستواجه هذه المجموعات الانفصالية متطلبات العولمة وتحدياتها؟
عل صعيد آخر, تجتاح الشركات متعددة الجنسية, أو الشركات العابرة لللحدود, خصوصية الرأسمال الوطني, وتالياً خصوصية السيادة الوطنية. والاتجاه العالمي الصاعد لانخراط الدول في منظمة التجارة العالمية سوف يحاصر الدولة والتنظيم الاقليمي معاً من خلال فرض معايير جديدة في التجارة الحرة والأسواق الحرة. بيد أن الاقليمية في المقابل تحاول الدفاع عن مصالح الدول المنضوية فيها ([9]).
هل يمكن للتنظيم الدولي أن يتعاون مع التنظيم الاقليمي في ظل العولمة؟
نعم, يمكن أن يتحقق هذا التعاون إذا ما توفّر عنصر المتابعة. على سبيل المثال, هناك قرار اتخذته الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 1998 ([10]), يتعلق بالتعاون بين الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية في جميع الميادين, وزيادة الاتصالات بينهما وتحسين آلية التشاور مع البرامج والمنظمات والوكالات النظيرة في ما يتعلق بالمشاريع بغية تيسير تنفيذها. ولا يقتصر التعاون المذكور على المنظمة الدولية والمنظمة الاقليمية, وإنما يتجاوزها إلى الوكالات التابعة لهما.
هناك أمثلة عدّة عن التعاون بين التنظيم الدولي والتنظيم الاقليمي في المجال الأمني, وتحديداً في مهمة حفظ السلام. ثمّة تعاون حاصل بين الأمم المتحدة وكل من رابطة الدول المستقلة في آسيا الوسطى, والاتحاد الأوروبي في البلقان, ومنظمة الوحدة الافريقية في منطقة البحيرات وفي سيراليون, ومنظمة الدول الأميركية في هايتي... ناهيك عن التعاون على صعيد معالجة التصحّر والمجاعات والأمراض والأميّة....
بيد أنّ السؤال الملحّ هو: هل تقوى منظمة الأمم المتحدة على مواجهة ضغوط العولمة مع الاحتفاظ بشخصيتها القانونية وإراداتها السياسية بعيداً من الأضواء؟
 

المنظمة الدولية وضغوط العولمة
لم تخفِ الإدارة الأميركية سياستها بعد الحرب الباردة والهادفة إلى التأثير في قرارات الأمم المتحدة. حسبنا الإشارة إلى البرنامج الرئيسي الذي طرحه بيل كلينتون في عهده الأول, وتابعه في عهده الثاني, القائم على الربط بين السياسة الخارجية الأميركية وتحرّك الأمم المتحدة لمواجهة الأزمات والنزاعات الدولية. لقد اتسمت إدارة الأزمات الدولية في مرحلة صعود القوة الأميركية إلى مستوى قيادة النظام العالمي باحتواء تحرّك الأمم المتحدة إلى حدٍ بعيد. يمكن ملاحظة الضغوط الأميركية على مجلس الأمن الدولي في قضايا حسّاسة على صعيد السلم والأمن الدوليين مثل: حرب الخليج الثانية في شباط 1991 والموقف من حصار العراق. أزمة الشرق الأوسط لجهة عدم تنفيذ قرارات الشرعية الدولية الخاصة بانسحاب اسرائيل من الأراضي العربية المحتلة. حصار ليبيا بعد نشوء أزمة لوكربي. التدخّل الأميركي في هايتي تحت شعار حماية النظام الديمقراطي... ويمكن ملاحظة ضغط فرنسي آخر على الأمم المتحدة في قضية رواندا (منطقة البحيرات) لتبرير التدخل الفرنسي هناك وسط أجواء محمومة من التنافس الفرنسي ­ الأميركي في القارة الأفريقية.
هذا على الصعيد السياسي. وعلى الصعيد القانوني, فإنّ السؤال المطروح في عصر العولمة هو: ما هو موقف القانون الدولي العام عند حصول التعارض بين الشخصية القانونية للدولة والشخصية القانونية للمنظمة الدولية؟ هذا ما ينطبق على العلاقة بين الولايات المتحدة ومنظمة الأمم المتحدة على سبيل المثال.
إذا تعارضت إرادة المنظمة الدولية مع سياسة هذه الدولة أو تلك, فإنّ المنظمة الدولية معنيّة بتنفيد مضمون ميثاقها التأسيسي بما يحمله من مبادئ وأهداف. وأهم مبدأ يجب أن يسود في عمل الأمم المتحدة هو مبدأ المساواة في السيادة بين الدول ([11]).
ثمّة تجاوز لهذا المبدأ في الأمثلة المشار اليها, ناهيك عن استمرار نظام التصويت في مجلس الأمن القائم على استخدام حق النقض (الفيتو) من جانب الدول الخمس الكبرى منذ قيام الأمم المتحدة, ولم يتعدّل هذا النظام بعد على رغم المطالبات الدولية والعالمية باعتماد نظام آخر أكثر مرونة وأكثر تمثيلاً للإرادة الدولية بعيداً من الاتسئثار بالسلطة العالمية.
في ظلّ العولمة, قد يتعزّز المجتمع المدني العالمي, أو تتعزّز المنظمات الدولية غير الحكومية, خاصة بفعل الثورة المعلوماتية التي سهّلت الاتصالات بين الناس. بيد أن الوجه الآخر للعولمة أو الوجه المظلم يتمثّل في نشوء مجتمع عالمي غير مدني, يتجاوز بإمكاناته المادية أحياناً إمكانات الدول. ويستخدم التِقانة الحديثة من أجل تهريب الأموال والمخدرات, وانتشار الجريمة المنظمة والإرهاب على مستوى الأفراد والجماعات والدول ([12]). ثمّة قدرات مالية وتِقانية لهذا المجتمع غير المدني, دون أن تتمكن المنظمات الاقليمية والدولية حتى الآن من مواجهته أو محاصرته والحدّ من مخاطره.
إلى ذلك, لم تتمكن تلك المنظمات من التخفيف من فوضوية النظام العالمي. إنه نظام يتّسم بالفوضى من حيث تهديد هيكليات الدول, واضطراب الأسواق المالية بسرعة, عدا عن انتشار العنف الداخلي والاقليمي في غير منطقة, مع وضع علامة استفهام كبيرة على مستقبل السلاح النووي مع انخراط جماعات غير منضبطة في المجتمع المدني العالمي, وذات نفوذ وقدرة مالية على الإتجار بهذا السلاح الخطير المهدّد للسلام العالمي. وكما ان دولاً تفككت في العقد الأخير من القرن العشرين فإنّ دولاً أخرى مرشّحة للتفكك, بعضها في الشمال وبعضها الآخر في الجنوب ([13]). ولعل أخطر ما يصيب الدولة والمجتمع الدولي هو ظاهرة تفكك الدولة وسقوط هيكلياتها في ظل الفوضى, مع ما يرافقها من مشكلات نزوح وتهجير وأعمال قتل وتدمير.
عملت الأمم المتحدة علي إيجاد حشد عالمي, من الحكومات والمنظمات غير الحكومية, بغية معالجة قضايا أساسية تهمّ المجتمع الدولي. في مقدمتها قضايا البيئة والتنمية والفقر وحقوق الإنسان والمرأة. وقد أشرفت على تنظيم وإدارة مؤتمرات عالمية على مستوى القمة, حضرها رؤساء الدول والحكومات, وممثلو المنظمات المدنية غير الحكومية. هكذا من مؤتمر ريو دي جانيرو (1992) حول البيئة والتنمية, إلى مؤتمر فيينا لحقوق الإنسان (1993), إلى مؤتمر القاهرة للسكان والتنمية (1994), إلى مؤتمر كوبنهاغن للتنمية الاجتماعية (1995)... فضلاً عن المؤتمرات الاقليمية التي نظمتها المنظمات الاقليمية لمعالجة القضايا نفسها, واتخاذ إجراءات دولية ملائمة ([14]) . وقد عكست هذه المؤتمرات توجّهاً ديبلوماسياً دولياً يمكن تسميته بديبلوماسية المؤتمرات العالمية. حيث تتكامل مجهودات الحكومات مع مشاركة المجتمع المدني العالمي من خارج أطر الدبلوماسية التقليدية, أو الكلاسيكية, التي اتصفت بالسريّة في أروقة المؤسسات الحكومية أو الرسمية. أي أن الرأي العام بات فاعلاً ومشاركاً في هذه الحشود العالمية, وضاغطاً على الحكومات حتى تندفع نحو اتخاذ سياسات عالمية رشيدة. ولا نقول سياسات عولمة بعدما اتضحت مواقف بعض الدول الصناعية الكبرى المتعلقة بالاستئثار بالموارد والثروات. فموقف الولايات المتحدة المعارض لمعاهدة التنوّع البيولوجي في مؤتمر ريو المذكور يدلّل علي التمسّك بالمصالح الاقتصادية والمالية, حتى ولو كانت على حساب سلامة البشرية وحماية البيئة الطبيعية من التلوّث بفعل انتشار الغازات السامة المنبعثة من المصانع في الولايات المتحدة وكندا... كما ان الدول الصناعية الكبرى لم تلتزم بتوصيات المؤتمرات العالمية الخاصة بالتنمية ومجابهة الفقر, عندما تراجعت مساهماتها المالية في تنمية الدول الفقيرة والرازحة تحت عبء المديونية ([15]).
إنّ هذا التوجّه العالمي الذي أشرفت عليه الأمم المتحدة في العقد الأخير من القرن العشرين اصطدم بضغط العولمة الذي تقوم به الدول الصناعية الكبرى. عولمة الأسواق والشركات الكبرى, وعولمة التِقانة الحديثة وما يرتبط بها من اتصالات ومواصلات... لذلك كان متوقعاً أن يبرز تيار عالمي معارض للعولمة, لا يقتصر على الدول النامية ­ أو دول الجنوب ­ وإنما يشمل كذلك مجموعات اجتماعية وسياسية مختلفة من الدول الصناعية. هذا ما تكرّر بصورة علنية, وعبر الفضائيات المعولمة, أثناء انعقاد مؤتمرات منظمة التجارة العالمية. وهذا ما يشير بشكل أو بآخر إلى الفروقات الجليّة بين العولمة والعالمية. بين توجّه دولي يملي على المجتمع الدولي ­ بما فيه المنظمات الدولية والاقليمية ­ سياسات معيّنة, وتوجّه عالمي يسعى للمشاركة في معالجة المشكلات الدولية ضمن إطار التعاون والتكافؤ الدوليين.
في الذكرى الخمسين لتأسيس الأمم المتحدة (1995), أُطلقت موجة عالمية من التفكير بمستقبل المنظمة الدولية. فالجامعات شهدت مناقشات حول الذكرى, والحكومات أقامت احتفالات. ناهيك عن إصدار الطوابع البريدية التذكارية, والعملات التذكارية في هذه المناسبة ([16]). وظهرت دراسات حول تطوير الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والاقليمية بصورة عامة.
هذه موجة عالمية, وليست موجة عولمة, سلّطت الأضواء على التعاون الدولي, خاصة في مجالات حماية البيئة وتحقيق التنمية المستدامة ومعالجة ظواهر الفقر وأسبابه... بيد أنّ هذه الموجة العالمية سرعان ما اصطدمت بزحف العولمة وما تتركه من آثار سلبية على الأمن والتنمية وحقوق الإنسان والشعوب.
يقول أمين عام الأمم المتحدة كوفي أنان في تقريره  السنوي  إلى  الجمعية  العامة في العام 1997 ([17]) كلاماً محدداً عن العولمة والعصر الجديد الذي تعيشه الإنسانية, ونقتبس منه ما يأتي:
عصرنا هذا هو عصر إعادة ترتيب الأوضاع... ثمّة تعبيرات عن المأزق الانساني غاية في التفاوت تتعايش الآن في توتر قلق. فالعولمة تعمّ العالم أجمع في وقت يتعاظم فيه, مع ذلك, التجزؤ وتأكيد الفروق. ومناطق السلام تتسع في وقت تتضاعف فيه اندلاعات العنف الرهيب! وينشأ من الثروات ما لم يسبق له مثيل, ولكن يبقى هناك جيوب فقر ضخمة متوطّنة. وإرادة البشر وحقوقهم الأصلية تُحترم, ولكنها تُنتهك في الوقت نفسه. وبفضل العلم والتكنولوجيا تتحسّن حياة الإنسان بينما تهدّد نتائجها الفرعية شرايين الحياة على ظهر الكوكب.
يضيف أمين عام الأمم المتحدة في تقريره السنوي: ليس من المستحيل على قوى الإرادة السياسية ترجيح كفة الميزان في هذه المرحلة الانتقالية نحو سلام مضمون يمكن التنبؤ به بدرجة أكبر. إلاّ أن ما من بلد يستطيع بمفرده تحقيق هذه المنافع العامة, وما من بلد ببعيد أيضاً عن مخاطر العيش بدون هذه المنافع وعن تحمّل أعباء الحياة بدونها....
يطرح هذا التقرير جملة أسئلة, ويثير إشكاليات عدّة, بينها:
العولمة تنتشر, بينما تتأكد الفروق بين الشعوب والدول.
تتّسع مناطق السلام, في وقتٍ تتضاعف فيه ظواهر العنف الرهيب.
تتراكم الثروات عند قلة, أو عند أفراد وشركات, فيما تتوطّن جيوب الفقر.
كوكب الأرض مهدّد في البيئة الطبيعية على رغم تحسّن ظروف حياة الانسان فيه...
إذا كان الأمر كذلك, كيف يقتنع أصحاب الثروات المعولمة أن البشرية متكافلة ومتضامنة في فقرها أو غناها؟
وكيف يمكن ان تتخلى الدول الكبرى, صاحبة العضوية الدائمة في مجلس الأمن, عن جزء من سلطتها الفعلية لصالح الأسرة الدولية على قواعد التكافؤ في العلاقات الدولية؟
ثم, كيف يمكن تجنيب المنظمات الدولية والاقليمية مخاطر الآثار السلبية للعولمة؟ أو بتعبير آخر, كيف يمكن إعمال قواعد القانون الدولي بعيداً من إزدواجية المعايير وطغيان السياسة الدولية؟
قد يبدو ذلك حلماً طوباوياً, أو دعوة رومانسية جديدة كما لو كنا في جمهورية أفلاطون, أو في عصر النهضة الأوروبية الأولى. فالقوة هي التي كانت, وما تزال, تتحكّم بالعلاقات الدولية وبالنظام العالمي وما فيه من تفاصيل وتعقيدات وعوامل متشابكة.
هذا الصراع الظاهر والمستتر بين إرادة التعاون الدولي من جهة, وزحف العولمة من جهة أخرى, يفسّر جانباً مهماً من الاختلاف بين العولمة والعالمية, ويطرح على الانسانية تحديات جديدة بفعل ثورة المعلومات والاتصالات الجارية.

[1] Anthony G. MC Grew and Paul G. Lewis, Global politics: Globalization and the Nation state, Cambridge, 1992, pp. 1-30.

[2] أنظر: تقرير التنمية البشرية, الأمم المتحدة, برنامج الأمم المتحدة الإنمائي U.N.D.P , نيويورك, 1999.

[3] بلغ عدد الدول المؤسسة لعصبة الأمم 32 دولة هي: الولايات المتحدة, بلجيكا, بوليفيا, البرازيل, المملكة المتحدة, كندا, استراليا, جنوب افريقيا, نيوزيلندا, الصين, الهند, كوبا, الاكوادور, فرنسا, اليونان, غواتيمالا, هايتي, الحجاز (المملكة العربية السعودية لاحقاً), هندوراس, إيطاليا, اليابان, ليبيريا, نيكاراغوا, بنما, بيرو, بولندا, البرتغال, رومانيا, مملكة الصٍرب والكروات والسلوفيين, سيام (تايلاند), تشيكوسلوفاكيا, أوروغواي.

[4] أنظر ديباجة ميثاق الأمم المتحدة المعتمد دولياً منذ العام 1945.

[5] راجع: محمد سعيد الدقاق ومصطفى سلامة حسين, المنظمات الدولية المعاصرة, الدار الجامعية, بيروت, 1990, ص 4.

[6] نظّمت المادة 71 من ميثاق الأمم المتحدة العلاقة بين المجلس الاقتصادي والاجتماعي وهذه المنظمات الدولية غير الحكومية التي تتمتع بالمركز الاستشاري.

[7] أنظر المواد 52 و53 و54 من ميثاق الأمم المتحدة.

[8] برزت هذه المعارضة في دول الشمال نفسها أثناء انعقاد المؤتمرات الدولية لمنظمة التجارة العالمية في سياتل ودايغوس وكندا في عامي 1999 و2000. هذا بالإضافة إلى معارضة جنوبية واضحة لسياسات الخصخصة والسوق الحرة.

[9] من بين الأسباب التي قادت الولايات المتحدة وكندا والمكسيك إلى اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية NAFTA رغبة هذه الدول في الدفاع عن مصالحها الاقتصادية عند حصول متغيرات مفاجئة على الصعيد العالمي.

[10] أنظر: الجمعية العامة, الأمم المتحدة, الدورة الثالثة والخمسون, 29101998 A/RES/53/8) ).

[11] راجع المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة.

[12] أنظر: الأمم المتحدة, تقرير الأمين العام عن أعمال المنظمة, الجمعية العامة, الدورة الرابعة والخمسون, الملحق رقم (1), نيويورك, 1999. A/54/1

[13] أنظر التقارير السنوية من العام 1995 حتى العام 2000 الصادرة عن المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن International Institute for Strategic Studies, London, Oxford University,1995-2000 I.I.S.S) ).

[14] أنظر كتابنا: نظرية العلاقات الدولية, منشورات الجامعة اللبنانية, الإدارة المركزية, بيروت, 1998, ص 147 ­ 154.

[15] كانت الدول الصناعية تعهّدت بتخصيص أقل من واحد في المئة من ميزانياتها المالية لدعم مشروعات التنمية في البلدان الفقيرة, ثم تراجعت عن هذا الدعم.

[16] لمزيد من التفاصيل أنظز: الأمم المتحدة, الجمعية العامة, الدورة الحادية والخمسون, تقرير الأمين العام عن أعمال المنظمة, آب 1996, A/51/1) ). ص 32 و33.

[17] الأمم المتحدة, تقرير الأمين العام عن أعمال المنظمة, 1997, الجمعية العامة, الدورة الثانية والخمسون, الملحق رقم 1 A/52/1) ).