أسماء لامعة

الموسيقى المعبد الأكبر
إعداد: تريز منصور

كرّس حياته لها المايسترو وليد غلمية:


حمل مشروعًا موسيقيًا حضاريًا للبنان والمنطقة. صاحب أحلام موسيقية متطورة، ومنها بعالمية الموسيقى التراثية العربية. ترأس الكونسرفتوار اللبناني لسنوات، وأطلق العنان لإبداع طلاب المعرفة في الاوركسترا الفلهارمونية اللبنانية التي كان يعتزّ بتأسيسها.
إنه الموسيقار الدكتور وليد غلمية الذي قضى سنوات حياته في التأليف الموسيقي الكلاسيكي الطابع، ذي التأثيرات الغربية حينًا، والتراثية الشرقية حيناً آخر.


ولادة موسيقار
بين سـهول القمح وبساتين الزيتون، أبصر الموسيقار وليد غلمية النور في جديدة مرجعيون (جنوب لبنان) العام 1938.
والده كان تاجرًا، مولعًا بالكشافة، ويهوى العزف  على الكمنجة والمندولين خلال رحلاته. وهكذا نشأ وليد في جو فني تمثّل بوالده وعمته أولغا عازفة المندولين.
وشــاء القدر أن يرحل الأب والولد في السادسة من عمره، فتعلّق وليد بآلتي الوالد (الكمنجة والمندولين) وأغرتاه على العزف، وعمته ساعدته في معرفة حركات المفاتيح الأولى.
 

المسار الأكاديمي
العام 1956، انتقل من «كلية مرجعيون الوطنية» إلى إحدى مدارس البعثات الأميركية «الجيرارد»، وفي 1958، انتقل إلى الجامعة الأميركية في بيروت وانتسب إلى الكونسرفتوار الوطني. وكان حلمه متابعة الدروس الموسيقية على آلة الكمنجة، وللغاية حضّر كونشرتو لـ«بيتهوفن» من أجل تقديمه في الامتحان، لكنّ كسراً في الإصبع الوسطى في يده اليسرى منعه من مواصلة حلمه في احتراف العزف على هذه الآلة الساحرة الحنون.
كانت هذه الحادثة محطة مفصلية في مسار حياة الدكتور وليد غلمية، اذ تحوّل الحلم من إتقان العزف على آلة الكمان إلى درس التأليف الموسيقي على يد الأساتذة الكبار: وولدرج (الإنكليزي)، وتوفيق سكّر والأب يوسف الخوري.
قبل التفرّغ للأعمال الموسيقية، مارس غلمية مهنة التدريس، فعلّم مواد الكيمياء والرياضيات والفيزياء لعامين في معهد البكالوريا المسائي في «ثانوية رأس المتن»، والعام 1960 زار الولايات المتحدة الأميركية  للمرة الأولى، لكنّه عاد، لأن أوضاعه المادية لم تكن تسمح بمتابعة الدراسة هناك.
ومن ثم عاد إليها العام 1970 ونال من جامعة كانساس الماجستير في التأليف الموسيقي وكذلك الدكتوراه في العلوم الموسيقية، وحاضر في الجامعة نفسها، كما أنشأ فيها دائرة للموسيقى العربية.

 

درب النجاح الموسيقي
رافق الموسيقار وليد غلمية النهضة المسرحية، التي كانت سائدة في تلك الفترة بعدة أعمال منها، مسرحية «مجدلون» لروجيه عساف، ومسرحيات ليعقوب الشدراوي وميشال نبعة وريمون جبارة، مكرّسًا وقته للتأليف الموسيقي وقيادة الفرق الموسيقية، كما وضع الموسيقى التصويريّة لبعض الأفلام. وفي 1963، شارك في «مهرجانات بعلبك الدولية» و«مهرجانات إهدن»، مؤلّفًا وقائدًا موسيقيًا.
العام 1965 كان للدكتور وليد غلمية الفضل في تأسـيس «مسرح فينيسيا»،  ويعتبر أول مسرح موسيقي دائم في لبنان والعالم العربي،  وعمل إلى جانب روميو لحود، كمؤلّف وكقائد فرقة ومستشار فني، لمدة ثلاث سنوات متتالية، إلى حين عودته إلى «مهرجانات بعلبك الدولية» العام 1967.
العمل اليومي في «مسرح فينيسيا»، مكّنه من وضع مؤلّفات موسيقية وإصدار أول أسطوانة موسيقية «من ليالينا».
أطلق غلميّة العام 1970 «مهرجانات جبيل (بيبلوس) الدولية»، التي ساهم في تأسـيسها، مقدمًا عملاً مسرحيًا عنوانه «يا ليل» من كلمات جورج جرداق وبطولة جوزف عازار وفدوى عبيد ودريد لحام.

 

نحو العالمية
شهرة الدكتور غلميّة تخطّت حدود الوطن، بحيث أوكلت إليه وزارة الثقافة العراقية العام 1975، مهمّة إعداد دراسات عن الموسيقى العراقية. تجربة الغوص في التراث الموسيقي العظيم، جعلته  يتوصّل إلى  أنه علينا الخروج من التراث الفولكلوري ضمن الأطر المحدودة إلى أعمال موسيقية كبيرة، وهكذا اتجه نحو كتابة السمفونيات المبنية على مادة موسيقية تراثية، وكانت السمفونية الأولى «القادسية» أو «سمفونية الإيمان» العام 1976، ومعها أطلق موجة التأليف الموسيقي في العالم العربي.
تسلّم العام 1991 مسؤولية رئاسة «المعهد الوطني العالي للموسيقى» (الكونسرفتوار)، وراح يركِّز على إيجاد مناهج أكاديمية كاملة للموسيقى الشرقية العربية، من آلات الدفّ إلى الطبلة، فالقانون والناي. ويقول غلمية في هذا الإطار «جمعتُ أساتذة الإيقاع، وبينهم أهمّ عازف دفّ وهو علي الخطيب، وقلت: «اعزفوا». ورحنا نسجّل كل ضربة وحركة، وبحثنا عن أسماء معروفة للأصوات والحركات ودوّنّاها، حتى خلقنا منهجًا، من الألف إلى الياء، طبعناه كتبًا ووزّعناها على أكاديميات عربية. وقد كتب شربل روحانا، وكان أستاذًا هنا، أول منهج لآلة العود».
وخلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وما تخللها من حرب على أرض لبنان، جال غلمية العالم قائدًا للأوركسترا الوطنية في كل من كنساس والعراق واليونان وسوريا وبولونيا، مع محطات في بلجيكا وسويسرا والأردن وباريس وإيران.
العام 2008 أعاد وليد غلمية إصدار أعمال ألّفها بين العامين 1976 و1982، واقترنت عناوينها بالملاحم العربيّة في ثلاث أسطوانات وهي: سمفونية «القادسية» أو «سمفونية الإيمان» (1976)، سمفونية «المتنبي» أو «سمفونية البطولة» (1978)، سمفونية «اليرموك» و«سمفونية الحرية» (1979)، سمفونية «الشهيد» أو «سمفونية العطاء» (1981)، أو «سمفونية الإنسان الجدي» (1982)، وفي المرحلة ذاتها ألّف السمفونية السادسة «الفجر».
ولغلمية أعمال تصويرية المنحى (أفلام وشرائط وثائقية)، وقد عمل في هذا السياق مع المسرحيّين روجيه عساف، ويعقوب الشدراوي، وريمون جبارة، وميشال نبعة، والسينمائيّين مارون بغدادي (بيروت يا بيروت) وبرهان علوية (كفر قاسم) ومحمد سلمان وكثيرين غيرهم من رموز المسرح والسينما في لبنان. تضاف إلى ذلك، أبحاث غلمية في التراث الموسيقي العربي، من لبنان إلى سوريا والعراق وليبيا.
وله في مجال الأوبريت أو المسرح الغنائي اللبناني، إرث كبير تمًثله في هذا الباب خمس وثلاثون مسرحية غنائية.

 

قبل الرحيل
كان غلمية شريك سيمون أسمر في «استوديو الفن» في مرحلة تعثّر الأغنية اللبنانية والعربية الشعبية، حيث كان عضوًا في لجنة الحكم خلال عدة دورات من البرنامج المذكور. وفي السنوات الأخيرة من حياته، شارك كعضوٍ في اللجنة المنظّمة لـمهرجان «البستان»، وقاد الأوركسترا الوطنية في العديد من أمسيات هذا المهرجان (غاب عن الدورة الأخيرة) كما في «بعلبك» و«بيت الدين»، وكانت إطلالته الأخيرة مع هبة القوّاس في افتتاح المهرجان البعقليني السنة الماضية (2010).
 بعد انتهاء الحرب اللبنانية، أي حين بدأ مرحلة ترؤسه «المعهد الوطني العالي للموسيقى» (الكونسرفتوار) وإعادة هيكلة المناهج فيه، تمّ تأسيس الأوركسترا الوطنية السمفونية (التي أصبحت فيلهارمونية أخيرًا، أي تضمّ آلات النفخ)، وتولى قيادتها في الأمسيات الأسبوعية في كنيسة «مار يوسف للآباء اليسوعيّين» في الأشرفية.
رحل الدكتور والمايسترو وليد غلمية، المؤلف، الباحث، ورئيس الكونسرفتوار الوطني اللبناني بتاريخ 7-6-2011، بعد مسار حافل لأكثر من نصف قرن في مجال الإبداع الموسيقي تاركاً وراءه إرثاً موسيقيًا حضاريًا ستنهل منه الأجيال القادمة.
إلا انه لم يحقق أحلامه بإنشاء دارٍ للأوبرا في بيروت وبانتشار فروع الكونسرفتوار في مناطق لبنان.

 

غلمية وعلم الموسيقى
كان غلمية يؤمن بأن الموسيقى ليست فناً بقدر ما هي علم، وعندما يحصل الإبداع في المعرفة تصبح هذه الأخيرة فنًا. وكان يرى أن الموسيقى العظيمة لا حدود مكانيّة لها، لكنّها ذات جغرافية بيئية، وكم مرة ردّد: «عندما أكتب موسيقى، أكتبها من موقع مشبع بالشرقي، ولا يمكن أن أكتب من موقع فرنسي أو روسي أو ألماني أو برازيلي. لكنّ المستمع أينما كان على الكرة الأرضية، يتذوّق العمل الموسيقي إذا كان ذا قيمة، تمامًا مثلما نتذوّق نحن الشرقيين تشايكوفسكي أو بيتهوفن وغيرهما».
وكان يعتبر «إذا كنا دائمًا في المكان الذي نحبّه امتلأنا حبًا، والذي يرافقنا امتلأ حبًا أيضًا. والموسيقى في الأساس، هي بالنسبة إليّ المعبد الأكبر الذي يضم الكونسرفتوار، والأوركسترات، كما يضمّ الأساتذة والطلاب والناس وكل المجتمع والعالم بأسره».       
تتضارب الآراء حول موسيقى الراحل، وخصوصًا بين العاملين في مجاله (مؤلفون، موسيقيون، نقاد). بعضهم خالف نهجه في إدارة الكونسرفتوار على مدى عقدين. وبعضهم الآخر انتقد أسلوبه في التأليف، أو طريقة قيادته الأوركسترا الوطنية (أو ما يعرف بالأداء الخاص بالأعمال المعروفة من الريبرتوار الكلاسيكي الغربي). لكن وليد غلمية دأب دومًا على عدم الاكتراث بوجهات النظر المختلفة معه، في المسؤوليات التي تولاها أو النتاج الفني الذي أنجزه. كان يُعَدّ، ومثله كثيرون، أنه مِن الذين بذلوا أقصى الجهود للترويج للموسيقى الكلاسيكية الغربية، والعربية الشرقية أيضاً.  


 

تقديراً لأعماله

تقديراً لعطاءاته الفنية، منحه رئيس جمهورية النمسا وسامًا ذهبيًا.
وهو أدخل لبنان موسوعة «دليل الأعمال البيوغرافية العالمية» العام 2010 عبر منحه «الميدالية الذهبية» من المؤسسة الأميركية الدولية للبيوغرافيا.