رحيل

الموسيقار ملحم بركات
إعداد: تريز منصور

فرح الموسيقى في الصوت الهادر شغفًا


نجم من نجوم الأغنية اللبنانية، صاحب صوت رخامي يجمح بين الطرب الأصيل والغناء المتجدّد، وموسيقار تسكن ألحانه الجميلة في ذاكرة الملايين. إنه الموسيقار والمطرب ملحم بركات، ودّع «شباك حبيبه»، وأقمارًا على أبوابه وفي القلوب، ورحل فجأة وهو بعد في عزّ العطاء. المشاكس الجريء، عاشق الفن والوطن والطبيعة، سيظلّ صوتًا صارخًا في الوجدان، ولحنًا لا نملّ سماعه.


الطفل والموهبة
ولد الموسيقار ملحم بركات في بلدة كفرشيما (العام 1942) في كنف عائلة بسيطة، وإنما في وسط بيئة غنيّة بالعطاء الفني. في بيت العائلة تعرّف باكرًا إلى سحر العود، فوالده أنطوان بركات كان يجيد العزف على هذه الآلة، وفي البيئة الأوسع تعرّف إلى موسيقى حليم الرومي وفيلمون وهبي وسواهما.
عشقه للموسيقى دفعه إلى ترك المدرسة وهو في السادسة عشرة من عمره، لينتسب إلى المعهد الوطني للموسيقى (الكونسرفاتوار) من دون علم أهله. كان يخبّئ كتب المعهد في كيس ورقي أمام مدخل منزله، إلى أن اكتشف والده الأمر، لكن الوالد رضخ لإصرار الإبن الذي ظهرت موهبته بوضوح.
وهكذا درس ملحم بركات النظريات الموسيقيّة والصولفيج والغناء الشرقي والعزف على آلة العود لمدّة أربع سنوات، وتتلّمذ على يد كبار الأساتذة الموسيقيين أمثال سليم الحلو زكي ناصيف وتوفيق الباشا...
 

الموسيقار المجدّد
يُعتبر الموسيقار ملحم بركات مجدّدًا في الأغنية العربية واللبنانية، وقيل عنه أنه «سابق عصره»، بحيث أنه قدّم نماذج من الأغنية العربية الجديدة منذ ثمانينيات القرن الماضي.
يملكُ بركات رصيدًا فنيًّا كبيرًا مؤلفًا من نحو 13 ألبومًا وأكثر من 107 ألحان. لحّن لفنانين كبار، وحقّق آخرون كثر النجاحات بأغنيات حملت بصمته.
أول أعماله أغنية «الله كريم»من كلمات توفيق بركات وتلحين فيلمون وهبي، الذي لحّن له أغنيات أخرى.
أما أول ألحانه فكان، «بلغي كل مواعيدي مواعيدي «(ديو مع جورجيت صايغ)، هذه الأغنية التي حققت نجاحًا كبيرًا كانت ضمن برنامج «ساعة وغنيّة» للأخوين رحباني، والذي كان يبثّه تلفزيون لبنان.
في الواقع عمل بركات مع الأخوين رحباني والسيدة فيروز عدة سنوات قبل أن ينصرف إلى بناء شخصيّته الفنية الخاصة. أول مشاركة له في هذا السياق كانت ضمن مسرحية «الليل والقنديل» ومن ثمّ «بيّاع الخواتم» و«سفر برلك»، و«الشخص»، و«فخر الدين»... وصولًا إلى «الربيع السابع» (مع رونزا). وخلال هذه الفترة كانت له أكثر من أغنية من كلمات عاصي ومنصور الرحباني ومن ألحانه، (بلغي كل مواعيدي مواعيدي، شو بعدو الناطر، وشباك حبيبي...).
كذلك لحّن للعديد من الشعراء من بينهم منير عبد النور ونزار فرنسيس، وقد جمعته بالأخير صداقة قوية، وكان من آخر أعمالهما معًا «عدّ الأيام» و«ما في ورد بيطلب مي».
لملحم بركات عشرات الأغاني التي تصدح في ذاكرة اللبنانيين والعرب: «على بابي واقف قمرين»، «تعا ننسى»، «حمامة بيضا»، «شباك حبيبي»، «شو بعدو الناطر»، «علواه يا ليلى»... نماذج لأغانٍ جعلت «أبو مجد» كما أحب أن يسمّي نفسه، نجم المسارح والحفلات ومطرب الملايين، بل واحدًا من أهم المطربين والملحنين في العالم العربي.
من الأعمال التي لحّنها وغنّاها آخرون، نتذكر أغاني لصباح في «ست الكل»، «والجنون فنون»، و«حلوي كتير»، وأغاني مسرحية «ومشيت بطريقي»، بالإضافة إلى أخرى لوديع الصافي، سميرة توفيق، باسكال صقر، ربيع الخولي، غسان صليبا، ميشلين خليفة، أحمد دوغان، كارول صقر، وملحم زين وسواهم.

 

في المسرح والسينما
في المسرح، إضافة إلى أعماله مع الأخوين رحباني، شارك في العديد من المسرحيات، فقد قام ببطولة «الأميرة زمرد» لروميو لحود، ووقف أمام الشحرورة صباح في «الفنون جنون» و«حلوي كتير» و«ست الكل»، كما كانت له بطولة «ومشيت بطريقي» التي شاركت فيها الراقصة الراحلة داني بسترس.
كذلك أحيا الحفلات في كبرى المسارح العربية (قرطاج وجرش...) والعالمية (فرنسا، وأميركا وأوستراليا وكندا). وكان للسينما حصّة في مسيرته بحيث خاض غمارها مشاركًا في عدد من الأفلام مع أبرز الوجوه الفنّية في لبنان ومصر. ومن أعماله السينمائية بطولة فيلم «حبّي لا يموت» (1984)، إخراج يوسف شرف الدين، وفيلم «المرمورة» (1985) إخراج وئام الصعيدي وتأليف كريم أبو شقرا.
 

«الموسيقار» والوطن
الوطن هو جزء من أجندة ملحم بركات الحياتية، فلطالما غنّى للبنان وللجيش، وكانت تدمع عيناه عندما يتذكّر الشهداء أو يغنّي في المناسبات الوطنية. «موعدنا أرضك يا بلدنا» إلى «بلادي ومين ما بيعرف جمالها» و«يا صمتي يا معذبني» و«رح يبقى الوطن» (أداها مع المطربة نجوى كرم)، بعض من الأغاني التي ظهرت فيها جليًا وطنية هذا الموسيقار العظيم وشغفه بجيشه وبوطنه.
لم يغنِّ إلا باللّهجة اللبنانية، ليس لعدم اهتمامه باللهجات الأخرى، بل قناعة، ووفاء للّذين صنعوا الأغنية اللبنانية وأوصلوها إلى الأقطار العربية والأجنبية، أمثال الأخوين رحابني، وفيلمون وهبة، وزكي ناصيف، وتوفيق الباشا، ووديع الصافي وسامي الصيداوي وغيرهم...

 

صياد شقي وثائر
هو الموسيقار الشقي والمثير والثائر على الفن والسياسة والحياة بأكملها، كما هو الإنسان العفوي والطيّب والوفي لأصدقائه. يرفض بركات أن يُنعت بالمغرور ويؤكد أن قلبه أبيض ودمعته سخيّة، بينما يجمع المقرّبون منه على طيبته وحنانه.
والمعروف عنه ولعه الشديد بهواية الصيد، وكثيرًا ما ولدت ألحانه في رحلات صيد مع إيلي شويري والراحل فيلمون وهبي. كان يتلذّذ بتناول الأطباق اللبنانية التقليدية كالكبة على أنواعها والمجدّرة والتبولة، إلاّ أن طبق الفول المتبّل بالحامض والثوم يبقى المفضّل لديه، خصوصًا عندما يشكّل ختام المسك لرحلة صيد ناجحة.
أمنيته الأخيرة كانت أن يستطيع إكمال مقطوعة موسيقية بدأ تأليفها، وحلم بأن ترافقه من منزله الى مثواه الأخير ومدّتها نصف ساعة، وهو الوقت الذي تستغرقه المسافة بين المكانين.
كُرّم بالكثير من الأوسمة والجوائز، لكنّ تكريمه الأكبر هو محبة الناس له ولفنه.
رحل ملحم بركات عن عمر يناهز الحادي والسبعين عامًا بعد صراع مع مرض عضال، وبعد «عدّ الأيام وذبول الورد شوي شوي»... وبرحيله انطوت صفحة مشرقة من تاريخ العطاء الفني اللبناني، رحل أبو مجد تاركًا في الذاكرة صوته وألحانه.