وجهة نظر

المواجهة حول الجدار الفاصل مع المكسيك تغلق الحكومة الأميركية
إعداد: جورج علم

«نيويورك تايمز: رئيس يخوض كل يوم حربًا يشنّها بمفرده!»

 

قالها يومًا، وذهبت العبرة مع مواكب الأيام لتستريح في ذمة التاريخ، وتختمر في أجاجين الأمة، يحن إلى حكمتها الملهمة، جهابذة الدساتير، وملافنة القوانين للغرف من معينها إسنادًا لحجّةٍ، أو دعمًا لوجهة نظر. إنّه جورج واشنطن الرئيس الأول (1789-1797)، وأحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأميركية، الذي قال مخاطبًا «المجمع الانتخابي» يومها، متوجهًا من خلاله إلى الأمة: «إنّ في دستورنا كنوزًا من ذهب، حافظوا عليه!».

 

في الدول الديموقراطية العريقة كلها دساتير، وأنظمة، ورئاسات، وقضاء، ومجالس نواب، وشيوخ، ومؤسسات، لكن الأمر مختلف في الولايات المتحدة، إنّه شيء من كل هذا، محبوك بقطبة سحرية اسمها الدستور الأميركي. يقال عن النظام إنّه رئاسي، وهذا صحيح إلى حد؛ وديموقراطي، فهناك كونغرس، ومحاسبة مستمرة، وهذا صحيح أيضًا، إنّما إلى حد؛ وفدرالي مركّب، وفي هذا صحة وعبرة. وما يجمع بين هذه النماذج المتآلفة المنصهرة كلها دستور يرشح ذهبًا، ربما لكونه «مناجم من ذهب» بفضل أبوابه، ونصوصه، ومضامينه المسبوكة بريشة حرّكتها أنامل عبقرية ملهمة.
سار القطار الأميركي يومًا معتمدًا على الفحم الحجري، إنّه يسير اليوم وتحديدًا في عهد الرئيس دونالد ترامب على الذرة وتفاعل ذرّات الصدم. تغريدات صادمة، مواقف صادمة، سياسات ترشق شظاياها في كل اتجاه من المسكونة، وتقابل بقلب الشفاه وعلامات الاستفهام، وحديثها، ما أثير في الإعلام، من دفق كلام حول «الإغلاق الحكومي»، فما هو؟ وما المقصود به؟!
 
الإغلاق الحكومي
أغلقت في الثاني والعشرين من كانون الأول 2018، العديد من الإدارات الفيدرالية في الولايات المتحدة الأميركية في إطار ما يسمى «الإغلاق الحكومي»، بعد أن أرجأ الكونغرس مداولاته، والتي جرت بين البيت الأبيض وقادة الكتل البرلمانية بشأن مشروع قانون يتعلّق بالموافقة على طلب تقدّم به الرئيس الأميركي دونالد ترامب للحصول على تمويل لبناء الجدار العازل على الحدود الأميركية مع المكسيك.
ويعني «الإغلاق الحكومي الفدرالي»، توقّف المؤسسات التي تقدّم خدمات غير أساسية مموّلة من الحكومة عن توفيرها. ويترتّب على ذلك، توقّف العاملين في تلك المؤسسات عن العمل، وعدم دفع رواتبهم إلى حين توصّل الكونغرس إلى خطة بديلة تمكّنها من استئناف عملها.
يشمل الإغلاق عددًا من الوزارات، أهمها: الأمن الداخلي، العدل، التجارة، النقل، السكن، والخزانة، وقد تأثر به 880 ألف موظف فدرالي من أصل 2.1 مليون موظف في أجهزة الدولة المختلفة. ويشمل القرار: 95 في المئة من موظفي وكالة الفضاء الأميركية (ناسا)، ووزارة الإسكان، و52 ألف موظف من إدارات الضرائب. كما يشمل البعثات الدبلوماسية في الخارج، وبعض الجنود في الجيش الأميركي، وحتى المشاركين في عمليات خاصة لا يتقاضون رواتبهم بشكلٍ مؤقت خلال فترة الإغلاق.
ويصدر قرار الإغلاق في حال عدم توافق إحدى الهيئات التشريعية على تمويل ميزانية البرامج الحكومية للسنة المالية الجديدة، فتتوقف الحكومة عن تقديم الخدمات غير الأساسية في بداية السنة المالية.
 
الإغلاق الحكومي الأطول
يعدّ هذا الإغلاق الحكومي الفدرالي الأطول في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية، وهو الثاني في عهد الرئيس ترامب، حيث كان الأول في كانون الثاني من العام 2018، واستمر 3 أيام فقط، بينما تعرّضت المؤسسات لإغلاق حكومي في عهد الرئيس السابق باراك أوباما في تشرين الأول 2013 استمر 16 يومًا، وسبقه قرار إغلاق استمر21 يومًا في العام 1995.

 

التداعيات
مع دخول الإغلاق الحكومي أسبوعه الرابع، نشر موقع «التقييم الاقتصادي» التابع للكونغرس الأميركي، موجزًا، ورد فيه: «تكبّد خسائر بمليارات الدولارات بسبب تراجع إنفاق المستهلكين، وزيادة العبء على القطاع المالي بعد تزايد قروض العاملين، وغياب للبيانات الاقتصادية الأساسية».
ونشرت صحيفة «ذا هيل» الأميركية في تقرير لها، أنّ الإغلاق الحكومي الفدرالي الجزئي قد زاد من عدم اليقين المحيط بالمشهد الاقتصادي الأميركي الذي يزداد تعقيدًا، حيث يواجه مئات الآلاف من العاملين في الحكومة الفدرالية، وأيضًا المتعاقدين معها، مستقبلًا ماليًا يحيط به الغموض مع دخول الإغلاق الحكومي أسبوعه الرابع المفتوح على احتمالات سلبية شتى، كونه أطول إغلاق في تاريخ الولايات المتحدة، إذ لم يحصل 880 ألفًا من العاملين الحكوميين على مستحقاتهم المالية في التواريخ المحددة، ما يفرض ضغوطًا على ميزانيات الأسر، ويهدد الالتزامات، مثل دفع فواتير البطاقات الإلكترونية، ومدفوعات الرهن العقاري.
واعتبرت الصحيفة، أنّ الإغلاق الطويل يفرض مخاطر على الشركات الأميركية التي لا تتعامل مباشرة مع الحكومة الفدرالية، وحددت خمس طرق يؤثّر بها سلبًا على الاقتصاد الأميركي:


- ضعف الاستهلاك:
شعرت الشركات والأعمال التي تعتمد على إنفاق المستهلكين من القوى العاملة في الحكومة بتأثير الإغلاق، إذ يمثّل إنفاق المستهلكين حوالى 70 في المئة من الاقتصاد الأميركي المقدّر بـ20 تريليون دولار.
ويقدّر مجلس المستشارين الاقتصاديين في البيت الأبيض أنّ كل أسبوع من الإغلاق يكلّف 1.2 مليار دولار، أي ما يعادل 0.3% من الاقتصاد.
ويقول المحلل الاقتصادي مارك هامريك إنّ الإغلاق الطويل يمكن أن يؤدي إلى تراجع معنويات المستهلكين، والشركات التي تضرّرت بالفعل من تقلّبات السوق، والمعارك التجارية.
 

- تجميد البيانات:
تشير الصحيفة إلى أنّ المحلّلين وصنّاع القرار سيواجهون تحديات تتعلّق بالتقييم الخاص بتأثير الإغلاق، إذ يحرم خبراء الاقتصاد من كميات هائلة من البيانات الفدرالية التي يتمّ نشرها غالبًا بشكلٍ يومي من قبل وزارة التجارة.
وتقوم الوزارة بجمع وتحليل الأرقام التي تقيس الناتج اليومي، وزيادة الأسعار، ونمو الأجور، ومبيعات التجزئة، ومقاييس التجارة الدولية التي يعتمد عليها المموّلون والتجار وصنّاع القرار في تحليلاتهم.
وكان رئيس الاحتياطي الفيدرالي جيرمو باول قد قال: إنّ إطالة أمد الإغلاق سيعيق الاقتصاد الأميركي، وإنّ البنك المركزي لديه صورة أقل وضوحًا بكثيرٍ عن الضرر بما أنّ المعلومات الاقتصادية غير متاحة.
 

- الضغط على القطاع المالي:
سارعت البنوك، والاتحادات الائتمانية لمساعدة العمال الفدراليين الذين لم يحصلوا على أجورهم بتأجيل سداد قروض الرهن العقاري، وتقديم قروض مجانية أو منخفضة التكاليف. ويقول قادة الصناعة إنّ القطاع المالي يحمل العبء في الوقت الحالي، لكن المقرضين قد يواجهون خيارات صعبة إذا استمر الإغلاق حتى شباط، إذ يمكن أن يؤدي إلى الدخول في ديون مكلفة.
وكان الرئيس ترامب قد أشار إلى أنّه سيوقّع مشروع قانون تمّ تمريره إلى الكونغرس يضمن للعاملين الفدراليين المتأثرين بالإغلاق الحصول على الأجور المتأخرة. لكن ذلك لن يحصل قبل انتهاء الإغلاق، ما يعني أنّ العاملين سيعانون لتغطية النفقات الرئيسة.
 

- عقبات أمام الشركات بمختلف أحجامها:
ليست الشركات في المراكز الفدرالية الكبرى الوحيدة المتضررة من الإغلاق، فالشركات الأصغر تكافح لمواكبة الأوضاع من دون القروض التي وعدت بها هيئة الشركات الصغيرة التي تمّ إغلاقها، في حين أنّ الشركات الأكبر، والشركات الناشئة، غير قادرة على تقديم عروض الأسهم، والوثائق المفوّضة بها من هيئة الأوراق المالية والبورصة، قبل إعادة فتح الحكومة الفدرالية بالكامل.
 

- المزيد من عدم اليقين الاقتصادي وسط مخاوف عالمية:
على الرغم من تراجع معدلات البطالة، وارتفاع النمو في الولايات المتحدة، يخشى المحلّلون من أنّ التباطؤ الاقتصادي في الصين، وفي الأسواق الناشئة، يمكن أن يؤثر على الاقتصاد الأميركي، إذ تواجه إدارة ترامب عدة تحديات اقتصادية في شهر آذار، منها الموعد النهائي الذي حددته للتوصل إلى اتفاق تجاري مع الصين، وإعادة فرض حدود الدين الفدرالي.

 

الأكمة.. وما وراءها
تختصر «نيويورك تايمز» المشهد بالقول: «ترامب يخوض كل يوم حربًا يشنّها بمفرده»، و«حربه» هذه المرة مع الكونغرس، وتحديدًا مع مجلس النواب على خلفية عدم التوصل إلى اتفاق بشأن تخصيص 5.7 مليار دولار من الموازنة العامة للجدار الذي يسعى إلى بنائه على الحدود مع المكسيك للحد من التهريب، والتسلل عبر الحدود، ووفاءً لأهم تعهداته الانتخابية، وهو ما يرفضه الديموقراطيون بشكلٍ قاطع، الأمر الذي حال دون تمرير قرار الإنفاق الحكومي حتى الآن. وقد أدى الإغلاق الجزئي للحكومة الفدرالية إلى توقّف عمل 880 ألف موظف فدرالي، وعدم قبضهم رواتبهم. كما تسبب في عدم تلقّي عدد من المتعاقدين مع الحكومة الفدرالية أموالهم.
توسّعت جبهة المواجهة، مع توسّع سياسة «الإغلاق»، ليهدد الرئيس ترامب باستخدام حقّه التنفيذي في إعلان حالة الطوارىء الوطنية على الحدود الجنوبية لتمويل الجدار من دون موافقة الكونغرس، مؤكدًا شرعية ذلك الإجراء. إلا أنّ الديموقراطيين وقفوا له بالمرصاد، وأكدوا أنهم سيصعّدون ضده قانونيًا إذا ما أعلن حالة الطوارىء.
مع مرور اليوم الـ27 من الإغلاق الجزئي للحكومة الفدرالية، كتبت رئيسة المجلس النيابي الديموقراطية نانسي بيلوسي رسالة موجهة إلى ترامب جاء فيها: «للأسف، بسبب الهواجس الأمنية، وإذا لم تفتح الحكومة قبل الـ20 من كانون الثاني، أقترح أن نعمل معًا من أجل تحديد موعدٍ آخر مناسبٍ بعد إعادة فتح الحكومة، لإلقاء الخطاب عن حال الاتحاد والمقرر في 29 كانون الثاني، أو يمكنك أن ترسل خطابك مكتوبًا في هذا التاريخ».
رسالة بيلوسي هذه، قابلها إعلان البيت الأبيض في رسالة أبلغ فيها ترامب «بأسف» رئيسة مجلس النواب بأن زيارتها الخارجية والتي ستستمر 7 أيام، وتشمل بلجيكا، ومصر، وأفغانستان، ألغيت بسبب الإغلاق الجزئي، وإنّه سيصار إلى تحديد موعد، عندما ينتهي الإغلاق.
يحصل كل ذلك في وقت اندلعت فيه المظاهرات الصاخبة في الشارع، خصوصًا من قبل النساء، فيما تفيد استطلاعات الرأي بأنّ الأميركيين يلومون الرئيس على إغلاق الحكومة الفدرالية، ويحذّره مستشاروه من التأثيرات السلبية على الاقتصاد في ظل إيقاف التمويل عن 9 من أصل 15 مؤسسة ووكالة فدرالية، وبقاء مئات الآلاف من العمال خارج عملهم، أو من دون رواتب.
يصرّ الرئيس في العلن، على أنّه لن يقدّم أي تنازلات للديموقراطيين، ويشدد على أنّه مرتاح في موقفه، إلا أنّ الجلسات الخاصة تظهر على أنّه عالق في مأزق لا يعرف كيفية الخروج منه. «لقد سحقنا»، قالها لكبير الموظفين مايك مالفاني، بعدما شاهد بعض التغطيات الإعلامية لإغلاق الحكومة الفدرالية، وذلك وفق ما نقلته صحيفة «نيويورك تايمز» عن أحد المطلعين على المحادثة.
ورغم ذلك ما زال ترامب يعتقد بأنّ البلاد لن تتذكّر إغلاق الحكومة الفدرالية، بل ستتذكّر أنّه قاتل دفاعًا عن إصراره على حماية الحدود الجنوبية، ويطمح بأن يعود الديموقراطيون إلى الطاولة مع موافقتهم على موقفه المتعلّق بالجدار...

 

تراجع جزئي

رفع الرئيس ترامب الإغلاق الحكومي الفدرالي الجزئي حتى 15 شباط 2019 ليتوصّل إلى تسوية مع الكونغرس حول الجدار، وليلقي خطاب الاتحاد الذي أرجأه من 29 كانون الثاني إلى 5 شباط، وليمنح الموظفين المتضرّرين تعويضاتهم الماليّة. قدّرت خسائر الإغلاق بـ 11 مليار دولار، وبقيت الأزمة مفتوحة مع الكونغرس على كل الاحتمالات حول بناء الجدار مع المكسيك، خصوصًا وأنّ ترامب أكّد على بنائه في خطاب الاتحاد الذي ألقاه أمام الكونغرس. والمفارقة أن التكلفة الأوّلية المبدئية كانت بحدود 37,5 مليار دولار، في حين أنّ ما يطالب به ترامب راهنًا 5,7 هو مليار دولار.